المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م
نشر في أبريل 14, 2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
في سياق الحديث عن التقوى، وعمَّا هو من لوازم التقوى والإيمان، يأتي الحديث في القرآن الكريم عن الزكاة، وعن الإنفاق، وكما أشرنا في المحاضرة السابقة: كثيراً ما يقترن ذلك بالصلاة، فعندما يأتي الأمر بالصلاة في القرآن الكريم، يقرن الصلاة بالأمر أيضاً بالزكاة، أو بالإنفاق، تكرر هذا في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة.
مما هو معروفٌ أنَّ الزكاة هي أيضاً ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ عظيمةٌ ومهمةٌ وأساسيةٌ من أهم فرائض الله “عزَّ وجلَّ”، وهي أيضاً- كما قلنا- من مواصفات المتقين، ومن لوازم التقوى والإيمان، يترتب عليها في إخراجها، في العناية بها: النتائج والآثار الطيِّبة والمهمة، كما هو شأن الأعمال الصالحة والفرائض المهمة، التي فرضها الله، وشرعها الله، ويترتب أيضاً على الإخلال بها، أو الجحود لها، أو التنكُّر لها والتهرب منها: الآثار السيئة جدًّا على الإنسان في نفسه، في دينه، في دنياه، في أموره، في علاقته ما بينه وبين الله “سبحانه وتعالى”.
في القرآن الكريم تكرر كثيراً قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، أمرٌ من الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم، يأمرنا بإقامة الصلاة، ويقرن مع إقامة الصلاة الأمر بإيتاء الزكاة.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وإيتاء الزكاة يعني: المبادرة من الإنسان بإخراجها، عندما يتعين عليك الحق في الزكاة، أصبح لديك نصاب من الأنصبة التي تجب فيها الزكاة من أموالك، فعليك أن تبادر أنت برغبةٍ منك، باهتمامٍ منك، لإخراج زكاتك، لا أن تنتظر حتى يأتي من يخرجها قسراً وإرغاماً، وبدون طِيْبَةٍ من نفسك، مع محاولتك قبل ذلك التهرب والتمنع، هذه حالة ليست إيمانية بالمطلق.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، مثلما هو الأمر بالنسبة للصلاة أن نحرص على العناية بها، وأن نؤديها قيِّمةً، كذلك فيما يتعلق بالزكاة، أن نسعى للمبادرة بإخراجها.
ومما ورد أيضاً في القرآن الكريم في هذا السياق الذي يقول فيه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}[المزمل: من الآية20]، ليشمل ذلك الإنفاق في سبيل الله، الإنفاق فيما وجَّه الله “سبحانه وتعالى” وحث على الإنفاق فيه، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل: من الآية20].
ينبِّهنا في هذه الآيات المباركة أنما نقدِّمه بالصلاة القيِّمة، بإيتائنا للزكاة، بإنفاقنا، بأعمالنا الصالحة، إنما نقدِّمه لأنفسنا؛ لأن الله غنيٌ عنا، غنيٌ عن أعمالنا، غنيٌ عن صلاتنا، غنيٌ عن إنفاقنا، غنيٌ عن زكاتنا، لا يحتاج إلينا، ولا إلى شيءٍ منا، هو الغني الحميد؛ ولذلك فنحن نحن من نستفيد فيما نقدِّم بما نعمل، بما ننفق، بصلاتنا وزكاتنا، كل ذلك لنا نحن، في آثاره التربوية التي نحتاج إليها، نحتاج إليها في واقعنا النفسي، في مسيرة حياتنا، في واقع حياتنا، نحتاج إلى ذلك، كله لمصلحتنا، وكله يفيدنا في ما هو حاجةٌ لنا، على المستوى النفسي، وعلى المستوى العملي، وعلى مستوى واقع الحياة، وظروف الحياة، وعلى مستوى الآخرة، الآخرة فيما يأتي في الحياة الآخرة الأبدية.
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ}، فأنت تقدِّم لنفسك، إذا كان الشح والطمع والبخل قد يؤثِّر على الإنسان، ويسبب له أن يمتنع؛ لأنه يعتبر نفسه يقدِّم شيئاً للآخرين، ويخرجه من نفسه، يعني: يعتبر نفسه يخسر، يعتبر ما يقدِّمه مغرماً، غرماً وخسارةً، وأنه شيءٌ قد فات عليه، ولم يستفد منه شخصياً؛ لأنه أعطاه هنا، أو هنا، حيث أمر الله، وحيث وجَّه الله “سبحانه وتعالى”، فهي نظرة خاطئة، إذا نظر الإنسان من هذا المنظور نظرة خاطئة.
عليك أن تتيقن أنَّ ما تقدِّمه، سواءً في زكاتك، في صدقاتك، في إنفاقك في سبيل الله، أنت تقدِّمه لنفسك أنت، وحُسِبَ لك، والذي تكسبه منه هو المهم على نحوٍ عظيم، وبدون أي مقارنة، في مقابل ما كنت ستصرفه فيه على نفسك، إذا كنت ستصرفه مثلاً لتوفير أشياء مادية، أو أغراض معينة لنفسك، فأنت ستحصل في المقابل عندما أخرجت هذا زكاةً، أو أخرجته صدقةً، أو إنفاقاً في سبيل الله، أنت ستحصل على ما هو أهم بكثير، أنت تؤمِّن لك رصيدك فيما ستكسب به النتائج العظيمة في الدنيا، والخير العظيم العظيم العظيم في الآخرة، في الآخرة، قد تكون في بعض الظروف والأوقات الحسَّاسة قيمة الإنفاق بأن يكون ما أنفقته تكسب به قصراً في الجنة، تكسب به في جنة الخلد الشيء العظيم، والشيء المهم، والشيء الكبير، تؤمِّن مستقبلك الأبدي فيما تضيفه من أعمال صالحة، من إنفاق إلى إنفاق، يجتمع ذلك كله فيكتب لك به السعادة الأبدية، والحياة العظيمة، إضافةً إلى فوائده العاجلة في الدنيا كما يتضح لنا من خلال ما سنتحدث عنه.
