الثلاثاء، 12 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ -2022م

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

تحدثنا بالأمس عن الصبر، وعن علاقته بتحقيق التقوى، وعن أهميته الكبيرة في ذلك، وفي القيام بالأعمال الصالحة، والأعمال العظيمة والمهمة، كما هو أيضاً- في نفس الوقت- حالةٌ واقعيةٌ قائمةٌ في الواقع البشري، ترتبط بكل أنشطة الحياة، واهتمامات الناس في مختلف ظروف حياتهم، واهتماماتهم المعيشية... وغيرها، هو عاملٌ أساسيٌ من عوامل النجاح في النهوض بالأعمال، وهو مسألة مستساغةٌ في ذلك، بقدر ما يتفاعل الناس مع الأمور التي يتحركون فيها، في المجالات التي ينطلقون فيها.

وتتزايد أهمية الصبر في الجوانب الإيمانية والعملية، مع أهميته في الالتزام الإيماني بشكلٍ عام، على المستوى السلوكي، على المستوى الأخلاقي، على المستوى الروحي، على مستوى الالتزام بالعبادات... في مختلف المجالات ذات الصلة بالالتزام الإيماني، ولكن له علاقةٌ كبيرةٌ جدًّا فيما يتعلق بالمسؤوليات الكبرى، والنهوض بها، حيث لابدَّ منه، ويعتبر أساسياً إلى حدٍ كبيرٍ في ذلك.

ولذلك في مراحل الصراع ما بين الأمة وبين أعداء الله وأعدائها، والأمة تسعى من خلال المؤمنين فيها، والصالحين من أبنائها، إلى أن تتحرر من هيمنة أعداء الله، وأعداء الإنسانية، وأن تحقق لنفسها الاستقلال على أساسٍ من انتمائها الإيماني، وهويتها الدينية الإسلامية، فالأمة تواجه الصعوبات، وتواجه التحديات، وتواجه المخاطر في سبيل النهوض بهذه المسؤولية، وهذا شيءٌ بديهيٌ واعتياديٌ في ظروف الأمم، في اهتماماتها التي هي من هذا القبيل، فأي أمةٍ تسعى إلى التحرر من أعدائها؛ ستواجه في سبيل تحقيق ذلك الصعوبات والتحديات، التي لا بدَّ فيها من الصبر، لذلك لا بدَّ من العناية بالتواصي بالصبر، وهذا مما ركَّز عليه القرآن الكريم، وجعله واحداً من العناصر الأساسية والمواصفات المهمة للمؤمنين، وأيضاً من العوامل المهمة للنجاح والفلاح والفوز، فأتى الحديث عن ذلك في سورة العصر، ضمن المواصفات الأساسية لمن استثناهم الله "سبحانه وتعالى" من الخسران، عندما قال "جلَّ شأنه": {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 1-3].

كذلك أتى ضمن المواصفات المهمة للمؤمنين، في اهتماماتهم الإنسانية، في رحمتهم بالفقراء والمستضعفين: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: الآية17]، فالتواصي بالصبر لا بدَّ منه أن يكون ضمن الاهتمامات التثقيفية والتوعوية والتذكيرية، وضمن الاهتمامات الإعلامية بشكلٍ عام، في أوساط الأمة، في وسط المجتمع المسلم، الذي يجاهد، ويضحي، وينهض بمسؤولياته العظيمة والمقدسة؛لأن في المقابل هناك نشاطٌ معاكسٌ لذلك، نشاطٌ للمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والمخذولين المفرِّطين في القيام بالمسؤولية، يتجه نحو تثبيط الهمم، وكسر العزائم، يتجه نحو زرع حالة الوهن واليأس في أوساط الأمة، وترسيخ حالة الضعف، والدفع بالأمة دائماً نحو الاستسلام، والتشجيع المستمر على التنصل عن المسؤوليات العظيمة والمقدسة، التي هي من أهم التزاماتنا الإيمانية والدينية، التي يحاسبنا الله "سبحانه وتعالى" عليها يوم القيامة، فلهم اتجاهات مخالفةٌ للقرآن الكريم، مخالفةٌ لما فيه المصلحة الحقيقية للأمة، وبالذات عندما تمر الأمة، أو يمر شعبٌ معين- مثلما هو حال شعبنا- بظروف عصيبة، نتيجةً لما يقوم به الأعداء، من جرائم، من حصار، من ظلم، من طغيان، يسعون من خلال ذلك إلى كسر إرادة شعبنا، وكسر إرادة أمتنا، والدفع به نحو الانهيار والاستسلام، فيتحرك بالتزامن مع ذلك المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمخذولون، المتنصلون عن المسؤولية، المفرطون في القيام بمهامهم، ومسؤولياتهم، وواجباتهم، التي هي من صميم دينهم، يتحركون بالاستغلال لذلك بالدفع بالأمة، بالدفع بالشعب، إلى ردة فعلٍ خاطئة، ردة فعل تكون عبارةً عن حالة انهيار، استسلام، خضوع للعدو، تنفيذ لأجندة العدو ومؤامرات العدو، التحرك وفق ما يريد العدو، وهذه حالة سلبية وليست جديدة، هذه حالة قائمة على مرِّ التاريخ، يواجهها القرآن الكريم، يقدم التعليمات اللازمة في التصدي لها.

ومن ضمن ذلك: الحث على التواصي بالصبر، التواصي بالصبر، لمواجهة مثل هذه الحالات التي تتحرك سلباً في الساحة، وأيضاً لمواجهة التأثيرات الناتجة عن ضعف الإيمان على البعض من الناس، الذين يملّون، يتعبون، يرهقون، يتذمرون، عندما تكون هناك صعوبات، وتحديات، ومعاناة، فلا يكادون يتحملون، أو سقف تحملهم سقفٌ نازلٌ، هابط، إلى مستوى بسيط، ثم لا يتحملون أكثر.

فيأتي التواصي بالصبر، فله باعتبار أهميته الكبيرة فيما له من تأثيرٍ إيجابيٍ يساعد الأمة على الاستمرارية في النهوض بمهامها، في أداء مسؤولياتها، في أداء واجباتها، في تحمل الصعوبات مع ذلك، حتى الوصول إلى النتيجة، حتى الوصول إلى النتيجة.

فعندما نأتي إلى التواصي بالصبر، نُذكِّر بأهميته، وقيمته، أهميته على المستوى الإيماني، أنه من أعظم العبادات والقرب، التي نتعبد لله بها، نتقرب إلى الله "سبحانه وتعالى" بها، نحظى من خلالها بالدرجات العالية، عندما نصبر في طاعة الله، عندما نصبر ونحن نقوم بمسؤولياتنا ومهامنا الإيمانية التي أمرنا الله بها، وجَّهنا إليها، نصبر ونجاهد، نصبر ونضحي، نصبر ونتصدى للطاغوت، نتصدى للطغاة والظالمين والمجرمين، نقف في وجه المعتدين، صبرٌ عمليٌ، صبرٌ في أداء مسؤولياتنا، ومهامنا، وواجباتنا، صبر الأحرار، صبر المؤمنين، صبر المجاهدين، صبر المتقين، عبادةٌ عظيمة نتقرب بها إلى الله "سبحانه وتعالى، وسببٌ لنيل مرضاته، ومعونته، وتأييده، ويرتبط بذلك الغايات العظيمة، التي تحدثنا عن الكثير منها بالأمس.

ولهذا يتوجه الأمر بالصبر إلى الجميع، إلى الذين آمنوا رجالاً ونساءً، إلى الأسرة، إلى الفرد، يتوجه الأمر بالصبر إلى القادة، إلى غيرهم، إلى كل المؤمنين، إلى كل الذين ينهضون للتحرك بالمسؤولية.

وفي القرآن الكريم نجد كم توجه من الأوامر بالصبر للرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" مع عظيم منزلته عند الله، الله "سبحانه وتعالى" بالتأكيد لا يريد لنبيه هكذا أن يعاني لمجرد المعاناة، وأن يتعب لمجرد التعب، وأن يواجه الصعوبات الكبيرة، والتحديات الكبيرة هكذا بشكلٍ مجرد، ويصبر عليها هكذا فقط؛ إنما لأن الصبر له قيمته، له إيجابياته الكبيرة على المستوى التربوي، في بناء الإنسان، في بناء نفسية الإنسان، في بناء أخلاق الإنسان، وعلى مستوى الواقع، فيه ما يترتب عليه من نتائج مهمة، وعلى مستوى تحقيق الأعمال الكبيرة، التي هي أعمال عظيمة، يُشرِّف الإنسان أن يقوم بها، أن ينفِّذها، هو شرفٌ له، سموٌ له، يزيد من رصيده الأخلاقي والإيماني، ومن إسهامه الكبير في واقع الحياة، فيترتب على ذلك النتائج الكبيرة، التي هي لمصلحة الإنسان نفسه في الدنيا والآخرة، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: الآية17].

فيأتي الأمر للنبي "صلوات الله عليه وعلى آله" من مثل قوله "سبحانه وتعالى": {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[هود: من الآية115]، اصبر، ولن يضيع أجرك، أنت ستتحقق لك بذلك النتائج العظيمة، التي هي من الله "سبحانه وتعالى" يحققها لك، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، وهكذا صبر، صبر في كل مراحل تبليغ الرسالة، منذ البداية، والوضع مختلفٌ تماماً، ليس له جيش، ولا أنصار، ولا أعوان، والمؤمنون به قلة قليلة في البداية، والمتغيرات التي يراد منه العمل والإسهام في تحقيقها، حجمها كبيرٌ جدًّا، الواقع واقعٌ مختلف، واقعٌ معادٍ، بيئةٌ كافرة، معاديةٌ للرسالة، وصبر في كل المراحل التي تحرك فيها، أتت المتغيرات شيئاً فشيئاً فشيئاً؛ حتىتغيَّر الواقع بكله، وسقطت كل كيانات الطاغوت، وقام للإسلام قائمة، وأصبح للأمة الإسلامية كيانها الكبير والعظيم، الذي ارتقت به إلى أن وصلت إلى أهم كيانٍ قائمٍ في واقع البشر آنذاك، وأهم كيانٍ فاعلٍ في الساحة، أمة قوية، ودولة عظيمة، ومجتمع عظيم وكبير ومهم، أصبح له حضوره الأول في الساحة العالمية بين أوساط الأمم، وتأثيره الكبير، هذا في عاجل الدنيا؛ أمَّا في آجل الآخرة فالذي يتحقق هو الشيء العظيم من فضل الله، وجنته، ورضوانه، والسلامة من عذابه.

إضافة إلى الإنجازات الحقيقية الكبيرة في حركته "صلوات الله عليه وعلى آله"، مما أحدثه من تغييرٍ جذريٍ في واقع المجتمع، فأخرجه من الظلمات، في عقائده الباطلة، في تصوراته الخاطئة، في خرافاته الجاهلية، وفي ممارساته الوحشية واللا إنسانية، وسلوكياته المنحرفة، إلى النور، أخرج المجتمع الجاهلي من كل ذلك، من الظلمات في العقائد، والأعمال، والتصرفات، والسلوكيات، إلى النور، إلى واقعٍ مختلفٍ تماماً، كان هناك نتائج عظيمة تحققت، فيما كان الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج: الآية5]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: من الآية35]، وهو يواجه التكذيب، والصد، والمعاناة الكبيرة، في البداية من الكافرين، وفيما بعد من الكافرين، والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، ومن السمَّاعين لهم، ولكن تخطى كل تلك التحديات والصعوبات ووصل إلى نتيجة.

من أهم ما يتعلق بالصبر: أنه إلى جانب أنه عبادةٌ عظيمةٌ، لها نتيجتها، لها آثارها الكبرى، أنه سلاحٌ مهمٌ في مواجهة العدو؛ لأن ما يلجأ إليه العدو في محاربته للمؤمنين: من حصار، من تضييق، من جبروت، من إجرام، من وحشية، هو بهدف النيل منهم، والإضعاف لهم، وضرب إرادتهم ومعنوياتهم، وإرغامهم على الاستسلام، وتحطيم معنوياتهم.

العدو يحرص على كسر الإرادة، على تحطيم المعنويات، على الإرغام للأمة على الاستسلام، على زرع حالة اليأس، على الوصول بها إلى الانهيار التام، هذا ما يسعى له العدو، فعندما يرى أنَّ ما يفعله من إجرامه، ووحشيته، وفظائعه، وانتهاكاته، وعدوانه، وحصاره، له ردة فعلٍ عكسية، هو يزيد من اهتمام الأمة، من عزمها، من قوتها، من إصرارها، من تصميمها، من جديتها في مواقفها، من استشعارها لحجم مسؤولياتها، من غضبها على عدوها، وترجمة ذلك الغضب في الواقع العملي، من خلال الجدية الكبيرة في عملها وهي تتصدى للعدو، في تحركها وهي تواجه العدو، سيكون لذلك الأهمية الكبيرة التي يترتب عليها يأس العدو، يأس العدو، فما يكون هناك منصبر، من ثبات، من قوة، من ردة الفعل الواعية في واقع الأمة تجاه العدو، يقابلههبوط لدى العدو، يأس، شعورٌ بالفشل، شعورٌ بالإخفاق، شعورٌ بالعجز، يصل به- في نهاية المطاف- إلى الاستسلام.

وهذا ما حصل على مرِّ التاريخ، في التجارب القائمة في واقع البشر، كما أشرنا في حركة النبي "صلوات الله عليه وعلى آله"، وحركة المسلمين معه، وما ترتب على ذلك من متغيرات كبرى، في الأخير كان من يئس، من انهار، من تفككت قواه، هم المشركون، هم الكافرون، هم المعادون للرسالة، ومن أحُبِط، وفَشِل، وأخَفْقَ، وانهَزم، ولم يحقق أهدافه الرئيسية، هم المنافقون معهم أيضاً، والذين في قلوبهم مرض.

في واقعنا المعاصر نرى الأمثلة الكثيرة، مثلاً: فيما يتعلق بحزب الله في لبنان والصراع مع العدو الإسرائيلي، صراع استمر لسنوات طويلة، وكان العدو الإسرائيلي كان يحاول أن يكسر إرادة المجاهدين في لبنان، أن يكسر إرادتهم، وأن يوهن من عزمهم، وأن يوصل المجتمع إلى حالة اليأس في إمكانية الانتصار في مواجهة العدو، فكان يقوم بحملات إجرامية، ووحشية، واعتداءات كبيرة، وجرائم فظيعة، ولكنهم استمروا في جهادهم، وصبروا على كل المعاناة، في نهاية المطاف كانوا يزدادون قوةً، وكان العدو يضعف أكثر فأكثر، كان يحصد المزيد من الهزائم، وكان بالتالي ييأس أكثر فأكثر، حتى وصل إلى يأسٍ تام وانسحب، في هزيمةٍ مذلةٍ تاريخية، كانت هي الأولى بذلك المستوى، وهزيمة استمرت، استمرت إلى حد الآن، هزيمة مستمرة في واقع العدو الإسرائيلي.

عندما نأتي إلى الحالة القائمة فيما يتعلق بشعبنا اليمني المسلم العزيز، وهو يتصدى للعدوان الأمريكي السعودي، منذ بداية العدوان وإلى اليوم حصلت الكثير من المتغيرات، فيما كان لدى الأعداء آمال في أن يسيطروا بشكلٍ تام في فترةٍ وجيزة، بالاستناد إلى إمكانياتهم الهائلة، إلى جبروتهم، وطغيانهم، وحصارهم، وظلمهم، وصلوا اليوم إلى نقطةٍ مسدودة، وصلوا إلى مستوى الفشل الذي عرف به كل العالم، الذي يتحدث عنه الجميع، ما من شكٍ في أنهم قد فشلوا إلى الآن في تحقيق أهدافهم الرئيسية التي أرادوها من خلال العدوان، وأنهم تكبَّدوا الكثير من الخسائر، وأنهم أيضاً تكبَّدوا الكثير من الهزائم تلو الهزائم، وأنَّ شعبنا قد حقق الكثير والكثير والكثير من الانتصارات، وبات هذا العدوان فيما فيه من حصار، وإجرام، ومعاناة، حافزاً مهماً لشعبنا في أن يبني واقعه، وأن يحوِّل التحدي إلى فرصة، وأن يجعل من ذلك عاملاً لنهضته في كل المجالات، ولكن ذلك بكله يحتاج إلى صبر.

لمَّا كان الصبر سلاحاً في مواجهة العدو، أتى قول الله "سبحانه وتعالى": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}[آل عمران: من الآية200]، المصابرة أكثر من مسألة:{اصْبِرُوا}، {وَصَابِرُوا}؛ لأنه سلاح في مواجهة العدو، إذا أصرَّ العدو واستمر على وسائله الإجرامية الوحشية، على سعيه لإضعافكم، للسيطرة عليكم، كونوا أكثر إصراراً منه، أكثر اهتماماً منه، أكثر جديةً منه، في الثبات في موقفكم الحق، في التمسك بقضيتكم العادلة، في أدائكم لمسؤولياتكم المقدَّسة، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: من الآية200]، فالعدو يرى في الأخير أنَّ وسائله وأساليبه ليست مجدية، وأنَّ ردة الفعل هي عكس ما يريده، هو يريدهم أن ينهاروا، أن ييأسوا، أن تنكسر إرادتهم، فإذا بهم أكثر عزماً، أكثر تصميماً، أكثر قوةً وجديةً في اهتمامهم وعملهم.

أتى في القرآن الكريم قول الله "سبحانه وتعالى": {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: الآية146]، هذا درسٌ مهمٌ وعظيمٌ قدَّمه الله "سبحانه وتعالى" لنا من المؤمنين الذين وقفوا مع الأنبياء، نصروا الأنبياء، جاهدوا مع الأنبياء، الذين تحمَّلوا هذه المسؤولية المقدَّسة، ونهضوا بهذا الدور العظيم في الواقع البشري، وأنَّ الكثير منهم، يعني:كحالة ليست مجرد حالة نادرة، أو حالة استثنائية، حالة تكررت كثيراً على مرِّ التاريخ؛ حتى لا يتصور البعض أنَّ هذا مطلوبٌ منا لوحدنا، أو أنه حِمْلٌ بلينا به عن سائر الناس، أو عن السائر المؤمنين، لا، المسألة مختلفة، {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ}،يعني: حالة تكررت كثيراً، كم وكم وكم{مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، أيضاً ليست حالة نادرة على المستوى الشخصي، مثلاً: لا يتهيَّأ لها، لا يتمكَّن منها، لا يمكن أن تتوفر إلَّا لدى القليل القليل القليل من الناس، الصبر مسألة ممكنة من الجميع، وإن تفاوتت نسبة الصبر، وإن تفاوتت، لكنها مسألة ممكنة.

