الثلاثاء، 20 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية السابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية السابعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

 الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

تحدثنا على ضوء ما قرأناه من الآيات المباركة من سورة الرحمن، في المحاضرة الماضية، والتي قبلها، ولاحظنا كم عرض الله “سبحانه وتعالى” علينا من النعم العظيمة، التي أسبغها علينا برحمته، وفضله، وجوده، وكرمه، وهي نعمٌ عظيمةٌ جداً، وهي التي من خلالها يمكن لنا أن نحقق لأنفسنا- بتوفيق  الله- الخير، والرشد، والسعادة، والفلاح، والفوز، والخير في الدنيا والآخرة، ونجد كل تلك النعم، المعنوية منها، وفي مقدمتها: القرآن الكريم، التعليم، والعدل، والمادية، وهي كثيرةٌ جداً، هي نعمٌ على أرقى مستوى، نعمٌ عظيمةٌ جداً، وهيَّأ الله لنا من خلال هذه النعم أن تستقيم حياتنا عندما نلحظها بشكلٍ متكامل، نلحظ مع النعم المادية النعم المعنوية، ما لم؛ فسيكون واقعنا واقع من يكذِّب بهذه النعم، من يكفر هذه النعم، من يقابل إحسان الله إليه بالإساءة إلى الله المنعم الكريم “سبحانه وتعالى”، وهذا العرض لهذه النعم، وهي نماذج عامة وعظيمة، وكلنا نراها، وندركها، وندرك احتياجنا الكبير إليها، وانتفاعنا الكبير بها.

التأثير لهذه النعم عندما نستذكرها، وعندما نستعرضها، يفترض أن يكون في نفسية الإنسان: انشداداً إلى الله، ومحبةً لله، وفي الواقع العملي: استجابةً عمليةً لله “سبحانه وتعالى” بكل رغبة، وبانطلاقةٍ جادة، والإنسان يدرك أنه عندما يستجيب لله، فهو يستجيب لله فيما هو خيرٌ له هو، ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى”: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بعد كل هذه النعم، والتي في آخرها أنه “سبحانه وتعالى” مع كل ما قد أعطى، ومع كل ما قد منَّ به على هذا الإنسان، وهيَّأ له في الأرض، هو “جلَّ شأنه” جاهزٌ أن يستجيب له عند أي طارئ، وإذا سألته فهو يعطيك ما هو الأفضل والأنفع والأصلح لك أنت، واستجابتك له ليست فيما هو بحاجةٍ إليه “جلَّ شأنه”؛ لأنه الغني عنك، وعن أعمالك؛ إنما هي استجابةٌ فيما تحتاجه أنت، فيما هو خيرٌ لك أنت، فيما ينفعك أنت.

إذا لم ينفع فيك كل هذا العرض لهذه النعم العظيمة، وهذا التذكير بهذه النعم العظيمة، ولم يكن لأيٍ منها أثره فيك، فهناك الوعيد الشديد؛ لأنك حينئذٍ ستكون في واقع المكذِّب بهذه النعم، المتنكِّر لها، ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى”: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}[الرحمن: الآية31]، هذا وعيد شديد، إذا لم ينفع فيك التذكير بالنعم، فهناك أيضاً وعيدٌ شديدٌ، وهو وعيدٌ رهيبٌ جداً، هذا الوعيد من الله “سبحانه وتعالى” المقتدر، القهار، جبار السماوات والأرض، الذي هو على كل شيءٍ قدير.

وأتى الخطاب في هذا الوعيد: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} للجن والإنس؛ لأن السورة المباركة، سورة الرحمن- كما قلنا- تخاطب الجن والإنس، ولهذا يقول: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية32]، هنا يقول: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، هذا وعيد باليوم الآخر، بالآخرة، بالحياة الآتية، والتي تَذَكُّرها مهمٌ جداً، كعاملٍ رئيسيٍ ومهمٍ في الاستقامة في هذه الحياة.

الله “جلَّ شأنه” عندما أتى بهذا الوعيد الرهيب: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، وهو “جلَّ شأنه” الذي لا يشغله شأنٌ عن شأن، لا يعني ذلك أنه انشغل عن محاسبة عباده في هذه الدنيا بأشياء أخرى، بتدبير أمور هذا الكون، وهذا العالم، وهذا الملكوت الواسع، لا؛ إنما لأنه جعل مرحلة الحساب، وتوفية الأجور على الأعمال، هي في الآخرة، هي تلك المرحلة القادمة، والحياة الآخرة.

وعندما يقول: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، عندما تأتي تلك المرحلة، عندما يأتي اليوم الآخر، عندما تأتي القيامة، تتحول المرحلة بكلها إلى مرحلة حساب وجزاء، ويتجه التدبير الإلهي على هذا الأساس لمحاسبتنا.

الله “سبحانه وتعالى” بقدرته، وهو على كل شيءٍ قدير، بعلمه، وهو المحيط بكل شيءٍ علما، {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران: من الآية5]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: الآية19]، يعلم بكل ما نعمله، من مثقال ذرةٍ في الخير، أو مثقال ذرةٍ في الشر، لا يخفى عليه شيءٌ مهما كان صغيراً، أو كبيراً، أو كثيراً، أو قليلاً، عندما يتجه بتدبيره “جلَّ شأنه” في مرحلةٍ تصبح بكلها مرحلة حسابٍ وجزاء، فمعناه: أنَّ هذا التدبير الإلهي، وهذا الترتيب الإلهي للحساب والجزاء، سيستوعب كل شيء، وسيحيط بكل شيء، معناه: أنَّ الحساب سيكون دقيقاً جداً، حساب دقيق على صغير الأعمال وكبيرها، على القليل والكثير منها، على الصغير مهما صغر، وعلى الكبير مهما كبر، عندما يتجه كل ذلك التدبير الإلهي؛ فعملية الحساب ستكون دقيقة، والترتيبات ستكون مرعبة، وهائلة، ومخيفة جداً، ما أصغرك أيها الإنسان عندما تقف وأنت ذلك الكائن الصغير، المخلوق، العبد، الضعيف، أمام كل هذا التدبير الإلهي، أمام كل هذا الحضور في تدبير الله “سبحانه وتعالى”، بعلمه، وقدرته، وإحاطته، وتدقيقه! حالة رهيبة جداً، وأمر رهيب جداً.

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، والكل سيكون في مقام الضعف، والعجز، والاستسلام التام، من الجن والإنس بكلهم.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، من نعمة الله “سبحانه وتعالى” أن يذكِّرك هنا بما سيكون عليه واقعك في الآخرة، أن يذكِّرنا بهذا الحدث العظيم، بهذا اليوم الرهيب، بهذه المرحلة التي هي قادمةٌ حتماً، وقادمةٌ قريباً، والحديث عن القيامة في القرآن الكريم حديثٌ واسعٌ جداً، شمل الكثير من التفاصيل الدقيقة، والأحوال المتنوعة والمختلفة، وفيه الموعظة الكافية، والعبرة الكبيرة، لكل إنسان، فيه ما يوقظ أي إنسانٍ من غفلته إن التفت إلى ذلك، فيه ما يزجر الإنسان، فيه ما يردع الإنسان عن حالة الغفلة والإهمال، والتفريط والتقصير، فيه ما يكون حافزاً للإنسان إلى العمل بدافع الرجاء فيما عند الله، وبدافع الخوف من عذاب الله “سبحانه وتعالى”.

عندما نجد هذا التعبير، فوراءه أيضاً أحداث كونية كبيرة، {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} وراءه أحداث هائلة جداً، وسيأتي الحديث عنها.

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؛ لأن تكذيبك بالنعم، لأنك عندما لا تشكر هذه النعم، ولا تهتدي، ولا تستجيب لله فيما أنت بحاجةٍ إليه من الهدى، ويكون واقعك واقع المكذِّب؛ فأنت ستصل إلى العذاب، وسيكون واقعك في الآخرة هو واقع الهالك، الخاسر، الخائب، الذي يكون مصيره العذاب الأبدي والعياذ بالله.

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}[الرحمن: الآية33]، الله “سبحانه وتعالى” عندما قال في كتابه الكريم هذه الآية المباركة: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، لا يعني ذلك أنهم خارج إطار سيطرته، أو خارج إطار ملكه وسلطانه، هو المسيطر، هو القاهر فوق عباده “سبحانه وتعالى”، الكل في قبضته، الكل في إطار سلطانه، لم يكونوا خارج إطار سلطانه ومملكته، أو خارج إطار سيطرته ونفوذه وقدرته، هو المسيطر على هذا العالم، هو كل ما فيه هو في إطار سلطانه وقبضته وسيطرته “سبحانه وتعالى”، وهو المحيط بعباده قدرةً وعلماً.

فعندما قال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، لم يكونوا خارج إطار سلطانه وقهره، ولهذا يذكِّرنا، يذكرنا جميعاً كجنٍ وإنس، بأننا تحت سيطرته التامة في الدنيا والآخرة، في عالم الدنيا، وفي عالم الآخرة، فيقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، هل هناك عالمٌ آخر خارج عالم الله “سبحانه وتعالى”، خارج مملكته، خارج سلطانه، أرضٌ لم يخلقها الله، أو موطنٌ لم يخلقه الله، أو بقعةٌ لم يخلقها الله، يمكن للإنسان أن يلتجئ إليها، ويكون في حماية إلهٍ آخر؟ لا، كل هذا العالم بكل ما فيه هو مملكة الله “سبحانه وتعالى”، هو عالمه، تحت سلطانه وقهره وسيطرته التامة، ليس هناك أي مهرب يمكن أن يهرب إليه الإنسان، أي ملاذ، أي ملجأ يمكن أن يلتجئ إليه، فيخرج من حدود سيطرة الله “سبحانه وتعالى”، وملكه وسلطانه، وقهره وهيمنته، لا يوجد أي مكانٍ آخر، ولا أي إلهٍ آخر، له عالمٌ آخر، يمكن أن تلتجئ إليه، أو تفر إليه، أو يمكن حتى لمجموع البشر، ولمجموع الجن، أن تتظافر جهودهم للالتجاء إليه، والفرار إلى مملكته، وإلى مكانٍ آخر خارج هذا النفوذ الإلهي والسيطرة الإلهية التامة، لا مفر ولا ملجأ من الله إلَّا إليه.

والإنسان بشكلٍ عام، والإنس والجن بشكلٍ عام لا يستطيعون التصرف، ولا العمل، ولا التحرك، إلَّا في حدود ما مكَّنهم الله “سبحانه وتعالى”، وفي حدود ما سخَّره لهم، على مستوى العلم، وعلى مستوى القدرة، هذه هي حدود تصرف الإنس، وحدود تصرف الجن: في حدود ما مكَّنهم فيه، وما سخَّره لهم، لا يستطيعون أن يتجاوزوا ذلك أبداً، فهم تحت قهر الله وهيمنته وسلطانه، ولا يستطيعون الخلاص عن ذلك أبداً، ولا الفرار من ذلك أبداً، ولهذا قال: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، فأنتم في حدود ما تتصرفون فيه وتعملون فيه، لا تستطيعون أن تتجاوزوا ما سخَّره الله لكم، ما وهبكم من العلم، والقدرة، والتمكين، والإمكانات، والوسائل، والإمكانات، لا تستطيعون أن تتجاوزوا حدود ذلك، أنتم تحت سلطة الله، هيمنته، سيطرته، ملكوته، لا تستطيعون أن تفروا.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية34]، فأدركوا نعمة الله عليكم، واشكروه على نعمه؛ لأنه لا مبرر للإنسان أن يسعى للتهرب أصلاً، لا يستطيع ذلك، ولا مبرر له في ذلك، الله منَّ علينا، أنعم علينا، أحاطنا بنعمه العظيمة والواسعة، ليس هناك أي مشكلة من جانب الله “سبحانه وتعالى”، الذي أعطانا: هو النعم، الذي أسبغه علينا: هو النعم المعنوية والمادية، والذي يأمرنا به: هو ما فيه خيرٌ لنا، وصلاحٌ لنا، لا مبرر للإنسان أن يتهرَّب من الله، ولا أن يتهرَّب مما أمر الله به، مما أرشده إليه، من منهجه العظيم، الذي به صلاح حياتك أنت، واستقامة حياتك أنت؛ إنما هو النكران (النكران للنعم)، التنكُّر لنعم الله، لرحمته، لفضله.

{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ}[الرحمن: الآية35]، الإنسان لا يستطيع أن يدخل في مواجهة مع الله، الجن والإنس لا يستطيعون- حتى مع بعض- أن يتعاونوا ليدخلوا في حربٍ مفتوحة، وصراعٍ مباشر، ومواجهة مباشرة مع الله “سبحانه وتعالى”، لا يستطيعون ذلك، كائنات ضعيفة، عاجزة، قدرتها في حدود ما منحها الله ومكَّنها فيه، فيمكنها فوراً أن تنتهي وأن تسحق بعذاب الله “سبحانه وتعالى”، ولا يمكن- الجميع- أن يخوضوا معركةً منتصرة في مواجهة الله “سبحانه وتعالى”، الكل في مقام العجز والضعف أمام جبروت الله وقدرته على كل شيء، كائنات ضعيفة، من أضعف الكائنات، من أضعف الكائنات.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية36]، ولا مبرر لذلك: أن يفكِّر الإنسان أن يدخل في مواجهة مع ربه وخالقه، الكريم، المنعم عليه، ما الذي يبرر لك ذلك؟ ما الذي يدفعك إلى أن تكون في مشكلة مع الله، أن تكون في تباين مع منهجه العظيم، مع رحمته العظيمة المعنوية والمادية؟ ما الذي يدفعك إلى ذلك؟

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}[الرحمن: الآية37]، إذا أتت أحداث يوم القيامة، وهي آتية، وهي ستحصل، وهذا الأمر آتٍ لا بدَّ منه، ولا ريب فيه، سيتبين حينها عجز كل البشر، هل سيستطيعون أن يردوا هذا اليوم؟ هل سيتمكنون أن يعملوا على تفادي تلك الأحداث والمتغيرات؟ السماء ستنشق، هل سيستطيع البشر أن يتدخلوا، وأن يعملوا على أن تلتئم لهم من جديد، وألَّا يحصل هذا الانشقاق فيها، الذي هو خراب، خراب للسماء والأرض، ودمار هائل يأتي إلى السماء والأرض؛ تمهيداً لهذه المرحلة القادمة؟ الكل في موقف العجز والضعف، هي أحداث هائلة، رهيبة جداً، ومرعبة جداً، والبشر والجن كلهم عاجزون عن أن يعملوا شيئاً لتفاديها، أو للحيلولة دونها.

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}: يتغير لونها، ويأتي هذا في إطار تدميرها، وتدمير هذه الأرض التي نحن عليها، هذه الأرض التي وضعها الله لنا، وهيَّأ لنا فيها كل ما نحتاجه من متطلبات حياتنا، وجعلها مستقرةً لحياتنا، غير مضطربة، وهيَّأ لنا في جغرافيتها، وفي بيئتها، وفيما أودع فيها من النعم، ما تستقيم به حياتنا، يتغير واقعها تماماً، في يوم القيامة تشهد تدميراً هائلاً، وزلزالاً عظيماً، ودكاً يغيِّر كل معالمها، كل معالمها، لا يبقى عليها جبال، الجبال تنسف، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه: الآية105]، أي أحداث هائلة جداً! أي واقعٍ آنذاك والجبال بكلها تنسف، هذا الدمار كيف سيكون صوته، أثره، هيبته، الخوف والرعب منه؟ الله قال عن يوم القيامة: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}[المزمل: من الآية17]، حدث رهيب جداً.

جبل واحد يندك بكله، حدث هائل جداً.

زلزال في منطقة محدودة يمكن أن يكون مرعباً جداً للناس، يمكن أن يدمِّر مدناً بأكملها، يمكن أن يكون له تأثير كبير على حياة الناس، وأن يموت بسببه الكثير من البشر، وأن تكون حالة الرعب منه إلى حدٍ كبير.

رياح شديدة يمكن أن تخيف البشر، يمكن أن تغيِّر… أحداث كثيرة يمكن أن تزعزع حياة الناس في منطقة معينة.

أي كارثة من الكوارث، بركان في منطقة معينة يمكن أن يتسبب بنكبة كبيرة لمنطقة بأكملها.

مثل هذه الأحداث الجزئية، المحدودة، البسيطة، مقارنةً بأحداث وأهوال يوم القيامة، يمكن أن تخيف البشر، أن تزعجهم، أن تؤثِّر على حياتهم، أن تتسبب بموت الكثير منهم، أن يخسروا بسببها مساكنهم، ومستقر حياتهم.