أيضاً في القرآن الكريم إضافةً إلى الأمر المباشر: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، الذي تكرر كثيراً، يأتي أيضاً في المواصفات الإيمانية للمؤمنين المتقين، الذي أيضاً يقترن بالصلاة، ويبيِّن أنَّ ذلك من لوازم التقوى والإيمان، في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}[النمل: من الآية3]، فتتكرر أيضاً في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، ويأتي إلى جانبها، يقرن بها قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[النمل: الآية3]، هذه من صفات المؤمنين المتقين، ومن لوازم التقوى والإيمان.
وتفيد هذه العبارة في: {وَيُؤْتُونَ}، هذه الصيغة (صيغة المضارع) في: {وَيُؤْتُونَ}، الاستمرارية، ليسوا ممن قد يترجح له في بعض الأحيان بعد أن يسمع الكثير من المواعظ، ويأتيه الكثير من الإلحاح، والتأكيد، والحث، والأمر، والنهي، والملاحقة، فيخرج الزكاة، لكن فيما لو غُفِلَ عنه، فيما لو لم تحصل تلك الملاحقة، والأخذ، والرد، والضغط، والإحراجات، والضجة، والتوبيخ، فسيستغنم الفرصة لأن يتهرب من ذلك، وشيء مؤسف، شيء مؤسف على الكثير من الناس تجاه ركنٍ عظيمٍ من أركان الإسلام، من أهم فرائض الله “سبحانه وتعالى”، مما لا نجاة لهم إلَّا بأدائه، مما يتسبب تهربهم من أدائه، وتقصيرهم فيه، ومغالطتهم فيه، إلى ألَّا تقبل منهم صلاتهم، وألَّا يقبل منهم صيامهم، وألَّا تقبل منهم أعمالهم، التي هي أعمال صالحة، لا تقبل؛ لأن هذا بعيداً عن التقوى، لأن هذا خروج عن حالة التزام التقوى.
وتجد الكثير من الناس على هذا النحو، يعني نسبة الذين يؤتون الزكاة من المصلين، وأكيد بأنهم لا يقيمون الصلاة، يصلون، لكنها ليست صلاةً قيِّمة، لم تترك أثرها في أنفسهم، فالأغلبية هم ممن: إما يحاول أن يخرج بعضاً من زكاته، وأن يبخل ببعضٍ آخر، لا يخرج زكاته كاملة، وهذا غير مقبول، عند الله “سبحانه وتعالى” يبقى عليك الإثم والوزر، وتجلب لنفسك سخط الله “سبحانه وتعالى”، وهو تصرفٌ غير مبررٍ من جانبك، أن تحتفظ بجزءٍ من الزكاة، وألَّا تخرج إلَّا جزءاً منها، ثم تستهلك الجزء الآخر، فلربما القليل القليل من المؤمنين المتقين، الذين يبادرون برغبةٍ من أنفسهم، باستشعارٍ للمسؤولية، بإقبالٍ إلى الله “سبحانه وتعالى”، بوعيٍ بأهمية إخراج الزكاة، وما يترتب على ذلك من الخير والبركات، ثم يخرجونها أيضاً كاملة، ويحرصون على ألَّا يبقوا ولا مثقال ذرة، ولا شيئاً يسيراً منها يستهلكونه، يدركون أهمية أن يخرجوها كاملة، وألَّا يسوِّفوا، وألَّا يؤجِّلوا، أن يبادروا بذلك.
فيما يتعلق مثلاً فيما أنبتت الأرض، فيما يتعلق بزكاته، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام: من الآية141]، المبادرة، المسارعة، كذلك فيما يتعلق بالحول، بالعام، باكتمال العام من أموال التجارة ونحوها، المبادرة في ذلك، دون تسويف، دون تهرب، التهرب هو حالة مذمومة، غير مبررة، إلَّا أنها تعبِّر- فعلاً- عن نقصٍ في الإيمان، وعن بُعْدٍ عن تقوى الله “سبحانه وتعالى”، وعن سوء فهم، وعن تأثرٍ بوساوس الشيطان، الذي قال الله عنه: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}[البقرة: من الآية268]، وساوس الشيطان التي يصوِّر للبعض من خلالها وكأنه إذا أخرج الزكاة أفلس، وكأنه تورَّط وخسر كل شيء، والمسألة ليست كذلك أبداً.