الله هيَّأ الإنسان في فطرته، في قدراته، في طاقته لذلك، والله يزيد الذين آمنوا، الذين يلتجئون إليه، يستعينون به، يزيدهم على مستوى الدعم النفسي بالسكينة، بشرح الصدر، بالعوامل التي تساعد من تحملهم أكثر فأكثر.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}، عندما أصابهم ما أصابهم في سبيل الله، قدَّموا الكثير من الشهداء، جُرِح الكثير منهم، حصلت لهم المعاناة في الميدان (في ميدان الصراع)، المعاناة المتنوعة، المعاناة المتنوعة: على المستوى الاقتصادي، على المستوى العسكري... من جوانب كثيرة، لم يصبهم ذلك بالوهن، لم تأت النتائج التي يريدها العدو، يسعى لها العدو، الوهن: عكس الصلابة، فتحصل لديهم حالة من الفتور، من الجمود في التفاعل في أداء مسؤولياتهم، فلا يتحركون إلَّا بتثاقل، وبنفوس لم تعد بذلك العزم، بتلك القوة، بتلك الإرادة الفولاذية، أصبحوا يتحركون بفتور، أثَّر عليهم ما حصل عليهم.

{فَمَا وَهَنُوا}، لم يهنوا، استمرت صلابتهم، عزمهم القوي استمر، ثباتهم، جديتهم، كل ذلك استمر، {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا}، لم يصلوا إلى ما هو أكثر من الوهن، وهو الضعف مثلاً أن يصلوا إلى حالة الضعف، فيفقدون الشعور بالقوة، الناتج عن اعتدادهم بمعية الله، عن إيمانهم بقضيتهم الحق، عمَّا يحملونه من القيم والأخلاق الإيمانية.

{وَمَا اسْتَكَانُوا}، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}، لم يستكينوا، بقوا في حالةٍ من العزة، من الكرامة، لم تنهر عزائمهم إلى حد أن يستكينوا، فيتنصَّلوا عن المسؤولية، فيجمدوا بشكلٍ تام، استمروا وواصلوا نهوضهم بمسؤولياتهم، وأداءهم لواجباتهم.

{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}؛ لأنهم صبروا، بدلاً عن الوهن، بدلاً عن الضعف، بدلاً عن الاستكانة، صبروا، فكان الصبر وسيلة مساعدة لاستمراريتهم.

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: الآية147]؛ لأن الناس عندما يحصل لهم الوهن، والضعف، والاستكانة، أيٌّ منها، أو بكلها، تكون لهم أقوال تعبِّر عن التذمر، أقوال تعبِّر عن اليأس، أقوال تقدِّم التبريرات الواهية لتنصِّلهم عن مسؤولياتهم، تقدِّم حالة الفشل وكأنها حالة لازمة، وحالة لا مناص منها، أقوال سلبية تخدم العدو، تشجِّع العدو، ترفع من معنويات العدو.

أمَّا الربَّانيون، المؤمنون، المخلصون لله"سبحانه وتعالى"، فمقولاتهم مقولات التجاء إلى الله، استشعار للتقصير أكثر، اهتمام وجدية أكثر، اتجاه إلى الواقع العملي لمعالجة جوانب القصور فيه والخلل أكثر فأكثر، استمرارية وجدية مع الالتجاء إلى الله، وإصلاح الواقع العملي بكل اهتمام، وهذا هو التصرف الصحيح، هو التصرف الصحيح، هو الموقف الصحيح.

في الواقع البشري لا تنهض الأمم، ولا تواجه التحديات، ولا تتحرك في إطار المهام الكبرى، إلَّا وتستند إلى الصبر، لا بدَّ من الصبر، حتى الجيوش في بنائها لتكون جيوشاً قوية، الأساس في ذلك هو الصبر، لا بدَّ من الصبر، وحتى في داخل الجيوش، من لهم مهام خاصة، مهام استثنائية، يحظون بتمرينٍ كبير على الصبر، على التحمل الذي يقترن به أداء مهام وأعمال عظيمة، كبيرة، نوعية، مهمة، ذات تأثير كبير؛ لأنه كلما أردنا أن يكون هناك فاعلية أكثر، فاعلية في العمل، فاعلية في الأداء، في مستوى الأداء، لا بدَّ من الصبر أكثر.

من أهم ما يتم التذكير به في التواصي بالصبر، هو الحديث عن عاقبة الصبر الحسنة، وأنَّ من أهم ما يميِّز الصبر في سبيل الله "سبحانه وتعالى": أن نتيجته الإيجابية، ثمرته الطيِّبة، عاقبته الحسنة حتمية؛ لأنها ارتبطت بوعد الله "سبحانه وتعالى" الذي لا يخلف وعده، وهو الصبر المجدي، الصبر في سبيل الله، الصبر في القيام بالمهام والمسؤوليات الكبرى هو الصبر المجدي، المثمر، النافع، المفيد.

وإذا جئنا إلى هذا، فنجد في القرآن الكريم التأكيد على البشارة: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية155]، هكذا يقول الله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، بشِّرهم بهذه العاقبة الحسنة، بهذه الثمرة الطيِّبة؛ لأنهمسيصلون من خلال صبرهم إلى النصر، إلى الفرج، إلى الخير الكبير، إلى تحقيق النتائج المهمة التي يسعون للوصول إليها، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} بشِّرهم أيضاً بأنه سيأتي لهم حتى وهم يعانون، حتى وهم يواجهون الصعوبات والتحديات، المؤشرات والانفراجات التي هي بشارةٌ لهم، التي هي مقدِّماتٌ لنصرهم الكبير، لفرجهم العظيم، وهذا فعلاً مما يأتي، لا تبقى الحالة دائماً حالةٌ صعبة، وقاسية، وقاتمة اللون، وشديدة، تحصل انفراجات، تحصل مقدِّمات، هي بحد ذاتها بشائر، هي بحد ذاتها بشائر، تحصل انتصارات وانفراجات تبشِّر بما سيأتي من نصرٍ عظيم، من فرجٍ كبير، من متغيرات.

حتى في الشدائد على المستوى الاقتصادي تحصل انفراجات، لا تبقى الشدة كما هي في أقسى حالاتها على نحوٍ مستمر، تأتي انفراجات، وانفراجات، وانفراجات، حتى يأتي الفرج الكبير، ويترافق مع العسر اليسر، كما قال الله "سبحانه وتعالى": {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: الآية5]، يأتي اليسر، فتأتي انفراجات من هنا، إيجابيات من هنا، عوامل مساعدة من هناك... وهكذا لا يبقى العسر بشكلٍ خالصٍ، مستمرٍ، ضاغطٍ، والعناء شديدٌ بشكلٍ مستمر، تأتي حالة اليسر لتترافق مع العسر، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: 5-6]، وتتحقق إيجابيات مع ما يحصل.

فالغايات المذكورة في القرآن الكريم للصبر، هي غايات عظيمة، غايات كبيرة، جمعتها عبارة واحدة: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، الفلاح، الفلاح الذي هو وصول إلى النتائج العظيمة، ظفرٌ بالخير، وصولٌ إلى النتائج المرجوة في الدنيا والآخرة.

بينما إذا جئنا لما هو بديلٌ عن الصبر،إذا جئنا للحالة الأخرى: عدم الصبر في سبيل الله، في طاعة الله، في أداء المهام والمسؤوليات الكبيرة جدًّا، واتجهنا إلى الخيارات الأخرى: خيار الانهيار، الاستسلام، العجز، اليأس، الضعف، الانهيار أمام العدو، وتمكين العدو من فعل ما يشاء ويريد، من الوصول إلى أهدافه ومآربه الشيطانية، ما الذي ينتج عن ذلك؟ ينتج عنه: العناء، القهر، الذلة، الاضطهاد، الضيم، الذي يستمر، وإذا صبر الناس عليه، فصبرهم لا يفيدهم، لا يجديهم، لا ينفعهم، لا يغيِّر من الواقع شيئاً، وحتى لا يؤجرون عليه، ليس لهم عليه أجرٌ ولا فضل، فيكون هو الصبر السلبي، بدلاً عن الصبر الإيجابي، عن الصبر المطلوب، وهي حالة خطيرة جدًّا، وتدوم الحالة، تستمر ما داموا مستمرين على ذلك، وإذا أرادوا التحرك فيما بعد، وتحرَّكوا متأخرين بعد أن يتمكن العدو منهم أكثر، بعد أن يكونوا قد فرَّطوا بمسؤولياتهم وواجباتهم لمدةٍ طويلة، وتحرَّكوا متأخرين، كانوا محمَّلين بالإصر الثقيل، بالحمل الثقيل، الذي هو نتاجٌ لتفريطهم، عاقبةٌ لعصيانهم، لاستهتارهم، لإهمالهم، لتقصيرهم، فتكون الكلفة هائلة، والنتيجة ضئيلة، ويحتاجون إلى عناء كبير جدًّا، ومدة زمنية طويلة جدًّا، وهذه مسألة خطيرة جدًّا.

إنَّ كل الغايات العظيمة للصبر في القيام بمسؤولياتنا، في طاعتنا لله "سبحانه وتعالى"، وأدائنا لمهامنا وجهادنا في سبيل الله، وتصدينا لأعداء الله، على النقيض منها تماماً نتاج التخاذل، نتاج التفريط، عواقب التقصير، فالله "سبحانه وتعالى" عندما قال لنا في الصبر في سبيله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، النتيجة المناقضة لها عندما لا نصبر في سبيله:لعلكم تخسرون، لعلكم تخسرون في الدنيا والآخرة، تخسرون كل شيء، تخسرون حريتكم؛ فيستعبدكم أعداؤكم، تخسرون كرامتكم؛ فيذلكم ويهينكم أعداؤكم، تخسرون شرفكم، تخسرون أمنكم، تخسرون كل شيء، تخسرون دينكم ودنياكم، البديل عن: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، عندما تنهارون، عندما لا تؤدون واجباتكم بصبر، لا تنهضون بمسؤولياتكم بصبر: لعلكم تخسرون كل شيء والعياذ بالله.

البديل عن قوله تعالى في الصبر في سبيله، في الصبر في طاعته، في الصبر في القيام بالمسؤوليات المقدسة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، البديل عن ذلك: أنَّ الله يخذل أولئك الذين لم يصبروا في سبيله، لا يقف معهم، لا يؤيِّدهم، لا يعينهم، لا يرحمهم؛ لأنهم لم يستجيبوا له، فيما فيه عزهم، فيما فيه نصرهم، فيما فيه خيرهم، فيما فيه فلاحهم، فيما فيه قوتهم، فيما فيه كرامتهم، لم يستجيبوا له، ولذلك فليس معهم، سيخذلهم، سيسلط أعداءهم عليهم، والتسليط حالة رهيبة جدًّا، تتضاعف بها وتزداد أشكال المعاناة مع الذلة والهوان إلى حدٍ كبير، فيصلون إلى حالة: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}[الطور: من الآية16]، واقعٌ مخزٍ، مذل، مهين، كله اضطهاد، وظلم، وقهر، وذلة، ويستمر، والصبر فيه- كما قلنا- ليس مجدياً، وليس عليه أجرٌ، وليس له فضلٌ، هذه المقارنات مهمة جدًّا في التواصي بالصبر، عندما نقارن بين النتائج، بين العواقب، بين ما يترتب على هذا، وما يترتب على ذاك.

من أهم ما ينبغي التركيز عليه في التواصي بالصبر: التواصي بالدوافع المهمة المساعدة على الصبر، وفي مقدمتها: الدافع الإيماني، كلما زاد إيمانك؛ كلما زاد تلقائياً صبرك، الصبر هو ترجمة للحالة الإيمانية، تجلٍ للحالة الإيمانية، أنت في واقعك الإيماني تندفع، ولديك ما يدفعك إيمانياً لتصبر أشياء كثيرة جدًّا: اعتدادك بمعية الله، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، أنت تحرص على أن يكون الله معك، فتعرف قيمة الصبر في ذلك، الصبر في طاعة الله، في العمل في سبيله.

ولهذا عندما يقول الله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر: الآية7]، من أجل الله، أنت تصبر استجابةً لله "سبحانه وتعالى" فيما يرضيه، وفيما له أهميةٌ كبيرةٌ في أن تحظى أنت برضوانه، أن تحظى برعايته الشاملة، الواسعة، وأن تحظى بما وعد به من الوعود العظيمة.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}[الرعد: من الآية22]، فكيف كان حرصهم على أن يحظوا برضوان الله عنهم، من أجل الله، هذا دافعٌ كافٍ، دافعٌ عظيم، دافعٌ مهمٌجدًّا سيساعد الإنسان في مواجهة كل التحديات والصعوبات، أنه من أجل الله، وفي سبيل الله، ومع الله، وأنه يرجو من الله ما يرجوه منه من عظيم الأجر، والفضل، والمنزلة، والنتائج التي وعد الله بها في الدنيا والآخرة.

من الدوافع المهمة للصبر: الدوافع الإنسانية والأخلاقية، زكاء النفوس، والقيم الفطرية التي يعشقها الإنسان بفطرته، كالعزة، والكرامة، والإباء، والإنسان إذا امتلك أيضاً الضمير الحي، فكل هذه القيم كلما نمت في الإنسان، كلما ترسخت فيه، كلما تربى عليها أكثر؛كلما كان ذلك عاملاً مساعداً في الصبر أكثر.

فالذي يعشق العزة، ويريد أن يكون عزيزاً، يأبى الذلة، يأبى الهوان، يأبى ما يسعى له الأعداء، وما يعملون من أجله، من إذلال الأمة، من إهانتها، من استعبادها؛ وبالتالي يندفع إلى الأعمال، إلى المهام، إلى المسؤوليات في التصدي للأعداء بإقبال واندفاع كبير، لا يحتاج إلى أن تعظه ليلاً ونهاراً، وتتحدث معه في كل لحظة، وميكرفون إلى أذنه على طول أربعة وعشرين ساعة، لو فترت عنه قليلاً من الوقت، تغيرت اهتماماته، وتغير تفكيره، وتغير توجهه، وتكاسل، وتراجع، يوجد لديه الدافع الداخلي، الدافع الداخلي، عزته، كرامته، إباؤه، ضميره الحي، عندما يشاهد الأعداء، يشاهد إجرامهم، مؤامراتهم، طغيانهم، فظائعهم، ظلمهم بحق الناس، ظلمهم بحق شعوب أمتنا، ظلمهم لشعبنا اليمني، الجرائم الفظيعة جدًّا، الإنسان الذي لا تزال فطرته سليمة، ويمتلك هذه القيم، بمجرد مشهد واحد من مشاهد تلك الجرائم الفظيعة جدًّا، ينطلق بكل جد، وبكل صبر، وبكل اهتمام، وبكل تفانٍ، وبكل استبسال، والإنسان الذي مات ضميره، وفقد هذه القيم، لو يشاهد ما يشاهد، ولو يسمع ما يسمع، لا يتفاعل، لا يتأثر، لا يتحرك.

 من أهم الدوافع المهمة للصبر، هو: الوعي بظروف الحياة، هذه الحياة هي ميدان مسؤوليةٍ واختبار، فيها المشاق، فيها الصعوبات للمؤمن والكافر، للفاجر والتقي، لكل الناس، هذه الحياة فيها الصعوبات، فيها التحديات، فيها المعاناة، فيها... للجميع، الفارق الكبير جدًّا هو أنه:في طريق الإيمان والتقوى يكون لصبرك إيجابياته العظيمة، نتائجه الكبيرة، الأجر العظيم، وتكون أيضاً في الموقف المشرف، الذي يتناسب مع كرامتك الإنسانية التي أراد الله لك أن تصونها.

ليس هناك مثلاً أمل في أنَّ الإنسان لو يتنصل عن صبره في طاعة الله، عن صبره في النهوض بمسؤولياته، عن صبره في العمل في سبيل الله، أنه سيكون الواقع مختلفاً تماماً، فسيرتاح ولا يتعب أبداً، وسيهنأ بهذه المعيشة، ولا ينال أي منغصات، وسوف يعيش وكأنه في الجنة، لا تحصل هذه الحالة.

الآخرون الذين هم في سبيل الطاغوت،الذين باعوا كرامتهم، باعوا إنسانيتهم، باعوا دينهم، باعوا قيمهم وأخلاقهم، هم في عناء، هم في شقاء، هم يتكبَّدون الخسائر الكبيرة، يلحقهم بأكثر مما يلحق الآخرين في كثيرٍ من الأمور، مع الفارق الكبير في الموقف، ونتائجه، وعواقبه في الدنيا والآخرة، ولذلك المسألة هذه مسألة مهمة جدًّا، الوعي بظروف هذه الحياة.

والوعي أيضاً بعواقب التفريط، عواقب التقصير المهولة، الرهيبة، الخطيرة، الفظيعة، التي يجب أن يسعى الإنسان لما يقيه منها، لما يقيه منها، عواقب التفريط، والتهاون، والتنصل عن المسؤولية، عواقب خطيرة جدًّا في الدنيا وفي الآخرة.

نكتفي بهذا المقدار...

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، نسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛

الاثنين، 11 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ 10-04-2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من فوائد الصيام في شهر رمضان المبارك المساعدة على التقوى، وتحقيق هذه الثمرة العملية للصيام، هي: الصبر، الصبر الذي نكتسبه من خلال الصيام في تحملنا في التحمل والعزم المكتسب تجاه متاعب الظمأ والجوع، وتجاه السيطرة على شهوات النفس من جانبٍ آخر، فنحن نتعوَّد من خلال الصيام على التحمل، التحمل النفسي في السيطرة على شهوات النفس، والتحمل البدني في التحمل على عناء الجوع والظمأ بحسب الأحوال المختلفة.

الصبر هو عنوانٌ مهمٌ، وهو من لوازم النجاح والفلاح في كل الأمور المهمة، وهو لدى البعض عنوانٌ مزعج، يقترن به على الدوام شبح المعاناة والمشقة، عندما يسمع كلمة (صبر)، وكأنها ترادف (مر).

الصبر لا بدَّ منه مع العمل، وهو شيءٌ واقعيٌ وقائمٌ في حياتنا جميعاً، الجميع في شؤونهم المعيشية، في ظروف حياتهم المختلفة، ولربما قد تكون بشكلٍ شبه يومي، على نحوٍ مستمر يواجه الناس في العادة ما يحتاجون فيه إلى الصبر، إلى التحمل، وهذه مسألة معروفة لدى الإنسان، لدى الناس في مختلف ظروف حياتهم.

المزارع وهو يعمل يدرك أنه لا بدَّ من الصبر، بل يستحلي عواقب الصبر، عندما يصل- في نهاية المطاف- إلى النتائج الطيِّبة لجهوده وصبره، فيحصل بعد جهدٍ وبعد صبرٍ معين يصل إلى أن يجني ثمار ذلك الجهد، فيما يحصل عليه نتيجة جهوده من زراعته ومن أموال.

التاجر كذلك، العامل، الإنسان في ظروفه المعيشية وهو يسعى لتوفير متطلبات حياته، يدرك ذلك، الإنسان يصبر ويتفاعل بقدر ما يؤمن بالقضية التي يصبر من أجلها، بقدر ما تمثله من أهميةٍ بالنسبة له، سواءً على المستوى المعيشي، أو على مستوى أوسع من ذلك، المسألة مرتبطة بدرجةٍ أساسية بقدر ما يتفاعل الإنسان ويؤمن بالقضية التي يصبر من أجلها.