أمَّا ذلك الحدث فهو حدثٌ شامل، ليس حدثاً جزئياً، يختص بمنطقة هنا، أو دولة هنا، أو بلد هناك، هو دمارٌ شامل، يشمل كل المعمورة، وأكثر من ذلك، كل الأرض، ودمار هائل، دمار كلي، تُنسَف به كل الجبال، وتتحول إلى هباء يتطاير في الجو، وتفجَّر به كل البحار، فلا يبقى منها قطرة ماء واحدة، وتدك الأرض به دكاً هائلاً وعنيفاً، لدرجة أنها تتغير حتى في هيأتها وفي شكلها، {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق: 3-4]، الأرض تتحول كما قال عنها: {قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}[طه: 106-107]، مستويةً بشكلٍ تامٍ، تتحول إلى عرصةٍ واحدة، وساحةٍ واحدة؛ لمهمةٍ محددة: هي الحشر فيها، والحساب عليها، حدث رهيب جداً، البشر سيكونون عاجزين عن أن يعملوا أي شيء للحيلولة دون ذلك.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية38]؛ لأن تكذيبك بالنعم، وتنكُّرك لها، تنكُّرك لهذه النعم العظيمة، وفي مقدمتها القرآن، سيكون له تأثيرٌ على مصيرك آنذاك، وعلى مستقبلك الآتي حتماً.

في ذلك اليوم، بعد كل هذه الأحداث الهائلة، التي في بدايتها يموت كل الذين على قيد الحياة في الأرض، كل الذين كانوا عندما أتت القيامة أحياءً يموتون بكلهم، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: الآية68]، في البداية يموت الذين كانوا آنذاك على قيد الحياة، ومتى ستأتي؟ ومتى هو آنذاك؟ لا أحد يعلم، إلَّا الله “سبحانه وتعالى”.

القيامة ستأتي بغتة، ستأتي بغتة، ستأتي بشكلٍ مفاجئ، في وقتٍ غير متوقع، ولذلك من المهم الاستعداد لها، سواءً أتت وأنت على قيد الحياة، أو أتت وأنت كنت قد مت، فمن مات قامت قيامته، لم يعد لديه أي فرصة أخرى، ومرحلة الموت إلى القيامة هي مرحلة سريعة، تعتبر سريعة، الإنسان يتفاجأ، وكأنه لم يكن إلا عقب لحظة، أو وقت يسير جداً، من حين مات إلى حين بعث.

ولهذا الله “سبحانه وتعالى” أنذرنا في القرآن، وذكرنا بهذه الحقائق، قال عن القيامة، عن الساعة: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}[الأعراف: من الآية187]، في وقتٍ غير متوقع، الناس فيه يمارسون حياتهم الطبيعية، الكثير منهم في غفلة تامة عن هذه الأحداث، وعن هذا المستقبل الآتي، لا يأبهون به، لا يلتفتون إليه، لا يستعدون له، فيأتي بشكلٍ مفاجئ.

ثم عندما تأتي عملية البعث، ما بعد النفخة الأولى، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: من الآية68]، يحشر الله جميع الخلائق، البشر بكلهم أجمعين، الجن والإنس، الكل يحشر، لا يمكن للإنسان- لأي إنسانٍ منا- أن يتهرب من هذا الحشر، ومن هذا البعث، الله لا ينسى أحداً أبداً، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف: من الآية47]، الكل، أنت وكل الخلائق، أنت وكل الناس، الجميع سيحشر.

ولا يمكن لأحدٍ أن يتخفى، أو أن يتهرب، أو أنه سيستفيد من تلك الكثرة الهائلة للبشر، ليخفي نفسه هنا، أو يدس نفسه هناك، لا، حتى الأرض ليس فيها مخبأ، أصبحت ساحة وعرصة مكشوفة، الساهرة: ساحة مكشوفة تماماً، معرَّاة تماماً، لا جبال، ولا أشجار، ولا ملاجئ، ولا مخابئ، ولا أي شيء، مع أنه لا يمكن لشيءٍ أن يخفيك من الله أبداً، تحشر رغماً عنك.

ولا يمكن أن تمتنع من الحضور، لا يمكنك ذلك، {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية32]، لا يمكنك أن تعتز بنفسك، بقدرتك، بأنك إنسان تعتبر نفسك قوياً، أو أنك لك صفة معينة: أنت ملك، أو أمير، أو قائد، أو زعيم، أو شيخ، أو بأي صفة معينة، فتمتنع عن الحضور، لا أحد يقدر عن الامتناع إلى ذلك الحضور، الكل سيحضر، خاشعاً، خاضعاً لله “سبحانه وتعالى”.

ومع عملية الحشر يأتي الحساب؛ لأنه يوم الفصل، ليس مجرد اجتماع عادي، أو مهرجاناً معيناً، أو مناسبة عادية، هو يوم الفصل، هو يوم الحساب.

عندما يأتي يوم الحساب، ليست المسألة تحتاج إلى عمليات تحقيق واسعة مع كل شخص، لمحاولة معرفة ماذا عمل، وهل هو الذي فعل كذا، أو تصرف كذا، أو لمحاولة الوصول به إلى الاعتراف بما عمل، الله يقول “سبحانه وتعالى”: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: 38-39]، يومئذٍ، وهو اليوم الذي سيأتي حتماً، تحشر فيه أنت، تبعث فيه أنت، وكأنه يدور على رأسك أنت، يوم القيامة يومٌ عظيمة، يومٌ مهم، يومٌ كبير، كل واحد وكأنه يدور على رأسه، أحداثه سترى وكأنها تتجه إليك أنت بشكلٍ مباشر، والله يقول عن ذلك اليوم: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}، لا يحتاج الله إلى أن يحقق معك لكي تعترف بأعمالك، أو لكي يطلع على أعمالك، عندما يحشر الناس صحائفهم، وكتب أعمالهم جاهزة، فيها كل الذي قد عملوه، وأنت عندما تبعث وتحشر ستؤتى بكتابك، يؤتى إليك بكتابك، بصحيفة أعمالك، فيها كل الذي قد عملته، وإن كان مثقال ذرةٍ من الشر ستجده موثقاً، وعلى نحوٍ لا يمكنك أبداً أن تقنعهم بأن هذا كان غير صحيح، أو أي شيءٍ من هذا القبيل، لا يمكن أبداً.

 

الله “سبحانه وتعالى” أكد هذه الحقيقة، الله يقول: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: الآية14]، أنت، انظر إلى ما عملت، شاهد كل الذي قد عملته في حياتك، مما كنت لا تكترث للكثير منه، مما كنت تفعل بعضه وأنت مبتهج، وأنت مرتاح، وأنت مستهتر، وكأنك لن تجازى ولن تحاسب، مما كنت تعمل الكثير منه بكل جرأة ووقاحة، وكأنك لن تقف يوماً ما ذلك الموقف، للحساب والسؤال والجزاء، موقف عظيم، مقام رهيب جداً.

تؤتى كتابك، إما بيمينك إن كنت من الشاكرين لله على نعمه، من الذين شكروا هذه النعم، واستجابوا لله “سبحانه وتعالى” فيما هداهم إليه، فيما أمرهم به، فيما وجههم إليه، ممن شكروا الله وأحبوه على نعمه.

أو أنك ستؤتى كتابك بشمالك والعياذ بالله، وهي حالة الخيبة والخسران، حالة العصاة، والمفرطين، والمفرطين، والمستهترين، والذين تخاذلوا عن الاستجابة لله “سبحانه وتعالى”، حالة رهيبة جداً، في صحيفة أعمالك كل ما عملت، موثق بشكلٍ تام، فلا حاجة لسؤالك لكي يعرفوا ماذا عملت.

في الدنيا قد يشتبه بمجرمٍ معين، أو بشخصٍ معين، اشتباهاً، ثم تأتي عملية التحقيق، في محاولة لاكتشاف ما إذا كان هو الذي عمل وعمل وفعل.

أما هناك فلا حاجة لذلك، كل الأعمال موثقة، إذا أتت أسئلة، فهي أسئلة توبيخ، أسئلة تبكيت، أسئلة تحسير، من هذا القبيل أسئلة للاستنكار عليهم، للتوبيخ لهم، للتبكيت لهم؛ أما للاستعلام، لا حاجة، للاعتراف، لا حاجة، أنت في ذلك المقام ستشهد عليك حتى جوارحك، حتى أعضاؤك، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: الآية65]، ويقول عنهم أيضاً: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}[فصلت: من الآية20]، تشهد عليك حتى جوارحك، لا حاجة إلى عمليات تحقيق مطولة.

 {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (40) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، لتدري، لتعرف، لتفهم، أنك عندما تتعامل مع هذه النعم، ويكون بشكلٍ سلبي، ويكون واقعك واقع المكذب، أن هذا سيصل إلى صحيفة أعمالك، الله قد أعطاك في هذه الدنيا الفرصة، منَّ عليك بالنعم، وأعطاك الفرصة إلى أن تكون حتى صحيفة أعمالك مبهجةً لك، أن تكون بالشكل الذي تسر بها، تفرح بالاطلاع عليها، تبتهج، تفخر، وتشعر بالسرور، وتمتلئ بالسرور، أن تقول حتى للآخرين: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة: 19]، هذا لو كنت تستشعر هذا الموقف، لو كنت تحسب حسابه.

الذين حسبوا حساب ذلك المقام قال عنهم، وعن الواحد منهم: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة: الآية20]، كنت أستشعر أنني سألقى هذا اليوم، وسأصل إلى هذا اليوم، فعملت الأعمال الصالحة، استجبت لله، فيما هو خيرٌ لي أصلاً في الدنيا والآخرة.

أما من كان يستهتر، من كان لا يبالي، من كان يتبع هواه في هذه الحياة، يتصرف وفق مزاجه، وفق أهوائه، وفق نفسياته، وفق عقده، بعيداً عن الالتزام بهدى الله “سبحانه وتعالى”، فخسارته كبيرة.

في ساحة الحساب، بعد توزيع الصحف، بعد اكتمال مرحلة الحساب، يأتي الجزاء، يأتي الجزاء، والانتقال، وأكثر البشر، الأغلبية الساحقة من بني آدم، الأغلبية الساحقة من البشر- وللأسف الشديد- سيخسرون، سيهلكون، سيكون مصيرهم إلى النار، ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى”: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[يس: 60-62]، يقول عن أهل الجنة: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} عن أصحاب اليمين منهم {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: 39-40]، يقول عن السابقين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: 13-14]، وهكذا، قلة قليلة، الأغلبية الساحقة اتبعوا أهواءهم، تصرفوا وفق أهوائهم، استهتروا بمسؤولياتهم.

 

آنذاك تصبح هناك علامات واضحة للذين مصيرهم إلى جهنم، علامات واضحة حتى في أشكالهم، حتى في ألوانهم، ويصبحون بشكلٍ مميزٍ ومعروف، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس: الآية59]، ثم تبدأ عملية الانتقال بهم، النقل الإجباري، عن غير اختيارٍ منهم ولا رغبة، النقل الإجباري إلى جهنم والعياذ بالله.

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}، بعلاماتهم الواضحة، التي قد ميزتهم، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}[الرحمن: الآية41]، ينقلون إجباراً ودفعاً، من ساحة المحشر إلى جهنم، ويؤخذون بنواصيهم، بمقدمة رؤوسهم وشعر رؤوسهم، وبأقدامهم، بطريقةٍ مهينة، الذي يأخذهم هو زبانية العذاب، (زبانية العذاب): الشرطة المعنية بأمورهم ونقلهم إلى جهنم، الشرطة الإلهية من ملائكة الله، أقوياء وأشداء، وبدون رحمة، وبكل عنف، لا يستطيع أحدٌ أن يقاومهم، أن يمتنع منهم، أن يصارعهم، أن يفعل شيئاً، سيكون في حالةٍ من العجز التام والضعف.

ويؤخذ رغماً عنه، بهذه الطريقة المهينة والقاسية والموجعة، وكله حسرات، وكله خوفٌ ورعبٌ قد ملأ قلبه ومشاعره؛ لأنه يعرف إلى أين سيؤخذ، إلى أين سيؤخذ.

{بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، من رحمة الله أن يذكرك هنا في الدنيا، كيف سيكون واقعك في الآخرة إن لم تشكر نعم الله، إن أنت تنكرت لنعمه وفضله عليك.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، هذه جهنم، نعوذ بالله من جهنم، وما أدراك ما جهنم! أمر رهيب جداً، الإنسان عندما يعاينها، جهنم مخيفة حتى عندما نسمع عنها، من يتأمل آيات الله في القرآن الكريم وهي تصف جهنم، تصف أنواع العذاب فيها، يقشعر جلده، يخشع خوفاً من الله “سبحانه وتعالى”، خوفاً من عذاب الله “جلَّ شأنه”، فكيف إذا عاينها الإنسان، إذا شاهدها، أمر رهيب جداً، خوف رهيب جداً.

هم عندما يعاينوها، حتى وهي لا تزال على مسافةٍ بعيدة، يكون مشهدها رهيباً جداً ومخيفاً للغاية، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان : الآية12]، أصوات مرعبة جداً، أصوات مخيفة جداً، ومشهد لتسعرها، والتهابها، ونيرانها، وتوهجها، مرعب جداً، ومخيف جداً، مخيفٌ للإنسان لو كان عذابه أن يدخل في فرن من أفران هذه الدنيا، ما بالك بعالم كله من سخط الله وغضب الله “سبحانه وتعالى”، مما يجلي غضب الله وقدرته وجبروته.

{هَذِهِ جَهَنَّمُ}، عندما يعاينها الإنسان، يشاهدها، ويرى أنه متجهٌ إليها، وأنه ينقل إليها، وأنه سيلقى به فيها رغماً عنه، كيف هي حسراته؟! كيف هي آلامه؟! كيف هو خوفه؟! كيف هو قلقه؟! كيف هو انزعاجه؟! كيف هو عذابه النفسي؟! كيف هو ندمه الشديد، الذي يجعله يعض على أنامله؟!

ومن هم المجرمون؟ المجرمون ليس فقط من ذهب لارتكاب أبشع الجرائم، بارتكابه لها، وتعديه لحدود الله، المجرمون أيضاً من فرطوا في طاعة الله.

إما أن تعصي الله فيما نهاك عنه، فتتجاوز حدوده، هذا نوعٌ من المعاصي.

وإما أن تعصي الله “سبحانه وتعالى” بتفريطك فيما أمرك به، وهذه من المعاصي الخطيرة، هذه من الجرائم الخطيرة، التي يتهاون بها الكثير من الناس، البعض من الناس قد يقول: [الحمد لله، أنا لا أشرب الخمر، أنا لا أرتكب الزنا، أنا لا أقتل النفس المحرمة، أنا لا أفعل كذا]، هذا جانب من المعاصي، ولكن هل أنت تجاهد في سبيل الله؟ هل أنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ هل أنت تتوحد مع المؤمنين في إطار الأخوة الإيمانية الصادقة، وتعتصم معهم بحبل الله “سبحانه وتعالى” جميعاً، وتحذر التفرق؛ أم أنك تعصي الله في كل هذا؟ هل أنت تنهض بمسؤولياتك الأخرى في واقعك الأسري والاجتماعي الذي أمرك الله بها، المعاصي والجرائم ليست فقط مقتصرةً على تجاوز ما نهى الله عنه، وفعل ما نهى الله عنه، بل والإخلال بما أمر الله به.

 

من يتجه مثلاً للفرقة، للفرقة عن إخوته المؤمنين، يشاقق، ويفارق، ويعاند، ولا يتجه للولاية الإيمانية، والأخوة الإيمانية، ماذا يقول الله؟ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، هذا بحد ذاته، مفارقتك للجماعة المؤمنة، لإخوتك المؤمنين، مشاققتك لهم، وفرقتك عن طريق الاعتصام بحبل الله جميعاً، هذا لوحده كافٍ في أن تدخل به إلى جهنم، جريمة كافية، عليها وعيد بخصوصها بالعذاب العظيم، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}، مع أنها جريمة في الأساس يترتب عليها جرائم كثيرة، يتفرع عنها جرائم كثيرة، لا يتسع الوقت للحديث عنها.

فمصطلح الجرائم لا يخص فقط التصور لدى البعض من الناس، الذي ينحصر على تجاوز ما نهى الله عنه، بل يأتي أيضاً إلى العصيان لله فيما أمر به، وهذا هو من أكبر الجرائم التي يغفل عنها الكثير من الناس، ويتورطون فيها.

{هَذِهِ جَهَنَّمُ}، معاينتها أمر رهيب جداً، سيندم الإنسان، وسيرى أن كل شيءٍ عصى الله فيما أمر، أو فيما نهى، من أجله، عقدة نفسية، هوى للنفس، رغبة، مخاوف، أي عوامل دفعت بك إلى أن تكون مجرماً، إلى أن ترتكب جريمة مما نهى الله عنه، تجاه ما أمر، أو تجاه ما نهى، ترى أنها لم تكن تستحق منك أن تورط نفسك تلك الورطة الرهيبة الهائلة.