فيما تلوناه في المحاضرة عن الصلاة وإقام الصلاة، فيما يتعلق بالأنبياء “عليهم السلام”، قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}[الأنبياء: من الآية73]، {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}، فقرنها بالصلاة، كما يقرنها في كثيرٍ من المواطن، وكما يقرنها في كثيرٍ من التوجيهات، وبنفس صيغة التأكيد والاستمرارية: {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}؛ لأهمية المسألة تفرد بالذكر، تخص، ويأتي التأكيد عليها، والتأكيد على أهميتها، فهي قربة عظيمة تقرِّب الإنسان من الله “سبحانه وتعالى” إذا أدَّاها وفق ما ينبغي، وهي من الأشياء الثابتة في شرع الله، المستمرة على مرِّ الرسالات والتاريخ مع الأنبياء “عليهم الصلاة والسلام”، مسألة ذات قيمة إيمانية عالية جدًّا، وأثر إيجابي، وقربة عظيمة إلى الله “سبحانه وتعالى”.
من أهم ما فيها أيضاً، هو: أثرها التربوي، والإنسان بحاجة إلى ما يساعده لتزكية نفسه، لإصلاح نفسه، يحتاج الإنسان إلى هذا، النفس البشرية إذا تدنَّست، إذا خبثت، إذا تقذَّرت؛ تغيَّرت، وأصبح الإنسان يحس بصعوبة تجاه فعل الخيرات، وأصبح ميَّالاً إلى حد الهيجان نحو الشهوات، والخبائث، والسيئات، والعياذ بالله.
فالإنسان بحاجة إلى أن يعمل ما يساعده ويفيده في تزكية نفسه، في تربية نفسه، في إصلاح نفسه، في تنمية مشاعر الخير في نفسه، وهذا متاح، أتاحه الله “سبحانه وتعالى”، هو يأمرنا، ويدُّلنا، ويرشدنا على ما يساعدنا على تطهير أنفسنا، على تزكية أنفسنا، على تنمية المشاعر الطيِّبة والإيجابية في أنفسنا، وهذا يساعدنا في أن ننطلق في الأعمال الصالحة بكل رغبة، وأن نبتعد عن الأعمال السيئة، وأن نمقتها، أن نكرهها، أن نبغضها، أن نبتعد عن الميل إليها، وهذا شيءٌ عظيم، وشيء مهم، من جانب هو سموٌ للإنسان، وشرفٌ كبيرٌ له، ومن جانب هو على المستوى العملي مفيدٌ جدًّا للإنسان؛ لأنه ينطلق تلقائياً بكل رغبة، وبكل اعتزاز، وبكل راحة، في الأعمال الصالحة، في الأعمال العظيمة، نفسه بزكائها تسمو، وبعودتها إلى فطرتها، وتنقية الفطرة من الشوائب والترسبات الخبيثة والسيئة، فهو يتجه برغبة كبيرة، نتيجةً لهذا الطهر، لهذا الصلاح، لهذا الزكاء، في الأعمال الصالحة.
ولذلك قال الله “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بأمر الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}[التوبة: من الآية103]، فالزكاة لها هذه القيمة التربوية، هذا الأثر الطيِّب على مستوى تربية النفوس، وتخليصها من الشوائب التي تمثل عائقاً أمام الإنسان تجاه الكثير من الأعمال.
البعض من الناس- مثلاً- يجد في نفسه تغيراً سيئاً، تغيراً غير طبيعي تجاه البعض من الأعمال الصالحة، باتت نفسه، أصبحت نفسه تنفر منها، وهي أعمال عظيمة، أعمال صالحة، وتتثاقلها، وأحياناً يجد في نفسه كذلك استصعاباً لكثيرٍ من الأمور، التي ليست في أصلها صعبة؛ إنما كانت الصعوبة في نفسه، هذه شوائب، ترسُّبات، دنَّست نفسه، أثَّرت على نفسه، يحتاج إلى تطهير هذه النفس.
من فوائد الزكاة (الصدقة الزكاة)، والصدقة بشكلٍ عام، والإنفاق بشكلٍ عام: أنه يساعد في تطهير نفسية الإنسان المؤمن، مع الصلاة، مع الأمور الأخرى التي أرشد الله إليها، فهنا يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، فلها هذا الأثر المهم جدًّا: التطهير والتزكية، التطهير للنفس، والتزكية للنفس، وهذه مسألة مهمة جدًّا، كم هي الشوائب والترسُّبات التي تدنِّس نفسية الإنسان؛ وبالتالي ينتج عنها تنامي المعاني السيئة في وجدانه: من أطماع، من أهواء، من رغبات وميول خبيثة، من توجهات مادية… من أشياء سيئة تؤثر على الإنسان وعلى أعماله بشكلٍ كبير.
أيضاً فيما يتعلق بالوعيد على ترك الزكاة، وعلى الإخلال بها، والإخلال بها يعتبر من كبائر الذنوب، من كبائر الذنوب، التي تسبب أن يحبط عمل الإنسان فيما قد عمل من أعمال، ثم أيضاً لا يقبل منه أي عملٍ يقدِّمه من الأعمال الصالحة، حتى صلاته، حتى صيامه، كل ذلك لا يقبل منه.
أضف إلى ذلك أنها كفيلةٌ بأن يدخل نار جهنم والعياذ بالله، تسبب للإنسان سخط الله، غضب الله “جلَّ شأنه”، أمر رهيب ومخيف.
ولذلك يأتي الوعيد في القرآن الكريم من ضمن ذلك، طبعاً هناك الوعيد الشامل للعصاة الذي يتكرر في القرآن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}[الجن: من الآية23]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ}… تتكرر هذه العبارة في القرآن: الوعيد للعصاة، والإنسان الذي لا يخرج زكاته، أو لا يخرج إلَّا جزءاً منها، ويستهلك الجزء الآخر، ويبخل به، يدخل ضمن الوعيد من العصاة، أصبح عاصياً، عاصياً لله “سبحانه وتعالى”.