على المستوى الإيماني: الصبر من لوازم الإيمان، هو منه بمنزلة الرأس من الجسد كما ورد في الأثر، وهو أيضاً وسيلةٌ مساعدةٌ على العمل الصالح، ولهذا يأتي في القرآن الكريم في المواصفات الأساسية للمؤمنين المتقين: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}[البقرة: من الآية177]، فالصبر هو صفة أساسية لديهم، وهو وسيلة- في نفس الوقت- لتجاوز كل تلك الصعوبات، {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية200]، فيأتي التوجيه من الله "سبحانه وتعالى" إلى الذين آمنوا، من موقع انتمائهم الإيماني؛ لأنه في الأعمال الإيمانية، في الالتزامات الإيمانية، في المسؤوليات الإيمانية لا بدَّ من الصبر.

يأتي أيضاً قوله "سبحانه وتعالى": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: الآية153]، فالصبر وسيلة أيضاً تساعدنا على أداء أعمالنا، والنهوض بمسؤولياتنا، وسيلة مساعدة، والصبر في الأساس هو قضية نفسية، قوة إرادة، وعزم، ومعنوية، وتحمل، هذا كله مبنيٌ على مدى إيمانك- كما قلنا- بالقضية التي تصبر من أجلها.

مثلاً: في الأمور المعيشية الناس يعتبرون الأمور الضرورية التي لا بدَّ منها لحياتهم، لمعيشتهم، يرون فيها دافعاً كافياً لأن يصبروا، ولأن يتحملوا، ويستحلون النتائج التي تنتج عن ذلك فيما يتحقق لهم، وبقدر ما يتحقق لهم، كلما كان رضاهم عن جهدهم، عن صبرهم، أكثر وأكثر، وهكذا على مستوى شؤون الحياة كافة، طموحات البشر في حياتهم، متطلباتهم وآمالهم في حياتهم، وما يصلون إليه، وما يتحقق لهم في شؤونهم السياسية والاقتصادية... ومختلف شؤونهم.

فالصبر في ميدان العمل، والنهوض بالمسؤولية، والتزام طاعة الله "سبحانه وتعالى"، والسيطرة على هوى النفس، لا بدَّ منه في انتمائنا الإيماني، وهو أمرٌ بديهي، وأمرٌ طبيعي، طالما الإنسان يصبر في كل الأمور، ليس معناه: أنَّ هناك اتجاهٌ في الحياة لا تحتاج فيه إلى الصبر على شيء، ولا تواجه فيه المتاعب النفسية أو البدنية في شيء، الصبر لا بدَّ منه، ولذلك في الاتجاه الإيماني لا تزال العوامل المساعدة أكثر من غيره، أكثر من غيره، الحوافز المعنوية أكثر من غيره، النتائج المرجوة أكثر من غيره؛ فبالتالي يفترض في الاتجاه الإيماني أن يكون الإنسان مقرراً للصبر، موطناً نفسه على الصبر، متجهاً للصبر، وأن يتخذ قراراً حاسماً بذلك، عندما يتجه الإنسان الاتجاه الإيماني في مسيرة حياته، ليوطن نفسه على الصبر، وليتخذ قراره الحاسم بذلك، هذه مسألة أساسية، الله "سبحانه وتعالى" يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل عمران: من الآية186]، في وصية لقمان لابنه أيضاً: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: من الآية17]، فهي من الأمور المعزومة، المحسومة، التي لا بدَّ منها، الأساسية المهمة، والبديهية والطبيعية في نفس الوقت، ليست كارثة.

وفي مجال الصبر فتح الله لنا المجال للعودة إليه، للالتجاء إليه، للاستعانة به، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، تستطيع أن تعود إلى الله "سبحانه وتعالى"، وأن تستمد منه أن يفرغ عليك المزيد من الصبر، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، تتفاوت المتاعب والظروف التي نصبر فيها، فنحتاج في بعضٍ منها أيضاً إلى المزيد والمزيد من الصبر، وقد تضيق نفس البعض في ذلك، الله فتح المجال على الدوام للاستعانة به، {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، تحتاج، أنت تحتاج إلى الله "سبحانه وتعالى" في ذلك، وفي الأدعية المهمة في القرآن الكريم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة: من الآية250]، في ميدان الجهاد، في ميدان الثبات على الإيمان، على الحق، {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}[الأعراف: من الآية126].

الصبر في الواقع الإيماني له علاقةٌ بالتوكل على الله "سبحانه وتعالى"، والثقة به "جلَّ شأنه"، الإنسان عندما يطمئن ويثق بالنتائج المرجوة التي وعد الله بها الصابرين، ينطلق فيصبر؛ لأنه واثق، لأنه مطمئن، لأنه على يقينٍ من أنه سيصل إلى تلك النتائج المرجوة العظيمة، فصدق التوكل ينتج عنه أيضاً الصبر، والتحمل؛ لأنك واثقٌ من النتيجة التي وعدك الله بالوصول إليها.

نجد في مسيرة حياتنا، في ظروف حياتنا، الفارق الكبير مثلاً بين العامل الذي هو واثقٌ بأن ذلك الذي يعمل معه سيسدده أجرته بشكلٍ كامل، وبدون أي مماطلة، وربما يزيده مكافآت إضافية على ذلك، وبين العامل الذي ليس واثقاً بأنه سيحصل على أجرته، وقد يتوقع أن يماطله ذلك الذي يعمل معه، أو قد يتنكر له وينكره، ويجحده حقه، فإذا أدَّى العمل، فيؤديه وهو في حالة من التردد، والاضطراب، وغير الاطمئنان، وبدون جد في العمل، على نحوٍ مختلف.

ففي الاتجاه الإيماني المؤمنون يتوكلون على الله، ويثقون، يثقون بالنتائج المرجوة التي وعد الله بها الصابرين، ولذلك يقول الله عنهم: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، هم يدركون قيمة صبرهم، نتائج صبرهم، ثمرة صبرهم، ليسوا يائسين، أو مترددين في جدوائية صبرهم، {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}[الرعد: من الآية22].

عندما نأتي إلى الغايات المرجوة من الصبر، والنتائج المهمة، التي تحدث عنها الله في القرآن الكريم، ووعد بها الصابرين في القرآن الكريم من عباده المؤمنين، نجد الكثير الكثير مما يحفزنا جدًّا على الصبر:

في بداية القائمة: معية الله "سبحانه وتعالى"، الله "جلَّ شأنه" يقول لعباده المؤمنين: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: من الآية46]، وهذا جامعٌ لكل خير، جامعٌ لكل فلاح، جامعٌ لكل نجاح، أساسٌ مهمٌ جدًّا لكل الغايات المرجوة، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، معهم، هو يعلم بأحوالهم، بمعاناتهم، بظروفهم، وهو المعين لهم، المؤيد لهم، المثبت لهم، الموفق لهم، الذي سيتولاهم برعايته الواسعة، سيحقق لهم في الأخير النتائج العظيمة، والغايات المرجوة، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، والإنسان لو لم يعتد بمعية الله، لم يحسب معية الله، فلم يصبر، فتراجع عن التزامه الإيماني، أو عن عمله في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، فهي حالة سيئة جدًّا، حالة بعيدةٌ كل البعد عن التقوى، ولا تنسجم أصلاً مع الإيمان، فكيف يفترض أن يكون الإنسان في مدى صبره، وهو يشعر أن الله معه، أنه ليس بمفرده في مواجهة المتاعب، والصعوبات، والتحديات، والمخاطر، أن الله معه، هو سنده، هو ملاذه، هو ملجؤه، هو نصيره، هو معينه؟ للمسألة أهمية كبيرة جدًّا على المستوى المعنوي، والصبر هو حالة معنوية في المقدِّمة.

مما وعد الله به الصابرين: محبته، وتكرر في القرآن الكريم قوله "سبحانه وتعالى": {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: من الآية146]، وهذا مكسبٌ كبير، مكسبٌ عظيم، أن تحظى أنت أيها الإنسان العبد الصغير الحقير الفقير بمحبة الله "سبحانه وتعالى"، ربِّ السماوات والأرض، ملك السماوات والأرض، الملك لهذا الكون بكله، المدبر لشؤون السماوات والأرض، الله "سبحانه وتعالى" ربنا العظيم، إلهنا العظيم، تحظى أنت بمحبته، وأن تكون في عداد أوليائه، بما يترتب على ذلك من الشرف الكبير، وبما يترتب على ذلك من الرعاية الواسعة، والتدبير الذي هو وفق محبة الله "سبحانه وتعالى"، من منطلق محبته لك، كم يترتب على المحبة من الله "سبحانه وتعالى" من النتائج العظيمة، في رعايته الواسعة، ومن الشرف الكبير.

أيضاً مما وعد الله به: الأجر العظيم، الذي يدخل تحته الشيء الكثير في الدنيا والآخرة، الله "سبحانه وتعالى" يقول في القرآن الكريم: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: من الآية96]، فالله "سبحانه وتعالى" لا يضيع معاناتك، لا يضيع جهدك الذي صبرت عليه، وصبرت فيه؛ إنما هو كله محسوب، لا يخفى على الله "سبحانه وتعالى" منه شيء، فتذكر هذا، تذكر إذا شعرت بشيءٍ من الملل، أو بشيءٍ من الضيق، أو بشيءٍ من التعب، أو بشيءٍ من التردد، أن جهدك لن يضيع، أن عناءك في طاعة الله "سبحانه وتعالى"، في سبيله لا تضيع، بل الله "سبحانه وتعالى" سيوفيك أجرك، وستحظى منه بالأجر العظيم، والمكافأة الكبيرة، هو يعلم بكل أحوالك، هو القائل "جلَّ شأنه": {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: من الآية10]، فالأجر على الصبر أجرٌ عظيمٌ وواسعٌ جدًّا، ويفوق كل تخيل، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، مثلما يقولون: [رصيد مفتوح] للصابرين، هذا أجر عظيم جدًّا، يفوق كل تخيلٍ.

تأتي أيضاً على المستوى العملي في النتائج العاجلة المرجوة في الدنيا في النجاح في الأعمال مرتبطةً بالصبر، في ميدان الجهاد في سبيل الله، والتصدي للأشرار والطغاة، في إطار تحرك المؤمنين في أداء مسؤولياتهم ليكونوا أمةً حرةً، عزيزةً، مستقلةً، متحررةً من سيطرة أعداء الله، متحررةً من سيطرة الطغاة الظالمين الجائرين المفسدين في الأرض، لا بدَّ من الصبر؛ لكي تنتصر، أي أمة تتحرك على هذا الأساس، تريد أن تكون حرةً على أساسٍ من هدي الله "سبحانه وتعالى" وانتمائها الإيماني، فيأتي الوعد من الله "سبحانه وتعالى" مقترناً بالصبر، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}[الأنفال: من الآية65]، تأتي الغلبة في الميدان مرتبطةً بمدى الصبر، بمدى الصبر.

في التصدي لكل مؤامرات الأعداء ومكائدهم، وكل أشكال عدوانهم، لا بدَّ من الصبر، وتقوى الله "سبحانه وتعالى" في فعل ما ينبغي، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}[آل عمران: من الآية120]، صبر مع العمل، مع التقوى، مع فعل ما ينبغي، ما يلزم في إطار المسؤولية، {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}[آل عمران: من الآية120]، تسقط- في نهاية المطاف- كل مؤامراتهم ومكائدهم، وتتلاشى، ولا تحقق النتائج التي أرادها الأعداء من ورائها.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية249]، فارتبط ذلك واقترن بمدى الصبر.

في الحصول على المدد الإلهي- كذلك- لا بدَّ من الصبر، {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}[آل عمران: الآية125]، كان هذا الوعد الإلهي للمؤمنين مع رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" مرتبطاً بالصبر نفسه.

في الغاية العامة التي تعبِّر عن كل نجاح، عن الظفر بالخير، عن الوصول إلى النتائج العظيمة والمهمة، مضى قوله "سبحانه وتعالى": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فقوله "جلَّ شأنه": {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، يعبِّر عن الوصول إلى النتائج العظيمة، عن العبور لتلك الظروف الصعبة والحساسة، والوصول إلى نتائجها المرجوة التي وعد الله بها، الوصول إلى النصر في ميدان الجهاد، الوصول إلى النتائج العظيمة على المستوى المعنوي، على مستوى ما يتحقق في الواقع، النتائج المهمة، ثم النتائج الكبرى والعظيمة في الآخرة، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

كذلك فيما يتعلق أيضاً بالفوز برضوان الله وجنته، والسلامة من عذابه، وهي الغايات الكبرى للإنسان المؤمن، لا بدَّ فيها من الصبر، ويتجلى في يوم القيامة وفي الجنة أيضاً القيمة العظيمة للصبر، تتجلى القيمة العظيمة للصبر، وحسن نتائجه العجيبة، والعظيمة، والمهمة، والكبيرة.

الله "سبحانه وتعالى" يقول مخاطباً لأهل النار، وهو يبين لهم كيف فاز أولياؤه، كيف فاز المؤمنون الصادقون الذين استجابوا له، بالرغم مما واجهوه في هذه الحياة (في الحياة الدنيا) من محاربة، من سخرية، من استهزاء، من عداء، من مشاق وصعوبات معينة، وتحديات معينة، فيقول الله "جلَّ شأنه": {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[المؤمنون: الآية111]، نتيجة عظيمة جدًّا، {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا}، بصبرهم، صبروا على السخرية، على الاستهزاء، على الدعايات، على المحاربة بكل أشكالها، على مواجهة الصعوبات والتحديات بكل أنواعها، لكن في الأخير فازوا، تحققت لهم أعظم نتيجة، تحقق لهم الفوز العظيم، الذي لا يماثله شيءٌ أبداً، {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}.

وحتى في تهنئة الملائكة للمؤمنين في قصورهم في الجنة، في مساكنهم في الجنة، بعد وصولهم إليها، وهي لحظات عجيبة جدًّا، أوقات عجيبة جدًّا، يعيشون فيها الفرحة الكبرى، والسعادة العظيمة جدًّا، بعد أن وصلوا إلى قصورهم في الجنة، ومساكنهم الطيِّبة في الجنة، فيقوم الملائكة بالزيارة لهم إلى مساكنهم في الجنة، يهنئونهم، ويباركون لهم بما وصلوا إليه، بهذا المستقر العظيم، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}[الرعد: من الآية23]، أفواج كبيرة من الملائكة تزورهم إلى كل منازلهم، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد: الآية24]، فهم يقولون لهم في السَّلام عليهم، في التهنئة لهم: أنَّ هذا هو نتيجة صبركم، فلاحظوا كيف كانت نتيجةً عظيمة، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، وصلتم إلى جنة الله، إلى السعادة الأبدية، إلى الحياة الهنيئة.

فالإنسان يرى حينها أنَّ كل عناءٍ يمكن أن يكون قد مرَّ به على المستوى النفسي، أو على المستوى الجسدي، هو لا شيء في مقابل تلك النتيجة العظيمة التي تحققت، والمكسب الكبير العظيم الذي ظفر به، وفاز به.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان: الآية12]، وتأتي التفاصيل في سورة الإنسان التي تتحدث عن ذلك.

فنجد كل هذه النتائج العظيمة الكبرى مغريةً على الصبر، مغريةً على الصبر، ونرى الصبر مسألةً طبيعية في ظروف هذه الحياة، ضمن الممارسات الاعتيادية التي يتمرن عليها الإنسان، بل إنه حتى قد يعتاد على الكثير من الأمور، يحتاج إلى الصبر في بدايتها، ثم فيما بعد ذلك يعتاد عليها، يكتسب قوة العزم، قوة الإرادة، قوة التجلد، قوة التحمل، وهذه مسألة واضحة في ظروف الناس وفي حياتهم، نجد الأكثر عطاءً الأكثر عملاً، الأكثر جهداً، والمستمرين على ذلك، قد تروَّضوا على القيام بالأعمال الكثيرة، والأعمال المهمة، إلى درجة أنهم لو تعطَّلوا عن ذلك سيشعرون من الفراغ، من القعود، من الجمود، بالملل، بالسآمة، بالضجر الشديد، أصبحوا يستحلون العمل والجهد، وأصبحوا في مستوى قدرتهم على العمل، جهدهم، تحملهم، متمرسين، متروِّضين، معتادين على الأعمال التي قد تصعب على الكثير من الناس الآخرين، الذين لم يتعودوا، لم يتمرَّنوا، لم يتروَّضوا على القيام بالأعمال.

عندما نأتي إلى الصبر كحالة قائمة في حياة البشر فيما يتعلق بالجوانب الإيمانية والعظيمة والمهمة، نجد النموذج العظيم في سيرة الأنبياء "عليهم الصلاة والسلام"، بدءاً من رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، الذي تكرر الأمر له بالصبر في القرآن الكريم، فصبر، واستجاب لله "سبحانه وتعالى"، صبر على أرقى مستوى، على مستوى راقٍ وعظيم، وتحمل الشيء الكثير؛ فوصل إلى مستويات عظيمة، وحقق النتائج الكبيرة.

يقول الله له في القرآن الكريم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}[القلم: من الآية48]، وهو يتحرك في الدعوة إلى الله، وفي تبليغ الرسالة، وفي إقامة دين الله، وفي هداية عباد الله، فيواجه بدءاً من مجتمع مكة- المجتمع الأول الذي تحرك فيه- التكذيب، والتهديد، والصد، والمعارضة، والدعايات الكاذبة، والتشويه، والسب... وكل أشكال المحاربة الدعائية والإعلامية، والتشكيك في كل ما يأتي به، وفي صحة رسالته... إلى غير ذلك، محاربة شرسة جدًّا، وإساءات بالغة، واستفزازات يومية، وإساءات متنوعة، ومضايقات كبيرة، فالله "سبحانه وتعالى" يقول له: {فَاصْبِرْ}، اصبر واستمر، واصل مشوارك، واصل عملك، فصبر "صلوات الله عليه وعلى آله"، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}، الذي استعجل.

نبي الله يونس "عليه السلام" الذي استعجل وغادر قومه قبل أن يكمل دوره في تبليغ الرسالة إليهم، ضاق من تكذيبهم، ووصل إلى اليأس من استجابتهم، تصور أنه قد أكمل ما عليه، وأدَّى ما عليه فذهب، فكانت قصته المعروفة في القرآن الكريم، عندما ركب في السفينة في البحر، ثم حصل أن ألقي في البحر، وابتلعه الحوت، ثم فرَّج الله عنه، وعاد لأداء مهمته، لكنه حصل له ما حصل نتيجةً لأنه لم يصبر بالمستوى المطلوب في الاستمرارية حتى يأذن الله له، فاستعجل قبل ذلك.