{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن: الآية43]؛ لأن الإنسان لو أيقن، لو أيقن واستحضر ذلك بشكلٍ مستمر، لرجع إلى الله، لما تورط ورطةً كهذه.

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن: الآية44]، (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا): يتمشى، هو في الدنيا كان البعض طموحه أن يكون لديه إمكانات ضخمة، بيوت ضخمة، منازل ضخمة، مزارع ضخمة، وأن يدور بينها، وأن يطوف بينها، طموح الكثير من الناس، سواءً وصل إلى ذلك، أو لم يصل، وقد يكون هذا مما يدفع الكثير من الناس أن يقفوا في موقف الباطل، أو أن يقعدوا عن نصرة الحق، أو أن يتخاذلوا عمَّا أمر الله به، أو أن يتجاوزوا ما نهى الله عنه، فهم في جهنم يطوفون بينها، بين لهبها، يطوف وهو كتلة مشتعلة من النار، مستعر بنار جهنم والعياذ بالله، كيف ستكون آلامه وهو يحترق، وأي حريق، الحريق بنار الدنيا مؤلمٌ جداً للإنسان، ما بالك بحريق نار جهنم.

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا}: بين لهبها ونارها المستعرة، {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}: وبين الحميم، يسبح في تلك المسابح الجهنمية، التي تغلي إلى أشد مستوى من الحرارة، ساخنةٌ جداً جداً، فهو يحترق بالنار أحياناً، وبالحميم الساخن جداً، الحار جداً، أحياناً أخرى، حالة رهيبة.

وفي ذلك العالم (عالم جهنم) كل شيءٍ عذاب:

أكلك عذاب، أكلك عذاب، تأكل الزقوم، الذي {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان: 45-46]، تشرب الحميم الذي يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، {يَشْوِي الْوُجُوهَ}[الكهف: من الآية29] قال عنه، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد: الآية15]، لا يرويك من ظمأ، وطعامها كذلك لا يشبعك من جوع؛ إنما هو عذاب، {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الصافات: الآية66].

ثيابك من النار، ثوبك الذي تلبسه، ثوبٌ ناريٌ أحاط بجسدك، {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج: من الآية19]، كل شيءٍ عذاب، فإذا أردت أن تبرد، أين ستبرد حرارتك؟ ليس أمامك إلا ذلك الحميم الشديد في حرارته جداً، {حَمِيمٍ آنٍ} والعياذ بالله! وكربٌ دائم، وحسراتٌ دائمة، وعذابٌ نفسيٌ دائم.

من المهم في شهر رمضان، والإنسان يقرأ القرآن، أن يتأمل جيداً في الآيات القرآنية التي تقدم عرضاً متكاملاً عن أصناف العذاب في جهنم، ليحذر؛ لأن الله يريد منا أن نحذر.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية45]، من نعمه أن يوضح لنا حتى تفاصيل العذاب في جهنم؛ حتى نحذر هنا في الدنيا؛ لأن فرصتنا هي هنا.

نكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يجعلنا في هذا الشهر من عتقائه من النار، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الاثنين، 19 أبريل 2021

عمليات الدفاع المقدّس

عمليات الدفاع المقدّس 

✍ أبو يحيى الجرموزي ـــــ 

عامٌ سابع من العدوان ومنذُ بدايته كانت وتيرة العمليات الهجومية للجيش اليمني واللجان الشعبية تتسارع وبوتيرة عالية ومتتالية وتسابق بعضها نكالاً بالعدو وأدواته في الداخل اليمني والعمق السعودي الذي بات أكثر من غيره يتجرّع اللطمات وبألوان الدعس والإهانة 
عملية السادس من شعبان وعملية اليوم الوطني للصمود تليها عملية الثلاثين من شعبان ثم عملية الثالث من رمضان عمليات هجومية مسيّرة وباليستية نُفذّت يمانياً كدفاع مقدّس مشروع في صد المعتدين ودفع شرورهم وتطهير اليمن والأرض من دنسهم وخبث عقائدهم النتنة.
عمليات متتالية لم تفصل بينهن إلاّ أيام وهي تدك معاقل النظام السعودي ومراكز قوته العسكرية والنفطية والمالية ومن تلك الأهداف كانت وما تزال شركة أرامكو وفرعوها في كل المملكة هدفاً مشروعاً للقوة الصاروخية وسلاح الجو المسيّر والذي بفضل الله ثم بفضل المخلصين استطاعت اليد اليمنية المدافعة أن تتسيد الوضع العسكري وباتت اليد الطولى والمبادرة في انتقاء الأهداف ذات الأهمية واستهدافها بكمٍ هائل من الضربات المنكلة ولعلّنا رأينا منظومة الباتريوت ذات الهالة والصيت ها هي أضحت صيداً سهلة لقوة الردع اليمنية من خلال الاستهداف المباشر والمتكرر لمنصات الإطلاق والبطاريات ومواقع التخزين لتكون بذلك المنظومة الأمريكية في منال الدفاع اليمني الذي أرغمها على الفشل والاستسلام أمام منظومة بدائية للصناعات اليمنية التي فضحت هشاشة وضعف الصناعات الأمريكية. 
عمليات أوجعت العدو وتألّم لوقعها كثيراً حتى صرخ وااااا أمريكااااااااه يستنجدهم ليخرجوه من مأزق الحرب مع اليمن الذي بات اليوم وبفضل أقوى عزماً وصلابة أطاحت بتحالف العدوان ومرّغت أنفه بالتراب وأضحت قواه وعتاده العسكرية وتحصيناته الدفاعية ومنظومته الاعتراضية في مرمى قوات الجيش اليمني واللجان الشعبية والذي دائماً ما يثخن تحالف العدوان بضربات نوعية في كامل جغرافيا مملكة الرمال التي ترى بأم عينها مقوماتها الحيوية والنفطية والعسكرية تتهاوى أمام الضربات اليمنية.
العمليات الدفاعية اليمنية الهجومية لن تتوقف وستستمر باستمرارية العدوان والحصار وستزداد وتيرة الاستهداف حتى يذعن المعتدي ويناشد السلام من أهله او ان يرضخ للأمريكيين وبدوره يكون مستعداً ومتحسباً ضربات يمانية أكثر إيلاماً ستقصم ظهره ان تعربد وفضل طاعة اللئام على طاعة الكرام .. 

رمضان الجهاد والعطاء

رمضان الجهاد والعطاء 

✍ أبو يحيى الجرموزي ـــ 

ها قد اتى رمضان والابطال في راس الجبال والهضاب والوديان والسهول والسواحل والبحار يسطّرون ملاحم النصر ويدافعون عن الدين والوطن والعرض أمام شُذّاذ الأقطار وعديميّ الأخلاق 
يرابطون في ثكناتهم وفي ثغور جهادهم الحق في مختلف الجبهات والمحاور الداخلية وفي الحدود يقعدون للعدو كل مرصد وفي ارض ميادين القتال يقفون كشُمّ الجبال الشامخة في وجه مليشيا الإرهاب والإرتزاق ومن خلفهم عبيد الأمريكان والصهاينة.
للمرة السابعة على التوالي يقضون مجاهدونا شهر رمضان المبارك في مواقع رباطهم صياماً وقياماً وتسبيحاً في الغدو والأصال وفي متارس العشق الإلهي يذوبون في حبّ الله والتضحية في سبيله والمستضعفين. 
ينازلون أعداء الله يقارعونهم يهاجمهون ويقتحمون ويسطرّون اعظم مواقف الثبات والإيمان والرجال الصادقة بوفاءهم الجهادي ورباطهم القوي وصبرهم المتشبع بالروح الإيمانية والإخلاص.
ويؤثرون على أنفسهم شعبهم وأُمتهم ودينهم وعقيدتهم ولو كان بهم خصاصة من جوعٍ أو عطش يسهرون ليل رمضان جهاداً لا يفترون ولا يغفلون عن عدوّهم وعدوّ الأمة والدين بُرهةٌ ثانية وعيونهم تترقب تحرّك المعتدين ومن يمولّهم وفي نهار رمضان لا ينامون إلاّ ساعةً تحت حرارة الشمس.
يعانون يتعبون ويتألّمون يتوجعون ولا يتأوّهون حتى لا يستسلمون لاتعابهم ومعاناتهم
يُجرحون ويُقتلون وترتوي الأرض بدماؤهم الزاكية وحتى لا تداهمنا كشعبٌ يمني المخاطر يواجهون الأخطار وهم السبّاقون إليها دفاعاً كل طفل وإمرأة يمنية أرملة وثكلى وأباءٌ حيارى ومفقودين شهداءٌ وجرحى كل هموم مجاهدينا رجالنا المغاوير هو الذود عن حياض اليمن الأرض والإنسان والعقيدة وأخذ الثار لمن ضُلموا.
وقبل ان يحملون السلاح لقتال اعداء الله كان وما يزال يحملون قيم الدين والإيمان والعقيدة والتوحيد وبنبيل أخلاقهم خرجوا فقراء إلى الله وفي شهر رمضان جعلوا ساعات ليله ونهاره جهادٌ وعطاء وقرآن ومن نفحات هذا الشهر الفضيل ومع إطلالة السيد القائد العلم المجاهد سماحة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه وحفظه من خلال دروس ومحاضرات هدي القرآن والتي دائماً ما يطل علينا قمر بني هاشم العصر في ليالي رمضان تجد المجاهدين يسألون الله زيادةً في كمال إيمانهم وتماماً لكرم أخلاقهم وحُسناً لنيّاتهم وأعمالهم الجهادية فيسعدون بذلك وتزداد معنوياتهم وإلى مواقع وثكنات المعتدين والمرتزقة يغزون ويقتلون الأعداء حيث وجدوهم يقاتلون ومن رمى بسلاحه الأرض رافعاً يد الإستلام فهم يحسنون إليه أسيراً له ما لهم من حقٍ.
تطهير واقتحام وكمائن قتلٍ وإغارات وعمليات بطولية ميدانية وبالعيارات المزودة بنور الإيمان وبصيرة الجهاد والحق المشروع وضربات حيدرية باليستية ومسيّرة أثقلت كاهل تحالف العدوان بالهزائم المذلة والمنكسة لكبرياء خيانته وإرتهانه بالأمريكان والصهاينة الذي لم يضاعفوا من قوته إلاّ ضعفٍ وهوان وصغار وإلى المصير المجهول يهرول النظام السعودي وزبانية دناءته وانحطاط خسته وعمالته لليهود والنصارى 
للعيون الساهرة والأيادِ القابضة على الزناد مجاهدينا الأخيار أبطال الجيش واللجان الشعبية والأمن وخفر السواحل وحرس الحدود وكل فرد همه الإسلام والدفاع عن اليمن وأهله أمام اطماع الغزاة وحقارة المرتزقة
لكم منّا وإلى الله الدعوات بالخير والنصر والغلبة والعزة والتمكين ونسال من الله تعالى النصر والتمكين والفتح المبين ولا نامت أعيُن الجبناء والمرتزقة المنافقين . .

الأحد، 18 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ


المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 06 رمضان 1442هـ 18-04-2021

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

تحدثنا في المحاضرة بالأمس على ضوء الآيات المباركة من أول سورة الرحمن، واستعرضنا ما ذكر الله فيها "سبحانه وتعالى" من نعمه العظيمة علينا، التي أسبغها علينا برحمته، وبفضله وجوده وكرمه، نعمٌ متنوعة وعظيمة، والنماذج التي وردت فيما قرأناه بالأمس هي نماذج عامة؛ أمَّا على المستوى التفصيلي: فنعم الله "سبحانه وتعالى" لا تحصى، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[إبراهيم: من الآية34].

لاحظنا- فيما استعرضناه بالأمس- أنَّ أول نعمةٍ ذكرها الله "سبحانه وتعالى" لنا، وذكَّرنا بها، هي قوله "جلَّ شأنه": {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن: الآية2]؛ باعتبار نعمة الهداية هي المفتاح لكل النعم، وهي التي من خلالها يمكن للإنسان أن يستفيد من كل النعم في هذه الدنيا، وأيضاً أن يحظى بالنعم العظيمة في الحياة الأخرى، في الحياة الثانية، التي هي آتية، استقرار حياة الإنسان، وصلاح حياته، متوقفٌ على التفاعل مع هذه النعمة: نعمة الهداية.

ومرَّ بنا الحديث عن بقية النعم التي وردت في تلك الآيات المباركة:

نعمة الخلق، نعمة خلقك كإنسان، وما في ذلك من النعم الواسعة جداً، كلما تأمل الإنسان فيها تفصيلياً، يتجلى له كم فيها من النعم العظيمة والكبيرة، وذات الأهمية الكبيرة له في حياته:

  • نعمة تعليم البيان، وما يترتب عليها.
  • نعمة السماء والأرض.
  • نعمة العدل.
  • نعمة التعليم.

النعم المعنوية والنعم المادية.

  • نعمة العلامات والأوقات، التي نضبط بها علاقتنا مع الزمن، واستفادتنا من الزمن، نعمة علامات الشهور والسنين، وكذلك حتى علامات الاتجاهات، الله جعل لنا في السماء حتى علامات للاتجاهات، وهكذا.

نعم عظيمة: نعمة العدل، نعمة الأرض، وما هيَّأ الله فيها، وما هيأها عليه من الاستقرار لصالح هذا الإنسان، وهكذا نعمة الفواكه، نعمة الحبوب، النعم التي أنعم الله بها أيضاً علينا فيما يتوفر لحيواناتنا، التي نستفيد منها في هذه الحياة، وأيضاً نعمة الريحان، أشجار الزينة، والأشجار ذات الرائحة الزكية، الرائحة الطيبة.

ونلحظ في كل هذه النعم: أنها مظاهر نعم، ومظاهر جمال، كلٌّ منها حتى عندما نأتي إلى نعمة الفواكه، والأشجار، والريحان، الأشجار الكثيرة التي هي ذات منظر بهيج، وخلَّاب، ومبهج، يستمتع الإنسان بالنظر إليه، عندما يشاهد الإنسان مشاهد من هذه الأشجار المتنوعة المثمرة، وأشجار الزينة والورود والأزهار، كم يبتهج، كم يشعر بالارتياح والسعادة.

هذه النعم العظيمة جداً نعمٌ مرئيةٌ، مشاهدةٌ، كبيرةٌ، عظيمةٌ، لا يمكن للإنسان أن يجحدها، أو يكذِّب بها، أن يقول: [لا يوجد شيءٌ من هذه]، ونعمٌ أكبر منا، أعظم منا، الإنسان كائن بسيط صغير خلق الله له كل هذه النعم، وأسبغ عليه بهذه النعم.

الأثر الطبيعي للنعم عندما نستذكرها، وعندما حتى نستذكرها في مقامات التذكر والتأمل على نحوٍ أوسع وأفضل وأكثر وأعمق، الأثر الطبيعي هو: الانشداد إلى الله "سبحانه وتعالى"، المحبة لله "جلَّ شأنه"، الذي هو ولي كل هذه النعم، والتي هي برحمته وفضله وكرمه، وأن نتوجه بالشكر له على هذه النعم، وألَّا نقابل إنعامه علينا بالإساءة إليه، أو باستخدامها فيما هو معصيةٌ له، هذا هو الأثر الطبيعي؛ وبالتالي أن نستجيب له، وأن نسير على هداه، وأن تكون استجابتنا له على المستوى العملي ونحن نتحرك فيما يرضيه عنا، ونسعى لما يرضيه، أن تكون استجابةً برغبة، بمحبة، بتفاعلٍ إيجابي؛ لأن نعمه عظيمةٌ جداً علينا، ونحن إنما نتقلب فيها، إنما نتحرك فيها، هذا هو الأثر الطبيعي، الأثر السليم، الأثر الصحيح، والذي يغيب عنا، وعن مشاعرنا ووجداننا، وعن أعمالنا واهتماماتنا إلى حدٍ كبير، بسبب غفلتنا عن التذكر كما ينبغي لهذه النعم العظيمة، والتأمل فيها، وإلَّا فالنتيجة هي هذا التوجه بكل رغبة، بكل محبة فيما يرضي الله "سبحانه وتعالى" عنا.

الحالة السلبية والخطيرة جداً على الإنسان تجاه هذه النعم مع غفلته عن الله "سبحانه وتعالى"، وعن عظيم هذه النعم التي أسبغها عليه: هي حالة التكبر، حالة التكبر، عندما لا يكون للنعم أي تقديرٍ لديك، وكأنه ليس لله أي فضلٍ عليك، وكأنك أنت شخصياً الجدير بهذه النعم، وأن نعطاها بدون فضلٍ ولا منَّة، هذه حالة خطيرة جداً، وهذه النعم التي وردت هي نماذج عامة، وإلَّا فموقف الإنسان حتى تجاه بقية النعم المعنوية والمادية. 