ويأتي أيضاً قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}[فصلت: 6-7]، {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، الويل لهم، والويل عندما يقول الله: (وَيْلٌ)، هو يعبِّر عن عذابه الشديد، عما أعده من شديد العذاب لهم، فهذا أمر رهيب على كل الذين لا يؤتون الزكاة، أو لا يؤتون إلَّا جزءاً منها، ويستهلكون البعض الآخر، أن يخافوا من الله، أن يتقوا الله، وأن يخافوا من عذاب الله، من الويل، {وَوَيْلٌ}، عندما يقولها الله، ماذا تعني من شديد العذاب، ماذا وراءها من العقاب الشديد! {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[آل عمران: من الآية11].
فيما يتعلق بالأسباب الرئيسية لدخول النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}[المدثر: الآية42]، سؤال لأهل جهنم، يسألهم أهل الجنة: [ما الذي ورَّطكم هذه الورطة الرهيبة، المخيفة، التي تمثل خسراناً أبدياً؟!]، {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر: 43-44]، أيضاً من أهم ما في الزكاة، هو: العناية بالفقراء والمساكين، حصةٌ رئيسيةٌ لهم في الزكاة، عندما يبخل بها الناس، هم يبخلون بهذا الحق الذي يتضرر أهله، فمن مثل هذه النتيجة: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}.
يأتي الحديث عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” ليؤكِّد اقتران الزكاة بالصلاة، حتى في قبول العمل، حتى في قبول الصلاة، فعن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: ((لا تتم صلاةٌ إلَّا بزكاة))، الذين عليهم حق الزكاة ثم لا يخرجونه؛ لم تتم صلاتهم، ولم تقبل صلاتهم، وفي روايةٍ أخرى: ((لا تقبل صلاةٌ إلَّا بزكاة، ولا تقبل صدقةٌ من غلول))، مما ورد عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((مانع الزكاة وآكل الربا حرباي في الدنيا والآخرة)).
فنجد هذا التأكيد الكبير جدًّا على مسألة الزكاة وأهميتها، وأيضاً ما يترتب عليها من البركات والخيرات في الأموال، في الغيث، من أهم ومن أكبر الأسباب التي تسبب للناس الجدب، وانعدام الأمطار، وانعدام البركات، وغوران المياه: بخلهم بالزكاة، بخلهم بالزكاة، أمر خطير عليهم، يسبب لهم أن يخسروا.
ولذلك نحن نقول: الذي قد يبخل بالزكاة نتيجة طمعه المادي، وجشعه الهائل، وبخله الشديد، وحرصه على المال إلى حدٍ جنوني، حتى بالحسابات المادية، حتى بحساب المصالح المادية، إذا أردتم الخيرات، إذا أردتم البركات، فاتقوا الله في إخراج الزكاة، لا تبخلوا بالزكاة، عندما تصبح ظاهرة لدى الكثير من المزارعين أن يبخلوا بالزكاة، أن يعتبروها مغرماً يتهربون منه، فهي حالةٌ خطيرة، تسبب- إلى حدٍ كبير- انتزاع البركات، فيخسرون بركات السماء، الأمطار التي هم بحاجةٍ إليها، الكل بحاجةٍ إليها، يسبب هذا المعاناة الكبيرة للناس.
نحن في هذه المرحلة، ونحن في بلدنا نعاني من الجدب الشديد، مما لا شك فيه أنَّ من ضمن الأسباب الرئيسية، هو: التقصير في إخراج الزكاة، من ضمن الأسباب الرئيسية، ومن التوبة إلى الله، ومن الرجوع إلى الله “سبحانه وتعالى”: العناية بإخراجها، العناية بإخراجها، ومن الغريب جدًّا أن تصبح المسألة بالنسبة لدى البعض مشكلة، كيف يقال لهم: [أَنْ أخرجوا زكاتكم]، كأنه يقال لهم: [أخرجوا أنفسكم من أجسادكم]، يعني: مشكلة عليه كبيرة.
في مسألة الزكاة أيضاً الإنفاق يقترن بالصلاة، ويقترن أيضاً بها من حيث الأهمية، كقربة عظيمة إلى الله “سبحانه وتعالى”، لها شأنٌ عظيم في الأجر، والفضل، والمنزلة عند الله “جلَّ شأنه”، ولها أيضاً الأثر التربوي، الزكاة هي ترتبط بالنصاب، النصاب فيما أنبتت الأرض، النصاب في أموال التجارة، والحول في أموال التجارة، وما أشبه ذلك من التفاصيل، النصاب أيضاً في الثروة الحيوانية، وفق أرقام معينة معروفة، على الإنسان الذي أصبح مكلفاً بالزكاة أن يعرف، وأن أيضاً يتجاوب مع الجهات المعنية التي تبين له، والتي تتابعه، والتي تعينه في إخراج زكاته.