فالله يقول للنبي "صلوات الله عليه وعلى آله": {فَاصْبِرْ}، يقول له: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ }[يونس: من الآية109]، استمر، وواصل مسؤوليتك، والتزم بهذا: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}، اتبعه، حتى لو واجهت على ذلك الانتقادات، والإساءات، والحرب الدعائية، والحرب العسكرية... وكل أشكال المحاربة، لا يثنك ذلك، لا يصدك ذلك عن إتِّباع ما أوحى الله إليك، اصبر على ذلك، على كل ما تواجهه نتيجةً لذلك، {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ}، اصبر وستأتي النتيجة، سيأتي الفرج، الله سيحكم، مهما كان هناك من صعوبات، وتحديات، ومخاطر، ومعاناة، ومشاق، ومحاربة، ومؤامرات كثيرة، ومكر كبير من الأعداء، لكن ستصل إلى النتيجة.

يقول الله له: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}[الروم: الآية60]، فاصبر واستمر؛ لأن الله قد وعدك، وعدك بالنصر، وعدك بتحقيق النتائج الكبيرة، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}؛ لأن الذين لا يوقنون ييأسون، فيريدون التوقف في وسط الطريق، في وسط المسافة، قبل الوصول إلى النتيجة، يتململون، يضجرون، يسأمون، ييأسون، يفترون، يترددون، فتطلع لديهم المقترحات الخاطئة، التي هي في مضمونها عبارة عن التراجع، عبارة عن اليأس، عبارة عن الاستسلام، عبارة عن التوقف عن مواصلة الطريق المهم، العظيم، المقدَّس... وهكذا الذين لا يوقنون لأنهم لا يملكون اليقين؛ لم تتوفر لديهم الإرادة اللازمة للاستمرار، للتحمل، وللصبر بالتالي.

{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ}، فيستعجلونك، يستعجلونك إمَّا للتوقف، أو يستعجلونك أيضاً لاتخاذ خطوات لم يحن وقتها بعد، أو أعمال لم يحن وقتها بعد، حالة الاستمرارية وفق هدي الله "سبحانه وتعالى"، وفق المسيرة الحكيمة في التوجيهات والهداية الإلهية، لا بدَّ فيها من الصبر، فلا يحصل التسرع الذي لا ينبغي، ولا يحصل التراجع الذي لا ينبغي.

يقول الله لرسوله "صلوات الله عليه وعلى آله": {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: من الآية35]، حتى الرسل كان لا بدَّ لهم من الصبر، لا يمكن أن يكون هناك عمل عظيم، بنتائج عظيمة، ينال الإنسان من خلاله الشرف الكبير، والفضل الكبير، والأجر العظيم، وتتحقق له النتائج الكبيرة في واقع الحياة، في مسيرة الحياة، وتتحقق من خلاله المتغيرات التي يصنعها الله "سبحانه وتعالى"، والتحولات في الواقع إلى حدٍ كبير، من دون صبر، فالأنبياء والرسل هم القدوة في الصبر، صبروا، لم تكن المسألة: بما أنهم رسل، وبما أنهم أنبياء، أن تتحقق لهم كل النتائج دون حاجةٍ إلى الصبر، دون حصول ما يحتاجون فيه إلى الصبر، من: صعوبات، أو عناء، أو مشاق معينة، فيحظون بالدلال؛ لأنهم أنبياء، وتمشي لهم الأمور بدون أي مشقة، بدون أي عناء؛ لأنهم رسل، ولأنهم أنبياء، كان لا بدَّ لهم من الصبر على كل ما واجهوه من المعاناة في إطار مسؤولياتهم، وصبرهم كبير؛ لأن مسؤولياتهم ومهامهم عظيمة وكبيرة، والظروف التي واجهوها في واقع الحياة ليست ظروفاً عاديةً، ظروفاً كبيرة جدًّا، وتحدياتٍ كبيرة.

يأتي في القرآن الكريم على المستوى التفصيلي الإشارة إلى صبر الأنبياء، والحديث عن صبر بعضهم، وتقديم نماذج لنا نحن، نحن كمسلمين، كمؤمنين؛ لكي نستفيد منها في الصبر، يقول الله "سبحانه وتعالى" عن مجموعة من أنبيائه: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الأنبياء: الآية85]، هؤلاء من أنبياء الله الذين صبروا، حتى أصبح الصبر صفةً من صفاتهم المستمرة والثابتة، {الصَّابِرِينَ}، أصبحوا {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}.

إسماعيل "عليه السلام" الذي بلغ به الصبر إلى درجةٍ عاليةٍ من الاستعداد للتضحية والصبر عليها، عندما أتى الاختبار له ولوالده إبراهيم "عليهما السلام" في قصة الذبح، قال كلمته العظيمة لوالده: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات: من الآية102]، يعني: في الصبر على الذبح، يقول لوالده: إذا صدر الأمر من الله "سبحانه وتعالى" بذبحي أنا، فسأصبر إن شاء الله، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.

وهكذا يتحدث القرآن عن نبي الله يعقوب "عليه السلام" في محنته من أبنائه، في قصة ابنه نبي الله يوسف "عليه السلام"، وتكررت محنته مع أبنائه، فكان يقول لهم في كل مرةٍ منها: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[يوسف: من الآية18]، وصبر صبراً جميلاً، صبراً بوقار، ليس فيه كثرة التشكي، وكثرة الصراخ والصياح، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.

كذلك في قصة نبي الله يوسف "عليه السلام" عندما قال لإخوته في نهاية المطاف: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: من الآية90].

في محنة أيوب "عليه السلام"، يعني: نجد الصبر تجاه الأنواع المختلفة، من المحن، من المتاعب، من الصعوبات، من المشاق، من الآلام، نجد الصبر هو المهم جدًّا في كل الأحوال المختلفة والظروف المتنوعة، أيوب "عليه السلام" في محنته الصحية والنفسية، التي كانت صعبةً جدًّا، صبر، وحظي بشهادةٍ عجيبة قالها الله عنه "سبحانه وتعالى"، يقول الله "سبحانه وتعالى": {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}[ص: من الآية44]، هذا ثناءٌ عظيم من الله "سبحانه وتعالى"، أيوب "عليه السلام" دخل في اختبار تميز فيه وتبين فيه صبره، وخرج بنجاح من هذا الاختبار، وكان اختباراً صعباً، على مستوى معاناته الصحية في نفسه وبدنه، ولكنه صبر على شدة المحنة، شدة الألم، شدة المعاناة، طول المدة، فحظي بهذا الثناء العظيم: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص: من الآية44]، ونجد في الأخير كيف فرَّج الله عنه.

أيضاً كيف فرَّج الله عن نبيه يعقوب، كيف فرَّج عن نبيه يوسف "عليه السلام"، كيف فرَّج عن نبيه إسماعيل "عليه السلام"، وفداه بذبحٍ عظيم، تأتي النتائج نتائج طيِّبة للصبر، نتائج عظيمة، نتائج مبشرة، {نِعْمَ الْعَبْدُ} في الثناء على نبي الله أيوب "عليه السلام"، ثناء عظيم من الله "سبحانه وتعالى" أثنى عليه، ومدحه، وأشاد به، وأعطاه الجزاء العظيم، والخير الكبير في الدنيا والآخرة، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}.

نبي الله موسى "عليه السلام" في تحمله لمسؤوليةٍ كبيرة، وقيامه بدورٍ عظيم، في إنقاذ قومه من طغيان فرعون وقومه، فيما واجهه من صعوبات وتحديات، وصلت إلى الأمر من فرعون بقتل أبناء من يؤمن بموسى "عليه السلام"، ومن يستجيب له، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا}، الاستعانة بالله مع الصبر، {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف: من الآية128]، وفعلاً بالصبر، بالاستعانة بالله، والصبر، والاستمرارية في الاستجابة العملية، تحققت النتيجة، التي لربما كان الكثير منهم يائساً من حصولها، أنقذهم الله من تلك الوضعية الصعبة، وقال في الأخير: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}[الأعراف: من الآية137]؛ لأنهم صبروا فاستمروا في الاستجابة العملية، بالرغم من التضحية، والآلام، والمعاناة، وقتل الأبناء، واستحياء النساء، {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}[الأعراف: من الآية137]، فأنقذهم الله من تلك الوضعية الصعبة، وبعد مرور سنوات خرجوا إلى وضعٍ مختلفٍ تماماً، وفرَّج الله عنهم بشكلٍ تام، لكن هذا كان لابدَّ فيه من الصبر، كان لابدَّ فيه من الصبر.

الرعاية الإلهية التي تحظى الأمة المؤمنة فيها بالهداية الكبيرة، بأن يجعل الله لها دوراً بنَّاءً وعظيماً في واقع الحياة، لا بدَّ فيها من الصبر، أيضاً قال عن بني إسرائيل مع الأنبياء: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة: الآية24]، لما كانوا في مراحل معينة أمةً تصبر، توقن بآيات الله، الصالحون منهم، جعل الله منهم قادةً في المجتمع البشري، هداةً، يتحقق على أيديهم هذا الدور المهم جدًّا في واقع الحياة: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}، لكن كل هذا كان لابدَّ فيه من الصبر، {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}؛ لأن اليقين أيضاً ملازمٌ للصبر، لا يستمر الصبر إلا من أهل اليقين.

في المواصفات الإيمانية يأتي الوصف للمؤمنين بالصبر؛ لأنهم يستمرون عليه، يوطِّنون أنفسهم عليه، فيقول الله عنهم: {الصَّابِرِينَ}، في مقدمة مواصفاتهم كمؤمنين متقين، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: الآية17]، فتأتي صفة الصبر لتتصدر قائمة المواصفات، {الصَّابِرِينَ}.

يقول عنهم أيضاً: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ}[الأحزاب: من الآية35]؛ لأنه لا بدَّ من الصبر للجميع رجالاً ونساءً، في الواقع الإيماني لا بدَّ من الصبر حتى على مستوى الأسرة، الصبر في التضحية، الصبر في مواجهة المعاناة والمشاق في إطار النهوض بالمسؤولية، في التزام طاعة الله "سبحانه وتعالى"، يقول عنهم {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ}[الحج: من الآية35].

فنجد كيف هذه الصفة أساسية من الرسل والأنبياء، قال الله لنبيه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: من الآية35]، وصولاً إلى الواقع الإيماني، كما هي حالةٌ لا بدَّ منها في الاختبار، في الاختبار من الله "سبحانه وتعالى"، هو القائل "جلَّ شأنه": {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}[محمد: من الآية31]؛ حتى يتبين من يستمرون في صبرهم، فيواصلون أداء مسؤولياتهم، والقيام بواجباتهم، والثبات في موقف الحق.

ثم عندما نأتي إلى العواقب الوخيمة لعدم الصبر في الاتجاه الصحيح، عواقب خطيرة جدًّا:

في الدنيا: لا يتمكن أعداء الله من السيطرة على الناس، ويستحكم الظلم، ويتمكن الطغاة، ويعم الفساد، ويعم الشر، ويسود الباطل، إلَّا إذا فقدت الأمة صبرها في النهوض بمسؤولياتها التي ستحول دون ذلك.
لا يعاني الناس ويخفقون ويفشلون في حياتهم، في مختلف أمورهم المهمة، وفي مقدمتها: في أن يكونوا أمةً تتحرك وفق هدى الله "سبحانه وتعالى"، إلَّا إذا فقدوا الصبر، لم يصبروا.

فالعواقب التي تنتج عن عدم الصبر هي وخيمةٌ جدًّا في الدنيا، الأمة تعاني وتدفع كلفةً أكبر، ما قد يتحاشاه الناس من الصبر، من كلفة معينة، من ثمن معين، من تضحية معينة، يحصل ما هو أصعب منها، أكبر منها بكثير، بدون مقارنة، مع ذلٍ، وهوانٍ، واضطهادٍ، وضيمٍ، وقهرٍ، وعناءٍ شديد، وعناءٍ شديدٍ جدًّا، في حالة عدم الصبر.

وصولاً إلى دخول جهنم والعياذ بالله، ومكابدة الآلام الرهيبة، والعذاب الأليم الشديد، حيث لا يجدي الصبر، {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}[الطور: من الآية16]، يقال لأهل النار، هم حتى هم يقولون عن أنفسهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}[إبراهيم: من الآية21].
الصبر هنا في إطار العمل في طاعة الله "سبحانه وتعالى" هو مجدٍ، مثمر، له نتيجته العظيمة، له عواقبه الحسنة، له آثاره الطيِّبة، وهو متاحٌ وممكن مع الاستعانة بالله "سبحانه وتعالى"، ويقي الإنسان من الأمور الرهيبة، ومن أواخرها وعواقبها الفظيعة جدًّا والرهيبة جدًّا جهنم والعياذ بالله.

نكتفي بهذا المقدار...

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يجعلنا من الصابرين، الصابرين في طاعته، وفيما يرضيه، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، نسأله "سبحانه وتعالى" أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛

وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون


وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ..

مقال بقلم #مرتضى_الجرموزي 
نُشر بصحيفة #المسيرة العدد 1382 عدد الاثنين 10 رمضان 1443هـ الموافق 11 ابريل 2022م
يتحدث فيه الكاتب عن العجز والفشل الذي يكتسي تحالف العدوان ومرتزقتهم يقابلهم صمود وثبات ابناء #اليمن في مختلف مناحي الحياة 

https://twitter.com/aljrmuzi2022/status/1513312651014819847?t=NVj4pBj3gRM3fMpf1qrRKA&s=19
وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون
✍ أبو يحيى الجرموزي
سبعة أعوامٌ أستفحل العدو بشره وارهابه وعجرفته بحق ابناء اليمن وبلا هوادة أثخن بالقتل وأسرف بالحصار والتجويع دونما رحمة أو وازع ديني أو قيمي عاث الفساد والافساد وكال التهم وأجحف بها وسوق له قوانين وقرارات تجيز له افتعال المحرمات وقتل الانسانية لدوافع شيطانية خبيثة ومسميات واهية شرعنت له ما يقوم به في اليمن ومنذُ سبع سنوات بتواطؤ أُممي عالمي ومساعدة مباشرة بالقتل المتعمد والتدمير الممنهج والارتزاق الواضح والمهين في سبيل الشيطان من قبل مرتزقة ومنافقو الداخل اليمني الذين كانوا في يومٍ ما قادة ووزراء ومسؤولين على شعب ووطن ها هم اليوم يتمردون عليه ويشاركون في قتل وحصار ابناء جلدتهم كخونة ملعونين لم يرعوا جميل ثقة الشعب بهم وصبره على نظامهم وحكوماتهم المتعاقبة في نهب الثروات وتسليم القرار للخارج عنوة عن شعبهم وأُمتهم المغلوبة على أمرها.
ما بُني على باطل فهو باطل ولا خير فيه وان تقمص الدين وارتدى ثوب الوطنية والعفاف
قادة عسكرية وأمنية ووزراء ومسؤولين كانوا جميعهم على قلب رجل واحد ديدنه الخيانة منذُ نعومة أظافرة فكيف نؤمل فيهم الخير والصلاح وهم من خبزه وعجينته فخانوا الله والرسول وخانوا الدين والشعب والوطن تحت عناوين الحرية والتحرر من الكهنوتية والامامية كما يقولون وباسم الوطنية وضعوا أنفسهم ومقاماتهم الوظيفية والقبلية تحت أقدام أمر النفط الخليجي والقرار الأمريكي بشقيه اليهودي والنصراني.
وفي سبعة أعوام وتحت قيادة تحالف العدوان يقتاتون الدم اليمني يسرفون بالقتل والتدمير ولم يحصلوا على ذرة من بصيص أمل عولّوا عليه وراهنوا على السعودية والامارات ومن خلفهم أمريكا واسرائيل فكان العجز حليفهم والفشل أنيسهم والهزائم تلاحقهم من وإلى كل مكان وفي مختلف المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية فقد كان الفشل حاضراً في كل المناسبات جاثماً على واقعهم المخزي ووطنيتهم المشبوهة وعروبتهم المسلوبة.
يجد المتابع وير الصغير قبل الكبير الفشل الذريع الذي أكتسى ويكتسي تحالف العدوان والمرتزقة منذُ اليوم الأول للعدوان الى اليوم الذي شهد التدشين للعام الثامن توالياً للصمود الوطني اليمني في مواجهة المعتدين أي سبعة أعوام مضت وعام ثامن ها نحن في أيامه الأولى والذي شهد عمليات عسكرية وبرية كبيرة في العمق السعودي وفي الحدود حيث كانت عملية حرض شاهدة على عجز وتيهان العدو ومرتزقته فكانت عملية كبرى لا تقل شأن عن عملية كسر الحصار الثالثة التي جعلت العدو قيادة وادوات وأذناب يذعنون ويناشدون السلام من صنعاء السلام والحرب خاصة بعد مبادرة الرئيس مهدي المشاط والقاضية بإيقاف العمليات العسكرية إذا أوقف العدو حربه ورفع حصاره وكف يده عن الشأن اليمني.
وباستحياء وخجل وفرصة أستغلها السعودي ومن خلفه الأمريكي اعلن عن هدنة انسانية حد زعمه واوقف عملياته العدائية في اليمن خاضعاً ذليلاَ صغيراً لقوة صنعاء مذعناً للإرادة اليمنية الصلبة وتحت وقع الصفعات المدوية والهزائم المنكلة جنح للسلام واعلن الاستسلام وما كاد ليصل الى هذه الحالة لو لا القوة التي فرضها المجاهد اليمني الحافي في الميدان والمتوغل في البر والطائر قصفاً في الجو عبر القوة الصاروخية وسلاح الجو المسيَّر من غيَّروا المعادلة وفرضوا الجمع والضرب بالطريقة اليمنية التي ما خالها العدو ولا وضعها في حساباته.
ومع هذا الاجراء السعودي الأمريكي تجلى لنا كشعبُُ يمني مجاهد قوله تعالى في الظالمين والمعتدين اجراماً وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون.
فبمقدار قوتك وأحقيتك تكون واقع يهابك الأعداء مهما كانت قواهم وحشودهم
وبمقدار ثقتك بالله وعلاقتك به يكون الله معك ناصراً في سرائر الحياة وعلانيتها وسيأتي اليوم الذي تخضع فيه الجبابرة والطغاة للحق ولأهل الحق..

الأحد، 10 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية السابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية السابعة لقائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ 2022م:

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

مما ورد في القرآن الكريم في الآيات المباركة من سورة البقرة في الحديث عن فريضة الصيام، وتعيين شهر رمضان ليكون هو الشهر المحدد لأداء فريضة الصيام، كركنٍ من أركان الإسلام، وكفرضٍ أساسيٍ من فرائض الله "عزَّ وجلَّ"، أتى قول الله "سبحانه وتعالى": {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية185]، فشهر رمضان المبارك هو شهر نزول القرآن، الذي اتبدأ فيه نزول القرآن الكريم من خلال الوحي إلى رسول الله وخاتم أنبيائه محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وقد يكون- والله أعلم- هو بنفسه شهر البعثة بالرسالة إلى الناس، فتختلف الأقوال، البعض يعتبرون شهر البعثة هو شهر رجب، ولكن العجيب أنَّ أولئك الذين يعتبرون أنَّ شهر البعثة أنه شهر رجب، هم يعتبرون نزول القرآن في بداية البعثة، وأنه من خلال أول لقاء بالبعثة بالرسالة نزلت سورة اقرأ، هكذا يقولون هم، وهذا لا يستقيم؛ لأنه من المعلوم قطعاً أنَّ نزول القرآن الكريم ابتدأ في شهر رمضان المبارك، في ليلة القدر منه، كما قال الله "سبحانه وتعالى": {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية1]، فالإرسال قد يكون إذا كانت البعثة مترافقة مع نزول القرآن، أو ابتداء نزوله، في شهر رمضان المبارك، وهو شهرٌ مباركٌ، وشهرٌ عظيم، وهناك روايات عن أمير المؤمنين عليٍّ "عليه السلام" أيضاً تفيد ذلك، وعلى كلٍّ فمما لا شك فيه أنه إذا كان نزول القرآن الكريم متزامناً مع بداية البعثة بالرسالة؛ فستكون البعثة حتماً في شهر رمضان المبارك.