نعمة أن يهيئ الله لك في هذه الدنيا جاهاً، أو دوراً، أو موقعاً محترماً، أو أن يكون لك دورٌ عمليٌ مهمٌ وبارز، النعم الأخرى: أن تكون صاحب ثروة، وصاحب إمكانيات مادية... وهكذا بقية النعم، أن تكون صاحب علمٍ وذكاءٍ وفهمٍ، وتمتلك في القدرة البيانية والإعلامية أكثر من الكثير من الناس، الكثير من الناس يغتر ويتكبر؛ لأن البديل عن استذكار النعمة، واستشعار فضل الله عليك: هو أن تغتر بما وهبك الله من النعم، وأن تتكبر بها، وأن تكبر نفسك وتعظم نفسك بدلاً من أن تكبر فيك المحبة لله "سبحانه وتعالى"، وهذا ما يحصل للكثير من الناس تجاه ما يعطيهم الله من النعم، وما يهبهم من نعمه، فبدلاً من أن يستشعروا عظيم فضل الله عليهم، وأن ينشدوا إليه "سبحانه وتعالى" ويحبوه، فالنتيجة الأخرى والبديل الآخر: هو أن تعظم أنفسهم، وأن تكبر أنفسهم لديهم، وكأنَّ ما أعطاهم الله هو جدارة شخصية لديهم، وليس هبةً من الله، وفضلاً من الله عليهم يقترن به مسؤولية عليهم، كأنه مجرد جدارة شخصية، هذه الحالة تؤثِّر على نفسية الإنسان إلى حدٍ كبير، تؤثِّر عليه في:

أولاً: تبعده عن الشكر، تبعده عن الشكر.

ثم هي تؤثر عليه في مقام الاستجابة العملية لله "سبحانه وتعالى"، فهو لا يستشعر نعمة الله عليه، فلا يتوجه عملياً بالشكر لله، والالتزام بتوجيهاته، والسير على هديه، والانطلاقة العملية الجادة بكل رغبة؛ إنما يتحرك وكأنه صاحب جدارة شخصية بكل ما وهبه الله، متكبراً، مغتراً، وحركته فيما يتعلق بالاستجابة العملية إنما تنطلق بدوافع ذاتية شخصية ناشئة عن حالة الغرور، وليس بدافع المسؤولية، وليس بدافع المسؤولية، ولا بدافع المحبة لله "سبحانه وتعالى"، فتراه منفصلاً عن هذا الارتباط الإيماني، والصلة الإيمانية بالله "سبحانه وتعالى"، وترى ذلك يؤثر على أدائه العملي؛ لأن أداءه العملي بات محكوماً وخاضعاً ومتأثراً بمقاصده الشخصية، واعتباراته الشخصية، وأهدافه الشخصية، ومكاسبه الشخصية؛ وبالتالي إذا تعارض أي شيءٍ مع تلك المقاصد الشخصية، والأهواء الشخصية، والأهداف الشخصية، فهو قد يتخلى عن أي مسؤولية، أو قد لا ينطلق في أي عملٍ أو موقفٍ معين مهما كان مهماً، مهما كان مهماً، بات المهم لديه هو مقاصده الشخصية، وحساباته الشخصية، وأهدافه الشخصية، ولذلك هو لا يذوب فيما هو رضا الله، ولا ينطلق انطلاقةً سليمة، انطلاقة المحب لله، الساعي لمرضاة الله "سبحانه وتعالى"، الراغب فيما عند الله، الذي يخجل أمام الله، ويستحي أمام نعمه العظيمة، لا، هو قد تضخَّمت ذاته لديه؛ وبالتالي يتمحور حول ذاته في الواقع العملي.

وقد يأتي هذا حتى في إطار العمل تحت عنوان العمل في سبيل الله، في أي مجال من المجالات، في أي مجال من المجالات، قد ينطلق الإنسان والعنوان عنواناً دينياً، عنواناً مقدَّساً، ولكن لأنه يعيش هذه الحالة من احتساب ما هو فيه بأنه جدارة شخصية، وعظمة ذاتية، وقيمة خاصة، وأنه ليس هبةً من الله العظيم، ونعمةً تقترن بها مسؤولية، فهو ينشد إلى نفسه أكثر مما ينشد إلى الله، وبدلاً أن يعظم الله في نفسه، تعظم نفسه عند نفسه وتتضخم، تتضخم، وهذه حالة خطيرة جداً، ولهذا أتى بعد التذكير بتلك النعم قوله "سبحانه وتعالى": {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 14-16]؛ ليذكِّر الإنسان وليذكِّر الجان أيضاً بحقيقة أصله، هذا مما يفيد كمعالجة تربوية: أن تتذكر أصلك، أصلك المادي وقيمتك المادية لا تساوي شيئاً، وعندما وهبك الله هذه النعم، فهي برحمته وفضله، لا تنظر وكأنه ليس لله فضلٌ عليك.

استشعار الإنسان لأصله، واستشعار الإنسان لنقاط ضعفه، يجعله يخجل أمام الله، يجعله يستشعر التكريم الإلهي، يجعله يستشعر عظيم فضل الله عليه، ويدرك أنَّ الفضل لله، وأنَّ المنَّة لله، وأنَّ عليه أن يتوجه إلى الله بالشكر، وأنه في أصله هو محل العجز، محل الضعف، محل الإفلاس والعدم، إنما الله من وهبه كل شيء، وأنعم عليه بكل شيءٍ، فالفضل لله عليه، لا يتنكر لنعمة الله، لا يتجاهل فضل الله عليه، هذه معالجة تربوية مهمة جداً.

ثم يستمر عرض هذه النعم العظيمة: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 17-18]، الله "سبحانه وتعالى" هو رب المشرقين ورب المغربين، والكثير من المفسرين يتحدثون عن أنَّ هذه الآية المباركة هي تتحدث عن حركة الشمس في شروقها في الصيف، وشروقها في الشتاء، واختلاف منازلها في ذلك، وفي غروبها في الصيف، وغروبها في الشتاء، واختلاف منازلها في ذلك، وما يترتب على ذلك من تغير وتنوع الفصول، والفصول هذه وتنوعها من صيفٍ وشتاء...إلخ. لها أهمية كبيرة جداً في حياة الإنسان، وفي واقع الحياة على الأرض، ويأتي نتاجاً لذلك يأتي أيضاً تنوع في المحاصيل الزراعية، تنوع في الفواكه، كذلك تنوع في مواسم الزراعة، ولهذا علاقة بصحة الإنسان فيما يتعلق حتى ببدنه، وفي أشياء كثيرة تفصيلية في واقع حياة الإنسان على هذه الأرض، فالله "سبحانه وتعالى" هو رب المشرقين ورب المغربين، وهو الذي يتولى هذا التدبير بكل ما يترتب عليه، وينتج عنه من نتائج في حياة الإنسان، ومن نعم كبيرة في حياة الإنسان، ونعم متنوعة، ومن تنوع في واقع الأرض في مشارقها ومغاربها وفي مختلف أنحائها، تنوعٌ يأتي بتكاملٍ عجيب في توفير احتياجات هذا الإنسان وعلى نحوٍ واسعٍ جداً من فضل الله الواسع، وتنوع يبنى عليه التكامل في الحركة التجارية ما بين أبناء المجتمع البشري.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، هذه نعم مؤكَّدة واضحة يعيشها الإنسان في حياته، وهي نعم لم تأت عبثاً، هي نعم تقترن بها مسؤوليات على هذا الإنسان، ومسؤوليات تعود إلى ما فيه خيره هو، إلى ما يصلح حياته هو، إلى ما تستقر به وتنتظم به حياته هو؛ إنما كيفية التعامل مع هذه النعم، والحركة في هذه النعم ضمن الدور الذي أراده الله لك كإنسان، واستخلفك في الأرض على أساسه، هو الذي يعود عليك أنت بالنفع.

{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}[الرحمن: 19-20]، البحار تغطي مساحة واسعة على كوكب الأرض، ويقدِّرها البعض بثلثي مساحة الأرض مغطاة بالبحار، والبحار لها دور كبير في حياة الإنسان، وهي من مظاهر النعم الكبرى على الإنسان، ومن مظاهر التسخير العجيب لهذا الكون، ولهذه الأرض، وما على هذه الأرض لصالح الإنسان، البحار بحجمها الهائل، بعمقها الواسع، وبحركتها العجيبة واضطرابها وتموجها، يصعب على الإنسان أن يضبطها، وأن يسيطر عليها، وأن يستغلها، لكن الذي سخَّرها له هو الله "سبحانه وتعالى".

والنعم في البحار هي نعم كثيرة جداً، عندما نتأمل ما أودع الله في البحر من النعم، أولاً الثروة الغذائية ثروة كبيرة جداً، الأسماك والأحياء البحرية التي يستفيد الإنسان منها، نعم واسعة وكبيرة في غذائه وفي حركته التجارية والاقتصادية، ويتفرع عنها الكثير من النعم، النعم الأخرى أيضاً فيما يتعلق بالبحار مع نعمة التقاء هذه البحار، مثلما قال هنا: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}، التقاء البحار شكَّل حلقة وصلٍ للحركة التجارية، والحركة الاقتصادية، وللتنقل بالنسبة للإنسان، وربط ما بين القارات عل الأرض ربطاً عجيباً، وجعل هذه الحركة التجارية الضخمة بين مختلف المناطق على الأرض، والتي هي متباعدة في شرق الأرض وغربها، ربط ما بينها وجعل هذه الحركة ميسَّرة وسهلة، ونجد أن هذا الالتقاء بين البحار فيه آيةٌ عجيبةٌ جداً، تحدث عنها في هذه الآية المباركة، عندما قال: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}، فالبحار تلتقي، يلتقي هذا البحر والبحر الآخر، ونجد هذا بشكلٍ واضح، عندما نلحظ مثلاً كيف يلتقي البحر الأحمر بخليج عدن، ثم خليج عدن يلتقي بالبحر العربي، البحر العربي يلتقي بالمحيط الهندي، هكذا تلتقي، يلتقي البحر الأبيض المتوسط بالمحيط أيضاً، وهكذا تلتقي المحيطات والبحار، والمحيطات هي بحار كبرى، تلتقي فيما بينها، وهذا الالتقاء لا يفقد أياً من البحرين، البحر الذي التقى مع البحر الآخر أياً من خواصه؛ لأن لكل بحر خواص معينة، بيئة معينة، خواص في واقعه وفي داخله خواص معينة، عندما يلتقي البحر مع بحرٍ آخر لا يمتزجان فيغلب بحرٌ منهما على البحر الآخر، إلى درجة أن المحيط- وهو بحر كبير جداً المحيط- عندما يلتقي ببحرٍ أصغر لا يغلبه، فيمتزج به بشكلٍ كامل ويفقده كل خواصه، وهناك حديث يطول عن التيارات البحرية، وعن الخصوصيات للبحار، عادةً ما يأتي الحديث عنها في العلوم المختصة بهذا المجال، وفي الإنتاجات الإعلامية التي تختص بهذا المجال، التقاؤهما وبشكلٍ مباشر الماء مع الماء، بدون أي حاجزٍ ماديٍ صخريٍ مثلاً، أو نحوه، إنما هو حاجزٌ من قدرة الله "سبحانه وتعالى"، الذي عبر عنه في قوله: {بَرْزَخٌ}، في إطار التدبير الإلهي، الذي جعل لكل بحرٍ خواصه، وجعل أيضاً ما يحول دون أن يبغي أحدٌ منهما عند الالتقاء على البحر الآخر، فيمتزج فيه بكله.

ويفقده كل خواصه، هذا يساعد على التنوع، التنوع البحري، فيمتاز بحرٌ معين بخصوصيات معينة، بأحياء بحرية معينة، بأشياء معينة، إنتاجات معينة، نِعَم معينة، ويمتاز البحر الآخر كذلك، وبالتالي يحصل هذا التنوع الواسع جداً، الواسع جداً، والمفيد للإنسان نفسه.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية21]، والنعم في البحار من أوسع وأكبر وأكثر النعم التي يستفيد منها الإنسان، ويزداد مع الوقت اكتشافه للمزيد منها، واستغلاله للمزيد والمزيد منها.

 {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: الآية22]، إلى جانب ما فيها من النعم، التي هي نعم متنوعة وكثيرة، ومنها نعمة الغذاء للإنسان المتوفر في البحار، هناك أيضاً نعم أخرى، حتى نعمة الزينة، اللؤلؤ والمرجان، والأحجار الكريمة، التي يستغلها الإنسان في مجال الزينة، والله خلق أشياء كثيرة في البر والبحر، مما يستخدمها الإنسان كزينة، وهي مظاهر جمال، وتروق للإنسان، ويُعجب بها، نعم الله واسعة جداً على هذا الإنسان.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية23]، لا يمكن للإنسان أن ينكر هذه النعم، فلماذا لا يشكرها؟ لماذا لا يشكر الله عليها؟

{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}[الرحمن: الآية24]، وله "سبحانه وتعالى" السفن، السفن هي تدبير إلهي، وهي نعمةٌ من الله "سبحانه وتعالى" أنعم بها على الإنسان، ويستفيد منها بشكلٍ كبيرٍ جداً في حياته، ولهذا نلحظ أن الإنسان يعتمد بشكلٍ أساسي في حركته التجارية والنقل التجاري ما بين البلدان، ولمسافات شاسعة وبعيدة، على السفن، ومعظم احتياجات الإنسان تنقل في هذا الزمن، وفي مراحل كثيرة من حياة الإنسان، تنقل عبر السفن، حركة النقل التجاري- كما قلنا- تعتمد على السفن، وهذا الدور الكبير جداً للسفن في حركتها، ونقلها لمختلف احتياجات الإنسان وبكميات كبيرة جداً، يعني: أحياناً تصل سفينة واحدة في هذا الزمن وهي محملة مثلاً بالنفط، بالبترول، بالبنزين مثلاً، وفيها ما يكفي أحياناً احتياج شعب كامل لمدة شهرٍ كامل، أو وهي محملة بمئات الآلاف من أطنان القمح، وفيها ما يغذي شعباً يكون تعداده ثلاثين مليوناً، أو نحواً من ذلك، لشهر كامل، مئات آلاف الأطنان من القمح، سفينة واحدة، هذا ييسر الحركة، يعني: لو لاحظنا مثل هذه الحمولة كم كانت ستحتاج في نقلها براً من وسائل نقل، مثلاً: قاطرات، أو ناقلات، كم كانت ستحتاج؟ وكم كانت ستحتاج من الوقت؟ بينما هي عبرت من خلال الحركة البحرية، قد يكون عبرت من قارة بعيدة إلى قارة أخرى، مسافة شاسعة وبعيدة جداً، ولكن لأنها أتت عبر البحر وعبر هذا الاتصال البحري، أمكن لها أن تصل في وقتٍ مبكر، أقرب مما كانت ستحتاج إليه من خلال الحركة عبر البر، ثم إن النقل الجوي لا يمكن أن يفي بهذا الاحتياج الكبير، النقل الجوي له مستوى معين في إمكانية حجم هذه الحمولة التي تنقل، ولكن هذه الحمولات الكبيرة جداً، التي تصل إلى مئات الآلاف من الأطنان، تحمل عبر السفن.

من الذي أنعم على الإنسان بهذه السفن، بالوسائل التي تصنع منها، وهداه إلى صناعتها؟ من الذي جعل لدى البحر قابلية لأن يحمل هذه السفن، وأن تجري عليه، فتكون جاريةً عليه، تشاهد الناقلات وهي تمشي على الأرض، وتلك تجري على البحر، على الماء تجري؟ إنه الله "سبحانه وتعالى" الذي هيأ كل هذه النعمة، فسخر البحر من جهة، وسخر هذه السفن من جهةٍ أخرى، فهي تؤدي هذا الدور الكبير في حياة البشر.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية25]، هي نعم عظيمة، كيف لا تشكروا الله عليها؟! كيف لا تستشعروا مسؤوليتكم في العمل تجاه هذه النعم، وفق هدي الله "سبحانه وتعالى"، وعلى أساس العدل، البديل عن ذلك ما هو؟ الطغيان، الإنسان يطغى، إذا لم يشكر الله "سبحانه وتعالى" فهو يطغى، طغيانه يؤثر على حياته كمجتمع بشري، يفقده الاستقرار، ينتج عنه الكثير من المشاكل، يؤثر سلباً على واقع الحياة، وطغيانه يجعله يتصرف مع هذه النعم بطريقة تخرِّب حياته من جهة، وتخرب عليه هذه النعم، وتفسد عليه هذه النعم من جهة أخرى، الطغيان هو البديل عن الشكر.