وفي نفس الوقت الإنفاق دائرةٌ أوسع، أوسع من مسألة الزكاة، الإنفاق جزءٌ منه يتعلق بالإنفاق في سبيل الله تعالى، وأتى الحث عليه في القرآن الكريم كثيراً، من مثل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: الآية195]، {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، أمر من الله “سبحانه وتعالى” بالإنفاق في سبيله، يشمل ذلك الجهاد في سبيل الله، وما يتصل به، ما يرتبط بالجهاد في سبيل الله، وهو جانبٌ أساسيٌ يدخل أيضاً ضمن الجهاد بالمال، أليس في القرآن الكريم يتكرر الأمر كثيراً، الأمر لنا من الله: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]؟ فهو ضمن أيضاً المسؤوليات، الإنفاق في سبيل الله هو ضمن مسؤولياتنا والتزاماتنا الإيمانية والدينية، وهو لا يقترن بنصاب معين، لا يرتبط بنصابٍ معين، بحسب حالة الإنسان، بحسب ظروفه، بحسب إمكاناته، الإنسان الذي ظروفه متوسطة بحسب حاله، ظروفه ميسوره بحسب حاله، بل يبادر حتى الإنسان الذي إمكاناته بسيطة وبحسب حاله، جُعِلت مسألة مرتبطةً بمستوى ظروف الإنسان، بحسب حاله، ولكنها أيضاً من المسؤوليات، من الالتزامات الإيمانية، من الالتزامات الدينية؛ لأن علينا أن نجاهد في سبيل الله، وجهادنا في سبيل الله هو بالمال- كما أكَّد عليه القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات- والنفس، فالتزامنا المتعلق بالمال- كما قلنا- بحسب حال أي إنسانٍ منا، بحسب ظروفه.
والأمة في هذه المرحلة، وشعبنا العزيز في هذه المرحلة في مرحلة تحديات، مرحلة من أهم المراحل للجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، والبخل- فعلاً- يسبب للأمة الهلاك؛ لأن الأمة إذا بخلت، فستضعف، ستضعف حركتها في الجهاد في سبيل الله، إذا نقص التمويل، لم يتوفر التمويل لذلك، معنى ذلك: تتوقف الحركة في ذلك، معنى ذلك: يتغلب عليها أعداؤها، يسيطر عليها أعداؤها، فتكون هي ببخلها، وتنصلها عن مسؤولياتها، وشحها عن العطاء فيما أمرها الله به؛ تسبب لنفسها الهلاك، وسيطرة أعدائها عليها، مع الهلاك في دينها، يضاف إليه الهلاك في دنياها أيضاً، هذه مسألة خطيرة جدًّا.
يتكرر اقتران الإنفاق بالصلاة، وأكثر من ذلك في بعض الأحيان اقترانه بالإيمان نفسه، يعني: حتى بما هو أكثر وأعم وأكبر من مسألة الصلاة، والصلاة شأنها عظيم، هذا لا يقلل من أهميتها وشأنها، لكنَّ عنوان الإيمان هو العنوان الرئيسي قبل كل ذلك، فيأتي الإنفاق أحياناً مقترناً بعنوان الإيمان؛ لأهمية المسألة.
يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً فيما يتعلق بالإنفاق: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الأنفال: الآية3]، فنجد هنا كيف قرن الإنفاق بالصلاة، وأيضاً بصيغةٍ تفيد الاستمرارية: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، فهم يستمرون على ذلك؛ لأنه يرتبط بمسؤولية مستمرة، هي الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”.
يقول الله “سبحانه وتعالى”: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: من الآية7]، فيقرن الإنفاق ليرفع من مستوى أهميته، إلى مستوى الإيمان، فيقترن بالإيمان، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، فالمال الذي أعطاكم الله هو نعمةٌ من الله، وأنتم وما بأيديكم ملكٌ لله “سبحانه وتعالى”، هو المالك الحقيقي، لكم، ولأموالكم، وللسماوات والأرض، وهو استخلفكم فيما أعطاكم؛ لكي تعملوا فيه وفق مسؤولياتكم، هذا جزءٌ من مسؤولياتكم.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[الحديد: من الآية7]، هم من يستفيدون، الأجر على ذلك هو أجرٌ عظيمٌ كبيرٌ جدًّا، منه ما يأتي في الدنيا، من البركات، يخلف الله لهم، يعوضهم الكثير، يُقَدِّم لهم الرعاية الواسعة في جوانب كثيرة، ومنه ما يتعلق بمستقبلهم الأبدي والعظيم والمهم في الآخرة.
يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد: الآية11]، هذه الآية تجعل الإنسان يخجل من الله، يستحي من الله، معناها عميق، ودلالتها كبيرة، الله “سبحانه وتعالى” يعلم بشح الكثير من الناس، ببخلهم، بطمعهم، بقبض أيديهم في مسألة المال، بصعوبة الإنفاق عليهم؛ فيقدم ضمانةً على أن يعوضهم، على أن يخلف لهم، على أن يَمُنَّ عليهم بالأجر الكبير، وأن يعطيهم أكثر مما أنفقوا كثيراً وكثيراً، إضافةً إلى الأجر الكريم، كريم في مستواه الكثير الكثير جدًّا، وكريم في كيفيته، يقدَّم لك بكرامة وبتكريم، ما الذي نريده من الله بعد ذلك؟! إلى درجة أن يسمي لنا إنفاقنا قرضاً، وأن يقدم له هذا العنوان؛ لكي نطمئن أنه سيبدل لنا الكثير والكثير والأفضل والأحسن، وأن ما نستفيده هو أكثر وأعظم مما قدمناه.