القرآن الكريم الذي أنزله الله في شهر رمضان المبارك، ثم شرع صيام هذا الشهر، وبيَّن لنا غايةً عمليةً أو ثمرةً عمليةً أساسيةً ومهمةً بالنسبة لنا هي التقوى، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: من الآية183]، فمما لا شك فيه أيضاً أنَّ هناك تلازمٌ تام ما بين تحقيق التقوى، وما بين الاهتداء بالقرآن الكريم؛ لأن من أول متطلبات التقوى هو الهدى، أن نعرف ونعلم ماذا نفعل؟ ما الذي فيه الوقاية لنا إن فعلناه؟ ما الذي فيه الوقاية لنا إن التزمنا به، من الأعمال، من الأقوال، من المواقف، من التصرفات؟ أيضاً كيف يأتينا من الهدى ما يساعدنا على تزكية أنفسنا؛ لأن من متطلبات التقوى: تزكية النفس، نحتاج إلى تزكية أنفسنا؛ لكي نتقي الله "سبحانه وتعالى".

ثم عندما نأتي إلى الجانب العملي، الجانب العملي لا يأتي هكذا بدون إرشاد، بدون تعليم، بدون معرفة، يحتاج الإنسان إلى معرفة ماذا يعمل؛ حتى يعمل، حتى يتحرك، وما الذي يجتنبه؟ ما الذي ينتهي عنه؟ ما الذي يحذر منه، مما فيه خطرٌ عليه، أو شرٌ عليه، أو عقابٌ له؟ ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى" فيما يتعلق بالتقوى والمتقين في علاقتهم بالقرآن الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: الآية2]، ويقول عنهم في آخر تلك المواصفات التي وردت في أول سورة البقرة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة: من الآية5]، فمن أساسيات ولوازم التقوى، هو: الاهتداء بالقرآن الكريم، والتحرك على أساسه، فبذلك تتحقق التقوى من خلال الالتزام عملياً بما يهدي إليه الله في القرآن الكريم، وبما للقرآن الكريم من أثرٍ تربويٍ عظيمٍ في تزكية النفس البشرية، يساعدها على الالتزام، يهيئها للعمل، ولما له من عطاءٍ تربويٍ أيضاً يتناسب مع الصيام في تحفيز النفس البشرية على الصبر، على التحمل، في توفير الدافع الإيماني الكبير، الذي يجعل الإنسان ينطلق بكل رغبة، بكل جد، بكل اهتمام، باستشعارٍ للمسؤولية، وبما يمثِّله أيضاً من صلةٍ بالله "سبحانه وتعالى"، يحظى الإنسان من خلالها بمعونة الله، بتوفيقه، فكل هذه الاعتبارات مأخوذةٌ بعين الاعتبار، كل هذه الحيثيات مأخوذةٌ بعين الاعتبار في أهميتها وتناسبها، والتلازم مع بين فريضة الصيام والقرآن الكريم في مسألة التقوى.

الله "سبحانه وتعالى" ضمن سنته في هداية عباده يرسل الرسل، وينزل عليهم الكتب، وهذه سنَّةٌ ماضيةٌ مع عباده، ترافق نزول الهدى ومسيرة الهداية للمجتمع البشري منذ بداية وجودهم، منذ آدم "عليه السلام"، الله هداه، وأتت الهداية مترافقةً مع بداية استخلافه على الأرض، ثم استمرت المسألة إلى خاتم النبيين في مسألة إرسال الرسل وإنزال الكتب، إلى خاتم النبيين محمد "صلوات الله وسلامه عليه على آله"، فبعثه الله بالرسالة إلى العالمين، رحمةً للعالمين، وأنزل عليه القرآن العظيم.

والقرآن الكريم هو نعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله بها علينا، نعمة الهداية بالرسول والكتاب هي أعظم النعم على الإطلاق، وهي مفتاح كل النعم، بدونها تتحول كل النعم إلى نقم، إلى وسيلة لاكتساب المعاصي، لاكتساب الآثام، إلى وسيلة للجناية على النفس، للجناية على المجتمع البشري، إلى وسيلةٍ للشقاء، إلى وسيلةٍ للإفساد في الأرض، إلى وسيلةٍ لإفساد الحياة، فالإنسان بحاجة إلى أن ترتسم له منهجية التعامل مع نعم الله عليه، وأن ترتسم له المسيرة الصحيحة لكيفية الاستخلاف في الأرض، التي يجمع فيها ما بين المبادئ والقيم الإلهية والإنسانية الراقية العظيمة، التي تنسجم مع كرامته الإنسانية، أو أن ينحرف عن ذلك، إذا لم يحصل على ذلك، أو لم يرتبط بهذه الصلة، بهذه الهداية، فيكون انحرافه سبباً لشقائه، سبباً لسوء تصرفاته، سبباً لكفرانه للنعم، سبباً للجناية على نفسه.

نعمة الله علينا بالقرآن الكريم هي نعمةٌ عظيمة، وهو كان المعجزة الرئيسية، من ضمن المعجزات هو المعجزة الرئيسية لرسول الله محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وقد عظمت نعمة الله "سبحانه وتعالى" أن حفظ النص القرآني للأجيال اللاحقة ما بعد عصر وزمن مبعث الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" وحركته المباشرة وحياته، من بعد وفاة الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" لو لم يَحفظ الله "سبحانه وتعالى"- بمعجزةٍ إلهية، بآيةٍ عجيبة- النص القرآني للأجيال اللاحقة؛ لكانت المشكلة خطيرة جداً في مسألة التحريف للنص القرآني؛ لأن التحريف فيما يقدَّم باسم الدين مسألةٌ معروفة، يعني: كل المسلمين يعرفون هذه الحقيقة، أنَّ هناك تحريفاً خطيراً حصل في نقل المعارف الدينية، وفي نقل المفاهيم الدينية، وفيما يقدَّم باسم الدين، حتى في المرويات عن رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، هناك الكثير من الأحاديث المكذوبة، التي لم تصح عن النبي "صلوات الله عليه وعلى آله"، وهناك الكثير أيضاً مما يقدَّم باسم الدين، باسم الإسلام، بصفة الشريعة، بمختلف العناوين الدينية، من المعروف أنه لا يصح باسم الدين، فمن المسائل المعروفة هي مسألة التحريف، ولكن الأمة متفقة على أنَّ النص القرآني محفوظ؛ لأن الله "سبحانه وتعالى" تكفَّل بحفظه، هو القائل في القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: الآية9]، فهو أكَّد أنه حافظٌ له بشكلٍ مستمر إلى يوم القيامة، وهذا ما حصل، على مدى كل هذه القرون التي مضت وانقضت، لا يزال النص القرآني محفوظاً، وسيبقى محفوظاً إلى نهاية أيام الحياة، إلى قيام الساعة، فهذه نعمة، نعمةٌ عظيمةٌ جداً لنا؛ لأنه وإن حاول البعض أن يحرِّف في المعنى، أو أن يحرِّف في المفاهيم، فالقرآن يفضحه، سلامة النص، وبقاء النص، وحفظ النص القرآني نعمةٌ عظيمة تفضح المتقوِّلين على القرآن، فهذه من النعم العظيمة علينا في هذا الزمن، وفي كل زمن، أنَّ الله حفظ القرآن الكريم من التحريف لنصه، نعمةٌ عظيمةٌ جداً، وبقي لنا إلى هذا الزمن، ويبقى ما بعد هذا العصر إلى نهاية التاريخ، إلى نهاية الوجود البشري.

القرآن الكريم هو من نور الله، من علمه، من حكمته، من رحمته، ولهذا يسمِّيه بالحكيم، يسمِّيه بالعظيم، يسمِّيه بالمجيد، يسمِّيه بالنور، يصفه بأنه رحمة، ويصفه بأنه هدى، وعندما نأتي إلى سوره المباركة، فمطلع كل سورةٍ منه- باستثناء سورةٍ واحدة- مطلعها وبدايتها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ ليبين لنا، وليرسخ فينا أنَّ كل ما في هذا القرآن الكريم من هداية، من إرشاد، من توجيه، من تعليمات، من أوامر، من نواهي، هي من منطلق رحمة الله بنا؛ لأنه الرحيم، الذي يريد لنا الخير، يريد لنا السعادة، يريد لنا الفلاح، يريد لنا النجاة، يريد لنا ألَّا نشقى، ألَّا نسبب لأنفسنا الخسران الرهيب، مظاهر رحمته في نعمه المادية التي أنعم بها عليها، ومظاهر رحمته وتجليات رحمته فيما كرَّمنا به في هذه الحياة كمجتمعٍ بشري، وفي خلقنا، معروفةٌ وواضحةٌ، وذكَّرنا بها أيضاً في القرآن الكريم كثيراً، وكذلك نحتاج كمجتمعٍ بشري إلى هداية، إلى تعليمات، إلى إرشاد، إلى نظام لمسيرة حياتنا، فقدَّم لنا ذلك من منطلق رحمته بنا، وكل ما فيه على هذا الأساس، وهذا ما يجب أن نبني عليه نظرتنا إلى القرآن الكريم، وإلى ما فيه، إلى ما فيه من تعليمات، من توجيهات، من أوامر، من نواهٍ؛ حتى لا ننظر إلى شيءٍ من مسؤولياتنا في القرآن، أو مما أمرنا الله به في القرآن، ووجهنا إليه، وأرشدنا إليه، إلى أنه يمثِّل مشكلةً لنا في واقع حياتنا، وكأنه يتنافى مع الرحمة، أو أن ننظر إلى شيءٍ مما حرَّمه الله ونهانا عنه وكأنه حرمانٌ لنا، يجب أن تكون نظرتنا صحيحة، من هذا المنطلق الذي نرى فيه كل ما أمرنا الله به رحمة، ونرى أنَّ كل ما نهانا الله عنه فمن منطلق رحمته بنا، فنثق، ونطمئن إلى هذا؛ لأن الإنسان بحاجة إلى ثقة بذلك، واطمئنان تجاه ذلك، مهما كان في بعض الأمور شيءٌ من شكل المشقة، أو الصعوبات، أو التحديات، فالصعوبات والتحديات والمشاق هي جزءٌ من حياة هذا الإنسان، لكن الحقيقة أنَّ اليسرى هي في طريق القرآن، في طريق الحق، أنها هي الأيسر، هي الأقل كلفة، وهي الأعظم والأحسن عاقبةً للإنسان، مهما كانت المشاق.

الله أيضاً يصف كتابه بأنه مبارك، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام: الآية155]، وهذه من أهم مواصفات القرآن، فهو كتابٌ مبارك:

مباركٌ فيما يتضمنه هو من الهداية الواسعة، من المعارف العجيبة، من سعة الهداية، ومن المعارف الواسعة جداً، ولذلك الإنسان كلما ارتبط بالقرآن أكثر؛ كلما توسعت معارفه، كلما ازداد حكمةً، كلما ازداد بصيرةً، كلما ازداد علماً، ولا يرى نفسه في مرحلة من المراحل مهما بلغ أنه قد استوعب ما في هذا الكتاب من النور، من الهدى، من العلم، من المعرفة؛ لأنه واسعٌ جداً، وفيه بركةٌ عجيبة في عطائه المعرفي.

ومباركٌ أيضاً في أثره التربوي، أثره عجيبٌ جداً في إصلاح نفس الإنسان، في تزكية النفس البشرية، في تأثيره الوجداني، تأثير عجيب، لا يصل إلى مستواه أي شيءٍ آخر، ولا أي بديلٍ آخر، في مستوى تأثيره الإيجابي في النفس البشرية، التي يكسبها الطمأنينة، يساعدها على التزكية، ينمِّي فيها ما فطرها الله عليه من مكارم الأخلاق، يزكيها مما قد تلوثت به، مما يتنافى ولا ينسجم مع فطرتها... وهكذا مباركٌ في عطائه التربوي.

مباركٌ أيضاً فيما يهدي إليه، فهو يهدي إلى ما فيه البركة، إلى ما فيه سعة الخير لنا، وعندما نتحرك على أساسه، على أساس ما فيه من التعليمات، على أساس هدايته، يبارك الله لنا في جهودنا، تكون جهوداً مثمرة، مباركة، آثارها، نتائجها، فاعليتها عالية، أكثر بكثير من مستوى إمكاناتنا، من مستوى قدراتنا؛ لأن البركة هي سعة تفوق مسألة الأرقام، مسألة الإمكانات، تفوق حجم الشيء الواقعي بزيادة، زيادةٍ من الله "سبحانه وتعالى".

فبركته أيضاً في النتائج، في الآثار، فيما يترتب عليه، وهذا يمثل إغراءً كبيراً للعمل بالقرآن؛ لأنه لا شيء آخر له هذه الميزة بهذا المستوى، بهذا المقدار، بركته عجيبة، الجهود التي تبذل لأمةٍ تتحرك على أساسه يباركها الله، فتأتي البركة في كل شيء: بركةٌ في الأعمال، بركةٌ في النتائج، بركةٌ في الآثار، بركةٌ في كل مجالات الحياة، الأمة التي تتحرك على أساسه، تهتدي به، تلتزم به، تستبصر به، تعي به، تنطلق على أساسه، تقف المواقف التي يرشد إليها، سيمنحها الله أيضاً البركة فيما يمنحها من الخيرات، في أرزاقها، فيما يكتبه لها من النصر، فيما يكتبه لها من الخير في كل شؤون حياتها.

مما وصفه الله به، أنه نور، القرآن هو نور، وتكرر الوصف له كثيراً في القرآن الكريم، من ضمن ذلك قول الله "سبحانه وتعالى": {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة: من الآية15]، وكذلك في قوله "سبحانه وتعالى": {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ}[إبراهيم: من الآية1]، يعني: إلى رسول الله محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[إبراهيم: من الآية1].

الحالة التي يكون الإنسان فيها بدون الهداية الإلهية هي حالة ظلمات؛ لأنه لا يبصر فيها الحقائق، لا يبصر فيها الخير بالفعل، لا يبصر فيها الطريقة الصحيحة التي بها فوزه، بها نجاته، بها سعادته، وتتكون لديه تصورات وتخيلات؛ وبالتالي ثقافات ومفاهيم خاطئة، فتمثل ظلمات تحول بينه وبين أن يرى الحقيقة كما هي، والحق كما هو، والخير كما هو، وتنعكس عنده الأمور في كثيرٍ من الأشياء، فيصبح لديه مفاهيم خاطئة، تصورات خاطئة، عقائد باطلة، أفكار خاطئة، وتشكل تلك الأفكار الظلامية حاجزاً يحجبه عن إدراك الحق والحقائق، عن إدراك الاتجاه الصحيح، فيتخبط في مسيرة حياته، في مواقفه، في أعماله، في قراراته، في تصرفاته، في سلوكياته، على المستوى الشخصي، أو على مستوى المجتمع الذي يتجه اتجاهاً بعيداً عن القرآن الكريم، يعتمد له نظاماً مخالفاً للقرآن الكريم، يبني مسيرة حياته على أساسٍ مناقضٍ للقرآن الكريم، فينتج عن ذلك انحرافات وحالة خطيرة جداً من التخبط.

فالقرآن هو نور؛ لأنه يقدم لك ما يضيء لك في واقع الحياة، فينير لك الدرب، ينير لك الطريق الموصلة فعلاً إلى الله "سبحانه وتعالى"، إلى خير الدنيا والآخرة، إلى الفوز العظيم، إلى النجاة من عذاب الله، إلى النجاة من الشقاء والخسران، ما يسمو بك، ولذلك هو يهدي، يهدي إلى الصراط المستقيم، فتتجه في مسيرة حياتك الاتجاه الصحيح الموصل إلى الغاية العظمى، إلى النتيجة الكبرى، إلى الفوز العظيم، وإلا كانت مسيرة الإنسان منحرفة، يتجه ويتخبط في هذه الحياة فلا يصل إلى النتيجة العظيمة، إلى الغاية العظيمة، إلى العاقبة الحسنة، وبعد شقاء الدنيا يكون مصيره- والعياذ بالله- إلى النار في الآخرة.

{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة: 15-16]، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[إبراهيم: من الآية1]، وتجلى ذلك في حركة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، كيف أخرج الناس من الظلمات، كم كان لديهم من العقائد الباطلة، التي يبنون عليها أمورهم العملية، كم كان لديهم من المفاهيم والتصورات الخرافية والجاهلة والخاطئة، التي تتسبب في ضلالهم على المستوى العملي، كم كان لديهم من سلوكيات وأخلاقيات منحرفة وبشعة، لا تنسجم مع الكرامة الإنسانية، لا تنسجم مع ما أراده الله للإنسان وكرَّمه به من السمو في أخلاقه، في رشده، في تصرفاته، فبمسعى رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، بتبليغه للرسالة الإلهية، بجهوده الكبيرة، بأدائه العظيم، الذي تجسدت فيه حكمة القرآن الكريم، وبركة القرآن الكريم، غيَّر الواقع الذي كان سائداً آنذاك، واقع الجاهلية بكل ما تعنيه، وانتقل بالمجتمع نقلةً عظيمةً، ونقلةً كبيرةً جداً، ترتب عليها نقلةٌ كبيرة في واقع حياة المجتمع العربي آنذاك، المجتمع العربي الذي كان في واقع حياته، في ظروف حياته، دون مستوى بقية المجتمعات، أولئك الأميون، يعرفون بالأميين، ليس لديهم ثقافة، أكثر ما لديهم خرافات، وأساطير، وضلالات، وجهالات، وحالة من الشتات والفرقة لا مثيل لها لدى غيرهم من الأمم، والتخلف في شؤون حياتهم بشكلٍ كبير، بالنقلة التي أحدثها الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وصلوا في أعلى مستوى في المجتمع البشري آنذاك، فسادوا بقية الأمم على وجه الأرض، نقلة في فارقٍ زمنيٍ بسيط، انتقلت بهم، وغيَّرت واقعهم تماماً، لو استمروا وواصلوا على ذلك، لما كان واقع حالهم على ما هو عليه اليوم.

{لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: من الآية1]، وهكذا أيضاً يبين لنا الله في القرآن الكريم عظمة كتابه، أنه كتابٌ عظيم الشأن، أحكمت آياته، تضمَّن الحكمة، وهو معجزةٌ للرسول "صلوات الله عليه وعلى آله"، قال الله عنه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: الآية88]، يعني: لو تعاونوا، وتظافرت كل جهودهم جنباً إلى جنب؛ لكي يأتوا بمثل القرآن الكريم، لا يستطيعون أن يأتوا بمثله أبداً، لا في إحكامه، ولا في نظمه، ولا في بلاغته، ولا في حكمته، ولا بمستوى ما فيه من الهداية، هدايته هدايةٌ عجيبة شاملة واسعة، بشكلٍ عجيبٍ جداً، وهو أرقى ما أعطاه الله للبشر، ليس لديهم شيءٌ يرقى إلى مستواه، في أفكارهم، في نظرياتهم، في مقترحاتهم، في تصوراتهم، في كل إنتاجهم الفكري والثقافي والمعرفي، ليس لديهم شيءٌ يماثل القرآن الكريم، في أي مجال من المجالات:

الرؤى السياسية: لا ترقى إلى مستوى ما في القرآن الكريم، ولا مقارنة، ليست شيئاً في مقابل ما في القرآن الكريم.

على المستوى الاقتصادي: النظريات، المقترحات، الدراسات، كل نتاجهم المتعلق بذلك من الرؤى والأفكار لا يساوي شيئاً في مقابل ما هو في القرآن الكريم، في أثره، في واقعيته، في نتيجته الطيبة، في مستوى ما يفيد به البشر.

وهكذا، على المستوى التربوي، على المستوى الاجتماعي، على المستوى... على كل المستويات.

والقرآن الكريم وردت أوصافه المتنوعة وأسماؤه المتعددة، التي أيضاً تبين لنا جوانب من عظمته وأهميته بالنسبة لنا، ويتجلى لنا مدى إنعام الله علينا بذلك:

من الأوصاف الأساسية للقرآن الكريم: الحكيم، وأتى القسم بالقرآن الكريم، والقسم به أيضاً يبين أهميته، وأنه نعمة وآية من آيات الله، {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس: الآية2]، قسمٌ بالقرآن وحكمة القرآن، وحكمة القرآن، القرآن هو حكيم، ما فيه حكمة، ما فيه من الهداية هو حكمة في مختلف المجالات، عندما يهدينا إلى شؤون حياتنا في أي مجال من مجالات الحياة: في المجال السياسي، أو المجال الاقتصادي، أو المجال الاجتماعي، أو المجال الأمني... أو في أي مجال من مجالات الحياة؛ لأنه كتابٌ يهدينا في حياتنا، في شؤون حياتنا، فيما يوصلنا إلى الله، وإلى رحمته، ويصلنا بفضله وكرمه ورحمته، والآخرة أيضاً، في الدنيا والآخرة، {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}، ومن أهم ما نحتاج إليه هو الحكمة؛ لأن البديل عن الحكمة هو الحماقة، والعشوائية، والتوجهات الخاطئة، والأفكار الخاطئة، والمفاهيم الخاطئة؛ وبالتالي التحرك على أساسها يكون تحركاً خاطئاً، مهما أخلص الناس وبذلوا من جهد.

ولذلك تتجلى لنا الخسارة الرهيبة للمسلمين عندما تركوا الاهتداء بالقرآن الكريم في كثيرٍ من شؤون حياتهم، وفي مجالات رئيسية من مجالات الحياة، كيف فقدوا الحكمة، فقدوا الحكمة، وأنتجوا، أو اكتسبوا، أو تقبَّلوا بدائل، بدائل عن حكمة القرآن، عن هداية الله في القرآن، مما هو ضلال، مما هو حماقة، مما هو غباء، مما سبب لهم التعاسة، العناء، الشقاء، مما كان له تأثيرات سيئة جداً في شؤون حياتهم.

مما ورد في القرآن الكريم: الوصف له بالمجد، وكذلك في سياق قسم أيضاً: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق: الآية1]، فهو قسمٌ بالقرآن ومجده، القرآن كتابٌ مجيد، الأمة إذا التزمت به، إذا اهتدت به في شؤون حياتها، تكتسب المجد لنفسها؛ لأن كل هداية الله في القرآن الكريم هي هدايةٌ تسمو بنا، ترقى بنا، تكسبنا الشرف، ليس فيها شيءٌ يحط المجتمع البشري، يسيء إليه، أو يسبب له الهوان، أو ينزل به إلى الدناءة والانحطاط.

 

القرآن الكريم كل ما فيه من هداية الله "سبحانه وتعالى" رفعة، عزة، شرف، سمو، وكذلك قوة، وبالتالي كل ما يتحقق به المجد للأمة، إذا سارت عليه، تكون أمةً مجيدةً، تكسب المجد لنفسها، أمةً تسمو، وتزكو، وتقوى، وتعظم، وتبتعد عن كل ما فيه الانحطاط، والدناءة، والسقوط، والضعة، وهذا من أهم ما تسمو إليه وتتوق إليه النفس البشرية الكريمة، التي بقي فيه كرامة، فهي دائماً تتوق إلى المجد، وتترفع عن الضعة، عن السقوط، والقرآن الكريم كفيلٌ، لو اتبعته الأمة الإسلامية واهتدت به بشكلٍ متكامل في مسيرة حياتها، أن يرقى بها لأن تسود بقية الأمم، وأن تقود المجتمع البشري، تقوده على نحوٍ صحيح، بما فيه الخير له، على أساسٍ من المبادئ والقيم الإلهية، التي تصلح بها الحياة، وتستقيم بها الحياة، ويسمو بها الإنسان، ويزكو بها الإنسان، فتحفظ للإنسان كرامته الإنسانية، ولكن هذا أيضاً لا يقتصر فقط على الأمة بشكلٍ كامل، أي مجتمع، أي أمةٍ من داخل الأمة تسير على هذا الأساس ستكسب المجد لنفسها.

مما ورد من أوصاف القرآن الكريم: العزيز، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}[فصلت: من الآية41]، القرآن الكريم أيضاً هو من تجليات عزة الله "سبحانه وتعالى"، هو عزيزٌ من حيث أنه لا يقبل شيئاً من الباطل، لا يقبل الاختلال في نظمه، وبلاغته، وحكمته، أحكمت آياته، فلا مجال للخلل فيها أبداً، وعزيزٌ في أن الله حفظ نصه، وبقي سليماً من الاختراق في نصه، وعزيزٌ أيضاً فيما يهدي إليه، ليس فيه رؤى سخيفة، أو أفكار باطلة يتبناها، هو يعرض أفكار الآخرين ويبطلها، يزهق باطلهم، يدحضها، يفندها، لكن هو عزيزٌ.

أيضاً في أثره التربوي، هو يربي على العزة، يربي النفس البشرية على العزة، ويسمو بها، يربي المجتمع الذي يهتدي به على العزة، ويقدم أيضاً من الهداية ما إن تمسكت به الأمة، أو تمسَّك به أي مجتمع من هذه الأمة؛ يعتز، ليس فيه أفكار، أو ثقافات، أو مفاهيم، أو تعليمات، أو توجيهات، تسبب للأمة الهوان والذلة، على العكس، مشكلة الأمة حين ذلت: أنها ابتعدت عمَّا في القرآن الكريم من هدايةٍ تعتز بها لو سارت عليها، لو اتبعت ذلك الذي ورد في القرآن الكريم والتزمت به.

 

{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}، فهو عزيزٌ في نفسه، عزيزٌ في عطائه، عزيزٌ في ما يهدي إليه، وما يهدي إليه فيه العزة.

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: الآية42]، وهو تنزيلٌ من الله الحكيم، ما يقدمه حكمة، ما يهدي إليه حكمة، ما يدعو إليه وفقاً لحكمته "سبحانه وتعالى"، والحميد، ما يدعونا إليه، ما يوجهنا به فيه الحمد، فيه الشرف الكبير، ليس فيه ما يخجل الإنسان، يحط من قيمته وكرامته الإنسانية، يسيء إلى إنسانيته، مثلما في كثير من الآراء والثقافات والمفاهيم الخاطئة، فيها ما يحط من كرامة الإنسان، من منزلته، يسيء إليه، يكون له تأثيراته السيئة عليه، وعلى واقع المجتمع كمجتمع.

والقرآن الكريم هو كتاب هداية، الوظيفة الرئيسية للقرآن الكريم الهداية، الله قال، كما تلونا في بداية المحاضرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، هداية، قال عنه: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}[المائدة: من الآية16]، قال عنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: من الآية9]، فما يهدينا إليه القرآن الكريم، هو هدايةٌ من الله "سبحانه وتعالى" للأقوم في كل شيء، للأرقى في كل شيء، للأنجح في كل شيء، للأفضل في كل شيء، فهو ليس فقط يقدِّم مثلاً الرؤية الصحيحة، أو الفكرة الصحيحة في موضوع معين، أو التعليم الصحيح تجاه موقفٍ معين، أو قضيةٍ معينة؛ إنما أحسن، أحسن، وأفضل، وأرقى، وأسمى، وخير ما يستقيم به الأمر في ذلك، أفضل ما يستقيم به الأمر في ذلك يقدمه لنا القرآن الكريم، يقدم شيئاً راقياً جداً وعظيماً، بحيث لا يستطيع بشرٌ أن يقدم ما هو أرقى من ذلك، أفضل من ذلك، أنجح من ذلك، أحسن عاقبةً من ذلك، أفضل أثراً من ذلك، يقدم الأرقى دائماً.

ولهذا من الخسران الكبير على المسلمين أن يبحثوا عن بدائل عن القرآن الكريم، وأحياناً بغرور، بنظرة إكبار وإعجاب إلى تلك البدائل التي هي- في أغلب الأحوال- ليست فقط دون مستوى ما يهدي إليه الله في القرآن الكريم، وإنما ليست شيئاً، ليست شيئاً مفيداً، ولا نافعاً، ولا صالحاً، ولا تستقيم به الحياة، يترتب عليه النتائج السيئة.

ولذلك عندما نتحرك في مسيرة حياتنا، نريد أن نقف موقفاً، الطريقة الصحيحة أن ننظر ما الذي يهدي إليه الله في القرآن الكريم، فنقف الموقف الذي يهدي إليه، وبكل ثقة، بكل اطمئنان، في مواقفنا نعتمد على القرآن الكريم، في ولاءاتنا لنعتمد على القرآن الكريم، في نظم شؤون حياتنا في المجال الاقتصادي لنعتمد على القرآن الكريم بثقة، ما الذي يثنينا عن ذلك؟! ما الذي يصرفنا عن ذلك؟! ما الذي يبرر لنا أن نبحث عن بدائل تخالف القرآن الكريم، وتتناقض معه؟!

فعندما نفهم أن القرآن الكريم كتاب هداية، لنعتمد عليه في كل مسيرة حياتنا، بدءاً من الجانب الإيماني، الجانب الإيماني الذي نحتاج إلى تنميته، يعتمد في بداية الأمر وفي أول شيء على معرفة الله "سبحانه وتعالى"، نحن كعالمٍ إسلامي تنقصنا المعرفة بالله، وكان لهذا آثار سلبية علينا في مدى ثقتنا بالله، اعتمادنا على الله، حتى في علاقتنا بالقرآن، والقرآن يعالج لنا هذه المشكلة، القرآن الكريم في أهميته وأثره العظيم فيما يتعلق بمجال معرفة الله أن الله قال عنه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: الآية21]، لو نزل القرآن على جبلٍ واستوعبه، لخشع من خشية الله إلى أرقى مستوى، لبلغ في معرفته بالله، وبالتالي في خشيته من الله، إلى درجة أن يتصدع، وأن يظهر عليه الخشوع، {لَرَأَيْتَهُ}: يتجلى ويظهر في حاله إلى درجة التصدع من خشية الله "سبحانه وتعالى"

فالقرآن الكريم كفيلٌ في عطائه في هذا المجال (في مجال معرفة الله "سبحانه وتعالى") أن يرتقي بك في معرفتك، وبالتالي في إيمانك بالله، وثقتك بالله، وخشيتك من الله، إلى مستوى عظيم، ولا يماثله شيءٌ في ذلك، وهو من أهم ما نعود فيه إلى القرآن، وما ينبغي علينا أن نعود فيه إلى القرآن الكريم، وأن نركز عليه في القرآن الكريم.

كما أسلفنا فيما يتعلق بأثر القرآن على المستوى التربوي، الله قال "جلَّ شأنه": {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: من الآية82]، (مَا هُوَ شِفَاءٌ): شفاء للنفس البشرية مما قد تلوثت به، تدنست به مما يتناقض مع فطرتها، مما يؤثر سلباً على فطرتها، القيم الخيّرة، الصفات الحميدة، مكارم الأخلاق، في منابع الفضيلة والخير، مختلف أنواع الفضائل هي موجودةٌ في الفطرة البشرية، فطر الله الناس عليها، ولذلك الإنسان يقر بهذه الحقيقة، يتبناها بشكلٍ كبير في مسيرة حياته، حتى العناوين تبقى عناوين عند الجميع، وإن لم تكن على مستوى المصداقية قائمةً لدى الكثير.

فالإنسان بحاجة إلى القرآن الكريم على المستوى التربوي، هو يربي نفسية الإنسان تربيةً راقيةً عظيمة، ويسمو بها، ويحيي فيها وينمي فيها ما أودعه الله في فطرتها من مكارم الأخلاق، من الفضائل، من المعاني العظيمة التي ميزت الإنسان، وأكسبته الكرامة، وتعزز من دوره، وتهيئ له أيضاً أن يندفع في مسيرة حياته في الأعمال الصالحة، في المواقف الصالحة، في الاتجاه الصحيح، برغبة كبيرة، بقناعة تامة؛ لأن القيم العظيمة وزكاء النفس يساعده على ذلك، فينطلق ملتزماً، يمقت مساوئ الأخلاق، يكره الرذائل، نفسه عزيزة، نفسه كريمة، تترفع عن الأشياء السيئة والمنحطة والدنيئة، تترفع عن الذلة والهوان والخزي، تنسجم مع ما فيه الخير، مع ما يحقق له كرامته الإنسانية.

من المهام الأساسية للقرآن من خلال الرسول: {وَيُزَكِّيهِمْ}[البقرة: من الآية129]، "صلوات الله على رسول الله وعلى آله" هو كان يزكي بالقرآن، بهداية القرآن، تعليمات الله في القرآن.

من أهم ما يجب أن نستفيده من القرآن، وأن نهتدي من خلال القرآن الكريم إليه، هو: تحديد مسؤولياتنا كأمةٍ مسلمة: أولاً المسؤوليات كمجتمع بشري، ما هو دورنا، لماذا استخلفنا الله في الأرض، كيفية هذا الاستخلاف، وما يحقق لنا النجاح فيه في الدنيا والآخرة، في عواقبه في الآخرة، ثم على مستوى مسؤولياتنا والتزاماتنا الأخلاقية، والدينية، والإيمانية، التي حددها الله في القرآن الكريم؛ لأن البعض يرسخ في أوساط الناس أننا أمة بلا مسؤولية، ليس لدينا التزامات ولا مسؤوليات، أمة تبقى هكذا خاضعة، تقودها بقية الأمم، تتدخل في شؤونها بقية الأمم، تتحكم فيها بقية الأمم، ليس لها هدف، ليس لها رسالة، ليس لها دور عالمي، ولا دور حتى في واقع نفسها، وإنما تبقى هكذا على ما هي عليه في هذا العصر، وهذه كارثة، الله "سبحانه وتعالى" يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: من الآية110]، وحتى بتفسير أن الآية تعني في المقدمة وبشكلٍ رئيسي أخيار هذه الأمة وصفوتها، لكن على أساس أنهم يقودونها ويسيرون بها في مسؤوليتها، يعني: مسؤولية هي هذه المسؤولية في الأساس، وإن كان الذي يضطلع بهذا الدور في الحركة بالأمة على أساسه أخيار هذه الأمة، وصفوتها، الصالحون منها.

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، لديكم مسؤولية، مسؤولية عالمية تتحركون فيها، {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، هذه رسالتكم، المعروف الذي يحارب، المعروف في كل المجالات، الذي يُغيّب، ويحل بدلاً عنه المنكر وأهل المنكر، {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.

مسيرة إيمانية، فيها مسؤولية عالمية، مسؤولية كبيرة، بدءاً من داخل الأمة، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية104]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: الآية54]، فنحن أمة لديها مسؤوليات، ليست المسألة أن نبقى في قرانا ومساجدنا وبيوتنا، ومن منزلك إلى مسجدك، وليس لك دُخل في أي شيء، وأنت منعزل عن واقع هذه الحياة، وما يجري في هذه الحياة، وما يحدث في واقع هذه الحياة، أنت كمنتمي للإسلام مكلف بأن تكون ضمن أمة تحارب الظلم، تحارب الفساد، تحارب الطغيان، تتصدى للمنكر، تتصدى للشر والأشرار، تصلح في أرض الله، تصلح عباد الله، مسؤولية جماعية ومسؤولية مهمة، والقرآن يهدينا إلى مسؤولياتنا، يعرِّفنا بها، يؤكد لنا عليها، وعمَّا يترتب عليها، وعن خطورة الإخلال بها، ويهدينا إلى ما يبنينا لنكون في مستوى النهوض بهذه المسؤوليات، ما يبنينا معرفياً، ثقافياً، تربوياً، ما يبنينا على المستوى العملي، ما يبنينا على المستوى العملي، كيف نتحرك للنهوض بهذه المسؤولية، ونقتدي برسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" في طريقته، وفي مسيرته، وفي حركته بالرسالة الإلهية، وفي بناء الأمة.

من أهم ما نهتدي به في القرآن الكريم- وخسرت الأمة كثيراً؛ لأنها غيَّبته- الهداية في مجال الوعي عن الأعداء، وعن التحديات، وعن المخاطر، وهذا مما حصل فيه جهلٌ رهيب، وغباءٌ كبير، وانحرافات كارثية، وسياسات خاطئة للغاية، إلى حد كارثي، أوقع الأمة في مآزق، وهوى بها إلى الأسفل، ومكَّن أعداءها منها، وتكبَّدت الأمة بسببه خسائر رهيبة للغاية، فقدت الوعي عن الأعداء، من هم الأعداء؟ القرآن يحدد لك من هو العدو، وهذا من أهم ما تحتاج إليه الأمة؛ لأن هناك عملية تضليل كبيرة في داخل الأمة عمَّن هو العدو، ومن هو الصديق، من هو العدو؟ القرآن يحدد لك منهم أعداؤك كمسلم، ولماذا هم أعداؤك، وعلى أي أساس، ما هي حقيقة مشكلتك معهم، ومشكلتهم معك، حديث واسع في القرآن الكريم، وحديث واسع عمَّا يبني الأمة للتصدي لمخاطر الأعداء، حديث عن طبيعة نشاط الأعداء، طريقتهم في استهداف الأمة، الأسلوب الصحيح لمواجهتهم، مجالات المواجهة معهم، حديثٌ واسعٌ جداً فيه ما يكفي ويفي لدرء الأخطار عن هذه الأمة، ولتكون في منعة من أعدائها، وعزة، وعلى قاعدةٍ مهمة أوردها الله في القرآن الكريم، هي قوله "سبحانه وتعالى": {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ}[النساء: من الآية45]، أعلم بهم من هم، أعلم بهم كيف هم، أعلم بهم ماذا يفعلون، ما هي سياساتهم، ما هي أساليبهم، أعلم بهم كيف هو مستوى خطورتهم عليكم، أعلم بهم ما هي نقاط الضعف لديهم، ما هو الأسلوب الصحيح في مواجهتهم، ما هي السياسات الحكيمة والراشدة والمثمرة والمفيدة تجاههم... وهكذا، (أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) دائرة واسعة تشمل كل ما يتعلق بالعدو، وما يتعلق بنا تجاه العدو.

من أهم ما يتعلق بالقرآن الكريم- وسبقت الإشارة إليه- الحكمة، أنه كتابٌ حكيم، إلى درجة أن يوصف بالحكيم، {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}[الإسراء: من الآية39]، كل ما يهدينا الله فيه إليه من الأعمال، أعمال حكيمة، من التصرفات، تصرفات حكيمة، من السلوكيات، من المواقف، من... كل ما فيه على هذا الأساس، يجعل منا أمةً حكيمة، راشدةً في فكرها، مستقيمةً ومتوازنةً في أعمالها ومواقفها وسياساتها، الإنسان بحاجة إلى هذا على المستوى الشخصي، والأمة كأمة وكمجتمع.

ومع كل مزاياه العظيمة التي هذا جزءٌ يسيرٌ منها، مزاياه أكبر وأعظم، فقد يسَّره الله للذكر، عندما نتلو القرآن الكريم بتدبر، بتأمل؛ نستفيد، بدايةً مما يقدِّمه بشكلٍ واضحٍ جداً، وبشكلٍ بديهيٍ وسريع، من اللحظة الأولى، بأدنى تأمل، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر: الآية17]؛ إنما كيف نلتفت إلى واقعنا ونحن نتأمل القرآن، ونقيِّم واقعنا على هذا الأساس، هدايته واسعة، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}[الروم: من الآية58]، ولا يتحقق للأمة أن تصلح واقعها، إلَّا إذا تمسكت به، واهتدت به، وسارت على أساس هديه، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف: الآية170]، طريق الإصلاح للنفس، طريق الإصلاح لواقع المجتمع، طريق الإصلاح في حالة الأمة، لكل ما قد تخرَّب في داخل هذه الأمة، هو عن طريق القرآن الكريم، والتمسك به، والاهتداء به.

الحديث عن القرآن الكريم يمكن أن يطول كثيراً، لكن من خلال التلاوة، من خلال الاهتمام بثقافته، الإنسان يستفيد أكثر وأكثر، وتتعزز علاقته بالقرآن أكثر وأكثر، والأهم من كل ذلك: ما يمنحك الله من خلال إقبالك إلى القرآن من الاهتداء به، والأنس به، والاستيعاب- ولو إلى حدٍ ما- لعظمة هذا الكتاب وأهميته.

نكتفي بهذا المقدار...

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يهدينا بكتابه، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛




المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ -2022م

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من ضمن الآيات المباركة التي أتت في سياق الحديث عن فريضة صيام شهر رمضان- الآيات المباركة في سورة البقرة- أتى قول الله "سبحانه وتعالى": {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: الآية186].

الدعاء في الحالة الإيمانية هو من لوازم الإيمان، وجزءٌ مما يعبِّر به الإنسان المؤمن عن إيمانه، فالدعاء يعبِّر عن إيمانك بالله "سبحانه وتعالى" أنه الحي القيوم، أنه المدبر لشأنك، وشؤون السماوات والأرض، وشؤون الخلائق أجمعين، أنه الرحيم الكريم، أنه أرحم الراحمين، أنه سميع الدعاء، أنه المنعم المتفضل، أنه الملاذ والملجأ، الذي تلجأ إليه، وتلوذ به، وتفر إليه من كل هموم هذه الحياة، ومن كل التحديات والمخاطر فيها.

ومن جانبٍ آخر، هو يعبِّر ويدل على تذكُّرك لله "سبحانه وتعالى"، أنك ذاكرٌ له، لست غافلاً عنه، لست ناسياً له، الحالة البديلة عن الدعاء لله "سبحانه وتعالى"، هي: حالة النسيان لله، والالتجاء إلى غير الله "سبحانه وتعالى"؛ لأن الإنسان هو عبدٌ ضعيفٌ مفتقرٌ دائماً، يحتاج إلى العون، يحتاج إلى الرعاية، يحتاج إلى المساعدة، هو إمَّا أن يكون متوجِّهاً إلى الله "سبحانه وتعالى"، وإلَّا كان البديل أن يتوجه إلى غير الله، إلى أمثاله من العبيد الضعفاء المحتاجين، الفقراء إلى الله "سبحانه وتعالى".

وهو أيضاً يعبِّر عن رجائك كإنسانٍ مؤمن، أنك ترجو الله، ترجو رحمته، ترجو فضله، تثق به، تتوكل عليه، أنك منيبٌ إليه، توَّابٌ إليه، رجَّاعٌ دائماً في كل المهمات والملمات، وفي كل الأحوال والظروف، إلى رحمته وكرمه وفضله، فالدعاء موقعه من الإيمان هذا الموقع المهم جدًّا، والذي لا بدَّ منه في الحالة الإيمانية.

في إطار الحديث عن صيام شهر رمضان المبارك في الآيات المباركة من سورة البقرة، أتت هذه الآية المباركة، بهذا التعبير الرقيق، الذي يعبِّر عن رحمة الله "سبحانه وتعالى"، وعن كرمه، وعن فضله، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، الله "سبحانه وتعالى" هو القريب من عباده، يعلم بكل أحوالهم وظروفهم، ويسمع دعاءهم ونداءهم، يَذْكُر من ذَكَرَه، ويَشْكُر من شَكَرَه، وهو "سبحانه وتعالى" يجيب الدعاء، يسمع الدعاء، ويجيب الدعاء، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، ويَسَّر لعباده مسألة الدعاء، فليست مسألةً معقَّدةً في وسائلها، وليست مسألةً ترتبط بأشخاص محددين فقط، يَسَّر المسألة إلى هذا المستوى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فهو يجيب كل من دعاه إذا دعاه،وفق حكمته ورحمته "سبحانه وتعالى" وتدبيره، وهو الحي القيوم، ووفق ما يتعلق أيضاً بأحوال الداعي إذا دعا، وهو ما نتحدث عن بعضٍ منه على نحوٍ مختصرٍ إن شاء الله.

في مسألة الدعاء، الدعاء حالةٌ مطلوبةٌ من الإنسان في كل الأحوال؛ لأنها- كما قلنا- جزءٌ من إيمانه، ومن التزاماته الإيمانية، ومن اهتماماته الإيمانية، تعبِّر عن عمق علاقته بالله "سبحانه وتعالى"، فهي حالةٌ مطلوبةٌ في العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء، وفي مختلف الحالات، وفي مختلف الظروف، وفي مختلف الأوقات، فالإنسان المؤمن لا يغفل عن الله بشكلٍ مستمر، لا يبقى في حالةٍ من الغفلة والنسيان والإعراض، وينكفئ على نفسه في همومه، في مشاكل حياته، في آماله ورغباته، في متطلبات حياته، كل شيءٍ في واقع حياته يشده إلى الله، حالة اليسر تشده إلى الله، وحالة العسر كذلك، حالة الرخاء تشده إلى الله، وحالة الشدة كذلك، الاهتمامات التي لديه المتعلقة بإيمانه ودينه ومستقبله في آخرته تشده إلى الله "سبحانه وتعالى"، وظروف وشؤون حياته هذه، بكل ما فيها من هموم ومشاكل ومعاناة، وبكل ما فيها من يسرٍ وخيرٍ، تشده إلى الله "سبحانه وتعالى"، فهو ذلك الذي يلتجئ إلى الله دوماً، ويتوجه إليه بالدعاء في كل الحالات، كل شيءٍ يشده إلى الله، يدفعه إلى الدعاء لله "سبحانه وتعالى".

البرنامج العبادي في الذكر والصلاة يشده إلى الله "سبحانه وتعالى"،الأوقات المباركة، الأوقات المميزة، التي تعتبر فرص الاستجابة فيها أكثر، من أهم الأوقات عند الإنسان المؤمن التي يحاول أن يقتنص الفرصة فيها، وألَّا تفوته الفرصة فيها، فهو أيضاً يبحث عن تلك الأوقات، وهو أيضاً يحرص عليها، يحرص على المناسبات، على الأعمال؛ لأنهناك من الأوقات، ومن الأعمال، ومن الحالات، ما تكون فرصة الاستجابة فيها للدعاء أكثر، فهو يحرص على تلك الأوقات المميزة، الحالات المميزة، ومنها:شهر رمضان، ومنها: ليلة القدر أيضاً في داخل شهر رمضان، ومنها: العشر الأواخر في شهر رمضان، ومنها: الأوقات المباركة على الدوام، مثل: أوقات السحر، أوقات آخر الليل، مثل: عقب الصلوات... أوقات متعددة تعطى فيها للإنسان فرصة أن يدعو الله "سبحانه وتعالى"، وأن يحظى بالاستجابة من الله "سبحانه وتعالى".

ففي الآية المباركة يأتي الحث والترغيب في الدعاء، ما أكرم الله! ما أعظم رحمته وفضله! هو الذي يدعونا أن ندعوه، هو الذي يحثنا على أن ندعوه، هو الذي يرغِّبنا في أن ندعوه، ويعدنا بالاستجابة، ويرشدنا إلى أسباب الاستجابة، ويحذِّرنا من العوائق التي تمثِّل مشكلةً لنا وعائقاً في أن نحظى بالاستجابة.

في هذه الآية المباركة هو يقدِّم هذا العرض المبارك منه "سبحانه وتعالى"،يعرضه علينا، ينادينا، ويدعونا، ويرغِّبنا، هل نريد أكثر من ذلك؟! إلى درجة أن يعد هذا الوعد بالاستجابة: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، والله يريد من كل عباده أن يدعوه، وليس فقط أن يتصوروا أنَّ هذه المسألة خاصةٌ بمن بلغوا منتهى الصلاح منهم، أو بلغوا أعلى مستويات الإيمان منهم، الكل عليهم أن يتوجهوا إلى الله "سبحانه وتعالى" بالدعاء، وأن يحرصوا- في نفس الوقت- على أسباب الاستجابة.

في آخر الآية المباركة قال "جلَّ شأنه":{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، إذا أردنا أن يستجيب الله دعاءنا، ووفق حكمته، وتحت سقف حكمته، وبمقتضى ما يدبِّره "سبحانه وتعالى"؛ لأنه الحي، القيوم، الرحيم، عالم الغيب والشهادة، الأعلم بمصلحتنا منا، الأعلم بما فيه الخير لنا حتى منا، إذا أردنا أن نعرف أسباب الاستجابة، فلنلحظ قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي}، فلنستجب لله "سبحانه وتعالى"، ولنؤمن بالله "سبحانه وتعالى" إيماناً ثمرته الثقة بالله، التوكل على الله، الرجاء الصادق في الله "سبحانه وتعالى"، هذا الإيمان وهذه الاستجابة هي ما ينقصنا كثيراً في واقعنا، وهي ما يؤثِّر علينا، إلى درجة أن يتساءل الإنسان: [لماذا أدعو فلا يستجاب لي في أكثر الأمور؟]، هناك نقصٌ كبير في مسألة الاستجابة، الاستجابة الجزئية التي هي الحالة الغالبة السائدة في مجتمعنا الإسلامي، في واقعنا بشكلٍ عام، مع إهمال لأشياء أساسية لا تحصل الاستجابة فيها من جانب الناس، من جانب مجتمعنا الإسلامي، من جانبنا لله "سبحانه وتعالى"، هي تمثل مشكلةً كبيرةً علينا.

المطلوب في الاستجابة أن تكون استجابةً شاملة، أن نستجيب لله "سبحانه وتعالى" في مختلف التزاماتنا الإيمانية: في الجانب السلوكي، في الجانب الأخلاقي، في الجانب الروحي والعبادي، في جانب المسؤوليات التي حددها الله لنا، ورسمها لنا... في مختلف الجوانب، أن نتجه، أن يكون هذا هو التوجه الأساس نحو الاستجابة الشاملة، مع التوبة والإنابة إلى الله عند الزلل، عند التقصير، عند التفريط في شيءٍ ما، والرجوع العملي إلى الله "سبحانه وتعالى".

عندما يكون التوجه نحو الاستجابة الكلية، الشاملة، المتكاملة، حالة قائمة في واقعنا، ونسعى لأن نبادر إلى تلافي أي تقصير، وأن نرجع إلى الله عند كل زلل، فالله هو أرحم الراحمين، هو أكرم الأكرمين، هو ذو الفضل الواسع العظيم، هو الذي لا يخلف وعده أبداً، لا يخلف الله وعده، والذي يفي بما وعد به، وهذه مسألة مهمة جدًّا، من ضمن الاستجابة أن نستجيب لله في الدعاء نفسه، أن نتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأن هذا مما أمرنا به، ورغَّبنا فيه، ووجَّهنا إليه.

أيضاً من ضمن الاستجابة الكاملة والشاملة: الاستجابة أيضاً في الأسباب العملية، يرتبط بالدعاء الأسباب العملية، ليس الدعاء بديلاً عن العمل، الدعاء في الحالة الإيمانية مرتبطٌ بالعمل، مبنيٌ على أساس الانطلاقة العملية، والاستجابة العملية، مثلاً: لا يمكن بأن نكتفي بالدعاء بأن ينصرنا الله على أعدائنا فحسب، ونتنصل عن مسؤولياتنا العملية التي ترتبط بالنصر، فالله تعالى يقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]،{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: من الآية46]... وهكذا تأتي تعليمات وتوجيهات كثيرة ترتبط بهذه المسألة، فنأتي في حالة الاستجابة الكاملة إلى الأخذ بهذه الأسباب العملية، وندعو الله، ندعوه بأن ينصرنا، {وَانْصُرْنَا}، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية147]، ندعوه "سبحانه وتعالى" من ميدان العمل، في إطار الأخذ بالأسباب العملية.

في مسألة الرزق: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك: من الآية15]،{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة: من الآية10]، {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا}[النساء: من الآية32]، الأخذ بالأسباب العملية، ومع الأسباب العملية يأتي الدعاء أيضاً.

ففي إطار الفرص المميزة لاستجابة الدعاء، يأتي شهر رمضان المبارك، وتأتي هذه الآية المباركة، التي تلفت نظرنا إلى هذه الفرصة، وإلى أهمية المسألة بشكلٍ عام، ويأتي في آخرها قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وما أحوجنا إلى الرشد! ما أحوجنا إلى أن نهتدي إلى الخير في شؤون ديننا ودنيانا، في شؤون دنيانا وآخرتنا! ما أكثر ما يتخبط فيه الناس، وهم يسعون وراء الخير، كل إنسان يريد الخير لنفسه، الإنسان هو مفطورٌ على ذلك، يريد الخير لنفسه، ولكن ما أكثر الوسائل، والأعمال، والتصرفات، التي تصدر من الإنسان، ويريد أن تكون وسيلةً يصل بها إلى خيرٍ لنفسه، أو يحقق بها خيراً لنفسه، فلا يصل، بل ينتج عن الكثير منها النتائج السيئة، المعاكسة، يعمل عملاً معيناً، ينطلق على أساس رؤية معينة، فكرة معينة، وهي في عواقبها سيئةٌ عليه، لا توصله إلى الخير، الاهتداء إلى الخير يحتاج إلى فكرة صحيحة، يعتمد على رؤية سليمة، الله "سبحانه وتعالى" إذا استجبنا له، إذا انطلقنا وفق هديه، تعليماته، توجيهاته، هو الأعلم بالخير لنا، وهو مصدر كل الخير "سبحانه وتعالى"، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، فلكي نرشد، فلكي نهتدي للخير في مساعينا، في أعمالنا، في اهتماماتنا، فيما نطلبه ونسعى إليه، نحتاج إلى الله "سبحانه وتعالى"، إلى هديه، ونستجيب له، ونؤمن به، وهذا ما يوصلنا إلى الخير كله في الدنيا والآخرة.

استجابة الدعاء أيضاً يرتبط بها التدبير الإلهي، وليست مسألةً متروكةً إلى مزاج الإنسان، إلى سقفه وسقف رغباته، وأهوائه، وآماله التي قد لا تكون منضبطةً بالحكمة، ولا وفق تدبير الله العام الحكيم، الإنسان أحياناً ينطلق من منطلق رغباته، والتي هي مزاجيةٌ إلى حدٍ كبير، وأهوائه، ولا يلتفت لا إلى واقعه العملي من جهة، ولا إلى واقع الحياة من جهةٍ أخرى.

{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: من الآية3]، أمور الكون، أمور الحياة مُدَبَّرةٌ بتدبير الله الحي القيوم الحكيم، وهناك الأسباب والنتائج، والسنن التي رسمها الله في شؤون هذه الحياة، لا يمكن للإنسان، لا يمكن له هو وفق رغباته أن يخترق هذه السنن التي نظَّم الله واقع الحياة على أساسها، ولكن تبقى هناك مساحة مهمةٌ جدًّا، مساحةٌ هي الكفيلة بالانتقال بك إلى الخير، إلى الفلاح، هي الكفيلة بالنقلة بك إلى ساحة الرحمة الإلهية، الإنسان يدعو الله، ويكون واثقاً بالله، ومقتنعاً بأن الله هو الحكيم، هو المدبر لشؤون السماوات والأرض، هو الأعلم بمصلحته، فالإنسان أحياناً يطلب شيئاً من الله بإلحاح، وبعض الأشياء قد لا تكون مناسبةً للإنسان في علم الله "سبحانه وتعالى"، قد يترتب عليها ما يؤثر على الإنسان في حياته، أو في دينه، فيكون من رحمة الله "سبحانه وتعالى" ألَّا يستجيب لك في ذلك، وأن يبدلك  خيراً منه، ويعطيك مكافئةً ورحمةً وتفضلاً منه في مقابل دعائك، التجائك، طلبك، ما هو خيرٌ لك.

في القرآن الكريم عندما نعود إلى أنبياء الله- والقرآن الكريم يتحدث عن دعائهم- نجد مختلف الأدعية، أنواع الأدعية، التي تتعلق بجوانب كثيرة، بشؤونٍ متعددة من ظروفهم وشؤونهم، ونجد في مقدِّمة ما يطلبونه من الله "سبحانه وتعالى" هو: المغفرة، وهذا يعلمنا أن يكون في مقدمة ما نطلبه من الله، ومن أهم ما نطلبه من الله، هو المغفرة، نحن بحاجة إلى المغفرة، لا شيء يضرنا كذنوبنا، كمعاصينا، كتقصيرنا، كتفريطنا، لا شيء يسبب لنا أن نخسر الكثير الكثير من رعاية الله، من رحمته، من فضله، مثل المعاصي والذنوب، والتفريط والتقصير، ولذلك يأتي الطلب بالمغفرة من واقع الوعي بهذه الحقيقة، ومن واقع الوعي بخطورة الذنوب والمعاصي على مستقبل الإنسان الأبدي الدائم، الكبير والمهم والعظيم في الآخرة.

فنجد في دعاء أنبياء الله: نوح، وإبراهيم، وكذلك يعقوب، وموسى، داوود، وسليمان، وموسى، وعيسى، وزكريا... أنبياء كثر نجد في أدعيتهم في القرآن الكريم التركيز على مسألة المغفرة، على جوانب مهمة يحتاج إليها الإنسان.

أيضاً في أدعية نبي الله نوح، مع الدعاء بالمغفرة، الدعاء بالنصر، بعد جهدٍ عمليٍ كبير، تسعمائة وخمسين سنة من الصبر، من العمل، من الجهد، من المثابرة، ويأتي الدعاء بطلب النصر.

إبراهيم "عليه السلام"، أدعية متنوعة، منها طلب المغفرة، منها أدعية بالذرية المباركة والطيِّبة.

يعقوب "عليه السلام" في محنته الكبيرة، كيف كان دائم الرجوع إلى الله:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف: من الآية86]، عانى من الحزن الشديد، والمحنة الشديدة، فصبر، وبثَّ شكواه إلى الله "سبحانه وتعالى"، والتجأ إلى الله بالدعاء على طول تلك المحنة التي استمرت لسنواتٍ طويلة؛ حتى فرَّج الله عنه حزنه، وكشف غمه.

أيوب "عليه السلام" في معاناته الصحية، التي صبر فيها لدهرٍ طويل، ووقتٍ طويل، والتجأ إلى الله "سبحانه وتعالى" بالدعاء، حتى فرَّج الله عنه.

زكريا "عليه السلام"- كلهم هؤلاء من أنبياء الله- عندما التجأ إلى الله في أن يرزقه الذرية الطيبة، حتى في وقتٍ متأخر، فالتجأ إلى الله "سبحانه وتعالى"، واستجاب الله دعاءه.

ونجد في دعائهم الالتجاء إلى الله من عمق قلوبهم، من أعماق قلوبهم، التجاء إلى الله التجاءً عميقاً، التوجه إلى الله توجهاً قوياً، توجهاً بالخشوع، والرغبة، والرهبة، إقبال عجيب إلى الله "سبحانه وتعالى"، وكذلك من موقع الثقة بالله، والرجاء لله "سبحانه وتعالى"، لا يأس من رَوْحِ الله، ولا قنوط من رحمته.

نبي الله إبراهيم، ذكر الله عنه أنه قال:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر: الآية56]، لا قنوط من رحمة الله، لا يأس من رحمة الله "سبحانه وتعالى"، مهما طالت بالإنسان محنته، أو آلامه، أو همومه، أو... مهما كانت الظروف التي يعيشها الإنسان، مهما كان مستوى الصعوبات، والتعقيدات، والتحديات، التي يواجهها الإنسان، لا يأس ولا قنوط من رحمة الله "سبحانه وتعالى".

نبي الله يعقوب "عليه السلام" ذكر الله عنه أنه قال لأبنائه: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: من الآية87]، فمهما طالت المحنة، مهما كانت الغمة، مهما كانت التعقيدات والصعوبات، ومهما كان حجم المعاناة، لا يأس من رَوْحِ الله "سبحانه وتعالى".

الإنسان يبقى راجياً لله "سبحانه وتعالى"، رجاؤك جزءٌ من إيمانك الصادق، والإنسان له تجارب في مسألة الاستجابة، كل إنسان له تجارب في مسألة الاستجابة لدعائه، كيف يستجيب الله الدعاء في حالة الكرب والاضطرار، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}[النمل: من الآية62]، كم قد تكون الحالات الكثيرة التي توجه الإنسان إلى الله فيها وهو في حالة الاضطرار، الكرب الشديد، الضائقة الشديدة جدًّا، الألم الشديد جدًّا، فتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، وتوجه من كل أعماق قلبه إلى الله "سبحانه وتعالى"، مستغيثاً، راجياً، متضرعاً، فاستجاب الله له وفرَّج عنه، ولكن الإنسان ينسى.

كثيراً ما ينسى من كان من هذا النوع،الذي يلتجئ إلى الله في حالة الاضطرار الشديد، والضائقة الكبيرة جدًّا، ثم عندما يفرِّج الله عنه، عندما يخرج من تلك الحالة الشديدة يغفل، ينسى، يلهو، يعرض.

البعض من الناس هكذا حالهم، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس: الآية12]، من حالات اللؤم، من حالات الدناءة، من حالات الكفران للنعمة، من حالات الإساءة إلى الله "سبحانه وتعالى"، والتنكر لفضله، لرحمته، لجميل ما أسداه، أن تتعامل مع الله على هذا النحو: عند الضر الشديد، تدعو الله، تلتجئ إليه، تستغيثه، وعندما يفرِّج عنك، تعرض وتتجه في هذه الحياة وكأنك لم تدع الله ليكشف عنك ذلك الضر، وكأنه لم يكشف عنك ذلك الضر، أصبحت شخصيةً مختلفة، في ذهنك، في نفسك، في مشاعرك، لم تعد ذلك الذي أقبل إلى الله عند حالة الشدة الشديدة، والضر الشديد، تغيَّرت نفسيتك، تغيَّر إقبالك إلى الله، وتنكَّرت لله "سبحانه وتعالى"، واتجهت في واقع حياتك، في أعمالك، في تصرفاتك بما تسيء به إلى الله "سبحانه وتعالى"، حالة إسراف، {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}، يتنكَّر لله "سبحانه وتعالى".

البعض من الناس حتى في حالة الشدة تقسو قلوبهم، يزداد يأسهم، يتنكَّرون لله "سبحانه وتعالى"، يفقدون الأمل والرجاء، وهي حالة خطيرة جدًّا، حالةٌ سيئة، لا تنسجم مع الإيمان أبداً، يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود: الآية9]، ييأس: لا يرجو الله،وكفور: يقنط من رحمة الله "سبحانه وتعالى"، فيزداد قسوةً، ويزداد يأساً، ويكون لذلك آثاره السيئة على نفسه، على تصرفاته، على أعماله، فقد يتجه في واقع حياته لمعالجة مشاكله، وهمومه، وظروفه، بالأعمال السيئة، بالأعمال التي هي معصيةٌ لله "سبحانه وتعالى"، وهذه حالةٌ خطيرة.

الشيء الصحيح بالنسبة للإنسان المؤمن: أنه عند كل شدة، وفي كل مشاكله، في كل مشاكله يلتجئ إلى الله "سبحانه وتعالى"، أولاً: من واقع الثقة بالله "سبحانه وتعالى"، والتوكل على الله، والرجاء في الله "سبحانه وتعالى"، وتوجهاً صادقاً، توجهاً بالتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، وهذا من أهم ما ينبغي أن يكون الإنسان عليه في حالة الدعاء لله "سبحانه وتعالى"، قال "جلَّ شأنه": {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 55-56].

الدعاء هو عبادة، بل هو- كما ورد في الحديث عن رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"- مخ العبادة، موقعه في العبادة مهمٌ جدًّا، ونحن نعبِّر عن عبوديتنا لله، وافتقارنا إلى الله، وإيماننا بأنه المدبر لشؤون السماوات والأرض، من خلال الدعاء أيضاً، كما أنه أيضاً صلة تعبِّر عن علاقتك الإيمانية بالله "سبحانه وتعالى"، في التجائك إليه، في مناجاته، في ذكره وشكره، ولهذا يأتي الأمر بذلك والحث عليه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: من الآية60]، توجهوا إليه "سبحانه وتعالى" يستجب لكم.

فعندما نتوجه إلى الله "سبحانه وتعالى" ينبغي أن نكون في حالة التضرع، أن نتوجه بتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، أن نكون في حالة الدعاء في حالة تضرعٍ إلى الله "سبحانه وتعالى"، يعني: ألَّا نتجه في دعائنا بقلبٍ قاسٍ، وعينٍ جافة، وذهنٍ شارد، الحالة التي يتوجه الإنسان فيها بالدعاء إلى الله "سبحانه وتعالى" ومشاعره جامدة، لا خشوع، لا خضوع، لا استشعار للقرب من الله "سبحانه وتعالى"، لا استشعار لواقعك أنك تتوجه في تلك الحالة بالدعاء إلى الله، بالمناجاة لله، بالتخاطب مع الله "سبحانه وتعالى"، فتكون في جوٍ بعيدٍ عن الأدب، أدب المقام، مقام العبد بين يدي ربه "سبحانه وتعالى" وأنت تتوجه إلى الله، فمشاعرك الجامدة، قلبك القاسي، ذهنك الشارد، الذي لم يركِّز حتى معك، لم يركِّز حتى على ما تقول وأنت تدعو، هذه الحالة بعيدة عن الاستجابة لله "سبحانه وتعالى".

مما يميز حالة الشدة، وحالة الاضطرار:أنَّ الإنسان يتوجه فيها بالدعاء من عمق قلبه، ووجدانه، وشعوره، فيكون توجهاً صادقاً، توجهاً يتجه فيه اتجاهاً بالوجدان والمشاعر، وليس فقط باللسان.

فالدعاء عندما يأتي كحالة فقط على أطراف اللسان، لا يعيش معها الإنسان بقلبه، بوجدانه، بفكره وذهنه، هي حالة لا مبالاة، تعبِّر عن عدم الاهتمام، عن عدم الجدية، وتعبِّر عن حالة الغفلة لدى الإنسان وهو يقدم الموضوع بشكلٍ عاديٍ جدًّا، هذه حالة في واقع الأمر لا يتعامل بها الإنسان مع الإنسان، إذا أراد منه شيئاً، هو يتعامل بطريقة محترمة، وبإقبال، إقبالٍ في الذهن، إقبالٍ في التعبير، إقبالٍ نفسي، فالحالة التي نتوجه بها إلى الله "سبحانه وتعالى" ينبغي أن تكون بتوجهٍ شعوريٍ ووجدانيٍ وذهنيٍ ونفسيٍ، وفي حالةٍ إيمانية، وبتضرع، بتذلل لله "سبحانه وتعالى"، بخشوع وخضوع لله "سبحانه وتعالى"، بشعورٍ بالافتقار إلى الله، وشعورٍ عميقٍ بالرجاء والأمل في فضله، في رحمته، في كرمه، بتذكرٍ لنعمه الواسعة التي لا تحصى ولا تعد، ومن واقع استجابةٍ عملية.

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، ادعوه واتجهوا بالاستقامة على منهجه، على دينه، على تعليماته، اتجهوا لتكونوا مصلحين في أرضه، مستقيمين على نهجه، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، مشاعرك لتكن مشاعر حيَّة، فيها حالة الخوف، فيها حالة الطمع والرجاء فيما عند الله، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، هذا بشارة، وفي نفس الوقت يلفت نظرنا إلى أن نكون من المحسنين؛ ليستجيب الله دعاءنا.

الدعاء أيضاً يعبِّر عن اهتمامات الإنسان، فالبعض من الناس مثلاً كل أدعيتهم، أو معظم أدعيتهم تتوجه نحو مطالب هذه الحياة، رغباتهم في هذه الحياة، لا تركز على الجوانب الإيمانية والدينية، ولا على مستقبلهم في الآخرة،فأكثر ما يطلبونه مثلاً: يطلبون الرزق، يطلبون ما يبتغونه من مطالب في هذه الحياة، وينسون ما عدا ذلك، ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى": {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: 200-201]، فتتجه اهتمامات البعض كلها نحو هذه الدنيا، {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، يطلب الرزق، يطلب الصحة، يطلب العافية، يطلب دفع الشر، دفع الضر، مطالب كلها دنيوية، ويقتصر على ذلك؛ لأن كل اهتماماته تتجه فقط إلى ذلك، هذه حالة خطيرة، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، ليس له أي نصيب في الآخرة، هو في الأساس لم يتجه في اهتماماته العملية، ولا النفسية، ولا في حتى دعائه، إلى مسألة الآخرة، كل ما يطلبه هو فقط من أمور هذه الحياة، ومتطلبات هذه الحياة فقط.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، فهو يتجه إلى الله "سبحانه وتعالى" من واقع رؤيةٍ صحيحة، الاحتياج إلى الله "سبحانه وتعالى" في شؤون هذه الدنيا في حدود ما هو حسن، ما فيه الخير لنا في ديننا ودنيانا، {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، أولئك قال عنهم: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، ما عاد بش حسنة، آتنا في الدنيا وبس، هؤلاء {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً }، ما يحسن به حالنا، ما تستقيم به أمورنا، ما لا يؤثر على ديننا، ما نرتفق به في شؤون حياتنا، تحت سقف: {حَسَنَةً}، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، مع طلب الوقاية من عذاب الله، طلب الخير في الآخرة، {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}[البقرة: من الآية202]؛ لأن الدعاء لا بدَّ أن يرتبط به عمل، لا بدَّ أن ينطلق من واقعٍ عملي؛ حتى يستجاب له، {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة:الآية202].

في شهر رمضان كموسمٍ عظيمٍ للدعاء، فيه فرصٌ مميزةٌ للاستجابة، في ظل الظروف الإيمانية والواقع الإيماني، مع الصيام، مع القرآن، مع الأثر الروحي والتربوي لشهر رمضان في صيامه، وقيامه، وصالح الأعمال فيه، في آثارها النفسية والتربوية في مشاعر القرب من الله "سبحانه وتعالى"، وفيما نعيشه في واقع حياتنا من تحديات، من أخطار، من هموم، من مشاكل، من ظروف، ومنها:حالة الجدب العالمي، الذي شمل بلدنا، هناك جدب على مساحة واسعة من الأرض، على كثيرٍ من بلدان هذا العالم، وأيضاً على بلدنا، شمله هذا الجدب، وهناك معاناة كبيرة ناتجة عن هذا الجدب، هذا الجدب هو واحدٌ من همومنا في ظروف حياتنا ومعيشتنا، تأثيراته السلبية علينا في الأرياف، في الإنتاج الزراعي، في ظروف المعيشة، حتى في توفر مياه الشرب في كثيرٍ من المناطق الريفية، هذه الحالة يجب أن نعود فيها إلى الله "سبحانه وتعالى"، أن نتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، ضمن اهتماماتنا، نطلب من الله المغفرة، نطلب من الله الهداية، نطلب من الله النصر، نطلب من الله العون، نطلب من الله التوفيق، نطلب منه "سبحانه وتعالى" الرزق، الخير، الفرج، نطلب من الله متطلباتنا الأساسية على المستوى العام، وعلى المستوى الشخصي، كل إنسان له همومه، له مشاكله، له معاناته، له ظروفه الخاصة، ومشاكله الخاصة أحياناً، نلتجئ إلى الله في كل ذلك، ندعوه خوفاً وطمعاً، نرغب إليه، نثق به، نتوكل عليه، نلتجئ إليه، ومن واقع الاستجابة العملية، كتوجهٍ نتوجه به في واقعنا على أساس الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، نتوجه بالتوبة الدائمة إلى الله "سبحانه وتعالى"، وصف الله عباده المؤمنين الصادقين المتقين بقوله تعالى في سورة التوبة: {التَّائِبُونَ}[التوبة: من الآية112]،{التَّائِبُونَ}، يتوبون إلى الله باستمرار من تقصيرهم، من ذنوبهم، وبالرجوع العملي.

من أهم ما يجب الرجوع فيه على المستوى العملي: التخلص من الحقوق والمظالم، إخراج الزكاة، وللأسف فالكثير من المزارعين هم ممن يبخلون بإخراج الزكاة، وهذا يؤثر، يؤثر على البركات، يؤثر على الأرزاق، حالة الرجوع إلى الله يجب أن تكون من الجميع، من المسؤولين أيضاً؛ لأنها تصدر من جانبهم الكثير من المظالم، الكثير من المعاصي، ومن المواطنين، نحن كلنا معنيون بالرجوع الصادق إلى الله، بالتوبة، بالدعاء، بالتضرع، بالإنابة، بالاستغفار، بالالتجاء إلى الله، وبالرجوع العملي في إصلاح واقعنا العملي، لتكن حالة الشدائد مفيدةً لنا في أثرها في عودتنا إلى الله، وفي رجوعنا العملي، الذي نصلح به أعمالنا، نفتش فيه عن جوانب التقصير لدينا، نحرص فيه على أن نحقق الاستجابة المتكاملة لله "سبحانه وتعالى"، في كل مجالات حياتنا، فنتضرع إلى الله، ونلتجئ إلى الله.

حالة البأساء والضراء من أهم ما فيها أن تكون دافعاً للتضرع وللعودة إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}[الأعراف: الآية94]، هنا نلاحظ قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، يتذللون لله، يخشعون لله، يخضعون لله، يعودون إلى الله بالتوبة والإنابة والرجوع العملي، بدلاً من أن تكون الحالة هي قسوة القلوب، أو اليأس والقنوط، التي هي حالة خطيرة جدًّا على الإنسان.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[الأنعام: الآية42]؛ لأنها هي الحالة الصحيحة، التي تنفعهم، التي تنقذهم، التي تخرجهم مما هم فيه من الضيق، {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: الآية43]، هذه هي الحالة الخطيرة جدًّا: أن تقسو القلوب، وأن يزين الشيطان للناس أعمالهم، فيستمروا على حالة التقصير، يستمروا على أسباب المؤاخذة، والعقوبة، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، أن يستمروا على الأسباب التي أدَّت إلى ذلك.

فالحالة الإيمانية، الحالة الصحيحة، الحالة الإيجابية المفيدة النافعة: هي بالرجوع إلى الله على المستوى العملي، وبالتضرع، بالدعاء، بالاستغفار، ليتوجه الجميع في هذه الليالي المباركة بالتضرع، بالدعاء، بالاستغاثة، بالالتجاء إلى الله "سبحانه وتعالى".

ثم تأتي صلاة الاستسقاء، مثلاً: في نهاية كل أسبوع؛ حتى يفرِّج الله، لكن لا تكون يتيمة، لا تكون صلاة الاستسقاء يتيمة، الناس يتعودون على أن يصلوا فقط صلاة الاستسقاء، صلاة الاستسقاء ينبغي أن يتقدمها الاستغفار، أن يتقدمها الذكر لله "سبحانه وتعالى"، على نحوٍ مستمر، في الليل والنهار، عقب الصلوات، والإكثار من الاستغفار، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح: 10-11]، والتوجه على أساس الرجوع العملي، الرجوع العملي، والاهتمام بالزكاة، والاهتمام بالصدقات للفقراء والمساكين، والاهتمام بالتوبة، والتخلص من المعاصي، والكف عن الذنوب.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يفرِّج عنا، وأن يَمُنَّ علينا من واسع فضله، وأن يغيثنا بغوثه، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...