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: 26-27]، ثم إن كل هذه النعم، وكل من على الأرض سيفنى، كل هذا سيفنى، هذه النعم ستفنى، وكل من على الأرض سيفنى، والبقاء لله "سبحانه وتعالى" وحدة هو الذي يبقى، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} الذي خلق ويخلق كل شيءٍ على أجل صورة، وأكرم وأتم نعمة {وَالْإِكْرَامِ}.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية28]، يشبه موقع هذه الآية {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، بعد هذا العرض لهذه النعم، يشبه موقع الآية السابقة في قولة تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}، الإنسان بحاجة حتى يدرك قيمة هذه النعم، وأن تشده إلى الله، أن ينشد من خلالها إلى الله، إلى ربه الرحمن المنعم الكريم، بحاجة إلى أن يتذكر أصله، وبحاجة إلى أن يتذكر الفناء، أنه سيفنى هو، ومرجعه إلى الله "سبحانه وتعالى"، وأن كل هذه النعم أيضاً ستفنى؛ لأنها حياة هي الحياة الأولى، وميدان حياته فيها، ميدان مسؤوليته فيها، يتصل بكيفية التعامل معها من منطلق الشكر لله "سبحانه وتعالى"، والعمل فيها بما يرضيه "جلَّ شأنه"، بما لا يسيء إليه "سبحانه وتعالى".

تذكر الإنسان بأن هذه النعم ستفنى، وأنه سيفنى أمرٌ مهمٌ؛ حتى لا ينشد إليها هي بدلاً من الانشداد إلى الله "سبحانه وتعالى"، وحتى لا ينسى أن هناك حياةً أخرى، أن هذه هي الحياة الأولى فحسب، وسيأتي أيضاً الحياة الأخرى الأبدية والدائمة، والتي لها علاقة بهذه الحياة، ليبقى لديه اهتمام بأن هناك حياتين، حياتين، وليست حياة واحدة، فلا يتجه كل اهتمامه إلى هذه الحياة فحسب، وينشد إلى مظاهرها فحسب، وينسى الحياة الأخرى؛ لأنه بحاجة إلى أن يستذكر الحياة الأخرى، والتي هي حياة أبدية، وخيرها خالص، وشرها خالص، هذا يساعده على أن يستقيم هنا، حتى التذكر للفناء يساعده، الفناء الذي سيأتي بعده تلك الحياة، هذا يساعده على أن يستقيم في حياته هنا، وحتى لا يطغى، حتى لا يطغى في تعامله مع هذه النعم، فهذا التذكير نعمة علينا، وهو تذكيرٌ مهم، والفناء فيه نعم لا يتسع الوقت للحديث عنها، لكن هذا من أهم ما يحتاج الإنسان إلى أن يتذكره، عندما يستشعر أن هذه النعم ستفنى، وأنه سيفنى، عليه أن يستقيم في هذه الحياة؛ لأن بعد ذلك الفناء ستأتي الحياة الأبدية، ويأتي الجزاء.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، ثم مع كل هذه النعم العظيمة، التي أصبغها الله علينا، ونعم كبيرة جداً، نعم كبيرة، البحار، نعم كبيرة جداً، الزينة، كل هذه النعم الماضية، من نعمة الهدى والقرآن، ونعمة العدل والتعليم، إلى النعم المادية المتنوعة الواسعة جداً.

فالله "سبحانه وتعالى" مع كل هذه النعم يقول: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن: الآية29]،  بعد كل هذه النعم، وبعد كل هذا التجهيز لهذه الأرض، بما فيها من متطلبات الإنسان، واحتياجاته الواسعة، والتي وفر له فيها كل هذه النعم الواسعة والعظيمة، فهو "سبحانه وتعالى" يعرض علينا المزيد والمزيد من فضله، بعد كل هذه النعم، وكل هذا التجهيز لها على الأرض، لمصلحتك أنت كإنسان، هو يعرض عليك أنه لا يزال أيضاً جاهزاً لإعطائك المزيد، وجاهزاً إذا طرأ لك أي طارئ أن تدعوه فيستجيب لك، هذا تكريم كبير للإنسان، تكريمٌ كبيرٌ للإنسان، بعد كل هذه النعم العجيبة جداً، والعظيمة جداً، والواسعة جداً، هو لا يغلق عليك بابه أبداً، بابه مفتوحٌ لك، أي وقت تريده، تسأله، تتوجه إليه بالدعاء، وتسأله المزيد من فضله، وإذا طرأ عليك أي طارئ تسأله، وهو جاهزٌ ليستجيب لك، هذا تكريم عظيم، تكريم عظيم من الله "سبحانه وتعالى"، يخجل الإنسان أمام الله، ويستحي من الله أن يكون رحيماً به إلى هذه الدرجة، ومنعماً عليه إلى هذه الدرجة، وأنت تذكَّر ما هو أصلك، تذكَّر تكريم الله لك، وهو يعرض بهذا نعمه، والمزيد من كرمه، وأن بابه لن يغلق عليك أبداً؛ إنما يريد منك أن تستجيب له، واستجابتك له فيما هو لك أنت؛ أما هو فهو غنيٌ عنك، فيما يفيدك أنت، فإذا استجبت له، فهو سيستجيب لك، هو يستجيب لك، وعندما تسأله شيئاً، هو يعطيك ما هو أفضل وأنفع وأصلح لك؛ لأنه الذي يعلم بمصلحتك وما فيه الخير لك.

{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، هو لا يقول: قد أنعمت عليكم بهذه النعم التي لا تحصى، هذا يكفي، وأنتم لا تستحقون شيئاً، ولا أقدم لكم أي شيءٍ إضافي، يكفيكم ما قد جهزته لكم على الأرض، قد أصبحت نعم كافيه، وخلاص لا عاد أسمع ولا كلمة، أيش عاد تشتوا بعد كل هذا؟ لا، هو "جلَّ شأنه" الحي القيوم، وهو الجواد البر الرحيم الكريم، فضله مستمر، عطاؤه مستمر، رحمته واسعة ومستمرة، وفي كل يومٍ وعطاؤه مستمرٌ لعباده، ينزل إليهم فضله، وتأتي إليهم نعمه الواسعة التي لا تحصى.

{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، إن لم تشكروا هذه النعم الواسعة، إن لم تقدروا هذه النعم العظيمة، فأنتم في حالةٍ خطيرة؛ لأنه يرتبط بها مصيركم، مصيركم ومستقبلكم في الحياة الآخرة مرتبطٌ بشكركم لهذه النعم، إن لم تشكروا هذه النعم، فستخسروا نعمه العظيمة في الآخرة، وسيكون لكفركم بهذه النعم، وتكذيبكم لهذه النعم، وعدم تقديركم لهذه النعم، وتعاملكم معها بالطغيان، العواقب السيئة، عليكم أنتم في مستقبلكم أيضاً في الآخرة، وفيما يؤثر عليكم في الدنيا.

نكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛


السبت، 17 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

(نص ) المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 05 رمضان 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

سورة الرحمن من السور القرآنية المباركة، التي قدَّم الله فيها عرضاً عن حياة الإنسان: الحياة الأولى، والحياة الثانية، وعن الربط ما بين الحياتين، وفيها دروسٌ مهمةٌ وعظيمة، نتحدث- إن شاء الله- على ضوء ما ورد فيها من الآيات المباركة باختصار، وبتركيز على بعضٍ من النقاط المهمة والمفيدة؛ لأن القرآن الكريم هديه واسع، وهو بحرٌ لا يدرك قعره، ولكننا نركِّز بشكلٍ أساسي على بعض النقاط المهمة، والتي لها علاقةٌ بسياق موضوعنا.

يقول الله "سبحانه وتعالى":

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن: 1-2]، الرَّحمن: هو الله "سبحانه وتعالى" الرحيم بعباده، الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو أرحم الراحمين، ومن رحمته "سبحانه وتعالى" التي أسبغها علينا: ما عرضه علينا في هذه السورة المباركة من أصناف النعم الواسعة والعجيبة، وفي مقدِّمتها قوله "سبحانه وتعالى": {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}.

القرآن الكريم هو مفتاح النعم بكلها، هداية الله "سبحانه وتعالى" هي أول متطلبات السعادة لهذا الإنسان في حياته في الدنيا، وفي حياته في الآخرة، والقرآن الكريم هو العنوان الأعظم للهداية الإلهية، وهو خاتم كتب الله "سبحانه وتعالى"، فهو مفتاح النعم على أساس الإتِّباع له، والتحرك وفق منهجه، تتحول النعم المادية التي عرضها الله لنا "سبحانه وتعالى" في هذه السورة، إلى نعيمٍ، ويعيش الإنسان في هذه الحياة براحةٍ وسعادةٍ واطمئنان، كما قال الله "سبحانه وتعالى" في كتابه الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف: من الآية96].

القرآن هو كتاب رحمة، كل ما فيه من تعليمات، وإرشادات، وتوجيهات، كلها رحمة، وتحقق للإنسان الرحمة في هذه الحياة، وفي مستقبله في الآخرة، فيماتحققه للإنسان بشكلٍ مباشر، وفيما تقيه وتدفعه عنه من أخطار ومصائب ونكبات وشرور من جانبٍ آخر، وهو رحمةٌ معنويةٌ كبرى، ينير لك الطريق، يرشدك لليسرى، يرشدك إلى ما يوصلك إلى رحمة الله، وإلى رضوانه، وإلى جنته، وإلى السلامة من عذابه، فالرحمة فيه رحمةٌ عظيمةٌ، وهو يسمو بك كإنسان فيما يعلِّمك وفيما يزكيك، فهو مفتاح النعم، وهو ما يجسِّد الرحمة العظمى، هو من أجلى صور الرحمة من الله "سبحانه وتعالى" لك، فهو يعلِّمك كيف تحيا، وكيف يجب أن تكون، وماذا عليك أن تعمل، وماذا يلزمك أن تترك وأن تحذر منه.

{عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، ونعمة التعليم التي هيَّأت للإنسان القابلية لأن يتعلم القرآن، وأن يستفيد منه، هي من أعظم النعم التي أكرم الله بها هذا الإنسان، وجعل من خلالها لهذا الإنسان الفرصة لأن يكون له دور كبير في هذه الحياة، وأن يستمتع بالنعم الإلهية الواسعة.

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ}[الرحمن: الآية3]، الله "سبحانه وتعالى" أنعم على الإنسان حينما خلقه، وجودك كإنسان هو نعمة، وكلٌّ منا يعرف هذه الحقيقة: أنَّ وجوده في هذه الحياة هو نعمةٌ عليه، وخَلْقُ الله لك كإنسان في أحسن تقويم هو نعمةٌ كبيرة، وما خلق الله لك من الحواس، وفي مقدمتها: السمع، والبصر، والإدراك العقلي، وما خلق الله "سبحانه وتعالى" لك من الأعضاء والجوارح، التي تستفيد منها، وتعتمد عليها، وجعلها على كيفيةٍ تستفيد منها على نطاقٍ واسع، بما ليس لغيرك من سائر الحيوانات والمخلوقات على هذه الأرض، ليست كيفية خلقها، وتركيبها، وجوارحها، وأعضائها، على النحو الذي خلقك الله عليه، وهيَّأ لك من خلاله أن تستفيد منها على نحوٍ واسع جداً.

لو نلحظ مثلاً نعمة اليدين، كيف تختلف يد الإنسان عن يد غيره من الحيوانات، وهذا يتيح له أيضاً الاستفادة منها بأشكال كثيرة جداً، وهكذا بقية الأعضاء والحواس، ما وهبك الله "سبحانه وتعالى" من قدرات، من مواهب، من طاقات، كلها- على المستوى الذهني والنفسي والجسدي- كلها نعمةٌ كبيرةٌ عليك، وتستفيد منها في حياتك هذه على نطاقٍ واسع، وبأشكال كثيرة ومتعددة.

والإبداعات الإنسانية التي هيَّأها الله، والتي جرت على يد الإنسان، هي شاهدٌ أنَّ الله "سبحانه وتعالى" هيَّأه، وصنعه، وخلقه، وركَّبه على كيفيةٍ، وعلى نحوٍ، وبمدارك، وبآليات، وطاقات، وقدرات، ومواهب، تساعده على الإبداع في هذه الحياة، وعلى أن يعمل لنفسه أشياء كثيرة فيما وهبه الله في نفسه، وفيما مكَّنه الله فيه في هذه الحياة من وسائل وإمكانات، هذا شاهد على هذه النعمة العظيمة.

{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن: الآية4]، الله "سبحانه وتعالى" علَّم الإنسان البيان، وسيلة التخاطب والتفاهم مع الآخرين، والإنسان يحتاج إلى هذه؛ لأن مسيرة الحياة البشرية هي مسيرة اجتماعية، يتعاون فيها المجتمع البشري، والعلاقة فيما بين الناس في تعاملهم، في شؤون حياتهم، في أمور حياتهم الواسعة، من متطلباتها الأساسية وفي مقدِّمة احتياجاتها: أن يكون بينهم وسائل للتخاطب والتفاهم، والحديث إلى بعضهم البعض، وإيصال ما يحتاجون إيصاله إلى بعضهم البعض، ما يصطلح عليه في هذا العصر بالتواصل، التواصل جانب أساسي وحيوي لحياة الناس في كل شؤونهم، في أمورهم الاقتصادية، في شؤونهم الاجتماعية... في مختلف حياتهم وشؤون حياتهم، فتعتبر هذه نعمة عظيمة أنعم الله بها على الإنسان، وتقوم عليها الحضارة الإنسانية، ويقوم عليها التعامل فيما بين البشر، وتجري شؤون حياتهم في مختلف شؤونها على أساس هذه النعمة: نعمة البيان، ووسيلة التفاهم، والتخاطب، والتواصل فيما بينهم، بقليلٍ من التأمل لهذه النعمة، يدرك الإنسان كم هي نعمة عظيمة جداً على الإنسان كفرد، وعلى المجتمع البشري بشكلٍ عام.

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن: الآية5]، من نعم الله "سبحانه وتعالى" علينا كبشر، على الإنسان كإنسان فرداً ومجتمعاً: هي نعمة الشمس، الشمس وما يأتينا منها من الضياء، وما يأتينا منها من الدفء والحرارة، نعمةٌ كبيرةٌ جداً، وشيءٌ أساسيٌ لحياتنا هذه، ما كانت الحياة لتستقيم، لتستمر، لتكون على هذا النحو، لولا هذه الهبة الإلهية، وهذه العطية والنعمة الكبيرة من الله "سبحانه وتعالى"، جانبٌ منها يتصل بهذه المسألة: بمسألة الدفء، والضياء، والحرارة، وما لهذا من أهمية كبيرة بالنسبة للإنسان هو، وبالنسبة للنباتات التي يعتمد عليها في غذائه.

ولكن إضافةً إلى ذلك: الاستفادة منها، والاستفادة من القمر التي لها أهمية كبيرة، وتفيد الإنسان في الليل، وفي حركته في الليل بضوئها الهادئ، الخافت، المنير، المناسب، ولكن مع كل ذلك: للشمس والقمر علاقة مهمة جداً بمسألة تعاقب الليل والنهار، وبمسألة الحساب، والأوقات، وعلامات الشهور والسنين، وتعاقب الفصول، وهذه مسألة أساسية في حياة الإنسان، وانتظمت حياة البشر على أساس انتظام أوقاتهم، ليل ونهار، شهور وسنين، فصول، ولها علامات.

الشمس والقمر لها حساب دقيق في حركتها، وتنتظم عليه بدقةٍ تامةٍ وبالغة، وانتظمت بهذا حياة الناس في مختلف شؤونهم وأمورهم، وهذا معروف في واقع الحياة، الإنسان يعتمد في انتظام حياته على هذه العلامات: على علامة الشهور، علامات السنين، علامات الفصول، وصلتها بشؤون حياة الإنسان على مستوى المعاملات، على مستوى الأعمال، على مستوى الاهتمامات والأنشطة المختلفة في الحياة.

وحتى على مستوى مواسم الزراعة، نحن نعرف أنَّ لكل صنفٍ من أصناف الزراعة مواسم محددة، مرتبطة بحركة الشمس والقمر والأرض، ومنتظمة بذلك، ومتوزعة على النطاق الجغرافي على كوكب الأرض، ففي بلد معين يناسب أن يكون زراعة صنف معين مثلاً القمح من أصناف الزراعة في وقت كذا؛ بناءً على منازل الشمس، وحركة الشمس، وحركة القمر، وحركة الأرض، وحتى فيما يتعلق بالقمر لها علاقة بحركة المد والجزر في حركة البحار على وجه الأرض... وهكذا، لهذا علاقة مهمة جداً، انتظمت به حياة الناس في أعمالهم، واهتماماتهم، وزراعتهم، وتجارتهم، وأنشطتهم، مع نعمة تعاقب الليل والنهار، وبقَدَرٍ مناسبٍ لحياة الإنسان، وبما يتناسب أيضاً مع الحفاظ على مستوى معين من الحرارة والبرودة على هذه الأرض، تلائم حياة الإنسان، وتنسجم مع احتياجاته، ونلحظ أهمية ذلك: ماذا لو كان الليل طويلاً جداً، كما هو في بعض الكواكب يستمر بما يعادل العام من أعوام الأرض؟ لكانت هذه مشكلة كبيرة، أو كان الليل سرمداً إلى يوم القيامة؟ لكان في هذا ضيق من استمرارية الظلام والتعب، وهكذا لو استمر النهار من دون تعاقب الليل الذي يأتي للسكن والراحة والنوم، ويتحقق للإنسان فيه السبات- كما قال الله "سبحانه وتعالى"- بنومه واستراحته.