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}: يقدمه وفق تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، برغبةٍ إيمانية، من المال الحلال، بطريقة فيها إخلاص، وفيها احترام، وفيها تقرب إلى الله “سبحانه وتعالى”، سليمة من المفسدات، سليمة من المن، سليمة من الأذى والمحبطات، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}: سيعطيه الله “سبحانه وتعالى” ما هو أكثر منه بكثير، {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
كذلك يقول في مسألة الصدقات، وطبعاً ليس فقط صدقة الزكاة، هناك صدقات غير صدقة الزكاة، الصدقات التي تقدم أيضاً للفقراء والمحتاجين: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد: الآية18]، بنفس العبارة: (المضاعفة، والأجر الكريم)، فما الذي تريده أكثر من ذلك، إذا كنت ستحصل على الأجر العظيم من الله “سبحانه وتعالى”، والكريم، كريم في كثرته، وكريم في أن يقدم إليك ويصل إليك بتكريمٍ لك أيضاً؟!
هذا يبين لنا أهمية الإنفاق، واقترانه بالصلاة في آيات، واقترانه بالإيمان في آياتٍ أخرى، والإنفاق له علاقة بالإيمان من جوانب كثيرة، هو محكٌ إيماني يبين مدى مصداقية إيمانك بالله “سبحانه وتعالى”، أولها: ثقتك بالله، الله يأمرك بالإنفاق، وفي نفس الوقت يعدك، يعدك بأن يضاعف لك، يسمي إنفاقك قرضاً، يعدك وعداً صادقاً أن يضاعفه لك، وأن يبدل لك عنه الأجر الكريم، فإذا بخل الإنسان بعد هذه الضمانة من الله، بعد هذا الوعد، الوعد الصادق من الله “سبحانه وتعالى”، من الله الذي لا يخلف وعده، فماذا يعني ذلك؟ بكل صراحة يعني ذلك: أنه لم يثق بوعد الله، لم يثق بوعد الله.
أمَّا إذا كان مستجيباً بثقةٍ بوعد الله، وتصديقٍ بوعد الله، فهذه حالة إيمانية، لكن إذا بخل، معنى ذلك: أنه لم يثق بوعد الله، وهذا خللٌ في إيمانه، معناه: مشكلة عنده في إيمانه.
الله يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: من الآية39]، وعد مؤكد، ألا تثقوا بوعد الله؟!
في مسألة الإنفاق في سبيل الله، جزءٌ من الإنفاق في سبيل الله يعود إلى الإعداد، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، حتى إعدادك على المستوى الشخصي يحسب إنفاقاً في سبيل الله، عندما تشتري لك سلاحاً لتجاهد به في سبيل الله، أو ذخائر لتجاهد بها في سبيل الله، حتى على المستوى الشخصي هو من الإنفاق في سبيل الله؛ للترغيب في ذلك، فيأتي في آخر الآية المباركة في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، ليقول في آخرها: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[الأنفال: من الآية60].
أيضاً علاقة الإنفاق بالإيمان أنه من الأعمال الرئيسية في الإيمان، التي لا يمكن أن تصل إلى مرتبة الإيمان الصادق، ومواصفات المؤمنين والمتقين، إلَّا بها، لا يمكن أن تكون في صف الأبرار، وفي عدادهم إلَّا بها، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[آل عمران: الآية92].
الإنفاق أيضاً يعتبر شاهداً على تقديرك لنعمة الله عليك، وتأثرك بنعمة الله “سبحانه وتعالى”؛ وبالتالي توجهك برغبةٍ لأن تشكر الله “سبحانه وتعالى”، وهو القائل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: من الآية7]؛ لأن ما بين يديك من المال والإمكانات، وما رزقك الله به، في أي مستوى كان هذا الرزق، بحسب ظروف الناس المتفاوتة، هو من الله، هو من الله، تشكره عليه، جزءٌ من هذا الشكر يتعلق بماذا؟ بالإنفاق، هنا أنت تنفق ما تنفق وأنت تشكر الله المنعم، الكريم، الذي كل ما لديك من النعم فهي منه “سبحانه وتعالى”، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل: من الآية53].
بينما الحالة المختلفة التي تبخل فيها، وتشح عن الإنفاق، وتمتنع عن الإنفاق، هي حالة تُعَبِّر عن كفرانك للنعمة، عن عدم تقديرك لنعمة الله “سبحانه وتعالى”، وهذه مسألة مهمة جدًّا.
أيضاً من أهم الدوافع ذات الصلة بالجانب الإيماني للإنفاق، هي: الأثر التربوي المميز للإنفاق في تثبيت النفس، تثبيت القيم الإيمانية، الأخلاق الإيمانية، المعاني الإيمانية، في نفسية الإنسان، {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[البقرة: 265]، ابتغاء القربة إلى الله “سبحانه وتعالى”، والمنزلة عند الله “سبحانه وتعالى”، وفي تطهير نفسيتك من الشح، لا تتحول نفسيتك إلى نفسية خبيثة، تترسخ فيها إلى العمق حالة الشح، التي هي خطيرةٌ جدًّا على الإنسان، يجمع فيها بين البخل والحرص، البخل في المال، والحرص عليه، فتكون الحالة هي حالة شُح.
الله يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن: من الآية16]، حالة الشح حالة خطيرة جدًّا، هي وراء الكثير من المفاسد والجرائم التي يصل إليها الإنسان نتيجة أطماعه الشديدة، أطماعه الكبيرة، توجهه المادي الجنوني، يعني: المفرط، المفرط الرهيب، جشعه المادي الشنيع جدًّا، حالة ناتجة عن الحرص، بخله عن كل الحقوق، أطماعه التي يسبب بها أن يأخذ الكثير من الحرام، وأن يأكل الحرام، وأن يتاجر بالحرام، وأن يجمع الحرام، الذي يُخَلِّدُهُ في نار جهنم والعياذ بالله، فللإنفاق الأثر التربوي الإيجابي الذي يُخَلِّصُ الإنسان، يُخَلِّصُ نفسيته من الشح، هذه مسألة مهمة جدًّا، الإنسان بحاجةٍ إليها.