فهذه النعمة الكبيرة، وهي أجرام كبيرة، القمر جرم كبير، والشمس جرم كبير جداً، مشتعل ووهَّاج، ولا يحتاج إلى عناية من البشر أنفسهم، لا يحتاج إلى أن يهتموا به، وأن يقدموا له الوقود، أو البترول، أو الديزل، أو الغاز، ولا يحتاج إلى أي تعب، نعمة تصلهم بشكلٍ مستمرٍ ومنتظمٍ، وتستمر بشكلٍ دائم وفق ذلك النظام العجيب، وتمدهم بالطاقة، وتمدهم بالدفء والحرارة، ولها أهمية كبيرة فيما يتصل بحياتهم، وغذائهم، وحركة المياه على وجه الأرض، ومنافع واسعة جداً، واتساق الزمن، واتساق الزمن، وحركة الزمن المنضبطة، التي يضبط الإنسان عليها مسيرة حياته، وأدائه في هذه الحياة، وأعماله في هذه الحياة، كلها تعتمد على الوقت، من الساعات إلى السنين، ومن الفصول إلى الشهور، إلى منازل الشمس، إلى حركة الأرض... وهكذا.

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن: 5-6]، الشجر- كذلك- من النعم الكبيرة على الإنسان، وما أودع الله فيها من الخواص التي تعود بكل نفعها على هذا الإنسان، النباتات من أهم ما يحتاجه الإنسان على هذه الأرض، والنباتات واسعة جداً، أصنافها بمئات الآلاف، يقال: أنَّ البشر إلى حد الآن في إحصاءاتهم وصلوا إلى إحصاء أكثر من خمسمائة ألف نوع من النباتات، منها النباتات التي تدخل بشكلٍ أساسيٍ في غذاء الإنسان، ومنها النباتات التي يستخدمها في الطب، ما يقارب لحد الآن مما قد اكتشفه الإنسان- واكتشافاته لا تزال محدودة وبسيطة- أكثر من مئة ألف نبات مما قد اكتشفه من النباتات الطبية، ومنها النباتات التي تفيده أيضاً في ملابسه، ونباتات تفيده في أشياء كثيرة جداً، الأشجار ذات نفع كبير جداً للإنسان، وذات علاقة مهمة بالنسبة لتوفر وانتظام عملية الأوكسجين في الأرض، وفوائدها كثيرةٌ جداً، وهي كذلك نعمة أودعها الله لهذا الإنسان، وأودع فيها الخواص والمنافع التي يحتاج إليها في جوانب كثيرة من حياته، مع الطابع الجمالي لها، ذات جمال ومناظر خلَّابة ومبهجة.

{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}[الرحمن: من الآية7]، السماء هي نعمة، وهي سقف، والله "سبحانه وتعالى" عندما رفعها، فهو أنعم بذلك نعمةً كبيرةً علينا كبشر، لو كانت ملاصقة لهذه الأرض؛ لكان في هذا ضيق كبير للإنسان، ولكن رفعها مريح للإنسان، سقف رفيع جداً، وأيضاً لها منافع كثيرة جداً، واكتشف في هذا الزمن كم هناك من المنافع والوسائل التي يستفيد منها الإنسان من خلال السماء وارتفاعها.

{وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن: من الآية7]: العدل بمفهومه العام، العدل كقاعدة أساسية للتعامل؛ لأننا لسنا فقط بحاجة إلى النعم المادية ويكفينا هذا فقط، من أهم ما نحتاج إليه، ومن متطلباتنا الضرورية كبشر: هو أسس للتعامل فيما بيننا، أسس نمشي عليها في مسيرة حياتنا، في التعامل فيما بيننا، وفي العمل فيما استخلفنا الله فيه.

والله "سبحانه وتعالى" جعل العدل هو الأساس الذي قدَّمه لنا لنعتمده كنظام للتعامل فيما بيننا في واقع حياتنا، وللتعامل مع ما استخلفنا الله فيه في هذه الأرض، وما فيها من الإمكانات، نحتاج إلى هذا المبدأ العظيم، وبه تستقيم حياتنا، وبه تستقيم حياتنا؛ لأنها حتى لو توفرت لدينا هذه الإمكانات والنعم المادية من دون نظامٍ سليمٍ يقوم عليه التعامل فيما بيننا، والتعامل مع هذه النعم؛ لكان لهذا تأثير سلبي علينا، لما استفدنا من هذه النعم على الوجه المطلوب، لكننا كنا مع وجود كل هذه النعم بحاجة إلى نظامٍ عادل، وإلى العدل نفسه كنظام نتعامل من خلاله بشكلٍ موزونٍ وصحيحٍ ومستقيمٍ مع هذه الأشياء، ومع بعضنا البعض، {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}، فالله جعل العدل هو الذي نزن به كل المعايير والمقاييس، وأسس التعامل فيما بيننا بشكلٍ عادل.

{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن: الآية8]؛ لأن ما يخرِّب حياة البشر، وما يكدِّر عليهم ما قد أولاهم الله من النعم، وما هيَّأ لهم من ظروف الحياة الطيبة والاستقرار: هو طغيانهم، عندما لا يلتزمون بالعدل فيما بينهم، عندما يفقدون الاتزان في التعامل على أساس العدل فيما بينهم، وتجاه هذه الأشياء التي استخلفهم الله فيها.

ما يفسد على الإنسان حياته، والاستقرار فيها، وما يفسد على الإنسان النعم هذه التي أعطاه الله: هو عدم التعامل بشكلٍ متوازنٍ على أساس العدل معها وفيها، هذا هو الذي يخرِّب الأشياء، يفسد الأشياء، يدخل هذا إلى مسألة التعامل، والعلاقات، والأعمال، ويدخل هذا إلى نفس الأشياء المادية، عندما نعمل فيها، فلا نضبط أداءنا وعملنا فيها، واستغلالنا لها، وفق المعايير والمقاييس الصحيحة المتوازنة، فالزيادة والإفراط تخرِّب هذه الحياة، تخرِّب هذه الحياة في أمنها واستقرارها، وفي أشيائها المادية.

{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن: الآية9]، مهمٌ جداً أن نقيم الوزن بالقسط، على أساس القسط، على أساس العدل، على أساس المقياس الصحيح، الذي لا يكون فيه لا إفراط وطغيان وتلعُّب، ولا أيضاً إخسارٌ ونقصان.

{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}، عندما جعل الله لنا في هذه الحياة مقاييس وآلات، آلات للمقاييس وللوزن وللكيل، هذا يدخل ضمن المفهوم العام للعدل، هذا مما يحقق لنا العدالة في التعامل فيما بيننا، ولذلك هناك الآن مثلاً مقاييس محددة، وآلات تستخدم للوزن، للكيل، للمقاييس في مختلف شؤون حياة البشر، في كل ما ينتجه البشر هناك مقاييس معينة، يعني: عندما نلحظ مثلاً من الميزان الذي يعتمد على الشوكة أو الرقم، إلى مختلف المعايير، إلى الأطنان، إلى مختلف المقاييس، لمختلف الأغراض، هذا مما يساعد على العدل في تعاملات البشر فيما بينهم؛ لأن العدل هو العنوان الأعم، الآليات والوسائل والمقاييس التي تستخدم لتحقيقه، هي تدخل ضمن هذا المفهوم، وهي مهمةٌ جداً في حياة الناس، هي نعمة من الله "سبحانه وتعالى"، وبها تستقيم حياة الناس؛ ولذلك من المهم الالتزام بها، فهو هنا أكَّد على الالتزام بها، قد أنعم الله بها علينا، وهيَّأ لنا من خلالها أن تستقيم بها حياتنا على أساسٍ من العدل، بدون غشٍ ولا ظلمٍ، فيبقى علينا نحن كبشر أن نلتزم بها، أن نقيم الوزن على أساسها، وهذا يدخل- كما قلنا- ضمن مختلف ما ينتجه البشر، في زراعتهم، في تجارتهم، في معاملاتهم التجارية والاقتصادية، أن يكونوا أوفياء، ودقيقين، وملتزمين بهذه المقاييس والمعايير؛ حتى يكونوا ملتزمين بالعدل؛ لأنها وسائل لإقامة العدل فيما بينهم، وأن يحذروا الغش، وأن يحذروا الخداع.

ثم عندما ندخل إلى مسألة الاستخلاف في الأرض، والتمكين لهذا الإنسان لاستغلال خيراتها وهو يصنِّع، وهو ينتج مختلف الأشياء، لكل الأشياء مقادير محددة بالشكل المناسب الذي يجعلها صالحةً للإنسان، الاختلال في هذه المقادير، والاختلال في هذه المقاييس، يعود بأضرار بالغة على هذا الإنسان، على صحته، على حياته، وهذه مسألة مهمة جداً.

معروفٌ الآن في العملية الصناعية، والإنسان يصنِّع وينتج، أنه قد يصنع شيئاً معيناً، وهو مركب من مواد مختلفة، وهذه المواد حتى يكون هذا الشيء نافعاً وصالحاً للإنسان، إما في غذائه، إما في زراعته، إما في بنائه، مختلف أغراض حياته، هناك مقادير محددة، الالتزام بهذه المقادير يحافظ على جودة هذا المنتج، وعلى صلاحيته للإنسان، وعلى ألَّا يكون مضراً، الاختلال في هذه المقادير ينتج عنه ضرر وخطر، إما ضرر بهذا الإنسان، أو بالبيئة، أو بالزراعة، أو... ولهذا نحن معنيون بكل هذا المفهوم الواسع، أن نلتزم، أن نلتزم؛ لأن بهذا تستقيم حياتنا، وإلا فالإنسان يخرب، يخرب على نفسه حتى الانتفاع بهذه النعم، المزارع الذي يستخدم مواد ضارة، أو مقادير ضارة، الشركات التي تستخدم مقادير ضارة؛ بغية أن تحصل على المزيد والمزيد من الأرباح بأقل تكلفة، وهكذا عملية الإنتاج في كل مراحلها وأشكالها، عندما لا يلتزم فيها بالمقادير الصحيحة المناسبة، التي تضمن أن يكون هذا الذي أُنتِج من هذه النعم، وفقاً لما ينفع هذا الإنسان، ولا يجلب الضرر إليه، ينشأ بذلك ضرر كبير في حياة الناس، فلذلك نجد هذا المبدأ مبدأً عظيماً ومهماً، ونحتاج إليه في مختلف شؤون حياتنا الاقتصادية: في الزراعة، في الصناعة، وفي التعامل بشكلٍ عام.

الإنسان في مسيرة حياته بحاجة أيضاً إلى أن يكون متوازناً في كل أموره، وأن يعطي لكل شيءٍ مستواه الصحيح، فهو إن أفرط يضر بنفسه، وإن فرط يضر بنفسه، ثم يسري هذا الضرر إلى واقعه، إلى محيطه الاجتماعي.

{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}[الرحمن: 9-10]، الأرض التي يعيش فيها الإنسان، الله "سبحانه وتعالى" هيأها للخلق، هيأها للبشر، جعلها مجهزةً تجهيزاً عجيباً يلائم حياة هذا الإنسان ويناسبه، في بيئتها، في حرارتها، في برودتها بما يلائم هذا الإنسان ويناسبه، وبما يهيئ له استمرارية حياته، وأيضاً في جغرافيتها، مساحات شاسعة وواسعة، يستغلها الإنسان للعمران، وللزراعة، ولأعراض متعددة.

أيضاً جبالها التي هي أوتاد لها؛ لكي لا تكون مضطربةً بشكلٍ مستمر، ولكن الكثير منها أيضاً مكسوٌ بالتراب، ويمكن أن يستغله الإنسان، وأن يسكن عليه، وأن يستقر فيه، وأن يكون له فيه أنشطة زراعية، وظروف حياتية ملائمة له لأشكال متعددة من متطلبات هذه الحياة، ومنافعه في هذه الحياة.

ثم أيضاً هذه الأرض، ببيئتها وجغرافيتها، تناسب الإنسان في السير عليها، والحركة فيها، والعمران عليها، والزراعة فيها، فهي مجهزة تجهيزاً مناسباً جداً.

{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}[الرحمن: 11]، في هذه الأرض، وفيما هيأ الله للإنسان فيها: الفواكه، الفواكه هي في مقدمة المواد الغذائية المناسبة جداً للإنسان، وهي من النعم العجيبة على هذا الإنسان؛ لأنها نعم مستساغة، وذات قيمة غذائية مهمة جداً لحياة الإنسان، وذات قيمة غذائية وطبية تفيد هذا الإنسان، وهي في أصلها، في أشكالها، في قيمتها الغذائية، في مذاقها، في أنواعها الكثيرة جداً، من مظاهر رحمة الله بهذا الإنسان، وتكريمه لهذا الإنسان، نعمة وتكريم؛ لأنها مستساغة، وجميلة، وذات قيمة غذائية، ومناسبة لحياة الإنسان، حتى أن الإنسان يستمتع بأكلها، ويتذوقها، فيها جمالها، ولونها، وشكلها، ومذاقها، وفوائدها، وهي من النعم الكبيرة، وهي أصناف كثيرة جداً، ومنتشرة على الأرض، فيتوفر في مناطق من الأرض أصناف لا تتوفر في منطقة أخرى، وتتكامل بها العملية التجارية بين بني البشر.

النخل كذلك خص بالذكر؛ لأنه أيضاً نعمة متميزة جداً، ومتوفرة بشكلٍ كبير، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}، مع الجانب الجمالي فيها كلها.

{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن: 12]، الحب بأنواعه، مثلاً: القمح، الشعير، الذرة... أصناف كثيرة جداً تدخل تحت عنوان الحب، الحبوب أنواع كثيرة جداً، وهي من المواد الغذائية الرئيسية للإنسان، التي يعتمد عليها في غذائه وحياته، وتناسبه، وهيأ الله للإنسان أن تتوفر له بأشكال وأصناف كثيرة جداً، ويسر ذلك، حتى أنها على المستوى الزراعي من أسهل الأشياء في زراعتها، ومن أكثرها وفرةً في إنتاجها؛ لأنها أساسية في غذاء الإنسان، فكانت على هذا النحو: يتيسر زراعتها، وتتوفر محاصيلها، ويكثر منتوجها، إذا تحرك الإنسان في إطار هذه النعم.

{ذُو الْعَصْفِ}: الحب أيضاً فيه الثمار التي يستفيد منها الإنسان بشكلٍ مباشر، وفيه (عصفه): تبنه، وقصبه، وورقه، الذي يستفيد الإنسان منه في إطعام حيواناته، ماشيته، البقر، الغنم، الإبل، يستفيد الإنسان لإطعام هذه الحيوانات الأساسية، التي يحتاج إليها الإنسان هي، ويستفيد منها، من حليبها، من لحومها، من جلودها، من شعرها، يستفيد منها الإنسان فائدةً كبيرةً في هذه الحياة، فكانت نعمة أضيفت إليها نعم كبيرة على هذا الإنسان.

وَالرَّيْحَانُ}: كل النباتات العطرية ذات الرائحة الطيبة والزكية، وسع الله على هذا الإنسان في النعم ليس فقط في غذائه واحتياجاته الغذائية، وإنما أيضاً حتى إلى هذا المستوى: أن يقدم لك "سبحانه وتعالى"، وأن يخلق لك، وأن ينعم عليك بكثير من الأشجار العطرية، ذات الرائحة الزكية الطيبة، التي تستمتع برائحتها، ترتاح برائحتها الزكية، مع ما فيها أيضاً من فوائد طبية، وقيمة غذائية، ومنافع كثيرة جداً يستفيد منها الإنسان، والإنسان يلحظ هذا الجانب في حياته: الروائح الزكية والطيبة، التي ينتعش بها، يرتاح بها، ويصنع الآن منها الكثير والكثير من المنتجات، من العطور وغيرها، التي يستخدمها في إطار هذه النعمة الواسعة جداً عليه.

كل هذه النعم العجيبة المتنوعة، وهذا النموذج المتكامل، الذي قدم لنا أصنافاً كثيرة، نعم عظيمة جداً، يقول الله عنها: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية13]، بأيٍ من هذه النعمة يمكن أن تكذب، هل يمكنك أن تقول أن الشمس كذبة كبيرة، وأنه لا وجود للشمس، أو لا وجود للقمر، أو لا وجود لهذه الأرض بهذه الكيفية، وأنت تعيش عليها، وترى كم هي مهيأةٌ لك؟ هل يمكن أن تنكر وجود هذه الأشجار والنباتات، وهذه النعم: نعمة التعليم، نعمة الهداية، نعمة خلق الإنسان بهذه الكيفية، نعمة ما خلق له في هذه الأرض، نعمة الفواكه، نعمة العدل، نعمة الحبوب هذه، نعمة الرياحين، كل هذه النعم نعم ملموسة، مرئية، مشاهدة، لا يمكن للإنسان أن ينكرها أبداً، وأن يكذب بها.

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14){وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 14-16]، نجد أن الله "سبحانه وتعالى" قد ذكر لنا في بداية الآيات المباركة نعمة خلق الإنسان، فهو قال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ}[الرحمن: 1-3]، ثم نجد أنه هنا من جديد يذكرنا بخلقنا، بعد أن ذكر الله "سبحانه وتعالى" هذه النعم الكبيرة علينا، أصل هذه النعم، خلق الإنسان، وتسخير هذا العالم الكبير، وهذه النعم الكبرى لهذا الإنسان، هي نعم كبرى، أنت مخلوق صغير بسيط على هذه الأرض، وتجد كل هذه النعم أكبر منك، نعم كبيرة، نعم عظيمة، فلماذا خلقها الله لك؟ لماذا أنعم بها عليك؟ إنما كل هذا برحمته، بجوده، بكرمه، ليس لأنك أنت، ليس لأن لك حقاً عليه، ليس لأنه ضروري أن يخلقها لك، وأن يعطيها لك؛ حتى لا ترى له فضلاً عليك، الفضل له، هذا برحمته، هذا بنعمته، هذا بكرمه، هذا بجوده، له الفضل عليك، فلا تكن متكبراً، لا تكن مستهتراً تجاه هذه النعم، لا تكن وكأنه ليس لله فضلٌ عليك، وكأنه كان من الضروري أن يخلقك، وأن يعطيك كل هذه النعم، أنت مخلوق بسيط، استذكر أصلك، أصلك مخلوقٌ من الطين، الذي يبس حتى صار صلصالاً، يصلصل من شدة جفافه، كالخزف، كالآنية التي يصنعها القواع، التي يصنعها من يصنع الأواني من الخزف، هذا هو أصل خلقك، ليس لأن أصل خلقك شيءٌ عظيمٌ جداً، فكان لا بدَّ أن يحترمك الله، وأن يقدم لك هذه النعم، وكأنه ليس له فضلٌ عليك.

مشكلة الإنسان أنه ظلومٌ كفار، لا يقدر نعمة الله عليه، وكأنها كانت من الضروري، كأنه كان على الله أن يفعل له ذلك بدون فضلٍ ولا منة، لا، الله هو المنعم العظيم، المتفضل الكريم، الجواد البر الرحيم، وهو ذو الإفضال والمنة عليك، عليك أن تستشعر نعمته عليك، أن تقدر نعمته عليك؛ حتى تشكر هذه النعم، مصيرك حتى في مستقبلك في الآخرة متوقفٌ على شكرك لهذه النعم، وعلى تقديرك لهذه النعم، حتى حركتك في هذه الحياة على نحوٍ صحيح هو مبنيٌ على تقديرك لهذه النعم؛ لأنك حين ذلك ستحب الله "سبحانه وتعالى" وتشكره، وأيضاً تسير على هديه، وبهذا تستقيم حياتك، وتنتفع أكثر بنعمه، وتحظى برعايته أكثر.

فالله يذكر الإنسان بأصل خلقه، ويذكر الجان أيضاً؛ لأن هذه السورة يخاطب الله فيها الجن والإنس، عندما يقول: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، الجن والإنس.

الجن مخلوقٌ أيضاً {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}، قطعة من اللهب، مادة بسيطة جداً من اللهب، فالإنسان لو يستذكر أصله هو يستشعر نعمة الله عليه، وتكريم الله له، الله هو الذي كرمك، وإلا فأصلك مخلوقٌ من الطين اليابس، الذي صار يصلصل في ابتداء خلق الإنسان، في خلق آدم "عليه السلام"، ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين، ماء مهين، العناصر التي خلق الله منها الإنسان عناصر بسيطة ومحدودة، ولو ينظر إليها بقيمتها المادية لا تساوي شيئاً، هي شيء بسيط جداً، الإنسان مخلوق مجهري صغير، مركب من عناصر بسيطة من الطين، مستخلصة من هذا التراب، قد تكون قيمته المادية لا تساوي شيئاً، حتى بعد أن يبلى ويتحول إلى تراب، تراب القبر مكروه، لا يبقى له قيمة، ولا يستحسن استخدامه للزراعة، فالإنسان ليستشعر، عليه أن يستشعر تكريم الله له، نعمة الله العظيمة عليه.

نكتفي بهذا المقدار، ونواصل- إن شاء الله- المشوار في المحاضرة القادمة.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، صالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛

نص المحاضرة الرمضانية 1442هـ الرابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

نص المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 04 رمضان 1442هـ

 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

يقول الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}[الأنبياء: 1-3]، يتبين لنا من خلال هذه الآيات المباركة أن من أخطر العوامل التي تبعد الإنسان عن التقوى، وعن العمل الصالح، وعن الاستقامة في هذه الدنيا، والاتباع لهدى الله “سبحانه وتعالى”، هي الغفلة عن الجزاء، والإعراض عن المستقبل الأبدي الدائم الآتي لهذا الإنسان. هذه الغفلة ينتج عنها الإعراض، والاتجاه ذهنياً، والاتجاه عملياً، وبشكلٍ رئيسي إلى الانشغال بأمور هذه الحياة، وكأنه لا وجود لنا إلا في هذه الحياة، أن وجودنا كبشر يقتصر على هذه الحياة الدنيا، فيتوجه نحوها كل الاهتمام، وكل التركيز، وكل الانشغال، الذهني والنفسي.

عندما نذكّر أنفسنا، وبالذات عندما نذكر أنفسنا كمؤمنين، نؤمن بالله “سبحانه وتعالى”، نؤمن برسله وأنبيائه وكتبه واليوم الآخر، فنحن نجد أن الله “سبحانه وتعالى” قدم لنا في القرآن الكريم، وهو من أساس ما نؤمن به: أنه “جلَّ شأنه” خلقنا لحياتين، في القرآن الكريم يقدم لنا تصوراً لحياتين خلقنا الله “سبحانه وتعالى” لهما: الحياة الأولى، والحياة الأخرى.

الحياة الأولى: لها مدة محدودة وقصيرة.
والحياة الأخرى: لا نهاية لها، ولا انقطاع لمدتها، حياة أبدية.
إذا غفلنا عن هذا المستقبل في الحياة الأبدية، ولم نعد نستذكر ونستحضر إلا هذه الحياة المحدودة المؤقتة، فهنا ندخل في حالة الغفلة، وهنا نتشبث في هذه الحياة ونتجه في سبيل الحصول على رغباتنا في هذه الحياة، ومتطلباتنا في هذه الحياة، بأي طريقة، بأي وسيلة، بأي ثمن، وهذا هو من أهم عوامل الانحراف للكثير من المنحرفين في هذه الحياة، أنهم في سبيل الحصول على مبتغاهم، على شهواتهم، على رغباتهم، على آمالهم، على طموحاتهم، في سبيل الحصول على ما يحقق هوى أنفسهم، لا يرتدعون، ولا ينزجرون، ولا يتحرون، عن فعل أي شيءٍ، مهما كان معصيةً، مهما كان إثماً، مهما كان جرماً.

فالله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم، وفي آياتٍ كثيرةٍ جداً، تحدث عن حياتنا في الآخرة، وأنها حياةٌ لا بدَّ منها، وأنها آتية، وقدم لنا في القرآن الكريم أيضاً تصوراً عن هاتين الحياتين، وما بينهما من ترابط، وما يميز كلاً منهما عن الأخرى، وأول ما يميز هاتين الحياتين، يميز كلاً منهما عن الأخرى، هو الوقت، أن هذه الحياة هي حياة محدودة، مؤقتة، أنت موجودٌ فيها بأجلٍ محدود، والأجل هذا ينقضي، يمر وينقضي، وما مضى منه كأنه أحلام، كأنه مر وانقضى سريعاً جداً.

بينما تلك الحياة المستقبلية في الآخرة، هي حياةٌ أبديةٌ لا انقطاع لها، والموت بينهما هو فاصلٌ قصيرٌ ونقلة، نقلةٌ، تنتقل من خلاله إلى تلك الحياة الأبدية والدائمة.

ولذلك يؤكد الله “سبحانه وتعالى” في آياتٍ كثيرة على هذه الحقائق، وينبهنا إليها في القرآن الكريم، منها قوله “جلَّ شأنه”: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: الآية28]، هذا الإيمان بهذه الحياة الأخرى، وأنها آتية، وأن هذه الحياة ليست إلا جزءاً بسيطاً في مقابل تلك الحياة، وأن الإنسان في الأساس مخلوقٌ للأبد، والفناء بالنسبة له هو حالة عارضة، وحالة فاصلة، ينتقل بعدها إلى حياةٌ أخرى، له أهميةٌ كبيرةٌ جداً، أولاً كي لا نتشبث بهذه الحياة، ويكون كل اهتمامنا، كل اهتمامنا متوجهٌ نحوها على حساب هذه الحياة الآخرة الأبدية المهمة، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن الكثير الكثير من الناس اتجهوا بكل اهتماماتهم إلى هذه الحياة، وغفلوا بشكلٍ تام عن الحياة المستقبلية الأبدية الدائمة، وبذلك تورطوا في الكثير من المعاصي، وأعرضوا، وهذا يؤثر حتى على استقامة هذه الحياة؛ لأنه كما قلنا: هناك ترابط ما بين هذه الحياة والحياة الأخرى، وهذا ركز عليه القرآن الكريم كثيراً، ومن ضمن ذلك في قوله “سبحانه وتعالى”: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}[طه: 123-126]، فهنا نجد الربط ما بين هاتين الحياتين، استقامتك في هذه الحياة، هو خيرٌ لك في هذه الحياة نفسها، وهو أيضاً أساسيٌ لا بدَّ منه في أن تستقيم حياتك الأخرى الأبدية والدائمة.

إذا لم تستقم على أساس هدى الله في هذه الحياة، فأنت ستكون خاسراً في هذه الحياة، لو نلت منها ما نلت، ولو حصلت منها على ما حصلت، فأنت لا بدَّ خاسر؛ لأن ما يميز أيضاً هذه الحياة عن الحياة الأخرى: أن هذه الحياة ممزوجةٌ بالمنغصات، ممزوجةٌ بالخير والشر، والسعادة والشقاء، والعسر واليسر، والسقم والعافية، مع أنها حياة محدودة، مؤقتة، قصيرة، هي أيضاً ممزوجةٌ بالخير والشر، ليس فيها خيرٌ خالص، ولا شرٌ خالص، ولا شقاءٌ دائم، تتنوع حالات الإنسان فيها، الإنسان فيها يمر بحالات مختلفة، بحالات متنوعة، أحياناً في يسرٍ، وأحياناً يكون في عسر، أحياناً في عافية، وأحياناً يكون في حالة سقمٍ ومرض، أحياناً في غنىً، وأحياناً في حالة فقرٍ وشدة، أحياناً في حالة فرح، وأحياناً في حالة حزن، وهكذا، حالات مختلفة، حالات متنوعة، وأحوال متنوعة، هذا فيه درس كبير لهذا الإنسان:

أولاً يبين لنا حقيقة هذه الحياة؛ حتى لا نؤثرها على تلك الحياة الآخرة، الأبدية؛ لأن تلك الحياة على العكس من هذه الحياة، خيرها خالصٌ، ليس فيه أي منغصات، ولا لحظة واحدة، عندما تكون في نعيمها يمكن أن تعتريك لحظة واحدة، أو ذرة واحدة من الشقاء، أو الغم، أو الحزن، أو الألم، أو الهم، أو الضجر، أو الضيق، أو العناء، أو التعب، هي حياةٌ نعيمها نعيمٌ خالصٌ من أي منغصات ولا لمستوى لحظة واحدة، والشر فيها كذلك هو شرٌ خالص، في الحياة الآخرة الشر خالص، لا يمكن أن يكون هناك لحظة واحدة من الراحة، ولا لحظة واحدة يفارقك فيها الألم والعناء والوجع والشدة والعذاب، فخيرها خالصٌ، وهو على أرقى مستوى، نعيمٌ عظيمٌ جداً، وشرها إذا كان الإنسان في تلك الحياة، إذا كان خاسراً وإلى العذاب، فشرها خالصٌ وعذابها خالص، وعلى مدى مليارات السنين، وعلى مدى ذلك الزمن الذي لا انقضاء له، وتلك المدة التي لا نهاية لها، لا يمكن أن تحظى حتى بلحظة واحدة، ولا بثانية واحدة، من الراحة، ولا بلحظة واحدة من أن يفارقك فيها الألم، والوجع، والعذاب، والشدة، والضيق، والعذاب النفسي والجسدي.

فإذا كان هذا هو حال كلٌ من هاتين الحياتين، أفلا يجدر بنا أن نحرص على أن نسير في الاتجاه الذي فيه الخير لنا في هذه الحياة، وفي تلك الحياة المستقبلية الأبدية، عندما نسير على أساس هدى الله “سبحانه وتعالى”، فالله سيمن علينا بالحياة الطيبة، سنحظى في هذه الحياة برعايةٍ واسعة من الله “سبحانه وتعالى”، ولن نكون في حالة خسارةٍ أبداً، حتى عندما نواجه العناء، فهو عناءٌ مكتوب، مكتوبٌ لنا، عندما نواجه شيئاً من عناء هذه الحياة، من عسرها، أو من ضيقها، عندما نضحي ونحن في إطار العمل في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، ونحن في إطار الاهتداء بهدى الله “سبحانه وتعالى”، ونحن نتحرك على أساس ما وجهنا الله إليه، أي عناءٍ يحصل لنا ونحن في حال ذلك هو عناءٌ مكتوب، لك فيه ما يقابله، وأنت في نفس الوقت تكون في حالة رضى عن الله “سبحانه وتعالى”، بل إنه سيكون عاملاً مهماً في أن يدفع بك أكثر وأكثر إلى الاهتمام بما يؤمِّن لك تلك الحياة الأبدية الدائمة، وأنت في الأساس لا تكترث؛ لأنك تدرك أنه وحتى إن نالك شيءٌ من العسر في هذه الحياة، أو من العناء في هذه الحياة، فأنت متجهٌ بآمالك لتلك الحياة الأبدية، والسعادة الخالصة، التي لا يكدر صفوها أي عناء، ولا أي ضر، ولا أي شر، ولا أي كدر، ولذلك أنت في حالة رضى عن الله “سبحانه وتعالى”، أنت لا ترى نفسك خاسراً، حتى لو كان الثمن أن تضحي بنفسك، أن تقتل شهيداً في سبيل الله، هذه بالنسبة لك ليست خسارة، تنتقل بعدها شهيداً، في حياة الشهداء إلى يوم القيامة، رابحاً، تنال حياة أفضل من هذه الحياة، ثم تأتي أيضاً مرحلة الحياة الآخرة، التي هي حياةٌ سعيدةٌ للأبد في جنة المأوى.

عندما تقدم شيئاً من مالك، عندما تواجه العناء والجهد في حياتك، وأنت في هذا الطريق الذي تضمن به مستقبلك الأبدي، والسعادة الدائمة، فأنت في حالة رضى؛ لأنك تدرك أنه: إن نالني شيءٌ محدودٌ يسيرٌ من العناء، فهو في مقابل أنني سأرتاح الراحة الدائمة، الراحة الأبدية، سأسعد السعادة العظيمة على أرقى مستوى، والحال مختلف، الحال مختلف لمن لم يحسب حساب الحياة الآخرة، لمن لم يحسب حساب حياتين يعيش فيهما، وإنما حياة واحدة هي هذه الحياة، لن تصفو له هذه الحياة، لن تصفو له أبداً، حتى وإن كان له إمكانيات، وحصل على وفرة من هذه الدنيا، وكان لديه أموال، ولديه ممتلكات، ولديه إمكانيات، فهو لن يسعد بذلك، لا بدَّ أن يكون معانياً، لا بدَّ أن تأتيه المعيشة الضنكا، وفق الوعيد الإلهي، وفق الوعيد الإلهي؛ لأن الله قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، تختلف هذه الحالة من شخصٍ إلى آخر.

البعض قد تكون حياته الضنكا، ومعيشته الضنكا، والضيق الذي يأتيه في حياته، حتى بأمواله، حتى بممتلكاته، حتى بسلطانه، حتى بموقعه الاجتماعي الذي راهن عليه، وكان بالنسبة له أهم شيء، قد يكون سبب عناءٍ له، ولا ينال الراحة النفسية التي يبتغيها، يمكن للإنسان أن يعذب حتى بالمال، ويمكن للإنسان أن يعذب حتى بموقعه في السلطة، أن يكون ذلك سبب اضطرابٍ وقلقٍ مستمرٍ بالنسبة له، وهمٍ دائم، وانشغالٍ نفسيٍ وذهنيٍ على نحوٍ غير طبيعي، ليس فيما يؤمل من ورائه الخير عند الله “سبحانه وتعالى”، والمستقبل الأبدي السعيد والمهم.

فلذلك لن تصفو له هذه الحياة؛ إنما يأتيه فيها ما يكدرها، وتأتيه فيها المنغصات الكثيرة، فينال أيضاً مع خيرها من شرها، ومن عسرها، ومن آلامها، ومن همومها، ومن منغصاتها الكثيرة، والذي هو في هذه الدنيا قد يجد نفسه أنه أكثر الناس ثروةً، أو أنه أكبر الناس سلطاناً وجاهاً، لا يمكنه أبداً أن يعيش ولو لفترة مؤقتة محدودة من حياته، بدون أن يعاني من الهموم، من الآلام، من الأمراض، من المشاكل، من القلق، من… العوامل الكثيرة التي تنغص عليه حياته هذه، فلن تصفو له هذه الحياة أبداً، وهذا أمرٌ واقعي، قائمٌ في حياة الناس، حتى على مستوى أغنيائهم، وملوكهم، وسلاطينهم، وأصحاب الثروة والجاه والمال فيهم، من يتجه في حياته كل اتجاهه ليستمتع بهذه الحياة، لتطيب له هذه الحياة، لن يحصل له ذلك، لكن إذا كان عند الإنسان توجه على أساس ما يصوره لنا القرآن الكريم، وما يقدمه الله لنا في القرآن الكريم، وما أخبرنا به، عن حياتين مترابطتين، استقامتك في هذه الحياة هي أساسٌ لاستقامة حياتك الأخرى الأبدية ومستقبلك الدائم، هنا سيكون هناك فارق كبير، سيتحقق لك في هذه الحياة ما قاله الله “سبحانه وتعالى”: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}.

على مستوى المكاسب المعنوية، الراحة والاطمئنان الكبير، وأنت تتحرك في حياتك هذه على نحوٍ هادفٍ، وبأهداف عظيمة جداً، ولك صلتك بالله “سبحانه وتعالى”، ترجوه “جلَّ شأنه”، وتعمل على أساس الحصول على مرضاته، وهذا له أهمية كبيرة على مستوى الرضا النفسي، والاطمئنان النفسي، والحياة الطيِّبة، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، ولا تعني الحياة الطيِّبة ألا تواجه في هذه الحياة مشاكل، أو هموم، أو أمراض معينة، أو صعوبات معينة، أو تحديات معينة، أو معاناة معينة، ولا يعني ذلك أنَّ هذه الحياة لم تعد ميدان مسؤولية، ودار ابتلاء، ودار عمل، لا، هذا كله لا بدَّ منه، لكن هناك فارق كبير جداً على المستوى النفسي، وعلى مستوى الواقع، واقع حياتك أنت، في الحالة التي لك فيها صلةٌ بالله سبحانه وتعالى، أنت مؤمنٌ به جلَّ شأنه، ترجوه، وتخافه، وتحبه، هذه الحياة لديك فيها هذه الصلة العظيمة، التي تزيح عنك أكثر الهموم، وتنال فيها رعاية الله سبحانه وتعالى، وفضله الواسع، الذي ينقذك ويقيك من أكثر الأشياء.

ثم أنت تشعر بقيمة ما تعمله، وأهمية ما تقدِّمه، ثم آمالك ممتدةٌ إلى مستقبلك الكبير في الآخرة، هذه مسألة مهمة جداً، ولهذا سمَّى الله هذه الحياة بالمتاع، بالمتاع، وأنها ليست إلَّا حياةً مؤقتة، هي جزءٌ من وجودك كإنسان، هذا الوجود الذي جزءٌ منه في هذه الحياة، وجزءٌ منه يستمر في مستقبلك الكبير في الآخرة.

الخطورة على الإنسان: عندما يؤثر هذه الحياة على تلك الحياة، ثم يغفل عن تلك الحياة، ولا يحسب حسابها، هنا الخطورة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: 16-17]؛ أمَّا عندما تحمل هذا الإيمان، وهذا اليقين، وهذا الوعي، فأنت ستحسب حساب هاتين الحياتين، وتحسب حساب هذا الارتباط بين هذه الحياة وهذه الحياة الأخرى، الحياة الثانية، الحياة الأبدية، ولذلك لا قلق عندك.

القلق الكبير عند من اتجهت كل آمالهم نحو هذه الحياة، هم يرونها حياةً قصيرة، فتتجه كل آمالهم نحوها، وعذاباتهم الكبيرة لما يفوت منها، وهمومهم الكبيرة عندما لا تصفوا لهم، وسعيهم الدؤوب الذي لن يصل بهم إلى نتيجة في كيف تستقر لهم هذه الحياة، ولذلك لن يصلوا إلى نتيجة؛ لأنها متاع، حياة مؤقتة ومحدودة، وما فيها هو قليلٌ يفنى ويزول وينتهي، لكن من يحسب حساب هاتين الحياتين، وأن وجوده المستقبلي هو وجودٌ مهمٌ جداً، وأنَّ الله خلقه في الأساس لكي يكون موجوداً للأبد، إنما الفناء في حقه حالةٌ عارضةٌ- كما قلنا- وفاصلٌ قصير، إذاً أصبحت نظرته ممتدة هناك إلى أفقٍ واسع، وفضاءٍ واسع، ورَحْبٍ واسع، لا يعيش هذا القلق والاضطراب نتيجة اتجاهه إلى فقط حياةٍ مؤقتة.

ثم يكون ما ينالك في هذه الحياة من أحوالها المختلفة، وهي- كما قلنا- حياةٌ ممزوجة بالعسر، واليسر، والسقم، والعافية، وحالة الفرح، وحالة الحزن، وحالاتٌ متفاوتة متنوعة، تتنقل فيها أنت، تكون بالنسبة لك درساً مهماً، فهي نماذج مصغَّرة جداً من أحوال تلك الحياة الأبدية؛ لأن ما في تلك الحياة الأبدية هو على أرقى مستوى، وعلى أشد مستوى في جانب الشر أيضاً، وللأبد.

عندما ينالك اليسر في هذه الحياة، عندما تشعر بالرضا، عندما تشعر بالسعادة، بالراحة، بالاطمئنان، فليذكِّرك هذا بالسعادة الأبدية، بالراحة الأبدية، التي هي على أرقى مستوى، ما يمكن أن تناله هنا في هذه الحياة من حالة فرح، أو سرور، أو اطمئنان، أو سعادة، أو ابتهاج، أو توفر لشيءٍ من آمالك ورغباتك، هو نموذج مصغَّر جداً جداً جداً فيما يقابله في عالم الآخرة، السرور هناك الذي هو سرورٌ، وفرحٌ، وابتهاجٌ، وراحةٌ، ورضا، واطمئنان على أرقى مستوى، لا يقارن أبداً فيما هنا من هذا النموذج اليسير الصغير المحدود جداً، فلتهتم، فلتسعى، فلتحرص، فلتعمل على أن تصل إلى ذلك الرضا، إلى ذلك السرور، إلى ذلك النعيم، إلى تلك الراحة، التي هي عظيمةٌ جداً، ولا نهاية لها، ولا يشوبها أي منغِّص، ولا يشوبها أي شيءٍ من هذه الحالات التي تأتي فتنغِّص عليك راحتك هنا في هذه الدنيا، فكِّر في هذه الحياة المستقبلية الدائمة، التي ستكون فيها فرحاً بلا انقطاع، مستبشراً، وراضياً، ومطمئناً، ومرتاحاً بدون أي منغصات، وعلى نحوٍ دائمٍ وأبدي، أليست جديرةً منك بالاهتمام؟ أليست جديرةً منك بالعمل؟

البعض- مثلاً- قد يعاني، قد يبذل جهداً، قد يكد، قد يتعب في مقابل أن يحصل على راحة في بعض الحالات، على متطلبات معينة قد يرتاح بها لبعض الوقت، عندما يصل إلى تلك الراحة، عندما تتوفر له تلك المتطلبات، تهون عنده كل المتاعب التي حصلت له في سبيل الحصول عليها؛ لأنه شعر بالرضا عندما وصل إلى تلك المتطلبات، أو تحققت له تلك الراحة، شعر بالرضا، ووجد أنها تستحق منه ذلك الجهد، وذلك العناء؛ لأنه في الدنيا لا نصل إلى راحة إلَّا بعناء، إلَّا بعمل، إلَّا بجهد، لا يصل الإنسان إلى متطلبات معينة من حياته إلَّا وقد سبق ذلك شيءٌ من الجهد، والعناء، والمتاعب، والصعوبات، ولكنه عندما يصل إلى تلك الراحة، قد يجد أنها تستحق منه ذلك العناء، وذلك الجهد، ففكِّر في تلك الراحة العظيمة جداً، ذلك النعيم العظيم جداً، الذي هو على أرقى مستوى، لا يماثله شيءٌ في هذه الدنيا، حتى فيما يمكن أن يكون قد وصل إليه أغنى الأغنياء من الناس، أكثر الناس مالاً وسلطاناً وتمكُّناً في هذه الدنيا، لا يمكن أن يصل إلى ما يصل إليه أقلُّ الناس نعيماً في الجنة، أقلُّ الناس وأدنى الناس فيما وصل إليه من نعيم الآخرة، هناك نعيم عظيم جداً، على مستوى راقٍ جداً.

كذلك فيما يتعلق بما تمر به في هذه الحياة من حالات عسر، أو ألم، أو وجع، أو عناء، أو ضيق، أو ضجر، أو همّ، كل هذه الحالات التي تعرض لك، كيف تترك أثرها على نفسك؟

الإنسان عندما يأتيه آلام شديدة جداً، كيف يشعر بالضيق، والتعب، والعناء الشديد، عندما يأتي له حزن من أمرٍ معين، فيستغرق في حالة الحزن تلك، ولم يعد يشعر بحالةٍ فرحٍ ولا ارتياحٍ، وأصبح يعاني نفسياً من تلك الحالة من الحزن الشديد، أو الضجر والغضب والضيق النفسي، الذي يجعله في بعض الحالات يتمنى الموت، الإنسان في بعض الحالات، كثيرٌ من الناس من شدة الضيق النفسي، من شدة العناء، من شدة الهم، من الكدر، من الضجر، قد يتمنى أن يموت، أو من الألم كذلك، البعض من شدة الألم قد يتمنى أن يموت، هذه الحالة عندما تعرِض لك، هي ليست إلَّا نموذجاً مصغَّراً جداً جداً جداً عما يمكن أن يحصل لك في الآخرة عند الهلاك والعياذ بالله، إذا كان مستقبل الإنسان إلى العذاب.

ما يأتيك هناك في عالم الآخرة من العذاب الجسدي، والأوجاع الشديدة جداً في كل جسمك، في كل مكانٍ من جسمك، ما يأتيك على المستوى النفسي من الضيق الشديد، من الضجر الشديد، من الهمِّ الشديد، من العناء الشديد، أمرٌ رهيبٌ جداً، لا يماثله أي شيء في هذه الدنيا، من أشد آلامها، ولا من أشد وأضيق حالات الضيق فيها، من الضجر، والهم، والغم، والحزن الشديد، كل هذا يجتمع على الإنسان في جهنم، يجتمع ويدوم، ويدوم، إلى حد أنه ولا مثقال ذرة من الراحة أو النعيم، ولا لحظة واحدة، ولا ثانية واحدة، ولا بمقدار ثانية واحدة يمكن أن تشعر فيها بالراحة، أو أن يفارقك فيها ذلك الهمّ، أو ذلك الضيق، أو ذلك الضجر، أو ذلك الحزن، أو ذلك العناء النفسي، عناء نفسي للأبد، متى تستفيد في استشعار هذا بشكلٍ أكثر؟ عندما تمر بهذه الحالات، عندما ترى تعبك من الضيق النفسي، أو الضجر، وترى أنه إذا استمر لك لساعات أحياناً، ضيق معين، ضجر معين، غم وهمّ معين، إذا استمر البعض من الناس إذا استمر لهم لفترات طويلة يصابون بالأمراض النفسية، أو يصابون بالجنون، أو تأتيهم أسقام ومعاناة كبيرة جداً، وأمراض شديدة جداً، فأنت في نفس الحالات؛ لأنك ستكون أكثر تذكُّراً، أكثر اعتباراً، أكثر استشعاراً لأهمية هذه المسألة، في الحال الذي تشعر فيه بحالة الهمّ، الضيق، الضجر، العناء النفسي، أو الحزن الشديد، الغضب، تلك الحالة تذكَّر فيها وأنت أقرب إلى أن تستشعر أهمية هذه المسألة، فترى خطورة أن تفرِّط، وأن تبتعد عن هدي الله سبحانه وتعالى، فتورط نفسك للذهاب إلى ذلك الهلاك، إلى ذلك الخسران، الخسران الرهيب جداً جداً، الذي ستعيش فيه الهمّ، والغم، والضجر، والضيق، والتعب، والألم للأبد، فلا تعيش لحظةً واحدة من الراحة النفسية والجسدية، ولا لحظة واحدة يمكن أن يخفف عنك ذلك العذاب النفسي والجسدي في الحياة الثانية، الحياة الأبدية، الحياة الأخرى.

فهذا التصور الذي يقدِّمه لنا القرآن الكريم، ونؤمن به بإيماننا بالحياة الآخرة، هو يساعد الإنسان على أن تستقيم حياته هنا في الدنيا؛ وبالتالي تستقيم في الآخرة، وإذا أصبح عنده اهتمام بمستقبله في الآخرة، يساعده ذلك على الاستقامة هنا في الدنيا، فنجد هذا الترابط، نجد هذا الترابط ما بين الحياتين، استقامة حياتك في الآخرة مرتبطٌ باستقامتك في الدنيا، واستقامة حياتك في الدنيا مرتبطٌ بإيمانك بالآخرة، وسعيك إلى أن تكون حياتك في الآخرة حياةً مستقيمة، وأن تكون إلى النعيم.

عالم الآخرة ليس عالماً مجهولاً حتى يخاف الإنسان بأنه سينتقل إلى عالمٍ مجهول، لا، هو عالمٌ تحدَّث الله عن تفاصيله في القرآن الكريم على نحوٍ واسعٍ جداً، وفي كثيرٍ من السور في القرآن الكريم، وفي كثيرٍ من الآيات، حديثٌ واسع عن هذا العالم الآتي، الذي سنعيش فيه الحياة الأبدية، وهو آتٍ وقريباً يعني، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}[الأنبياء: من الآية1]، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر: الآية1]، يأتي الحديث عن أنه قريب، الفاصل الذي بينك وبينه هو الموت، والموت بالنسبة لك هي لحظة أو نقلة سريعة، نقلة سريعة، إلى درجة أنه عندما تأتي إلى عالم الآخرة، فإنك تتوقع أنَّ هذه كانت مرحلة قصيرة جداً، {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}[يونس: من الآية45]، وجودك في هذه الحياة، أما وجودك ما بين مرحلة موتك أو مرحلة فنائك، التي هي نقلة ما بين هذا العالم، ثم بعده إلى عالم الآخرة، كذلك حالة ساعة، بمستوى ساعةٍ من الزمن، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، إلى هذا المستوى: كأنهم لم يلبثوا في تلك الفترة من موتهم إلى بعثهم إلَّا ساعة، وفي آية أخرى:{لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}[النازعات: الآية46] فترة قصيرة جداً، فترة قصيرة جداً.

فالقرآن الكريم يؤكِّد لنا حتى نكون على استعدادٍ تام، وحتى نبني مسيرة حياتنا هذه على أساس هذا التصور: تصورٌ لحياتين مترابطتين، هناك في القرآن الكريم من سوره العظيمة والمباركة والمهمة، ما يقدِّم تصوراً لهاتين الحياتين مع ربطٍ كبيرٍ بينهما، وتفاصيل مهمة وكثيرة عنهما، سورةٌ عظيمة هي سورة الرحمن، إن شاء الله في المحاضرة القادمة نتحدث على ضوء الآيات المباركة في سورة الرحمن، ونستفيد منها فيما يرسِّخ لدينا الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلقنا لحياتين، وعلينا أن نستقيم في هذه الحياة؛ لكي تستقيم حياتنا في الآخرة.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...