من حيث الرغبة في الأجر العظيم الذي وعد الله به: من أعظم الأعمال قربةً إلى الله في الأجر، والفضل، وما يقابل ذلك عند الله، فيما يقدمه لك، فيما يَمُنُّ به عليك، في مستقبلك في الآخرة، وفيما له أثره العظيم في الدنيا، هو الإنفاق، بدءاً بالإنفاق في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، الله يقول في القرآن الكريم: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: الآية261-262].
الإنفاق في سبيل الله يضاعف الله الأجر عليه إلى حدٍ عجيب، الإنسان ينبهر، يُذهل الإنسان أمام هذا الأجر العظيم، أمام هذه المضاعفة الواسعة جدًّا، فالحد الأدنى من المضاعفة يصل إلى سبعمائة ضعف، هذا هو الحد الأدنى، يعني: لو أنفق الإنسان مثلاً ألفاً، ألف ريال مثلاً، فكأنه أنفق سبعمائة ألف في الأجر، لو أنفق التاجر مثلاً مليوناً، فكأنه أنفق سبعمائة مليون، المضاعفة في الأجر مضاعفة هائلة جدًّا جدًّا، الأجر العظيم، وهذا هو الحد الأدنى.
الله قال بعد ذلك: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، قد تأتي المضاعفة لعوامل واعتبارات، منها: طبيعة الظروف التي أنفق الإنسان فيها، مستوى إخلاصه وإقباله إلى الله، وبُعدِه عن المحبطات والمفسدات، واستقامته، مستوى استقامته، طبيعة ظروفه التي أنفق فيها، وإقباله إلى الله “سبحانه وتعالى”، اعتبارات أخرى للمضاعفة، تتضاعف فيها الأجور إلى أكثر بكثير من ذلك، في بعض الروايات: ((حتى تصير اللقمة مثل جبل أحد))، اللقمة الواحدة مثل الجبل الكبير.
فالأجر العظيم الذي وعد الله به، لابدَّ للإنسان المؤمن أن يرغب فيه؛ لأن الإنسان المؤمن هو يرجو الله، ويرغب فيما عند الله، ويعي قيمة ما يُقَدِّمُهُ الله وما يعرضه الله عليه، عروضاً مغريةً جدًّا، يعرض الله علينا عروضاً مغريةً جدًّا جدًّا، كيف لا يرغب الإنسان، إذا لم يرغب، فهو قليل الإيمان، ممن لا يرجوا الله “سبحانه وتعالى”، أو لا يثق بوعده.
كل هذا له أهميته الكبيرة، إضافةً إلى الآثار الاجتماعية للإنفاق بين أبناء المجتمع؛ لأن جانباً أساسياً من الإنفاق أيضاً يتجه إلى من؟ إلى المجتمع، {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}[البقرة: من الآية215]، فتأتي هذه الفئات في المجتمع بدءاً من محيط الإنسان، من قرابته، وهو يصلهم، وهو يعطف على فقيرهم، وهو يواسي محتاجهم، ثم تتسع هذه الدائرة في الوسط الاجتماعي، إلى اليتامى، إلى المساكين، إلى ابن السبيل، إلى الفقراء، وهو يعطيهم، فيكون لهذا الأثر العظيم بين أبناء المجتمع.
أولاً هو- في واقع الحال- ظاهرة إيمانية وإنسانية، حالة التراحم بين أبناء المجتمع، حالة الإحسان فيما بينهم، حالة العطف والرحمة هي حالة إيمانية، من لوازم الإيمان، الله يقول عن عباده المؤمنين: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، يقول عنهم: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: من الآية17]، فيهم- يعني- مع الجانب الإيماني إنسانية، فلديهم الضمير الحي، والعاطفة الإنسانية، والدافع الإيماني، الذي يجتمع مع بعض، فَيُشَكِّل حالةً من المواساة، من الإحسان فيما بينهم؛ فيعطفون على فقيرهم، على محتاجهم، يتألمون لظروف بعضهم البعض، ليست ضمائرهم ميتة، ليست مشاعرهم متبلِّدة، فيرون الحالات الإنسانية المأساوية فيما بينهم، فلا يبالون تجاه بعضهم البعض، يشبع ويتخم بما شبع، ويرى الآخر جائعاً، يتضور جوعاً، يبحث من أين يأكل، حتى من القمامة، يرى جاره يعاني، لا يتوفر لديه القوت الضروري، وهو هناك يأكل يأكل، وقد يصاب بأمراض نتيجةً لكثرة ما أكل، وينتج عن ذلك أضرار صحية، فهو مبطان، وحوله جائعون، يشاهد في المشاهد العامة حالات البؤس، الحرمان، الفقر، العناء، لكثيرٍ من الناس، فلا يكترث، وكأنه يحمل صخرةً، حجراً صُلباً، ولا يحمل قلباً ومشاعر إنسانية.
الحالة الإيمانية هي تختلف، هي حالة تراحم، هي حالة- كما قلنا- اجتمع فيها الضمير الحي، اجتمعت فيها المشاعر الإنسانية، اجتمع فيها الدافع الإيماني، فتتوفر كل الدوافع للتراحم، للمواساة، للتألم لحال البائسين، لحال الجائعين، لحال المعانين، فيتجه الإنسان بمواساتهم، بكل تقدير، بكل محبة، بكل حرص، بكل رغبة، بل الحالة الإيمانية قد ترقى بالإنسان إلى درجة أن يؤثر على نفسه في بعض الأحيان، في أحيان حساسة حتى، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}[الإنسان: من الآية8].
هذا الأثر التربوي له أهميته، كظاهرة إنسانية وإيمانية لها أثرها العظيم في التراحم بين المجتمع؛ وبالتالي في التآخي بين المجتمع، في المحبة بين أبناء المجتمع، في دفع الكثير من المفاسد والأضرار.
إذا أصبح الفقير، البائس، المعدم، يرى الآخرين من حوله ممن هم متمكنون، ولديهم الثروة والإمكانات المادية، لا يبالون بحاله البائس، لا يكترثون لمعاناته الشديدة، لا يلتفتون إلى جوعه وجوع أسرته، لا يبالون بوضعه الصعب جدًّا، حتى على مستوى الزكاة، حتى على مستوى فعل الخير والبر، فقد يمتلئ قلبه بالمشاعر السلبية تجاههم، يرى فيهم حالة البخل، الشدة، الشُح، اللا إنسانية، فيكرههم في أقل الأحوال؛ أمَّا البعض فقد يحقد عليهم، قد يتجه البعض إلى ارتكاب جرائم سيئة: جرائم السطو، جرائم النهب، جرائم السرقة، ولكن في أقل الأحوال لدى البعض الآخر أن يكرههم، يرى فيهم أناساً متوحشين، ليس فيهم أي خير، ليس فيهم إنسانية، ليس لديهم ضمير، وهكذا في أقل الأحوال؛ فتنتشر بين المجتمع هذه الحالة من الفرقة والتباين.
ومن أسوأ الأمور أيضاً عندما تحصل مثل هذه الظواهر السلبية لدى المجتمع، ثم تأتي منظَّمات أجنبية لِتُقَدِّم نفسها بصورةٍ مختلفة، فكأنكم يا أيها المسلمون لم يعد لديكم ضمير، وليس فيكم إنسانية، وليس فيكم خير، وليس فيكم إحسان، وتأتي المنظَّمة الأجنبية من بلدان اليهود والنصارى والكافرين والمشركين، فيقدِّمون أنفسهم بصورة إحسان، وصورة فعل خير، وصورةٍ إنسانية، وأنتم بعيدون عن ذلك، فيكسبون هم تعاطف ذلك الفقير، الذي يرى المجتمع من حوله لا يلتفت إليه، ولا إلى بؤسه، ولا إلى معاناته، فتكون صورةً خطيرة، ولو أنَّ المنظَّمات هي تأتي- أصلاً- بدوافع سياسية، وبأهداف شيطانية، ومآرب شيطانية، ولذلك لا يليق بالمجتمع المسلم أن يكون مجتمعاً بخيلاً، وأن يكون مجتمعاً تنعدم فيه الرحمة، والإنسانية، والمواساة، لا يجوز ولا يليق.
والبديل عن الإنفاق، عن العطاء، عن فعل الخير، هو: البخل والشح، البخل حالة سيئة جدًّا، من أقبح ما يمكن أن يتصف به الإنسان، حتى أنه يدخل ضمن عنوان الفحشاء؛ لقبحه وبشاعته وسوئه، يقول الله “سبحانه وتعالى” في وعيده للذين يبخلون: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}[النساء: من الآية37]؛ لأن الذي يبخل- الكثير منهم- لا يكتفي بأنه يبخل؛ إنما يُثَبِّط الآخرين، يُثبِّطُهُم عن إخراج زكاتهم، يُثَبِّطُهُم عن الإنفاق في سبيل الله، يأمرهم بالبخل عن الإنفاق في سبيل الله، عن الإحسان إلى عباد الله، {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}[النساء: من الآية37]، حتى يتهرب من إخراج زكاته، ومن الإنفاق فيه، فهو يكتم بهذا الهدف، فهم ضمن الوعيد الإلهي: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}[النساء: من الآية37]، هذا من الكفر للنعمة، من الكفر للنعمة، ومن الرفض للالتزامات الإيمانية، فالله أعدَّ لهم العذاب المهين؛ لأنهم يستحقون الإهانة، ويستحقون العذاب.
إضافةً إلى ما يخسره الناس من البركات والخيرات، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف: من الآية96]، بعد أن تنعدم البركات، وتنعدم الخيرات، وفي واقع الحال البخل بالزكاة مثلاً هو خيانةٌ للأمانة؛ لأن الله قد جعل الحق للفقراء، ولتلك المصارف في مالك، {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌِ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24-225]، فأنت تأكل حقهم، وتخون أمانتك، فالمسألة خطيرة جدًّا.
فيما يتعلق بمجالات الإنفاق، يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}[البقرة: من الآية215]، (مِنْ خَيْرٍ): يشمل أي خيرٍ مما أعطاك الله، وأنعم به عليك، {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة: من الآية215].
يقول أيضاً: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة: الآية273]، هو يعلم، وسيجازيكم عليه الخير مما وعد به، لا يخفى عليه ما أنفقتم فينساكم، “سبحانه وتعالى”!
يقول عن الإنفاق في سبيل الله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: الآية195].
يقول عن الزكاة (الصدقة الزكاة) ومصارفها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة: الآية60].
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه