الأحد، 2 مايو 2021

المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 19رمضان 1442هـ 01-05-2021

المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 19رمضان 1442هـ 01-05-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

تحدَّثنا على ضوء قول الله "سبحانه وتعالى" في الآية المباركة: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[الأنعام: من الآية151]، عن رزق الله الواسع، ونعمه العظيمة التي أسبغها على عباده ظاهرةً وباطنةً، وأنَّه "سبحانه وتعالى" مع ما خلق من أرزاقٍ، وما وهبه من نعم، وما سخَّره للبشر، أيضاً قدَّم مع ذلك الهداية والتعليمات والتشريعات، التي على ضوئها يتمكَّن الإنسان من حسن استثمار هذه النعم، ومن حسن التصرف فيها، ومن حسن الاستخدام لها، بطريقةٍ صحيحة، تنسجم مع التكامل الإنساني، وتصلح بها، وتستقيم بها، وتستقر بها حياة الإنسان.

فالإنسان هو يتجه بشكلٍ غريزي للاهتمام بهذه النعم بدافع الحصول على متطلبات حياته، وتوفير احتياجاته الأساسية، فإذا لم يترافق مع ذلك: الأخذ بعين الاعتبار هذه التعليمات من الله "سبحانه وتعالى"، وهذه الهداية الإلهية؛ فإنه سيتصرف بشكلٍ عشوائي، وبشكلٍ مضر، وبشكلٍ يؤثِّر سلباً على تكامله الأخلاقي والإنساني والقيمي، وبشكلٍ ينتج عنه الكثير من الضرر، والكثير من المظالم، والكثير من المفاسد، وهذا هو الذي يحصل في واقع البشر على مستوى دول، وكيانات، وحضارات، أعرضت عن هدى الله "سبحانه وتعالى"، وتجاهلت تعليماته، وعصت أوامر الله "سبحانه وتعالى"؛ وبالتالي نتج عن طريقتها في الأسلوب الحضاري، في الاتجاه إلى عمران هذه الحياة، في الإنتاج لمتطلبات هذه الحياة، في العمل فيما استخلف الله البشر فيه، اتجهت بطريقة خاطئة، وعملت بطريقة خاطئة، فنتج عن ذلك الكثير من المفاسد والأضرار على الإنسان، على حياته، على البيئة من حوله.

فالله "سبحانه وتعالى" أنعم علينا بالنعم المادية، وأنعم علينا وخلق لنا الأرزاق، وسخَّر لنا لنستفيد منها على نحوٍ واسعٍ، وبأشكالٍ متعددة، وكيفياتٍ متعددةٍ ومتنوعة، ولأغراض كثيرة في شؤون حياتنا، كلها تلبِّي حاجةً لهذا الإنسان، وتمثل منفعةً حقيقيةً له في حياته، ولكن إلى جانب هذه النعمة، قدَّم هذه الإرشادات والهداية والتعليمات، وهي نعمةٌ كبيرةٌ جداً، هي نعمةٌ بحد ذاتها، وهي في نفس الوقت ترتبط بالنعم المادية، على ضوئها يتمكَّن الإنسان من الاستثمار بشكلٍ صحيح لهذه النعم المادية.

نجد في واقعنا في الحياة، والإنسان في حركته الإنتاجية عندما ينتج سلعاً معينة، يصنِّع أشياء معينة مما مكَّنه الله فيه، وسخَّره له، عادةً ترفق المنتجات والمصنوعات بتعليمات معينة، كتالوج معين تتضمن إرشادات وتعليمات تتعلق بحسن الاستخدام، طريقة الاستخدام، الصيانة لذلك المنتج، هكذا هي نعم الله "سبحانه وتعالى"، وقد أرفقها لنا بالتعليمات المفيدة والمهمة جداً، منها ما يتجه إلى كيف ننطلق في تعاملنا مع هذه النعم، بدءاً من المنطلقات، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن الإنسان قد يتجه بدافع الطمع، بدافع البطر، بدافع الشهوات فقط، يريد أن يصل إلى منتهى وأقصى ما يشتهيه، وبطريقة فوضوية وغير منضبطة، وليس لها حد معين عند قيم، ولا أخلاق، ولا ضوابط معينة، وهذا يترك أثراً كبيراً وضرراً كبيراً في شتى مناحي الحياة: في الجانب الصحي، في الجانب الأمني في الجانب الاقتصادي نفسه... في جوانب كثيرة تؤثِّر على الإنسان، إضافةً إلى الجانب الأخلاقي، والسمو الأخلاقي والروحي، فالقرآن الكريم يصحح لنا المنطلقات، كيف نتعامل مع هذه النعم، فنرى فيها ابتداءً أنها نعم من الله "سبحانه وتعالى"، تفضَّل بها علينا، وأنعم بها علينا، فلا ننسى المنعم.

البعض من الناس تتجه كل اهتماماتهم نحو هذه النعم، ولكنهم ينسوا الله "سبحانه وتعالى" المنعم الكريم العظيم، الذي وصلتنا منه هذه النعم، خلقنا، وخَلَق لنا هذه النعم، هذا يشد الإنسان إلى الله "سبحانه وتعالى" بالشكر، بالمحبة لله، بالاستشعار لفضل الله، عندما ندرك هذه النعم، وقيمتها، وقدرها، وأهميتها لنا في حياتنا، فوائدها ومنافعها لنا في حياتنا، وعندما نتحرك وفق مبدأ التسخير، الله سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض، ما في السماء والأرض، والتسخير فيه تهيئة لتلك المخلوقات، لتلك النعم، أن نستفيد منها بأشكال متنوعة، أن نبتكر فيها عبر وسائل وأساليب وننتج منها منتجات متنوعة، نستفيد منها في حياتنا على نحوٍ واسع.

عندما ننطلق من هذا المنطلق الإيماني، هذا يشدنا إلى الله، يزيدنا إيماناً، وكلما ابتكرنا أكثر، اكتشفنا أكثر ما سخَّره الله لنا في هذه النعم من المنافع المتنوعة والواسعة؛ كلما ازددنا إيماناً بالله "سبحانه وتعالى"، وتجلت لنا مظاهر قدرته، تجلت لنا آيات حكمته وإبداعه، تجلت لنا مظاهر عن رحمته "سبحانه وتعالى"، نرى رحمته الواسعة بنا، عن علمه بهذا الإنسان، بحياته، بمتطلباته، بما يناسبه، بما يحتاج إليه، بما يفيده، بما ينتفع به، والله "سبحانه وتعالى" هو واسعٌ، وفضله واسع، جعل فيما خلق لنا وأسبغ علينا من النعم منافع واسعة جداً جداً، وكيفيات للاستغلال والاستثمار والانتفاع بتلك النعم على نحوٍ واسعٍ جداً، وعُرِف هذا في هذا القرن بشكلٍ أكبر مع التطور العلمي والتكنولوجي، كيف أصبح وهناك وسائل كثيرة ينتفع بها الإنسان في حياته، اكتشف أشياء كثيرة ينتفع منها في حياته، وتقرِّب له المسافة في أشياء كثيرة، وتقوِّي له عملية الإنتاج في أشياء كثيرة، الإنسان استفاد على نحوٍ كبير من الوسائل، من الإنتاج نفسه في شكليات وكيفيات متنوعة وواسعة جداً، كل ما يصل إليه الإنسان، وما اكتشفه الإنسان، إنما هو وسائل خلقها الله، منافع سخَّرها الله "سبحانه وتعالى"، كلما عَرَف كيفية الاستفادة منها على نحوٍ أفضل، واكتشف ما فيها من المنافع؛ كلما استفاد في حياته أكثر، فعندما يكون المنطلق إيمانياً، فالإنسان سيزداد إيماناً من كل ما اكتشفه، من كل ما وصل إليه من كل ما لاحظه فيما سخَّره الله له من المنافع، يرى فيها دلائل واضحة على قدرة الله، على حكمته، على رحمته، على فضله، على علمه الواسع، يتجلى له كرم الله الواسع، وكيف أسبغ علينا نعمه على نحوٍ واسعٍ وعجيب.

هذا لا يحصل عندما لا ينطلق الإنسان من منطلقٍ إيماني، إنما ينطلق من منطلق غريزي، من منطلق الحاجة فقط، إذا غاب هذا المنطلق؛ تأتي تلك السلبيات الكثيرة التي تحدثنا عنها في المحاضرة الماضية، يتعامل الإنسان مع النعمة بطريقة تبعده عن الله، يستخدم نعم الله في معصية الله، يسيء إلى المنعم الكريم؛ وبالتالي يستخدمها عندما يستخدمها في معصية الله، هو يستخدمها فيما يضره هو، يضره هو على المستوى النفسي والروحي والأخلاقي، يضره هو على المستوى الصحي، يضره هو على كافة المستويات، يضره كمجتمع، ضرر كمجتمع في واقعه الأمني والاقتصادي والاجتماعي... في أشياء كثيرة، وتظهر الكثير من المفاسد في طريقة الاستخدام للنعم.

ولهذا يأتي أيضاً في القرآن الكريم الحث على استثمار هذه النعم بطريقة صحيحة، ومن منطلقٍ إيماني، فيقول الله "سبحانه وتعالى": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة: الآية172]، فليس المطلوب من الذين آمنوا- تحت مفهوم الزهد- أن يتركوا كل ما في هذه الحياة، وألا يعملوا، وألا يتحركوا وألا... بل المطلوب أن يتحركوا من منطلقٍ إيماني، وهنا يأتي الزهد في إطار المنطلق الإيماني، ليس بالمفهوم السائد الذي معناه الإهمال، معناه ترك كل شيء، عدم الاهتمام بأي شيء.

{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، هذا حث، حثٌ من الله "سبحانه وتعالى" على استثمار هذه النعم، طيِّبات الرزق، {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}، لتكن دافعاً إلى الشكر لله "سبحانه وتعالى"، وحافزاً إلى الشكر، الشكر الذي يدخل إلى الواقع العملي في التصرف بهذه النعم، في كيفية استثمارها، والعمل فيها، فيما يرتبط بذلك من قيم، من أخلاق، من مسؤوليات، من تشريعات إلهية.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الأعراف: من الآية32]، فالذين آمنوا من المطلوب منهم أن يتحركوا لاستثمار هذه النعم؛ لأن عليهم في هذه الحياة مسؤوليات واسعة، جزءٌ منها يرتبط بالجانب المالي، وجزءٌ منها كذلك يتعلق بشؤون حياتهم ومتطلبات حياتهم، فالدين ليس حرماناً، الإيمان ليس حرماناً من الطيِّبات، حتى ينظر إليه الإنسان بأنه يمثِّل مشكلةً عليه في حياته، وعبءً عليه في حياته، لا، هو ينظِّم للإنسان عملية الاستثمار للنعم على نحوٍ صحيح، سليمٍ من المفاسد والأضرار، ويربطه بالله "سبحانه وتعالى".

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، الذين آمنوا عليهم أن يكونوا هم الروَّاد في المجتمع البشري، في التفاعل مع نعم الله "سبحانه وتعالى" من واقع إيمانهم، من واقع علاقتهم بالله "سبحانه وتعالى"، ثم يتحركوا لدورهم في الاستخلاف في الأرض على أساس توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، فيعملوا على بناء حضارةٍ إيمانية؛ لأن الإنسان هو مستخلف في هذه الارض، والمطلوب منه أن يؤدِّي دوره في الاستخلاف على نحوٍ صحيح، هو سيؤدِّي دوره في الاستخلاف على كل حال، ولو بدافع الحاجة والغريزة، ولكن دافع الحاجة والغريزة ينتج عنه ويأتي معه الكثير من السلبيات والإشكاليات، تحدَّثنا عن بعضها في المحاضرة الماضية.

أمَّا إذا أدَّى دوره في الاستخلاف في الأرض على نحوٍ صحيح، وفق توجيهات الله، وتعليمات الله، وانطلق للتعامل مع النعم مستشعراً أنها نعم من الله "سبحانه وتعالى"، فهذا له آثاره المهمة والمفيدة والنافعة.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً وهو يؤكِّد على أهمية الشكر، والشكر مسألة مهمة جداً، وعنوان رئيسي بالنسبة للإنسان، يقول الله "جلَّ شأنه" مخاطباً لآل داوود: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}[سبأ: من الآية13]، بعدما أنعم عليهم بتلك النعم العجيبة، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: من الآية13]؛ لأنه يدخل الشكر في أدائك العملي، في تعاملك مع النعم نفسها، يدخل الشكر هنا: في الانشداد إلى الله "سبحانه وتعالى".

يقول "جلَّ شأنه" عن نبيه سليمان "عليه السلام" وقد مكَّنه تمكيناً واسعاً وعجيباً، فكان نموذجاً للشاكرين، لكيفية التعامل مع نعم الله، مع التمكين في الأرض، لم يبطر، مع أنَّ الله مكَّنه تمكيناً عجيباً، وأعطاه ملكاً عجيباً، ووسائل، وإمكانيات، وعلوم لتسخير مظاهر هذه الحياة على نحوٍ عجيبٍ جداً، ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، مع ذلك لم يبطر بالنعمة، لم يتكبر، لم يظلم، لم يفسد، إنما تعامل مع النعمة من منطلق ماذا؟ عندما وصل إلى ذروة التمكين، وكان من مظاهر ذروة التمكين هذه في الواقع البشري: قصة نقل عرش بلقيس من مأرب إليه في طرفة عين، في وقتٍ وجيزٍ جداً، أمر مدهش للغاية، وتمكين عجيب، وتسخير عجيب جداً، فماذا قال؟ {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل: من الآية40]، لاحظوا هذا المستوى العالي جداً من الوعي والإيمان، فهو لم تُسْكِره تلك النعمة، وذلك التمكين العجيب، لم يبطر بسبب ذلك، لا، هو عرف أنَّ المسألة اختبار، هو يحمل هذه الرؤية، هذا المنطلق: أننا مختبرون بهذه النعم، أنَّ الله يختبرنا بما أنعم علينا في كيفية تعاملنا مع هذه النعم، هل سنشكر أم سنكفر النعمة، كفران النعمة يدخل فيه سوء الاستخدام لهذه النعمة، من خلال معصية الله "سبحانه وتعالى"، ويترتب عن ذلك مضار ومفاسد للعباد أنفسهم في حياتهم، وهذه نقطة مهمة؛ لأن الله لا يتضرر هو بالمعصية، المعصية ضرها على البشر، ضرها على حياتهم، على أمنهم، على استقرارهم، على معيشتهم، على واقعهم الاجتماعي والأمني، ولذلك الله "سبحانه وتعالى" هو يحمينا بتوجيهاته من المضار والمفاسد الناتجة عن سوء الاستخدام للنعم، هذه هي الخلاصة المهمة جداً.

الله "سبحانه وتعالى" يقول "جلَّ شأنه" عن أنبيائه، مثلاً عن نبيه نوح "عليه السلام": {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء: من الآية3]، الشكر عنوان رئيسي ومهم جداً في الدين الإلهي، وأول القدوة والأسوة هم الأنبياء والرسل في الشكر للنعمة، حتى يصبح هنا عنواناً بارزاً من مواصفات الرئيسية، من مواصفاته البارزة هذا النبي العظيم نبي الله نوح "عليه السلام": {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، يشكر نعم الله المادية والمعنوية.

قال عن نبيه إبراهيم "عليه السلام": {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}[النحل: من الآية121]، ونبي الله إبراهيم "عليه السلام" كذلك تصبح هذه من المواصفات البارزة: الشكر، أنه شاكراً لأنعم الله، النعم المعنوية أولاً، والنعم المادية، نعم الله بشكلٍ عام، ينظر إلى النعم، كل هؤلاء نظروا إلى النعم إلى أنها ذات قيمة، ذات أهمية، وأنَّ الله "سبحانه وتعالى" أسبغ بها فضله علينا، فيتجهون بالشكر لله "سبحانه وتعالى"، هذا من حيث المنطلقات الإيمانية، وما يتعلق بمسألة الشكر.

أمَّا فيما يتعلق أيضاً بالموجِّهات وما يتعلق بالقيم الأساسية التي نتعامل معها أو من خلالها مع نعم الله "سبحانه وتعالى"، أتى الكثير في القرآن الكريم فيما يتعلق بهذا الشأن، أول عنوان يحضرنا هو الحكمة، الله "سبحانه وتعالى" يريد لنا أن نكون حكماء، أن نتصرف بحكمة في كل شؤون حياتنا، أن نتصرف مع نعمه ومع ما مكننا فيه بحكمة، بحسن تصرف، بدون عبث، بدون فوضى، بدون تصرفٍ لا مسؤول، ولا أخلاقي، ولهذا يقول الله "سبحانه وتعالى" في سياق الآيات القرآنية التي تحدَّثت عن المال والإنفاق، وما يتصل بذلك، في نفس السياق، بين وسط تلك الآيات يقول "سبحانه وتعالى": {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[البقرة: الآية269].

الإنسان بحاجة إلى الحكمة في التصرف مع نعم الله "سبحانه وتعالى"، على المستوى الشخصي: فيما مكَّنك الله فيه، وفيما أعطاك، وفيما يرزقك، على المستوى العام: المجتمع، الدولة، الموارد العامة، وكيفية التصرف فيها بحكمة.

العرب فقدوا الحكمة إلى حد مدهش، ومذهل جداً، ومؤسف للغاية، فقدوا الحكمة في التصرف المالي، الموارد لديهم هي من أضخم الموارد في الدنيا، ثروات ضخمة جداً في بلدانهم، ثروات هائلة جداً، من مختلف الثروات: المعادن في الأرض، النفط، الخيرات الواسعة، الأراضي الزراعية الواسعة، القابلة للزراعة، المتنوعة أيضاً في بيئتها، التي يمكن أن تنتج مختلف المحاصيل الزراعية، منحهم الله "سبحانه وتعالى" نعماً واسعةً جداً، موارد ضخمة، موارد وثروات بحرية أيضاً، وتجدهم في وضعية غريبة جداً، كأن الله لم يعطهم شيئاً أبداً، يعيشون حالة رهيبة جداً من الفقر والإملاق، أو وضع اقتصادي هش، مثلما هو الوضع الاقتصادي في دول الخليج، هو هش بكل ما تعنيه الكلمة؛ لأنهم جعلوا من بلدانهم فقط منطقة سوق للبضائع الأجنبية، يستوردون إليها البضائع الأجنبية، لم يتجهوا ليكونوا دولاً منتجة، غابت مسألة الإنتاج وحسن الاستخدام لهذه الموارد العامة، لهذه الثروات الضخمة، الثروات العامة الموجودة لديهم، ليس هناك إنتاج لها ولا حسن تصرف فيها، ولا هناك رشد حتى في مسألة الاستهلاك، هناك تبذير، هناك عبث، وليس هناك أولويات، وليس هناك سياسات مرسومة حكيمة في الوضع الاقتصادي، غابت الحكمة كرؤية عند العرب في وضعهم الاقتصادي، ولذلك عندهم مشكلة كبيرة، وأزمات غير طبيعية يعيشون منها، غابت الحكمة كرؤية اقتصادية سليمة، يبنى على ضوئها إنتاج اقتصادي، استثمار لهذه النعم على نحوٍ صحيح، وعلى نحوٍ نافع، وعلى نحوٍ مفيد، والحكمة مهمة جداً من الواقع الفردي للشخص، لو ما معك إلَّا ألف ريال، أنت بحاجة إلى حكمة كيف تتصرف فيه، إلى هذا المستوى العام كدول وكيانات، يحتاج الناس إلى الحكمة.

يحتاجون إلى الرشد، وهو توأم الحكمة، الرشد توأم الحكمة، ويعود إلى حسن التصرف، التصرف الواعي، التصرف الناضج، التصرف الصحيح، والله "سبحانه وتعالى" يركِّز على موضوع الرشد في الجانب المالي إلى حدٍ عجيب، إلى حد أنه وردت في التعليمات القرآنية في سورة النساء في قوله "سبحانه وتعالى": {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا}[النساء: 5-6]، فنجد أولاً في حديثه عن السفهاء، والسفيه هو لا يمتلك الرشد، يعني: إنسان غير ناضج، على حسب التعبير المعاصر: غير ناضج عقلياً، يعني: مداركه، فهمه، إنسان طائش، تافه، ليس عنده النضج العقلي الكافي، الإدراك الصحيح، حسن التصرف، ولذلك هو يمكن أن يخدع، يمكن أن يكون ساذجاً في تصرفاته، عابثاً في تصرفه بالمال، فالله يقول: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}، حتى في ممتلكاتهم الخاصة يجب أن يكون هناك عليهم إشراف وصرف بشكل رشيد، بحسن تصرف في ممتلكاتهم، لا تعطى لهم اليد في ممتلكاتهم؛ لأن هذا يؤثِّر على المجموع العام، المال العام، المسألة في القرآن نظرة عامة، يأتي على ضوئها تفصيل الواقع الشخصي.

{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}؛ لأن بها قوام حياتكم، أنتم بحاجة إليها في مختلف شؤون حياتكم، لا مجال للعبث، والهدر، والسفه، والطيش، والتعامل التافه في المال والممتلكات، {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا}، يعني: أشرفوا عليهم، اصرفوا عليهم بشكل صحيح حسب متطلباتهم واحتياجاتهم الحقيقية، {وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.

ثم ينتقل إلى الحديث عن اليتامى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}، اختبروهم، وأهِّلوهم، وساعدوهم على أن يكتسبوا الرشد في التصرف المالي بطريقة متدرجة، وبمراحل منظَّمة، وطريقة مناسبة، {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، لاحظ، على مستوى المال الشخصي الإنسان بحاجة إلى الرشد، إلى أن يكون لديه رشد، وحسن تصرف، وفهم، ومعرفة صحيحة للتصرف، وتوازن نفسي يساعده على حسن هذا التصرف، إذا اختلت هذه الأشياء، وكان طائشاً، عابثاً، مستهتراً، وإذا اجتمع مع ذلك أيضاً مشكلة في النضج العقلي، في الإدراك، في الفهم، فهذا يؤثر على الإنسان، ويجعله عابثاً ويضيع ممتلكاته في أتفه الأشياء، أو يخدع، وببساطة وسذاجة يمكن أن يخسر كل شيء.

على المستوى العام الأمة بحاجة إلى الرشد كمجتمع، كدولة، ككيانات كبرى، بحاجة إلى الرشد، الذين هم في مواقع مسؤولية، وفي أيديهم إمكانات، قد تكون إمكانات كثيرة، قليلة، بأي مستوى، بحاجة إلى الرشد، من هم في مسؤوليات مالية، من تحت أيديهم إمكانات، إذا فقدوا الرشد ينتج عن ذلك: سوء التصرف، الإهمال، العبث، التبذير، الضياع، وهذا من النكران للنعمة، هذا سوء تصرف في النعمة، إساءة إلى النعمة، عدم تقدير للنعمة، وما أكثر ما يحصل ذلك، خاصة في الواقع العربي للأسف الشديد، وهذه مسألة مهمة جداً، هذا معيار قرآني في من هم على مسؤوليات فيها أموال، فيها إمكانات، أن يمتلكوا الرشد، إذا كانوا عابثين، مستهترين، ولو أبسط إمكانية، ولو أي مستوى من الإمكانيات، يتعامل بطريقة عابثة، يضيع، ويهدر، ويحطم، وينتج عن ذلك أشياء سلبية جداً، فالرشد مسألة مهمة جداً، والتعامل بالرشد، يساعد على المستوى العام بشكل كبير حتى في السياسات العامة، هذه مسألة مهمة جداً.

أيضاً التعامل بمسؤولية وأمانة: في المال، بدءاً مما في يدك أنت، والمال تدخل فيه معاملة، الممتلكات تدخل فيها معاملة، الإنتاج والنعم يدخل فيها معاملة، بحاجة إلى أن تكون أميناً في تعاملك، في تصرفاتك، فيما تنتجه، في الكميات عندما تقدم على أساس كميات معينة، أن تكون أميناً في ذلك في مستوى الجودة، أن تكون أميناً في ذلك، وهكذا الأمانة مسألة مهمة جداً، فيما أنت مؤتمنٌ عليه من إمكانات لغيرك، أو عامة، هنا تحتاج إلى الأمانة، والله حذر من الخيانة: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال: 27-28]، فالأمانة مسألة مهمة جداً، الإنسان إذا تعامل بأمانة وهو يبيع، وهو يشتري، وهو مسؤول، وهو مؤتمن على شيءٍ عنده، يتعامل بأمانة، ينتج عن هذه القيمة المهمة جداً، أهمية كبيرة، وأثر إيجابي في الواقع الاقتصادي للناس، في المعاملة فيما بينهم، والمسؤولية كذلك، بمعنى: أن علينا أن ندرك أنه يرتبط بالمال وبالنعم، وبما أعطانا الله ومكننا فيه، مسؤوليات كثيرة، مسؤوليات كثيرة، منها مسؤوليات عملية، تتصل بأدائنا العملي في الحياة، أشياء كثيرة تحتاج إلى المال، نقدم فيها المال، والالتزامات المالية هي واسعة، الالتزامات المالية، الله "سبحانه وتعالى" يقول في القرآن الكريم وهو يتحدث عن الإنفاق: {وَآتَى الْمَالَ} في سياق الحديث عن البر {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}[البقرة : 177]، نجد هنا التزامات واسعة، يعطي الإنسان لها من المال.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة: من الآية111]، يقول الله "سبحانه وتعالى": {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]، يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة: من الآية195]، فالله لم يعطينا عبثاً، الله "سبحانه وتعالى" أنعم علينا، وقرن هذه النعم بمسؤوليات، يقترن بها مسؤوليات، ونجد في المسؤوليات المالية هذه القائمة: الإنفاق:

{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} في محيطك الأقرب، بدءاً من أسرتك، عندك اهتمامات بالإنفاق على أسرتك، عليك مسؤولية الإنفاق على أسرتك.
ثم كذلك المحتاجين، وصلة الأرحام في محيطك الأسري أيضاً، على مستوى أوسع.
ثم اليتامى.
المساكين.
ابن السبيل.
السائلين.
في الرقاب.
يكون عندك اهتمام بالإسهام المالي، اهتمام والتفات إلى هذه الفئات المحتاجة من أبناء المجتمع

إضافة إلى الزكاة، {وَآتَى الزَّكَاةَ}، {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}.
فيما يتعلق بالإنفاق في سبيل الله، في خدمة قضايا الأمة الكبرى: في الدفاع عن دينها، وقيمها، وأخلاقها، وممتلكاتها، وأوطانها، وأعراضها.
الله "سبحانه وتعالى" جعل الجهاد في سبيله عنواناً لذلك، وهو يتصل بالمال، {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، هناك كثير من الأعمال التي تحتاج إليها الأمة للجهاد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"؛ لتذود عن عرضها، وأرضها، واستقلالها، وكرامتها، ومبادئها، وقيمها، وتدفع الخطر عن نفسها، كثير من الأمور تحتاج إلى مال، تحتاج إلى نفقات، تحتاج إلى تمويل، كثير من الأعمال، من الاهتمامات، من الأنشطة، من المواقف، من الاحتياجات لذلك، على المستوى القتالي كم هناك من احتياجات مالية تحتاج إليها الأمة في ذلك، {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فنجد هنا الجهاد بالمال، الجهاد بالمال، لتمويل الأعمال التي هي في إطار الجهاد في سبيل الله "سبحانه وتعالى" وفق المفهوم القرآني.

يقول "جل شأنه": {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ لأن بخل الأمة عن الإنفاق في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، وهذا يأتي إلى قضاياها الكبرى، إلى دفع المخاطر عنها، إلى دفع شر عدوها، إلى الحفاظ على أمنها، واستقرارها، واستقلالها، وكرامتها، والحفاظ على أوطانها، وشعوبها، وممتلكاتها، إذا لم تنفق من أجل ذلك، فمعنى ذلك: هو التمكين للعدو منها؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك تحرك فاعل لحماية الأمة والدفاع عنها، إلا وهناك تمويل مالي، بدون المال لا يمكن أن يكون هناك تحرك، لا عسكري، ولا غيره، فالمسألة تحتاج إلى تمويل، إذا لم يكن هناك تمويل، فالنتيجة هي الهلاك، البخل نتيجته الهلاك؛ لأن العدو سيتمكن، والعدو يهتم بالإنفاق في سبيل استهداف هذه الأمة، كم ينفق على مؤامرات، كم يعد من إمكانات، وتجهيزات، وخطط، وبرامج، وأنشطة، تستهدف هذه الأمة، وينفق عليها مليارات كثيرة، ينفق في الاستهداف العسكري لهذه الأمة مليارات الدولارات، ينفق في الاستهداف الإعلامي، في الاستهداف الاقتصادي، في كل المجالات، فالأمة لا بد أن تكون منفقة.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: من الآية24]، حتى الزكاة هي تأتي مرتبطةً بموضوع المال، وتساهم في معالجة مشكلة الفقر لدى الفقراء.

على مستوى آخر أيضاً وهو مهمٌ جداً جداً: أن هذه النعم الإلهية التي أنعم الله بها علينا، واستخلفنا فيها، إذا انطلقنا فيها من منطلقٍ إيماني، فإنها ستمثل عاملاً مهماً في النهضة والقوة:

عندما نلحظ أن من مسؤولياتنا أن نكون أمةً مستقلةً، لا تخضع للطاغوت، لأعدائها المضلين من الطواغيت المجرمين، المتسلطين، المستكبرين، وأن تبني مسيرة حياتها على أساس هدي الله وتعليماته "سبحانه وتعالى"، وهذا الذي يحقق لها الاستقلال الفعلي والحقيقي، معنى ذلك: أنها ستدخل في صراع مع أعدائها، ولا بدَّ لها بأن تسعى لأن تكون أمةً قوية، والله "سبحانه وتعالى" قال في القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، هذا يشمل إضافةً إلى الجانب المعنوي: قوة الإيمان، قوة الوعي، قوة الرشد...إلخ. يشمل أيضاً الجانب المادي: الإمكانات، الوسائل، أن تتجه الأمة لإعداد القوة على كل المستويات: القوة العسكرية، القوة الاقتصادية.

الاقتصاد في موضوع القوة المادية يدخل كعنوان أولي ورئيسي، فالأمة تحتاج إلى العناية باقتصادها، وأن تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وأن تستثمر ما أعطاها الله من النعم على نحوٍ يجعلها أمةً قوية، يتوفر لها احتياجها الرئيسي: من غذاء، من دواء، من سلاح، من كافة الاحتياجات الطبية، والملابس، وما يدخل في عمرانها، ما يدخل في مختلف احتياجاتها، أن تسعى لأن تكون أمة تصنع وتزرع وتنتج، وأن تمتلك أيضاً ما تحتاج إليه من خبرة في هذه المجالات، من علم ومعرفة في هذه المجالات، أن تسعى هي لأن تكون أمة تحقق التقدم التكنولوجي، والتقدم على كل المستويات، هذا أمرٌ مطلوب، ومن منطلقٍ إيماني، من منطلقٍ إيماني، من أجل أن تكون أمةً قوية، تجاهد في سبيل الله، تدفع عن نفسها خطر الأعداء، تحقق لنفسها الاستقلال الحقيقي، فلا تبقى مرهونةً ورهينةً تحت سيطرة الأعداء وتحكمهم في كل أمورها.

عندما تكون الأمة معتمدةً في توفير غذائها واحتياجاتها الأساسية من بلدان أخرى، هذا نقص حتى في موضوع أمنها القومي، البلدان الأخرى تحسب في حساب أمنها القومي أن توفر احتياجاتها الأساسية الضرورية داخلياً، وأن تحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي في ذلك.

فهذا المفهوم هو مفهوم مهم جداً، كفيلٌ- إذا استوعبته الأمة وانطلقت على أساسه- أن يكون عاملاً مهماً للنهضة.

لاحظوا، العرب باردين، لم يهتموا بهذا المجال، لم يهتموا بهذا المجال، عندهم برودة عجيبة، ولا مبالاة، ولا اكتراث في أن يكون كل شيء يحتاجون إليه حتى من الأعداء، من بلدان تحت سيطرة أعدائهم، أو من بلدان بعيدة يمكن لأعدائهم أن يحاصروهم ويمنعوا عنهم وصول تلك الاحتياجات في أي لحظة يتخذون القرار بذلك، وبالفعل أصبح من الوسائل الرئيسية التي يستخدمها أعداء الأمة في محاربتها: هو الحظر الاقتصادي والحصار الاقتصادي؛ لاستهداف أي بلد، ويؤثر هذا على بلداننا، لماذا؟ لأنها فرطت في الاعتماد على هذا المفهوم المهم والتحرك على أساسه، أن تعد ما تستطيع من قوة، وأن تكون أمة قوية، بلدان قوية، منتجة، مصنعة، تنتج احتياجاتها كافة، لا تحتاج أن تذهب إلى الصين لتوفر ملخاخ، إلى إيطاليا لتوفر صلصة، إلى أوروبا لتوفر أبسط الأغراض، أبسط الأشياء، إلى هنا أو هناك، إلى أستراليا، إلى آخر الدنيا، لتوفر لك القمح، لا، لتوفر لك مختلف احتياجاتك من بلدانك.

وهذا للأسف الشديد غاب عن أمتنا، فكان غيابه كارثة بكل ما تعنيه الكلمة، كارثة بكل ما تعنيه الكلمة، ومأساة، وارتبطت حركة التجارة بتوفير كل الاحتياجات من خارج هذه البلدان، بالذهاب إلى أوروبا، إلى شرق آسيا، إلى مختلف البلدان البعيدة هناك، لتوفير أبسط الأشياء، وتعطلت عملية الإنتاج حتى لما كان ينتجه الآباء والأجداد، بدلاً من أن نتجه إلى تطوير عملية الإنتاج لدينا فيما كان منتجاً منذ البداية، لم نعد نوفر في بلداننا حتى ما كان يتوفر لدى الآباء والأجداد، أولئك الذين يقول الكثير عنهم أنهم كانوا متخلفين وبائسين، وأنهم وأنهم، كم كان ينتج في اليمن من أشياء؟

الغذاء كان يتوفر في اليمن، الغذاء، وأكثر الناس يقتنون، وبالذات أن الغالبية كانوا يقطنون في الأرياف، ويتوفر لهم مختلف الاحتياجات الغذائية، عنده في المنزل، وبجوار منزلة: البقر، الغنم، الدجاج، عنده مزارع ينتج فيها القمح، وهناك تتفاوت هذه المسألة من شخص إلى آخر، وهناك تكامل فيما بين البشر، الآن كل شيء يأتي من الخارج من الخارج من الخارج، من الملخاخ الذي يحتاجه الإنسان بعد طعامه، إلى الصلصة، إلى أبسط الأشياء، ولا يزال الكثير يتجهون لتوفير كل الأشياء من الخارج، ويلعب التجار- نتيجةً لعوامل كثيرة- دوراً سلبياً في ذلك، بدلاً من الاتجاه للاستثمار في الداخل، وهناك مشاكل كثيرة، يمكن- إن شاء الله- نتحدث عن هذه المسألة في سياق حديثنا- إن شاء الله- في المحاضرات القادمة.

على العموم، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، يجعل من اهتمامنا بالقوة الاقتصادية مسألةً إيمانيةً ضمن التزاماتنا الإيمانية، وهذا أمر مهم وشيق وعظيم؛ لأنك من هذا المنطلق ستتحرك على أساس التكامل في الجهاد، وأنت تتحرك في الجانب الاقتصادي، وأنت تتحرك في أي مجال من مجالات الجانب الاقتصادي: زراعة، أو غيرها، يمكنك أن تتجه من منطلق تحظى فيه حتى بالفضل والأجر عند الله "سبحانه وتعالى".

هذه على مستوى القيم الأساسية التي تمثل عاملاً مهماً في حسن التصرف مع نعم الله "سبحانه وتعالى"، أتت في القرآن الكريم، في الشريعة الإسلامية، تشريعات كثيرة، تنظم لنا الجانب الاقتصادي على أساس العدل، على أساس هذه القيم العظيمة على أساس محاربة الظلم والفساد، كم من التشريعات التي تنظم لنا المعاملات الاقتصادية، والاهتمامات الاقتصادية، وحسن التصرف في الموارد الاقتصادية على نحوٍ صحيح، على نحوٍ صحيح، هذا مجال واسع جداً، لا يمكن الحديث عنه في محاضرة، الحديث عنه واسعٌ جداً جداً، ومعروف هذا في القرآن الكريم.

أيضاً من الأشياء التي تكون حافزاً للاهتمام بالنهضة الاقتصادية هي: أن الدنيا مزرعة الآخرة، هذه كلمة معروفة الدنيا مزرعة الآخرة، الإمام عليٍّ "عليه السلام" نبَّه على ذلك، الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" كان يؤكد على ذلك كثيراً، في القرآن الكريم وردت الآيات الكثيرة التي تلفت نظرنا إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة، حسن تصرفنا في هذه النعم، حسن تحركنا في هذه الحياة، هو الذي نؤمِّن من خلاله مستقبلنا الدائم في الآخرة، ونصل به إلى الجنة، عندما نقرأ في قوله "سبحانه وتعالى": {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، لاحظ كيف المال هنا مزرعة للآخرة، تدفع، لكن مقابل ذلك الجنة تعطى، الدنيا مزرعة الآخرة.

عندما نقرأ عن الإنفاق والمنفقين، فيقول الله "سبحانه وتعالى": {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: من الآية274]، عندما يقول: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل: من الآية20]، هنا كل هذا يفيدك أن الدنيا مزرعة للآخرة، تعمل هنا، تحصل على مكاسب عظيمة في تلك الحياة الأبدية.

يركز القرآن على الربط ما بين الحياتين: الدنيا، والآخرة، فمن يحمل هذه الرؤية القرآنية هو الذي سيتصرف بشكل صحيح، علمنا الله أن نقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية201]، من يفصل موضوع الآخرة عن الدنيا كلياً، يرى أنه سيفقد الكثير من الوسائل التي يعمل من خلالها في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، ويبتعد حتى عن المفهوم القرآني في الاستخلاف للإنسان في الأرض، ويترك المجال للأعداء في كل شيء.

ومن يفصل أيضاً موضوع الآخرة عن الدنيا يتجه كل اهتمامه إلى هذه الدنيا: يفسد، يظلم، يبطر، يتكبر، يرتكب الجرائم، لا يشكر النعم، بل يستخدمها في معصية الله، فيما يضر ويسيء، فيما ينتج عنه الضرر والمفاسد.

نجد من خلال هذه الرؤية القرآنية: في كيفية استثمار النعم، وأن التحرك وفق تعليمات الله "سبحانه وتعالى" سيمثل حلاً للمشاكل الاقتصادية، والأزمات الاقتصادية، وفي سياق قولة "سبحانه وتعالى": {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}.

إن شاء الله نتحدث عن الموارد العامة في المحاضرات القادمة، على نحوٍ تفصيليٍ أوسع، بما يلفت النظر إلى ما أعطى الله فيها من الفرص الكبيرة التي تعالج مشاكلنا في هذه الحياة.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الجمعة، 30 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الثامنة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية الثامنة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 18رمضان 1442هـ 30-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في سياق الحديث على ضوء الآية القرآنية المباركة من سورة الأنعام وعلى ضوء ما ورد فيها في قوله "سبحانه وتعالى": {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[الأنعام: من الآية151]، تحدَّثنا بالأمس وعرضنا شيئاً مما ورد في القرآن الكريم عما يتعلق بنعم الله "سبحانه وتعالى" التي أسبغها علينا، في سياق الحديث على ضوء قوله: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، فالله "سبحانه وتعالى" أسبغ علينا نعمه، عرضنا على ضوء بعض الآيات القرآنية الموارد العامة والنعم الكبرى على مستوى الأرض، وما هيَّأ الله فيها، وما أعدَّ للإنسان فيها، وما خلق له من أرزاق فيها، وما جعل فيها من المعايش للبشر، لعباده جميعاً، وكذلك النعم المتنوعة على مستوى القطاع الزراعي، الثروة الحيوانية وما فيها من نعم كبيرة، وفي القطاع الزراعي نعم واسعة جداً، ومجال واسع جداً، يتسع لكثيرٍ من الأنشطة، وأسباب الرزق الواسعة الثروة البحرية، وهكذا النعم الواسعة جداً، يمكن- إن شاء الله- أن نستعرض على ضوء ذلك على المستوى التفصيلي بشكلٍ أوسع- إن شاء الله- لاحقاً.

فالله "سبحانه وتعالى" أنعم علينا، ووسَّع لنا الأرزاق والخيرات، مع ذلك البركات التي تأتي مع الاستقامة على أساس منهج الله "سبحانه وتعالى"، وأيضاً في هدايته وتشريعه؛ لأنه بعد أن خلق الله الأرض، وجعل لنا فيها المعايش، وهيَّأ لنا فيها أسباب الرزق والخير، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، يبقى للإنسان أن يتحرك هو، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك: من الآية15]، أن يأخذ بأسباب الرزق، أن يعمل، أن يقوم بدوره كمستخلفٍ في هذه الأرض في عمارتها، والحركة فيها للسعي لتوفير متطلبات حياته بما قد أعدَّ الله له فيها وفق تعليمات الله "سبحانه وتعالى" وهديه.

فعندما نتحرك وفق هدي الله وتعليماته وشريعته، ونلتزم وفق ذلك؛ فهذا يصلح لنا حياتنا، ويهيِّئ لنا أن نحصل على المزيد من البركات من جانب الله "سبحانه وتعالى"، وهذا يقينا من كثيرٍ من الآفات والمخاطر الكبيرة جداً؛ لأن الإنسان عندما يتحرك بعيداً عن منهج الله "سبحانه وتعالى" وهديه في إطار الحركة في هذه النعم، والتقلب في هذه النعم، والسعي لاستثمار هذه النعم، فهو قد يرتكب الكثير من الأخطار والأخطاء التي لها عواقب سيئة عليه في الدنيا وفي الآخرة.

الإنسان هو يتجه غريزياً، وبدافع الشعور بالحاجة، وتحت ضغط الحاجة، تحت ضغط الجوع والفقر والمعاناة، وضغط الاحتياجات المتنوعة، يتجه إلى أن يسعى إلى كيف يوفر احتياجاته الضرورية، يتجه إلى توفير احتياجاته الضرورية، يسعى لذلك، يعمل لذلك، فإذا لم يتجه وفق المنطلقات والتعليمات التي أمر الله "سبحانه وتعالى" بها؛ فتأتي منطلقات سيئة جداً، وممارسات سيئة جداً، وترتسم له غايات وأهداف سيئة، وهنا تكمن الخطورة على الإنسان، ويتجلى احتياجه إلى هداية الله "سبحانه وتعالى" فيما يتعلق باستثمار نعم الله بطريقة صحيحة ونافعة، ولا تعود عليه بالمشاكل والمخاطر السيئة جداً

ولذلك الإنسان عندما يتجه فقط وفقط من هذا المنطلق: من منطلق الغريزة والحاجة، ولا يلحظ ولا يأخذ بعين الاعتبار توجيهات الله وتعليماته؛ فهو يدخل في الكثير من المشاكل التي نستعرض بعضاً منها:

فيما يتعلق بالدافع الغريزي لدى الإنسان، الله "سبحانه وتعالى" قال في القرآن الكريم: {وَإِنَّهُ}، يعني: هذا الإنسان، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات: الآية8]، فهو بفطرته وغريزته يحب الخير، يريد لنفسه الخير، وهذه المحبة أيضاً تتفاوت من إنسانٍ إلى آخر، ولكنها تتوفر لدى كل إنسان؛ وبالتالي تمثل دافعاً وحافزاً عملياً فيتجه برغبة، وعنده هذا الدافع الكبير للسعي للحصول على الخير، وتوفير احتياجات ومتطلبات حياته.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}[آل عمران: من الآية14]، الحرث يعني: الزراعة، المحاصيل الزراعية، والقطاع الزراعي بكل ما فيه، {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران: من الآية14]، فهذه بكلها هي مزيَّنةٌ للناس، والناس تحبها، وترغب فيها، وتشتهيها؛ وبالتالي تسعى للحصول عليها.

إذا فقد الإنسان المنطلقات الصحيحة؛ يتجه كل همه، وكل رغباته، وبالتالي كل اهتماماته العملية بشكلٍ كليٍّ إلى الحصول على متاع هذه الحياة الدنيا، وعلى متطلبات حياته فيها، وعلى رغباته فيها، وهذه حالة خطيرة جداً؛ لأن هناك حياتين: الدنيا والآخرة، فإذا لم تعد تحسب حساب الآخرة، وهي أعظم من هذه الحياة، خيرها خالص، وشرها خالص، وهي للأبد، وهي على أرقى مستوى في النعم والنعيم، وعلى أشد مستوى في العذاب والشقاء، إذا لم تعد تحسب حساب الحياة الآخرة، ولم تعد تحسب فقط إلَّا حساب هذه الحياة، واتجهت كل اهتماماتك إلى هذه الحياة؛ فهذا يؤثِّر عليك تأثيراً سيئاً في منطلقاتك، في أعمالك، في اهتماماتك؛ وبالتالي لن تحسب حساب الآخرة، ولن تعمل لذلك المستقبل الأبدي الدائم، فلا تستقيم حياتك هنا، وتكون قد خسرت مستقبلك هناك، هذه مسألة خطيرة جداً، ويحذِّر الله " سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم من هذه الحالة، فيقول "سبحانه وتعالى": {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود: 15-16].

من كانت كل إرادته، وكل همه متجهٌ نحو هذه الحياة الدنيا، نحو زينتها، نحو متاعها، نحو الرَّغبات فيها، ولم يعد يحسب حساب الآخرة، ولا يفكِّر بها، ولا يعمل ما يفيده فيها، وينجيه من العذاب فيها؛ فهذا يؤثِّر عليه بالتأكيد في سلوكه، في أعماله، في اهتماماته، ولهذا آثار سيئة على استقامته، على صلاحه، يتحول إلى عنصر شر في هذه الحياة، يفعل كل شيءٍ مهما كان سيئاً ولا يبالي في سبيل أنه يحصل من خلاله على هذه الدنيا، يسيطر هذا الهم على ذهنه بشكلٍ كامل، فلا يفكِّر في أيِّ شيءٍ آخر، يفقد كل اهتماماته التي تتعلق بمسؤوليته فيما بينه وبين الله "سبحانه وتعالى"، ينسى كل شيء، ويتجه كلياً للاهتمام بهذه الحياة الدنيا وبزينتها.

هنا يقول الله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}، فهو سيحصل يحصل على ما كُتِبَ له في هذه الحياة، وعلى رزقه في هذه الحياة، وعلى ما قدَّره الله له فيها، لكنه سيكون قد خسر مستقبله الأبدي والدائم، في هذه الحياة ما يحصل عليه سيحصل عليه مع منغصات، ولفترة محدودة، ثم تنتهي هذه الحياة، ويكون في المقابل قد خسر النعيم الخالص، السعادة الأبدية، النعيم العظيم الذي لا نهاية له، وأصبح مستقبله مستقبلاً خاسراً بكل ما تعنيه الكلمة، في العذاب الدائم، في الشقاء الدائم، ومن أول غمسةٍ في نار جهنم، من أول ما يلقى به في جحيم النار، سينسى كل نعيمٍ قد تنعَّمه في هذه الحياة الدنيا مهما كان، مهما نال في هذه الحياة من مشتهياته ورغباته وأهوائه، ينسى كل متع هذه الحياة، وكل رغباتها، وكل ما ناله فيها حسب شهواته ورغباته من أول ما يلقى في نار جهنم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} أعوذ بالله، {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ضاعت كل جهوده، انتهت وتلاشت كل اهتماماته، كل أعماله، أصبحت وبالاً عليه، ووزراً وعذاباً يخلد فيه والعياذ بالله.

من السلبيات الخطيرة للإنسان عندما يتعامل مع نعم الله فقط من منطلق الغريزة، والهوى، والشهوات، والرغبات، ولا يستثمرها وفق هدي الله ووفق تعليمات الله: أنه عندما يحصل على الرزق، يحصل على السَّعة، يحصل على الإمكانات يطغى، هذه حالة خطيرة جداً، حالة خطيرة جداً.

أو وهو يسعى للوصول إليها، ولم يصل إليها بعد، يطغى أيضاً، ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى": {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 6-7]، طغيان الإنسان يكون إما في سلوكه، في تعامله السلوكي، فيما يسعى له من مشتهياته، وملذاته، ورغباته، وأهوائه، فينتهك الحرمات، ويتعدى حدود الله، ويبطر بالنعمة، فيستخدم ما معه من المال في الحرام، لأكل حرام، للوصول إلى حرام، لشرب حرام، للذَّات الحرام، للفساد... لأشكال كثيرة من الطغيان في إطار سلوكه، في إطار إنفاقه وفق شهواته ورغباته وأهواء نفسه، فيتعدى حدود الله، وينتهك حرمات الله.

وقد تكون أيضاً مع هذه حالة الطغيان في الطغيان على الآخرين، في البغي عليهم، في الظلم لهم، في التعدي عليهم، التعدي على ممتلكاتهم، التعدي على حياتهم بغير حق، التعدي عليهم بأشكال أو بأخرى، فهذه الحالات من الطغيان هي تأتي مع تمكُّن الإنسان أكثر ما تكون، ومع استغنائه، عندما يرى نفسه أنه أصبح غنياً، متمكِّناً، ثرياً، فإذا اقترن مع ذلك سلطة وجاه؛ بطر بالنعمة، وبغى وتكبر، وطغى وتجبر، وانتهك الحرمات، وتعدى الحدود، هذه حالة خطيرة جداً، وتحصل للكثير من الناس، من المستوى الفردي في نطاق محدود، إنسان حتى البعض مثلما يقولون: [يسْكِر من زبيبة]، لو ما بلا شويه قليل من المال، وارتاح حاله، وأصبح ميسور، ولو ما بلا شويه ميسور الحال، نسي الله، نسي نعمة الله، نسي فضل الله عليه، وأصبح يستغل ما معه من اليسر في الحرام، في لذَّات الحرام، في شهوات الحرام، في أكل الحرام، في الوصول إلى الحرام، أو في البغي على الآخرين، والظلم للآخرين، والتعدي على حقوق الآخرين، وصولاً إلى كيانات ودول، بعض الدول بثرواتها الضخمة تبطر بالنعمة، وتتجه إلى برامج، ومشاريع، وأعمال، ومؤامرات، واهتمامات ظالمة، وفيها فساد، وفيها ظلم، وفيها بغي، وفيها عدوان، وفيها إجرام، وفيها تعدي على عباد الله وعلى الشعوب الأخرى، على مستويات متفاوتة يحصل هذا في الواقع البشري.

فالإنسان أيضاً إذا لم ينظر إلى نعم الله "سبحانه وتعالى" أنها في إطار الاختبار له، هل سيشكر، فهو في هذه الحالة سيتعامل بمسؤولية. أمَّا إذا لم ينظر إلى المسألة باعتبارها اختبار، وهل سيشكر، وهل سيتعامل بمسؤولية فيما مكَّنه الله فيه، وأنعم به عليه؛ فسيتعامل بطريقة أخرى مختلفة.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر: الآية15]، يتوقف عند هذا الحد: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}، وينسى أنَّ الله أكرمه ونعَّمه ابتلاءً، اختباراً له، وأنَّ النعم تقترن بها مسؤوليات، والاختبار له هل سيفي بمسؤولياته هذه المترتبة على ما أكرمه الله به، ونعَّمه به، فعندما ينظر إلى المسألة أنها هكذا: مجرد نعمة، وليست اختباراً، ولا يقترن بها مسؤوليات؛ فهنا يتجه بشكلٍ خاطئ للتمتع بهذه النعم، والاستغلال لها بطريقة خاطئة، فيصل إلى درجة أن يكون غير شاكرٍ للنعمة، وأن يعصي الله بما أنعم به عليه، وفي هذا إساءة إلى الله "سبحانه وتعالى"، إساءة إلى ربنا المنعم الكريم، {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}، لا يقول ربي أكرمن ليختبرني، أكرمني ليختبرني، هل سأشكر أم سأكفر النعمة، هل سأفي بالتزاماتي، هل سأقوم بمسؤولياتي على أساس ما أنعم به عليَّ أم لا، ينسى ذلك، ينسى جانب المسؤولية والشكر.

{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر: الآية16]، وهنا كذلك بدلاً من أن يصبر يتذمر، ولا يسعى إلى أسباب الخير، أسباب السَّعة في الرزق، أسباب النعمة، إنما يتذمر أكثر فأكثر، ويتعقد، ولا يصبر، وقد يدفعه هذا أيضاً إلى المعصية، قد يدفعه هذا إلى أن يسعى للسعة بوسائل محرَّمة، فيها ظلم، أو فيها جرائم، أو فيها سرقة، أو نهب، أو تصرفات سيئة جداً.

{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر: 17-20]، تنشأ هذه الظواهر السلبية، عندما لا يكون الفقير صابراً، ولا الغني شاكراً، تحصل هذه الظواهر السلبية: ظلم الأيتام وعدم الإكرام لهم، ولا الاهتمام بأمرهم، ولا المبالاة بالمساكين، السعي للحصول على الثروة والمال وتوفير متطلبات الحياة بأي طريقة، حتى بالحرام، الذي قد يصل بالإنسان إلى أن يظلم حتى قريبه، حتى شريكه في الإرث، وبالذات النساء يتعرضن لظلمٍ كبير فيما يتعلق بالإرث، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا}، أكلاً يجمع بين الحرام والحلال، لا يتجه إلى الحلال والاقتصار على الحلال.

{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، حباً كبيراً، كثيراً، يسيطر عليكم، يؤثِّر على استقامتكم، يدفعكم إلى المعصية، يدفعكم إلى الحرام، مسألة خطيرة جداً، عندما يكبر حب المال، ويكثر في نفس الإنسان، فيسيطر على مشاعره، على اهتماماته، على توجهاته؛ وبالتالي في دوافعه العملية، وفي تصرفاته وممارساته وأعماله.

من الظواهر السلبية التي تأتي لدى الفقير الذي لا يصبر، ولا يتجه وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى" لأسباب الرزق، وأسباب البركة، وأسباب السعة، ولدى الغني الذي يطمع، يبطر، يتجبَّر، يتكبر، يغتر ولا يشكر: بيع الدين للحصول على الدنيا، بيع الدين قد يتمثل في إطار الموقف، تقف موقف الباطل تجاه قضية من القضايا، موقف من المواقف، وقوفك في باطل من أجل أن تحصل على شيءٍ من الدنيا، وقوفك مع الطغاة والظالمين والمجرمين من أجل أن تحصل على شيءٍ من الدنيا، أو تنازلك وتركك لشيءٍ من الحق، من الدين، بأي شكلٍ كان، أو اتِّباعك لأهل الباطل في أي مسألةٍ من مسائل باطلهم على المستوى العقائدي، على المستوى العبادي، على المستوى العملي، على مستوى المواقف، كل ذلك يدخل في إطار أن تشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، أن تبيع دينك، أن تبيع دينك في مقابل الحصول على شيءٍ من الدنيا، وهذا من أسوأ ما يعمله الإنسان، ومن أكبر الجرائم، ومن أكثر ما هو منتشرٌ في هذه الدنيا، بيع الدين بالدنيا للحصول على الدنيا، هذه حالة قائمة بشكل كبير جداً في هذه الحياة، كم من الناس وكم وكم يقفون مواقف الباطل، ومواقف معروف أنها مواقف باطل، ولكنهم يقفون مواقف الباطل من أجل الحصول على شيءٍ من الدنيا.

واليوم كم وقف في صف العدوان على شعبنا اليمني في مقابل ماذا؟ أغلبيتهم وأكثرهم في مقابل الحصول على شيءٍ من الدنيا، فباعوا الدنيا والآخرة، فأنت عندما تقف موقفاً باطلاً، أو تقف في صف أهل الباطل تناصرهم في أي قضية من قضاياهم الباطلة، أو تبيع شيئاً من دينك على مستوى العقيدة، أو على مستوى العبادة، أو على مستوى العمل، ما تتركه من الحق من أجل أهل الباطل، في مقابل الحصول على شيءٍ من دنياهم، فأنت هنا تبيع الدين، تبيع الدين، وهذه مسألة خطيرة جداً؛ لأنك لو أعطيت الدنيا بكلها، لو أن لك الأرض وما فيها من الثروات، لكنت يوم القيامة تتمنى أن لو يمكنك أن تفتدي نفسك بها من عذاب الله، {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ}[الزمر: من الآية47]، أمر رهيب جداً، العذاب الشديد، والخسران الكبير والمبين لمن يبيع دينه مقابل الدنيا، خسران رهيب جداً، هو سيتمنى أن لو أمكن أن لو كانت الأرض بكلها ذهباً، وأن يكون مثلها معها ليفتدي بها من العذاب، ولكن دون جدوى.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[التوبة: الآية9]، بيع الدين، بيع آيات الله بدل الالتزام بها، بدل الاهتداء بها، بدل التوجه على أساس ما تهدي إليه، يتحرك بدلاً عن ذلك فيما يحصل من أجله على القليل من هذه الدنيا، فيقف مواقف الباطل، أو ينتمي للباطل، أو يتحرك في صف الباطل، قضية خطيرة جداً، وهذا يحصل للكثير من الناس، سوق كبيرة، سوق بيع الدين بالدنيا من أكبر الأسواق في هذا العالم، لدى البشر.

أيضاً مما يحصل في هذا السياق: في سياق المنطلقات الخاطئة، وعدم الاستثمار لنعم الله بشكلٍ صحيح هو: عدم الشكر، والإعراض كلياً عن الله "سبحانه وتعالى" عن منهجه الحق، يقول "سبحانه وتعالى": {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}[الإسراء: من الآية83]، (أَعْرَضَ): لم يشكر نعم الله "سبحانه وتعالى"، ينسى الله، فلا يشكره، بل يسيء إلى الله بما أنعم عليه، يستخدم ما أنعم الله به عليه من النعم في معصية الله، فيسيء إلى الله، ويقابل إحسانه إليه بالإساءة إلى الله "سبحانه وتعالى"، إلى ربه ولي كل نعمةٍ عليه، لا يتجه إلى الله بالشكر، الشكر في مفهومه العملي، شكر بالتحرك وفق هدي الله، باستثمار النعم والحركة فيها وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى".

{وَنَأَى بِجَانِبِهِ}[الإسراء: من الآية83]: مبالغة في الإعراض، مبالغة في الابتعاد عن منهج الله "سبحانه وتعالى"، والتجاهل لتوجيهات الله "جلَّ شأنه".

من الأعراض السيئة: هي العبث والتبذير، والإهدار للنعمة: وما أكثر ما يحصل من تبذير، وإهدار للنعمة، وصرف لأموال كثيرة فيما لا طائل منه، ولا فائدة فيه، هذا يحصل كثيراً، وبالذات عند العرب، العرب من أكثر الناس تبذيراً في الدنيا، ليس عندهم رشد، ليس عندهم تدقيق في الإنفاق وانتباه، فيحصل هدر الكثير من الأموال في العبث، في أشياء لا طائل منها، لا فائدة فيها، وأيضاً في التضييع، تضييع لأشياء كثيرة، نسبة التبذير كبيرة جداً، تقدر عالمياً الآن بالثلث، على مستوى فقط ما يذهب إلى القمامات؛ أما التبذير بمفهومه الأوسع، ومنه إهدار الأموال فيما لا فائدة منه، ولا طائل منه، ولا جدوى منه، أو فيما هو حرام، فهذا نسبة كبيرة جداً من الأموال تذهب على هذا الأساس.

{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}[البلد: 6-7]، الإنسان العربي يتفاخر بما أهدر من الأموال، {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} كثيراً، هائلاً، متجمعاً، وكأنه لا رقابة عليه، الله رقيبه.

أيضاً من الآثار السلبية حتى على المستوى النفسي لهذه الحالة من الطغيان بالمال، والغرور بالمال: أن الإنسان قد يستثمر إمكاناته هذه ويشعر وكأنه أصبح متمكناً وقوياً وخالداً في هذه الحياة، وأصبح يمتلك وسائل القوة، فيبغى على الآخرين، يتكبر على الآخرين، وفي نفس الوقت يسيء إلى الآخرين، ولا يبالي ولا يكترث، يصبح مسيئاً، وذا دور سيء في تعامله مع الآخرين، ومغرورٌ بماله، بالاتكال على إمكاناته، وعلى أمواله، وعلى ما يمتلكه، يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}[الهمزة: 1-3]، فهو أصبح همازاً ولمازاً ومسيئاً إلى الآخرين، ومستهتراً بكرامتهم واحترامهم، لا يبالي بهم، يكثر من الهمز واللمز، وهو مغرور بما يمتلكه من إمكانات، تأتي هذه على مستويات متفاوتة، من أشخاص في نطاق محدود، إلى دول وكيانات، {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}[الهمزة: 4-6] نعوذ بالله.

مما يحصل أيضاً في الاستثمار الخاطئ لنعم الله "سبحانه وتعالى": الإنفاق منها لدعم الباطل، لدعم الباطل ليكون سائداً في هذه الحياة، ليكون نظاماً حاكماً، أو ليكون منهجاً قائماً، أو ليكون واقعاً مسيطراً، أو في حالة بغيٍ وظلم.

الله "سبحانه وتعالى" يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، فهم يحاربون بها الحق؛ كي لا ينتشر، كي لا يسود، كي لا يكون هو المنهج القائم في هذه الحياة، وليحل محله الباطل، {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}[الأنفال: من الآية36].

أيضاً من السلوكيات السيئة التي تأتي في سياق الطمع، والأهواء، وعدم التعامل بشكل صحيح مع نعم الله "سبحانه وتعالى": اليمين الفاجرة، البعض قد يدفعه طمعه وأهواؤه ورغباته إلى أن يحلف اليمين الفاجرة؛ ليقتطع حقاً لمسلمٍ آخر، هذه قضية خطيرة، فيجمع وزرين وذنبين ومعصيتين: أنه اقتطع حق الآخرين بغير حق، بالحرام، وأنه حلف يميناً فاجرة، يقول الله "سبحانه وتعالى": {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران: من الآية77]، من كبائر الذنوب من المعاصي التي توصل الإنسان إلى قعر جهنم، ليخلد في جهنم: اليمين الفاجرة، اليمين الفاجرة مسألة خطيرة جداً، البعض يتهاونون بها، في النزاعات على الأراضي، في النزاعات على الممتلكات، في النزاعات المختلفة، فالبعض من أجل الحصول على أراضي، أو من أجل الحصول على مال، أو من أجل اقتطاع حقٍ على الآخرين، لا يتورع فيحلف اليمين الفاجرة والعياذ بالله، وهي جريمة كبيرة جداً وشنيعة للغاية، لو لم تقتطع بها إلا سواكاً من أراك، كما في الحديث عن النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، لكانت كافيةً في أن تدخل إلى جهنم، وأن تخلد فيها، لاحظوا ما ورد في هذه الآية: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة}ِ: ليس لهم أي نصيب من الجنة أبداً، ولا من رحمة الله، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ما أكبر ورطة من يحلفون في الأراضي والطمع في الأراضي باليمين الفاجرة؛ لاقتطاع الحرام والعياذ بالله.

من الظواهر السلبية التي قد تدفع بالبعض من الناس للحصول على الأموال؛ بسبب الطمع، والجشع، والتعامل بطريقة خاطئة، ومنطلقات خاطئة، للحصول على مال معين، هي: الرشوة، قد يدفع الرشوة من أجل أن يغري حاكماً، وهذه تحصل بشكل كثير بين المتشاجرين، بعضٌ منهم وكثيرٌ منهم يفعل ذلك، يدفع رشوةً إلى الحاكم، سواءً الحاكم المحكَّم بين الطرفين، أو حاكم ذو ولاية، فيدفع إليه الرشوة، بهدف أن يؤثر عليه في إصدار الحكم لصالحه؛ لأنه يعرف أن الحكم إن كان حكماً صحيحاً لن يكون لصالحه، فهو يريد حكماً لصالحه، يقتطع به حق الآخرين، يأكل به أموال الناس بالباطل.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة: من الآية188]، وهذا يشمل كل وسيلة باطلة للحصول من خلالها على أموال الآخرين، هذا محرم، {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: من الآية188]، {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}: هذه هي الرشوة، محرمة، الجريمة فيها على الحاكم الذي ارتشى فحكم باطلاً، وأصبح شريكاً في مصادرة حقٍ على صاحبه، وجريمة كبيرة للذي أرشى، جريمة كبيرة جداً، {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا}: فتقتطع شيئاً من أموال الناس، {بِالْإِثْمِ}: باطلاً وظلماً وإثماً، {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، جريمة كبيرة جداً، الدافع إليه هو ماذا؟ الطمع، الطمع خطير جداً.

من الممارسات أيضاً الإجرامية التي تأتي عندما ينحرف الإنسان، ولا ينطلق من منطلقات صحيحة في التعامل مع نعم الله "سبحانه وتعالى"، من الممارسات السيئة جداً: الربا، استخدام الربا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة: من الآية275]، الربا من أكبر المحرمات، ومن أسوأ المحرمات، والمرابي يرتكب جريمةً من أكبر الجرائم وأشنع المعاصي والعياذ بالله، وللأسف الشديد هناك تعامل على نطاق واسع بالربا، تعامل على نطاق واسع جداً بالربا، يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: من الآية275]، الربا جريمة من أكبر الجرائم التي يخلد بها الإنسان في النار، الوعيد عليها بالنار، والخلود في النار والعياذ بالله، {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فالمرابي، الذي يتعامل بالربا مصيره إلى النار يخلد فيها، ولا يقبل الله منه أي عمل عمله باسم أنه عمل صالح في هذه الحياة الدنيا، لا صلاة، ولا صيام، ولا زكاة، ولا حج، ولا عمرة، ولا صدقة، ولا أي عمل يقدمه، يقول الله "سبحانه وتعالى": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[البقرة: 278-279]، وهذا وعيد شديد، وعيد شديد في الدنيا والآخرة: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ) في الدنيا، والحرب من الله واسعة جداً، عندما يحاربك الله، فهو يعلم ما يعمله بك، مما يحوّل حياتك إلى شقاء والعياذ بالله.

من الممارسات التي يدفع إليها الطمع، والرغبات، والأهواء، وهم الدنيا، عندما يتحول كل هم الإنسان للحصول على مكاسب هذه الدنيا فحسب، ينسى الله، وينسى الدار الآخرة: الغِش: الغش بأشكال متنوعة، الغش بالكيل والوزن في المقادير وتحديدها، الغش أيضاً في تقديم الشيء بشكل مزيف، الغش في تقديم المسألة على أنها ذات جودة معينة، ثم تكون المسألة مختلفة عن ذلك.

الغش له أشكاله، وأتى الوعيد كثيراً في القرآن الكريم: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين: الآية1]، (وَيْلٌ): هذا وعيدٌ لهم من الله "سبحانه وتعالى" بالهلاك والعذاب، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين: 1-6]، النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" قال كلمته الشهيرة جداً: (من غشنا فليس منا)، فليس منا، الغش في عنوانه الواسع: الغش، في المعاملة، الغش في النصيحة، الغش في الموقف، الغش في المشورة، (من غشنا فليس منا).

مما يحصل أيضاً من الممارسات التي يدفع إليها الطمع والهوى: خيانة الأمانة: خيانة الأمانة سواءً في إطار المسؤولية، أو أمانة اؤتمنت عليها وأعطيت إياها، فتمارس فيها الخيانة؛ لأجل الحصول على شيءٍ من هذه الدنيا، الله "سبحانه وتعالى" قال في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال: الآية27]، فتعتبر الخيانة من أكبر الجرائم، ومن أخطر الجرائم، التي يدفع إليها الهوى، أثر الطمع، أثر الهوى، أثر هذا التوجه نحو هذه الدنيا، والنسيان لله وللدار الآخرة، يمتد إلى أشياء كثيرة جداً: في الممارسات، والمنطلقات، والأهواء، والرغبات، والمواقف، ويمتد أيضاً إلى مدى أوسع من ذلك، حتى إلى علماء السوء، علماء السوء هم من هذه الفئة التي تأكل أموال الناس بالباطل، حتى البعض من المتعبدين يدخل في هذا السياق: في سياق من يأكل أموال الناس بالباطل، ويصد عن سبيل الله، يقول الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية34]، واحدٌ من أشكال أكل أموال الناس بالباطل بالنسبة للأحبار: العلماء (علماء السوء)، والرهبان: المتعبدين، أن يكون في سياق أنشطة ذات طابع ديني، وعناوين دينية:

تعليم ديني، وهو يقدم ضلاله، وهو يحرف مفاهيم الإسلام، وهو ينشر الفرقة بين المسلمين، والعداوة فيما بينهم.

أو عناوين خيرية، ولكنه يستغلها للاستقطاب إلى صف الباطل، وإلى الضلال الذي يقدمه، إلى الباطل الذي يقدمه.

تكون هذه أيضاً من أساليب أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن في المسألة خداع للناس، الناس الذين يقدمون أموالهم تحت عناوين قربة إلى الله، ودين الله، ورضا الله، ومن أجل الإسلام، ومن أجل الحق، ومن أجل العلوم الدينية والشرعية، وتحت هذه العناوين، فيقدمون أموالهم، فتؤكل وتستغل، والحاصل هو ضلالة وباطل، وما إلى ذلك، في مقابل: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وليس: يدعون إلى دين الله بشكلٍ صحيح، يحركون الناس في نصرة دين الله، والعمل على إقامة دين الله بشكلٍ صحيح، بل هم في حالة صد؛ لأن من أكثر الناس صداً، وأسوئهم صداً عن سبيل الله، علماء السوء؛ لأنه يصد عن الدين باسم الدين، يصد عن الحق تحت عنوان الحق، يصد عن الموقف الحق تحت العناوين الشرعية والدينية، فيسيء إلى الله، ويفتري على الله، ويصد عن سبيل الله، من موقع انتماء ديني.

أو عبادي: شخص يتظاهر بالتدين، ويأتي والمسبحة في يده، ثم هو يصد عن الموقف الحق، وعن سبيل الله "سبحانه وتعالى"، ويصل إلى تلك الأموال التي قد كانت ستدفع في سبيل الله، فتؤخذ إلى مجالات أخرى تحت عناوين دينية.

أيضاً من الممارسات السلبية والمظاهر السيئة، التي تحصل عادةً: أن البعض قد يكون في مقابل الكتمان، بعض علماء السوء سيأخذ ما سيأخذ من الأموال، ويرضى لنفسه وضعية معينة فيها حصول على أموال وأنشطة عادية، ولكنه في مقابل الكتمان لما أنزل الله من الكتاب تجاه قضايا مهمة وحساسة، الأمة أحوج ما تكون إلى التبيين فيها، ولهذا يقول الله "سبحانه وتعالى":  {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، آثروا الحصول به على أموال وهدوء، ولا يدخلون في مشاكل، ولا يزعجون الآخرين، ويتركون الأمة وهي تواجه مخاطر كبيرة جداً، بحاجة إلى التبيين فيها لما أنزل الله من الكتاب، {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة: الآية174]، المسألة خطيرة جداً عليهم، {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}، يوم القيامة يأكل النار والعياذ بالله، ويتحول ما أكله في مقابل كتمانه، في مقابل أنه لم يرشد الأمة إلى الموقف الحق تجاه ما تعانيه من مخاطر وقضايا وتحديات كبيرة على دينها ودنياها، تكون النتيجة أن يأكل النار، بدلاً عما كان يأكله في هذه الدنيا، ويسعى لصد الناس عن الإنفاق في سبيل الله بشكلٍ صحيح؛ لأجل أن تنصرف إليه الأموال من أجل ذلك، يأكل يوم القيامة النار، يسبب لنفسه هذا السخط الكبير من الله "سبحانه وتعالى"، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولو كانوا في الدنيا يحظون بالمديح من أتباعهم ومحبيهم، لكن يوم القيامة لا يزكيهم أبداً.

فنجد مثل هذه الممارسات، وغيرها من الممارسات الإجرامية، هي تأتي نتيجة المنطلقات الخاطئة في التعامل مع نعم الله، في الاستثمار لنعم الله، في معالجة مشكلة الفقر، في الأخذ بأسباب الرزق والسعة.

إن شاء الله نتحدث في المحاضرة القادمة عن الاتجاه الصحيح، وسنتحدث- إن شاء الله إذا تهيأت لنا الفرصة وأمد الله في العمر- على كثيرٍ من التفاصيل المتعلقة بهذه المواضيع.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" وأن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نص المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ


بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ


الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نعود إلى الحديث على ضوء الآية المباركة في سورة الأنعام، وكان سياق الآية في قوله “سبحانه وتعالى”: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[الأنعام: من الآية151]، وتحدَّثنا على ضوء هذه الآية المباركة، وعلى ضوء هذا النص، هذه الفقرة من هذه الآية عن كيف يتعامل البعض مع مشكلة الفقر، وبالذات الفقر الشديد (الإملاق)، وقد يدفع البعض تدفعه معاناته من الفقر الشديد إلى أن يعتمد على وسائل محرَّمة، على وسائل محرَّمة، يسعى من خلالها لعلاج هذه المشكلة، أو للتعامل مع هذه المشكلة، وقد يظلم أبناءه وبناته، وقد يرتكب محرَّمات أخرى، وقد يظلم المجتمع من حوله، وقد يظلم البعض، فالوسائل المحرَّمة كثيرة التي يلجأ إليها البعض في التعامل مع هذه المشكلة، تحدَّثنا عن البعض، ونتحدث- إن شاء الله- لاحقاً في المحاضرات القادمة عن جوانب أخرى.

الله “سبحانه وتعالى” بعد هذا النهي قال “جلَّ شأنه”: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، فهو هنا “سبحانه وتعالى” يلفت نظرنا إلى كيف نتوجه بشكلٍ صحيح لمكافحة هذه المشكلة، ولمواجهة هذه المشكلة: بالعودة إلى الله “سبحانه وتعالى”، والالتجاء إليه “جلَّ شأنه”، والأخذ بأسباب الرزق، والاعتماد على توجيهاته “جلَّ شأنه”، {نَحْنُ}: الله “جلَّ شأنه”، الرزاق، الكريم الوهاب، الغني الحميد، ذو الفضل الواسع العظيم، من بيده ملكوت كل شيء، من بيده خزائن السماوات والأرض، يقول “جلَّ شأنه”: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وهذا طمأنة، وضمانة، ووعد إلهي لا يمكن أن يتخلَّف أبداً؛ لأن الله “جلَّ شأنه” لا يخلف وعده أبداً، يقدِّم الضمانة لعباده، ولمن يعانون من هذه المشكلة أيضاً، أنه متكفلٌ برزقهم وبرزق أولادهم: بنين وبنات، فهذه الضمانة مهمة جداً؛ لأنها أول ما تعالجه في مشكلة الفقر: هو القلق النفسي، والضغط النفسي؛ لأنه يترك تأثيراً سيئاً جداً على الإنسان، ويكون هو الدافع لارتكاب الجريمة، والدافع للاعتماد على وسائل محرَّمة، القلق، والضغط النفسي، والتوتر النفسي، والانزعاج النفسي.

عندما يكون الإنسان معانياً من جهة، وفاقداً للأمل في الحصول على متطلبات حياته الضرورية من جهةٍ أخرى بالطريقة الصحيحة، والطريقة السليمة، والطريقة المشروعة، فهذا الضغط النفسي يؤثِّر عليه، فمع يأسه يفكِّر بوسائل محرَّمة، ويوسوس له الشيطان أيضاً ويشجِّعه، وقد يأتي أيضاً من شياطين الإنس من لهم أنشطة واهتمامات وأعمال كثيرة جداً وفق الوسائل المحرَّمة، وبالطرق غير المشروعة، فيسوِّلون له أيضاً، ويوسوسون له، ويشجِّعونه على الاتجاه معهم في الاتجاهات الخاطئة، وفي اعتماد الوسائل والأساليب المحرَّمة، فهذه ضمانة مهمة لمعالجة هذه الحالة النفسية، وعلى الإنسان أن يثق بالله “سبحانه وتعالى”؛ وبالتالي يتجه الاتجاه الصحيح لمواجهة هذه المشكلة، بدءاً بالالتجاء إلى الله “سبحانه وتعالى”، ثم الأخذ بالأسباب التي أرشد إليها.

الله “سبحانه وتعالى” من أسمائه الحسنى: الرَّزاق، هو الذي يرزق، وهو “سبحانه وتعالى” خلق لنا الأرزاق، خلق الأشياء الكثيرة جداً، وأنعم علينا بالنعم الوافرة جداً، التي فيها رزقٌ لنا، تلبِّي احتياجاتنا، تتوفر لنا من خلالها متطلبات حياتنا، وأساسيات معيشتنا، وما نحتاج إليه.

عندما نعود إلى القرآن الكريم نجد في آياته الكثير والكثير من الحديث عن نعم الله “سبحانه وتعالى”، وعما أعده لنا من الأرزاق؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” هو الرَّزاق، كما قال “جلَّ شأنه” عنه نفسه: {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات: من الآية58]، الرَّزاق ذو القوة، المقتدر على أن يخلق ما يشاء ويريد مما يحتاج إليه عباده، ومما تحتاج إليه خليقته، والقادر على إيصال ذلك إليهم، والقادر على أن يجعله على النحو الذي يناسب احتياجاتهم، فلا يعجز ولا يضعف “جلَّ شأنه” عن ذلك.

يقول جل شأنه: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الجمعة: من الآية11]؛ لأن رزقه واسع، ورزقه عظيم، ورزقه على أرقى مستوى، نعمه نعمٌ عظيمة.

يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}[هود: من الآية6]، وليس فقط بني آدم، وليس فقط الإنسان، إنما كل الدواب التي على الأرض، {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، فهو قد خلق أرزاقها، وهيَّأ لها الهداية إلى أرزاقها، وسخَّر لها ما تحتاج إليه في ذلك، وهيَّأ لها الظروف المناسبة لذلك، كل ما يتطلبه الموضوع هيَّأه، {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}[هود: من الآية6]، هو قادرٌ “جلَّ شأنه” على تدبير أمر رزقها، {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود: من الآية6].

يقول “جلَّ شأنه”: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ}[العنكبوت: من الآية17]؛ لأنه هو الرزَّاق، هو الذي بيده خزائن السماوات والأرض، هو الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي هو على كل شيءٍ قدير، فنطلب منه الرزق، ونبتغي منه الرزق، ونأخذ بالأسباب العملية، والأسباب المعنوية، والأسباب المتنوعة التي أرشدنا إليها للحصول على الرزق والبركة.

يقول “جلَّ شأنه”: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}[الإسراء: من الآية70]، هو “سبحانه وتعالى” رزقنا، وليس أيَّ رزقٍ عادي، إنما من الطيِّبات، رزق بني آدم من الطيِّبات، من طيِّبات الرزق، ولهذا النعم التي أنعم بها علينا، ورزقنا بها في الحياة، هي كلها في إطار الطيِّبات، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: من الآية70].

يقول “جلَّ شأنه” أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[فاطر: الآية3]، هو “جلَّ شأنه” الذي خلق كل ما نحتاج إليه، متطلبات حياتنا الأساسية هي من خَلْقِه، خلقها رزقاً لنا، ونعمةً علينا، وجعلها من الطيِّبات، في المأكولات، والمشروبات، والملبوسات… ومختلف أغراض الحياة للإنسان، ليس هناك إلهٌ آخر يمكن أن نقول: [أمَّا تلك النعم فهو الذي أوجدها وخلقها من العدم].

يقول “جلَّ شأنه” أيضاً: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ}[الشورى: من الآية12]، يعني: يوسِّعه، {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}[الشورى: من الآية12]، يجعله بِقَدَر، وفق حكمته “سبحانه وتعالى”، لكنه يرزق، يرزق الجميع، ويصل رزقه إلى الجميع.

من أسمائه “سبحانه وتعالى”: الوهاب، من أسمائه الحسنى، فهو المنعم واسع النعمة، والذي يهب الكثير والكثير من نعمه لعباده، سواءً ما كان منها النعم الجماعية، أو على مستوى كل شخصٍ منهم، أو مستوى ما أنعم به على البعض منهم، الوهاب، فهو يهب الكثير والكثير والكثير بغير حساب، يقول “جلَّ شأنه”: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}[ص: الآية9].

من أسمائه الحسنى “سبحانه وتعالى”: الكريم، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار: الآية6]، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية78]، ولذلك نعمه واسعةٌ جداً، عطاؤه عطاءٌ واسعٌ جداً، وعطاءٌ كريم، يقدِّم أحسن الأشياء، أفضل الأشياء، ذات جودة عالية، ذات منفعة كبيرة، ذات جمال وروعة، نجد هذا في مختلف ما أنعم به علينا من المأكولات وغيرها.

قرأنا في سورة الرحمن في الحديث عما فيها من النعم، وما عرضه الله لنا من النماذج من النعم العامة، وكيف هي على أرقى مستوى، وتحدَّثنا على ضوئها عن كثيرٍ من النعم، وهناك أيضاً حديثٌ واسعٌ جداً في القرآن الكريم عما أنعم الله به، بدءاً من الحديث عن تجهيز هذه الأرض بمتطلبات احتياجاتنا كافة، الأرض بكلها ككوكب نعيش عليه، هيَّأها الله لحياتنا من كل الجوانب، ووفر فيها كل متطلبات حياتنا، فهو “جلَّ شأنه” يقول: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[الأعراف: الآية10]، فهيَّأ فيها ما نحتاج إليه لمعيشتنا، ومكننا، هيَّأ لنا فيها الحركة، العمل، السعي فيها للإنتاج، فأتى التمكين مع ما أعدَّ فيها من النعم، وما جعل فيها من المعايش، ما نحتاج إليه لمعيشتنا، فهيَّأ فيها ما نحتاج إليه من المعايش، وجعل حتى في البشر أنفسهم على المستوى المعرفي والذهني، وعلى مستوى ما منحهم من طاقات وقدرات، وهيَّأ لهم من وسائل وأسباب ما يصلون فيه إلى معايشهم، وما تتوفر لهم من خلاله احتياجاتهم ومتطلباتهم الأساسية.

يقول “جلَّ شأنه” أيضاً عن الأرض: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}[الحجر: من الآية19]، يعني: جعلها مبسوطة، هي كروية، ولكنها مبسوطة، وليست كلها أماكن شاهقة، ومعلَّقة، وصعبة الحركة، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}[الحجر: من الآية19]، الجبال التي تثبتها، وتجعلها مستقرةً، لا تكون مضطربةً، حتى لو كانت في حركة، فهي حركة من دون اضطراب يؤثِّر على حياة الإنسان، والجبال بنفسها كثيرٌ منها جعلها الله مغطاة بالتراب؛ حتى يتهيَّأ عليها السكن، والزراعة، والاستفادة منها، وكثيرٌ منها أودع الله فيها أصناف وأنواع من المعادن، ويستفيد الإنسان منها في عملية البناء، ويستفيد الإنسان منها في أغراض كثيرة، مع أنها تقوم بمهمة رئيسية في استقرار حياة البشر على الأرض؛ باعتبارها رواسي.

{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحجر: من الآية19]، مختلف النباتات، مئات الآلاف من النباتات المتنوعة، والتي لها فوائد متنوعة، تنفع هذا الإنسان، شيءٌ منها: في غذائه، شيءٌ منها: في طبه وعلاجه، شيءٌ منها: في ملبسه وكسائه وأثاثه، شيءٌ منها: في مسكنه ومتطلبات عمرانه… فوائد كثيرة جداً، إضافة إلى فائدتها على الأرض نفسها فيما يتعلق بالأوكسجين، والتمثيل الضوئي ومنافع أخرى، وفائدتها أيضاً للثروة الحيوانية التي يستفيد منها الإنسان كذلك، وكلها بشكلٍ متوازن، وبقدرٍ مناسب.

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}[الحجر: من الآية20]، ما تحتاجون إليه في معيشتكم، في أكلكم، في شربكم، في غذائكم، في متطلبات حياتكم، في وسائل دخلكم، {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}[الحجر: من الآية20]، الدواب والحيوانات الأخرى التي هي خارج إطار اهتمامكم في هذه الحياة.

وهكذا أيضاً يذكِّرنا بهذه النعمة، ويلفت نظرنا إلى استثمار هذه النعم، من منطلق أنه استخلفنا على هذه الأرض، وجعل لنا هذا الدور المهم في استثمار نعمها وفق توجيهاته وهديه، يقول “جلَّ شأنه”: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: الآية15]، هو “سبحانه وتعالى”، هو ربنا الذي يجب أن نعبده، وأن نشكره، وأن نتحرك في استثمار نعمه وفق توجيهاته وتعليماته؛ لأنها التعليمات الصحيحة التي يتهيأ لنا من خلالها الاستثمار لنعمه على أرقى مستوى، وبما يحقق لنا التكامل المعنوي والمادي، والسمو الروحي مع بعض.

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا}، هيَّأ الله لنا الأرض لنعمل عليها، لنتحرك عليها، لنسافر فيها، لنعمل فيها الأشياء الكثيرة جداً وهي مهيأة لذلك، مسخَّرة لذلك، وهذا عامل مهم جداً في التمكين في النعمة، كان بالإمكان أن تكون هذه الأرض كثيرة الزلازل جداً، ومضطربة، ومليئة بكلها بالبراكين، وفي وضعية غير مستقرة، فتكون الحياة عليها صعبةً جداً، لكن الله هيَّأ لنا أن تكون ذلولاً: مستقرةً، وتستقر الحياة عليها، وأن يتهيَّأ لنا فيها الكثير من الأعمال والأشغال في ظاهرها وباطنها.

{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}، مطلوب منا أن نستثمر هذه النعم، أن نتحرك في هذه الأرض، أن نعمل، لا يمكن أن نستفيد من هذه النعم ونحن نعتمد على البطالة، والجمود، والكسل، والإهمال، والقعود، لا بدَّ من الحركة، من الأخذ بالأسباب، والله “سبحانه وتعالى” زوَّد الإنسان في مداركه ومعارفه، وهداه وألهمه، وجعل له أيضاً في وسائل هذه الحياة ما يستفيد منه، {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، فهيَّأ المعايش، وهيَّأ الأسباب والوسائل، ومع ذلك سخَّر، يقول “سبحانه وتعالى”: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[لقمان: الآية20]، نعمة التسخير هي نعمةٌ عظيمةٌ جداً؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” خلق هذه النعم، نعم كثيرة جداً، وموارد ضخمة جداً للثروات التي يحتاج إليها الإنسان، ويستفيد منها الإنسان، وينتفع منها الإنسان في شتى مجالات حياته، ولكن مع ذلك سخَّر، فهو جعل هذه النعم وفق نظم، وجعل فيها خصائص يستفيد الإنسان من خلالها بأشكال كثيرة، وبأساليب متنوعة، وبأشكال متعددة، فيكون لك في استخدام أي نعمة من النعم طرق كثيرة، وفوائد كثيرة، ومنافع متنوعة، وهذه من النعم العجيبة جداً التي أنعم الله بها على الإنسان.

 

في مسألة التسخير يأتي الحث لنا في القرآن الكريم إلى التفكير، والتفكر، ودراسة هذه الأشياء، دراسة هذه النعم، معرفة ما أودع الله فيها من الخصائص والمنافع، وكيفية استثمارها، والانتفاع بها، والاستخراج لها، وإعادة إنتاجها بأشكال متنوعة ومتعددة.

أيضاً النظم والسنن الكونية، والقوانين الكونية، التي أودعها الله في السماوات وفي الأرض، وفيما يتعلق بمختلف ما خلقه لنا في هذه الحياة، وأتى أشياء كثيرة جداً، مما يدرس الآن في علم الفيزياء، وفي علم الكيمياء، ما يجعل لدى الإنسان إمكانية واسعة لاغتنام هذه الثروات، والانتفاع من هذه المنافع التي أوجدها الله “سبحانه وتعالى”، كل ذلك عن طريق التسخير، الله “سبحانه وتعالى” هو الذي هيأ لنا هذه النعم، وجعل فيها هذه الخصائص، وجعل فيها أيضاً إمكانية أن نستثمرها وننتفع منها بأشكال متعددة، ثم الوسائل لذلك، الوسائل التي نحتاج إليها في ذلك، الله “سبحانه وتعالى” هو الذي هيأ لنا هذه الوسائل، التي ساعدتنا في حركتنا في الحياة، وفق نظم جعلها وفق تدبير وتهيئة وتسخير لهذه الأشياء التي خلقها لنا، فننتفع منها بأشكال كثيرة جداً.

عنوان التسخير هو من أهم العناوين في القرآن الكريم، وهو يلفت نظر الإنسان إلى استثمار هذه النعم والحركة فيها، والاستفادة من ذلك، من خلال العلم، التفكير، التجربة، الدراسة، الهداية الإلهية التي تأتي له في ضمن ذلك، في ضمن اهتماماته العلمية الصحيحة، في ضمن اهتماماته، في تجاربه في الحياة، في ضمن توجهه لاستثمار هذه المنافع.

{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ}[لقمان: من الآية20]، أسبغها وأتمها، نعم كثيرة جداً ووافرة، {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، منها ما هو ظاهر أمام أعيننا مشاهد وملموس، ومنها ما هو باطن:

إما باطن في الأرض، في باطن الأرض، نستخرجه من باطن الأرض، مثل ما فيها من الثروة النفطية، والمعادن، والخيرات الكثيرة جداً.

أو موجود، إنما خارج إدراك الإنسان، لكنه بالتجربة يكتشفه ويلمسه، مثل ما قصة الأثير، مثل ما يستفيد الإنسان منه في الموجات التي يعتمد عليها في الاتصالات، وفي غير ذلك.

وكذلك ما لا ينتبه له الإنسان من النعم ويغفل عنه، وهو كثير في ألطاف الله “سبحانه وتعالى”، وفي رحمته الواسعة، وفي فضله الواسع.

الله “سبحانه وتعالى” أيضاً يقول في القرآن الكريم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}[إبراهيم: من الآية32]، الماء من الثروات الأساسية، ومن الاحتياجات الضرورية، يعتمد عليه الإنسان في حياته بشكلٍ واسع، بدءاً من الشرب، وكذلك بشكلٍ أساسيٍ جداً فيما يتعلق بالزراعة، الماء ثروة مهمة جداً، ونعمة عظيمة، من النعم العظيمة التي أنعم الله بها علينا، وأيضاً هيأ لنا وسائل للاستفادة من هذه الثروة بأشكال كثيرة، وأيضاً في التعامل معها، عندما تأتي الأمطار، تأتي مياه كثيرة جداً، ولكن في كثيرٍ من الدول يتجه البشر إلى كيف يخزنون هذه المياه بشكلٍ أفضل، في سدود، في حواجز، في برك، في أشكال متنوعة.

عندنا نحن العرب تقصير في هذا الجانب وقصور، قصور في العناية بالاستفادة من تخزين هذه المياه، ومن حسن تصريفها، حسن تصريفها وفق قنوات، ضمن أنشطة واهتمامات زراعية واسعة منظمة، ولذلك تجد كيف تتحول المسألة إلى مشكلة في كثير من المناطق، الكثير من الناس يبنون منازلهم في مجرى السيل، وتأتي المآسي، وتتكرر مثل هذه المآسي، أيضاً لا ينظمون تصريف هذه المياه التي تأتي وتتدفق من الأمطار، وفق طريقة يستفاد منها في الزراعة، فتتحول الأمطار إلى مشكلة عند الكثير من الناس، وفي الكثير من المناطق، لهذا السبب، وتتحول- في نفس الوقت- مشكلة الجدب مشكلة أخرى، فإن جاء جدب، صاح الناس من الجدب، وإن جاءت الأمطار ونعمة الغيث، صاح الناس من ذلك، وكثرة الإشكالات، والمشاكل، والمعاناة، والمآسي في كثيرٍ من الأحيان، ليس هناك حُسن تعامل، ورشد في التعامل مع هذه النعم، هذه نعمة، كيف نتعامل معها؟ كيف نستفيد منها على نحوٍ واسع، بأشكال متنوعة، بوسائل متنوعة؟ ذهنية الناس- خاصةً لدينا نحن العرب- بعيدة عن التركيز على هذه الأمور؛ لأن واقع الحياة عند العرب أصبح عشوائياً إلى حدٍ كبير، وفوضوياً إلى حدٍ كبير؛ لأنهم فقدوا عناصر أساسية تبنى عليها النهضة والحضارة.

{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، فالشيء الصحيح أن يتجه الإنسان- مع الشكر لله “سبحانه وتعالى”- إلى استثمار هذه النعمة، إلى العمل على كيفية الاستفادة منها بشكلٍ واسع، إلى حسن تصريفها، لاحظوا حتى عندما تنزل، تنزل سيول ضخمة جداً إلى مناطق زراعية، إلى الجوف مثلاً، أو إلى تهامة، أو إلى مناطق أخرى، مسألة الاستفادة منها، تصريف هذه المياه، عبر قنوات مفيدة للزراعة عمل ضعيف جداً، وغائب إلى حدٍ كبير، في المناطق نفسها كان الآباء والأجداد يهتمون بالبرك وخزانات المياه بأفضل من الآن بكثير، غابت هذه المسألة إلى حد كبير لدى الناس، الحواجز والسدود لم تكن من المشاريع الرئيسية التي تهتم بها الدولة فيما مضى، ولا المواطنون، الحواجز للمياه بأشكال متنوعة مسألة ضعيفة جداً، ويقل الاهتمام بها، لا التصريف، ولا وسائل وإمكانات التخزين للمياه.

{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}، الزراعة، الزراعة بمختلف محاصيلها: الفواكه، الحبوب، مثل: الذرة، البر، الشعير…إلخ. مختلف أنواع المحاصيل الزراعية: الخضروات…إلخ. ثروة ومورد ضخم؛ لأنه عند الحديث عن الجانب الاقتصادي، من أول ما يأتي الحديث عنه: الموارد، الموارد العامة التي تمثل ثروة حقيقية للأمة، المياه، الزراعة، الزراعة ثروة رئيسية، ثروة مهمة، ثروة عظيمة، إذا أحسن الإنسان الاستفادة منها، واشتغل فيها بشكل صحيح، والتزم فيها بالضوابط الشرعية والتوجيهات الإلهية، تأتي له البركات أيضاً، وتعالج له مشاكل كبيرة في حياته، ونأتي- إن شاء الله- للحديث عن هذه الأمور لاحقاً.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}[إبراهيم: 32-34]، حتى نعمة الوقت، نعمة الوقت من النعم العظيمة جداً، إذا أحسن الإنسان استثمار وقته، وهي من النعم التي يهدرها الناس، من أكثر ما يفرط الناس فيه هو في نعمة الوقت، كم يضيعون من الأوقات في أشياء تافهة، كم يضيعون من الأوقات في كلام كثير جداً، بالذات عندنا في اليمن مع القات، تأتي الأفكار الخيالية، وعلى حسب التعبير المحلي [الهدرة]، كلام كثير لا فائدة منه، وتضييع أوقات طويلة جداً، حتى نعمة الوقت من أعظم النعم، من أهم النعم، إذا أحسن الإنسان إدارته، ونظمه، واستثمره في العمل، وتخلص من الأشياء الكثيرة التي لا قيمة لها، لا أهمية لها، لا داعي للكلام الكثير عنها، كثير من الأمور لا داعي للكلام الكثير عنها، يمكن أن يختصر الكلام بشأنها؛ لاستثمار الوقت، وإن شاء الله نتحدث أيضاً عن نعمة الوقت في وقتٍ لاحق بشكلٍ أوسع.

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}، كل متطلبات حياتنا قد أوجدها الله لنا، إنما بقي كيف نستثمرها، كيف نعمل فيها، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، نعم واسعة جداً، وكثيرة جداً، وهائلة جداً، لا يمكن إحصاؤها وحصرها، إلى هذه الدرجة.

يقول “سبحانه وتعالى”: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا}، الأنعام: الإبل، البقر، الغنم (الماعز، والضأن)، من أعظم النعم، ثروة حيوانية ذات أهمية كبيرة جداً في حياة الإنسان؛ إنما كيف يستثمر هذه النعمة؟ كيف يستفيد منها؟ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل: 5-6]، الثروة الحيوانية، إضافة إلى الثروة الزراعية، ثورة ضخمة جداً، ومهمة جداً، والإنتاج منها إنتاج واسع، الإنتاج الغذائي إنتاج واسع، الحليب ومشتقاته الكثيرة جداً، اللحوم، وهكذا، أشياء كثيرة، الزبدة، وأيضاً في الدفء والأثاث، والملابس، منه أشياء كثيرة جداً، ومع جماله، ومنافع أخرى، منافع أخرى، فهي من الموارد الضخمة والمهمة، والمهيأ للإنسان أن يستثمر فيها، أن يربي أبقاراً، أو أغناماً، أو ماعز، أو إبل، تنتج، ويكون مصدر رزق مهم له.

كان العرب فيما مضى يهتمون بهذه الثروة، إلى حد أنها كانت من عمولاتهم الرئيسية التي يدفعون فيها الديات، ويدفعون فيها المهور، ويدفعون فيها أشياء كثيرة، وكان لديهم مئات الآلاف من هذه النعمة، من الأنعام، من المواشي، من الأبقار، والأغنام، والإبل، كانت ثروة رئيسية في العالم العربي، الآن تقلصت وتركها أكثر الناس، الناس أفقروا أنفسهم، أفقروا أنفسهم، يذهبون إلى الفقر، إلى الفقر، سياسيات خاطئة، أفكار خاطئة، يتكدسون في المدن، ويجلسون في شقق منعزلة، ويتركون أرض الله الواسعة، حيث يمكنك أن تربي أبقاراً وأغناماً، وإبلاً، وتمتلك هذه الثروة، وتنتجها، وتستفيد منها في غذائك، وتمثل مصدر دخل لك، لكن ماذا؟ يتهربون يعني، هناك تيه عجيب في العالم العربي.

يقول “سبحانه وتعالى”: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: الآية14]، الثروة البحرية ثروة ضخمة جداً، فيها المأكولات، الأسماك، نعمة كبيرة جداً؛ إنما كيف يستثمر الإنسان هذه النعمة بشكل صحيح ولا يخرب، ولا يخرب، وكيف ينمي وسائل الإنتاج، ويطور وسائل الإنتاج، وينظم آليات العمل، بطريقة تكون عملية الإنتاج أقل كلفة وأكثر وفرة، إضافة إلى الحلية: الزينة، حتى الزينة تستخرج من بين البحر، الحركة فيه، الحركة التجارية، حركة السفن والقوارب…إلخ. وسيلة للحصول على النعمة، ووسيلة للشكر، حتى للدين، شكر النعمة، فتكون نعمة الشكر نعمة حاضرة، وليس فقط نعمة الصبر على الفقر، بل ونعمة الشكر على النعمة.

موارد ضخمة، الأرض مورد اقتصادي ضخم، فيها المعادن بكل أنواعها، فيها ما يحتاجه الإنسان للعمران والبناء… أشياء كثيرة جداً تستخرج من الأرض، ثروات ضخمة.

الزراعة ثروة ومورد ضخم جداً ومتاح، هناك أراضي زراعية شاسعة جداً، واسعة وكثيرة، ومناطق لا زالت أكثرها مهملة، لم تستصلح بعد، والقطاع الزراعي مورد ضخم جداً، ويمكن تطويره، وتحسين الإنتاج فيه، وتقليل التكاليف…إلخ.

المياه مورد ضخم جداً، ويمكن الاستثمار لها، والانتفاع منها بشكلٍ أفضل، الثروة الحيوانية، الثروة البحرية، الموارد موجودة، الموارد العامة موجودة، ليس هناك أزمة في الموارد، عندنا في اليمن مثلاً، وفي مختلف البلدان العربية، وفي بقية العالم، لكن الغبن كبير في العالم العربي، والغبن كبير عندنا في اليمن، كانوا يقولون في المناهج الدراسية، وفي الإعلام الرسمي- فيما مضى- أننا بلد فقير بالموارد، هذا كذب، هذا كذب، نحن بلدٌ غنيٌ بموارده، عندك أرض، أو إن احنا في الهواء معلقين! عندك إمكانية للزراعة، بل وتنوع بيئي يساعدك على التكامل في المحاصيل الزراعية، البيئة الجبلية تنتج أنواع معينة ممتازة جداً من المحاصيل الزراعية، البيئة في المناطق الشرقية تنتج أيضاً أنواع معينة وبوفرة كبيرة وجودة عالية في محاصيل زراعية معينة، البيئة في تهامة كذلك يمكن أن تنتج محاصيل كثيرة جداً، وبجودة عالية.

هذا مهيأ، هذا ممكن، رؤوس الأموال متوفرة، الاستهلاك متوفر، الموارد موجودة، الموارد البحرية، الموارد في الأرض: المعادن… إلى غير ذلك، المياه تأتي، الأمطار تأتي، تأتي أمطار غزيرة، ومع التقوى والإيمان تأتي أيضاً بشكلٍ أكثر، ويمكن للإنسان أن يستفيد منها في تصريفها وتنظيم قنوات الري، وتنظيم عملية الري، كذلك مسألة الاستفادة منها في الحواجز، والسدود، والبرك… هذا يتطلب عمل وأفكار صحيحة، وعمل صحيح، وجد واهتمام، ومن منطلق صحيح.

أضف إلى ذلك مع كل هذه النعم والموارد الضخمة يفتح الله المزيد مع الإيمان والتقوى، الله قال “جلَّ شأنه”: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف: من الآية96]، أن يمد بالمزيد، وأن يجعل البركة في الحاصل، وأن يمن من نعمه الواسعة جداً، يفتح البركات، فالموارد الاقتصادية موجودة؛ إنما كيفية الاستثمار لها، والاستفادة منها، ووجود الدافع والحافز الكبير على العمل، هذا مما سنتحدث عنه- إن شاء الله- لاحقاً، إنما كان همنا في هذه المقدمة الحديث عن الموارد العامة، الموارد الاقتصادية العامة، فهي موجودة ومتوفرة، والله المنعم الكريم الرزاق الوهاب.

نسأله “سبحانه وتعالى” أن يمنَّ علينا وعليكم من واسع فضله، وأن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الخميس، 29 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 16رمضان 1442هـ 28-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛

بمناسبة قدوم الذكرى التاريخية لغزوة بدرٍ الكبرى، كان من المهم أن تكون هذه المحاضرة متعلِّقةً بهذا الموضوع الذي له الأهمية الكبيرة جداً، فغزوة بدرٍ الكبرى لها أهميتها الكبرى في تاريخ الأمة:

من حيث ما نتج عنها من متغيرات، وما صنعته من تحولات امتدت وتمتد إلى قيام الساعة.
ومن حيث القائد الذي كان يقود هذه المعركة، وهو النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، بكل ما يمثله ذلك من موقع القدوة والأسوة، ويأتي الحديث عن هذه النقطة- إن شاء الله- على نحوٍ تفصيلي.
ومن حيث الدروس والعبر التي نحن كمسلمين في أمسِّ الحاجة إليها في هذا العصر، وما نواجهه فيه من تحدياتٍ وأخطار، دورس وعبر تصحح لنا الكثير من المفاهيم، ونستفيد منها فيما نحتاج إليه من فهمٍ صحيح، ووعيٍ صحيح، ورؤيةٍ صحيحة لمواجهة التحديات والأخطار.
وقبل أن ندخل في هذه التفاصيل، والحديث عن هذه النقاط في حيثيات أهمية هذه الغزوة، نتحدث أولاً على ضوء موجزٍ عن هذه الواقعة:

رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" ما بعد هجرته من مكة إلى المدينة، حظي في المدينة بنصرة الأنصار، بمجتمعٍ حاضنٍ للرسالة الإلهية، ومؤمنٍ بها، واستقر هناك؛ ليؤسس ويبني الأمة الإسلامية، بدءً من تلك النواة في الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار.

وقريشٌ ما بعد هجرة النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" من مكة إلى المدينة، لم تكف عن عدائها للإسلام وللرسول والرسالة، بل استمرت في مشوارها العدائي وبأشكال متعددة، فهي بدأت تنسِّق مع الكثير من القبائل العربية، بما فيها القبائل القريبة من المدينة، على أساس الترتيب لحصارٍ خانقٍ على المستوى الاقتصادي للمسلمين، والمقاطعة للمسلمين، ومنعهم من الحركة التجارية، ومن الذهاب إلى الأسواق في تلك المناطق والقبائل، وبدأت تعدُّ العدَّة من أجل أن تقوم بعمليةٍ عسكريةٍ إلى المدينة نفسها؛ لاستئصال النبي والمسلمين، والقضاء على الدين الإسلامي، وعملت على هذا الأساس، تحالفت مع بعضٍ من القبائل العربية، اتفقت معهم على الحصار للمسلمين اقتصادياً، وبدأت تعدُّ العدَّة من أجل تلك العملية العسكرية، وكانت تحتاج إلى التمويل المالي اللازم لتلك العملية التي تريدها أن تكون عمليةً حاسمة، فأعدت قافلةً تجاريةً إلى الشام، الهدف من هذه القافلة: أن تحصل من خلالها على التمويل اللازم الكافي لعملية كبيرة، عملية تتمكن من خلالها من تحقيق هدفها في استئصال المسلمين، وكان يقود هذه القافلة التجارية أبو سفيان زعيم المشركين بنفسه، وهذا يدلل على أهمية هذه القافلة، وهم يقولون أنها كانت قافلة تجارية كبيرة جداً، لربما أكبر قافلة تجارية، عندما كان الهدف منها هدفاً عسكرياً، من أجل التمويل العسكري.

النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" في المدينة المنوَّرة أتاه الأمر من الله "سبحانه وتعالى" بالتحرك لمواجهة هذا التهديد، وهذا الخطر، فتحرك رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" من المدينة بمن استجاب له من المهاجرين والأنصار، وكان أول تحركٍ عسكريٍّ رئيسي، ما قبله كان هناك سرايا صغيرة تتحرك، وسرايا استطلاعية في أغلب الأحوال، تستطلع المعلومات، وتستطلع للاكتشافات الجغرافية والعسكرية، وتجمع المعلومات عن تحركات الأعداء، لكن ذلك سيكون أول تحركٍ عسكريٍ رئيسي يتحرك به المسلمون، وبتوجيهٍ من الله "سبحانه وتعالى" بعد نزول الإذن من الله "سبحانه وتعالى" في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج: الآية39].

السابقة العدائية لقريش في محاربة الرسول والإسلام معروفة، وعندما كان النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" في مكة، حاربوا الإسلام بكل الوسائل، على مستوى الدعاية، والإعلام، والحصار الاقتصادي، والتعذيب حتى القتل، البعض من المسلمون عذِّبوا حتى قتلوا تحت التعذيب، وبعد هجرة النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" ومن معه من المسلمين، صودرت منازلهم في مكة، ونهبت ممتلكاتهم، وهم أخرجوا، هم أخرجوا، هجرتهم هجرة اضطرارية، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[الحج: من الآية40]، فالعداء واضح، ومظلومية المسلمين واضحة، والحالة القائمة هي حالة صراع، وانضم إلى ذلك أيضاً هذا التهديد بالترتيب لعملية عسكرية شاملة لاستئصال المسلمين، فأمام هذا التهديد، أمام هذا الخطر، كان التوجيه من الله "سبحانه وتعالى"، والأمر من الله "جلَّ شأنه" لنبيه "صلوات الله عليه وعلى آله" وللمسلمين أن يتحركوا عسكرياً لمواجهة هذا التهديد، وفعلاً تحرك النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وكان من استجاب له ما يزيد على الثلاثمائة قليلاً، في بعض الإحصائيات يقولون: (ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً تحركوا معه)، ولأن المسألة في بداياتها مسألة صعبة، ومحفوفة بهذا الجو من التهديدات، وهو أول تحرك، فقد تقاعس الكثير عن التحرك، وتخاذل الكثير عن التحرك، وكان الجو نفسه في المدينة مشحوناً بالتثبيط، والتخذيل، والإرجاف، والتهويل، وقدَّم القرآن الكريم صورةً عن هذا الموقف، وعن هذه الظروف في قول الله "سبحانه وتعالى": {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: الآية49]، فالمنافقون نشطوا بنشاط دعائي للتخذيل وللتثبيط في داخل المدينة، وأرجفوا على الناس، وأنَّ هذا التحرك هو تحرك خطير، وأنه بالتأكيد له تبعات خطيرة، وسينتج عنه مشكلة كبيرة، وأن المسلمين لا يمتلكون القوة الكافية من حيث العدد، ومن حيث العدُّة لمواجهة هذا الخطر، والنتيجة الحتمية هي الهزيمة والنهاية.

وعندما لم يقبل النبي ومن تحرك معه من المسلمين هذا الإرجاف، ولم يتأثروا بهذا التهويل، ولم يقعدوا بسببه عن التحرك والاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، قالوا عنهم هذا التعبير: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، فهم يعتبرونهم من اغتروا بالوعود الإلهية، وصدَّقوا بها، وهي وعود بالنسبة للمنافقين والذين في قلوبهم مرض خيالية، لا يمكن أن تكون صحيحة، فلا يمكن لتلك القلة القليلة من المؤمنين المجاهدين، بإمكانياتهم البسيطة المتواضعة، من حيث الإمكانات المادية أن يحرزوا النصر.

{غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، ولم يحسب هؤلاء حساب التوكل على الله "سبحانه وتعالى"، الثقة بالله، التصديق بوعده "جلَّ شأنه"، إيكال الأمور إليه، والرضا بما كتب "جلَّ شأنه"، مع الثقة بصدق وعده، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}، هو "جلَّ شأنه" يعز أولياءه، وينصرهم، ويؤيدهم؛ لأنه العزيز، {حَكِيمٌ}، وتوجيهاته هي توجيهاتٌ حكيمة، ما يأمر به هو الموقف الحكيم، هو التصرف الحكيم، هو التوجه الحكيم، هو التصرف الحكيم عندما يتصرف الناس على أساسه.

إضافةً إلى ما كان لدى بعض المؤمنين في صفوف جيش النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" من القلق البالغ، إلى درجة الاعتراض، ومحاولة إثناء النبي عن التحرك والخروج، كما بيَّنته الآية القرآنية: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6]، فالبعض من المؤمنين كانت هذه التجربة الأولى بالنسبة لهم في إطار حركة الإسلام والجهاد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، كانوا قلقين جداً، وكانوا خائفين إلى هذه الدرجة التي عبَّر عنها النص القرآني: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، فهم في وضعية كانوا فاقدين فيها الأمل بالنصر، وكانت حالة اليأس من النصر بارزةً بالنسبة لهم، حتى كأنهم إنما كانوا يساقون إلى الموت، والإبادة الجماعية، وكأن المعركة ستكون نهايتها الحتمية هو القضاء عليهم.

ولكن النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" كان واثقاً بوعد الله؛ لأنه أتى وعد من الله "جلَّ شأنه": {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال: من الآية7]؛ لأن النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" عندما تحرَّك كان هناك أيضاً في المقابل تحرك عسكري، غير القافلة التجارية التي كانت قد عادت من الشام، وهي في طريقها إلى مكة، وكان أمل المسلمين أن يلتقوا بهذه القافلة، وأن يأسروا أبا سفيان، وأن يسيطروا على القافلة التي هي بهدف التمويل العسكري أصلاً، ولكن كان هناك أيضاً تحرك للجيش من مكة، خروج لقريش بشكل عسكري، بجيشٍ كبير، أكثر من عدد الجيش الإسلامي بعدد كبير، يعني: كان عدد الجيش الإسلامي ما يقارب الثلاثمائة والثلاثة عشر، أو أكثر من الثلاثمائة بعددٍ قليل، أما أولئك فكانوا ألف مقاتل، يمتلكون من العدُّة العسكرية ما لا يمتلكه المسلمون.

فتحرك الجيش من مكة لاستهداف المسلمين، وأتى الوعد من الله "سبحانه وتعالى" كما في الآية المباركة بإحدى الطائفتين: إما الظفر بأبي سفيان والقافلة، وإما الظفر بالجيش العسكري، الطائفة العسكرية التي خرجت من مكة، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال: من الآية7]، الرغبة السائدة في أوساط المسلمين: أن يسيطروا على القافلة، وأن يتفادوا الاحتكاك العسكري، والمشكلة العسكرية، ولكن كانت إرادة الله شيئاً آخر، غير هذه الرغبة لدى المسلمين، كانت إرادة الله بما فيه الخير للمسلمين، ولهذا قال "جلَّ شأنه": {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 7-8]، كان من الواضح والمؤكد أنَّ نتيجة الاحتكاك العسكري، والاشتباك العسكري، والاقتتال مع المشركين في هذه المعركة ستكون نتائجها أفضل للمسلمين، وستكون النتائج المترتبة عليها هي أكثر أهمية من مسألة الحصول على غنائم، أو بعضٍ من الأسرى، فالنتيجة من الاشتباك العسكري هي إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وقطع دابر الكافرين وهذه نتائج مهمة جداً.

إحقاق الحق؛ لأنه سيتحول إلى حالة قائمة فعلية في واقع الحياة، من واقع النصر والتمكين، ولن يبقى مجرد فكرة مثالية يقرأها الناس، ويتمنون أن لو تطبَّق في حياتهم، الحق في تشريع الله، في هداية الله، الحق في الموقف، الحق كمنهج للحياة، سيتحول إلى حقيقة، قائمة، ثابتة، راسخة، يطمئن الناس إلى أنها أصبحت قائمةً منتصرة، وهذا من أهم النتائج الكبرى لهذه المعركة: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.

فبالرغم من الظروف الصعبة في داخل المدينة، وجو الترهيب، والإرجاف، والتهويل من جانب المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وبالرغم من كره بعض المسلمين للخروج والتحرك في هذه المعركة، ومخاوفهم المبالغ فيها، إلَّا أنَّ النبي تحرك، ووصل إلى منطقة بدر، وادٍ على بُعد مائة وستين كيلو متر تقريباً من المدينة، بينها وبين مكة، وهناك وقعت المعركة، وكانت نتائجها كبيرة، وتحقق فيها انتصار كبير للمسلمين، بدأت تلك المعركة بالمبارزة، خرج ثلاثةٌ من المسلمين: حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث رضوان الله عليهم، في مقابل ثلاثة من المشركين، وكانت هذه الجولة لصالح المؤمنين، انتصر فيها أولئك المبارزون الذين خرجوا من جانب المسلمين، وبدأ الالتحام بين الفريقين، والتقى الجمعان، وكانت المعركة كبيرة.

شهدت المعركة كثيراً من مظاهر الرعاية الإلهية للمؤمنين، أتى المطر كما في سورة الأنفال، الغيث، ووفر المياه للمسلمين، وخفف من هواء جسمهم، واغتسلوا به، وانتعشوا منه، واستفادوا منه لتثبيت جغرافيا المعركة (أرضية المعركة)، وأيضاً أتت الملائكة لتقدم الدعم المعنوي للمؤمنين، والاطمئنان إليهم، ونزلت السكينة مع نزول الملائكة، فأتت مجموعة من العوامل والظروف التي ساعدت المسلمين على تحقيق النصر، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[الأنفال: من الآية10].

من حيث العدد: كانوا قلة في مقابل عدد جيش المشركين، من حيث الإمكانيات: كانت إمكانياتهم متواضعة، ولم يكونوا- في بعض الروايات- يمتلكون إلَّا فرساً واحداً، وكانت السيوف عندهم محدودة، ليس لهم أي سلاح احتياطي، إذا انكسر سيف أحدهم لا يوجد البديل، بينما لم يكونوا مدرعين، لم يكونوا يقتنون الدروع، ويلبسون الدروع، في مقابل ما كان لدى أعدائهم من المشركين من العدة العسكرية، والدروع، والخيول، والعدة الكافية والكبيرة مقارنةً بما كان عليه حال المسلمين، وتلك الوضعية التي كانوا فيها مع مخاوفهم الشديدة، وقلة تجربة الكثير منهم في القتال ممن خرج مع النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، الكثير منهم كانت ستكون أول معركة يقاتل فيها، يأتي القرآن ليعبِّر لنا عن حالة المسلمين في تلك الظروف، في قول الله "سبحانه وتعالى": {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران: الآية123]، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، وضعية صعبة، ظروف صعبة، ومخاوف، ومع ذلك كانت هذه المعركة مصيرية، ظروفها صعبة، والإمكانيات محدودة من حيث العدد والعدة، ولكنها معركة مهمة، ومصيرية، وحاسمة، ولو تمكَّن المشركون من تحقيق أهدافهم، وقضوا على رسول الله وعلى المسلمين؛ فسيكون لهذا تأثير كبير جداً، وسلبي للغاية في مستقبل الرسالة الإسلامية، أو انهزم المسلمون فيها؛ لكان لذلك تأثير سلبي جداً في مستقبل الرسالة الإسلامية.

الناس كانوا ينظرون بشكلٍ عام في تلك المرحلة بريبة وقلق تجاه مستقبل الإسلام والمسلمين، وتجاه إمكانية أن ينتصر الإسلام، وأن يتمكَّن من قيام أمته؛ لأنهم كانوا يلحظون ضعف إمكانيات المسلمين، قلتهم، وكانوا يلحظون أيضاً مستوى الصعوبات من حيث الأعداء الكثيرون المتمكنون، دول، وكيانات، وجماعات، وقبائل، كلها كانت كافرة بهذا الدين، ومحاربة لهذا الدين، معارضة لهذا الدين، مباينة لهذا الدين، ويرون لديها القوة الكافية لمحاربة الإسلام وأهله.

ثم فيما يقابل ذلك من ضعف إمكانيات المسلمين، وقلة عددهم، وانتشارهم، وإمكانياتهم المحدودة جداً، فمن خلال ذلك كان أكثر الناس ينظر بريبة تجاه إمكانية احتمال أن ينتصر هذا الإسلام وأهله، ولكنَّ هذه الواقعة غيَّرت كل ذلك، ومثَّلت نقلةً كبيرةً جداً؛ لأن الانتصار فيها كان كبيراً، والضربة كانت موجعةً جداً للمشركين، وبقي وجعها مستمراً فيهم، حتى فيما تلاها من أحداث؛ لأنها لم تكن البداية والنهاية، كانت بداية المعركة والحرب بذلك الشكل: معارك كبيرة، ولكنها استمرت فيما بعدها، ولكن أثرها امتد لما بعدها، وكان واضحاً فيما بعد ذلك في كل المعارك التي خاضتها قريشٌ في محاربة المسلمين، كان يتجلى أثر تلك المعركة، وأنها قتلت الكثير من القيادات والأبطال الذين يعتمد عليهم العدو، وكان لها صداها في بقية الأعداء، وفي بقية الناس، في بقية المجتمع، حتى في داخل المدينة نفسها بالنسبة للمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والمتربصين، والمترددين، والمتذبذبين، كان لها الأثر البالغ والمهم جداً، ولذلك سميت هذه الغزوة المهمة جداً في القرآن الكريم بيوم الفرقان، سمَّاها الله يوم الفرقان؛ لأنها مثَّلت مرحلةً فارقة، ما قبلها وما بعدها يختلف كلياً، المسلمون فيما بعدها أهل عزة، أهل شوكة، أهل قوة، أهل هيبة، أصبحت النظرة إليهم وإلى الإسلام بنظرة مختلفة إلى من المجتمعات، من أعدائهم، وهم حتى على المستوى النفسي شعروا بالعزة، والقوة، والاطمئنان تجاه مستقبلهم ومستقبل دينهم، وثقوا بالله أكثر، تعزز إيمانهم، ارتفعت معنوياتهم، وكان لهم آثار ونتائج مهمة جداً، وأحق الله بها الحق، وتحقق بها هذا الثبات لهذا الدين، والرسوخ لهذا الدين، حتى لمستقبله إلى قيام الساعة، فسميت بيوم الفرقان، فهي ذات أهمية كبيرة؛ لأن بركاتها امتدت إلينا إلى هذا الزمن، وتمتد إلى قيام الساعة؛ لأنه لو خسر المسلمون هذه المعركة؛ لكان لذلك آثار سلبية ممتدة وخطيرة جداً، لو استشهد النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" فيها؛ لكان ذلك وأداً للمشروع الإلهي من بدايته، للمشروع الإسلامي من أوله، ولكنَّ الله "سبحانه وتعالى" نصر المجاهدين فيها نصراً عظيماً، فكان لها هذه الأهمية من حيث ما نتج عنها وما ترتب عليها.

لها أهميتها من حيث أنَّ الذي يقود المسلمين في هذه المعركة هو النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، بكل ما يمثله ذلك من أهميةٍ لنا كمسلمين، نؤمن بأنه أسوتنا وقدوتنا، في مشروعية ما يعمل؛ باعتبار ما عمله له مشروعية دينية، انطلق فيه بأمرٍ من الله "سبحانه وتعالى"، وبناءً على مقتضيات أحكام هذا الدين الإسلامي ومبادئه وشريعته، فهو يشرع، أو الله "سبحانه وتعالى" شرَّع لنا، وفرض علينا حتى، أن نتحرك في مواجهة التهديدات علينا، وعلى ديننا، مبادئنا، قيمنا، أن نتحرك على هذا النحو، كما فعل نبينا، قدوتنا أسوتنا "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، لم تكن التوجيهات تجاه ذلك التهديد، وتجاه ذلك الخطر الذي يهدد المسلمين في عقر دارهم أن يجلسوا، وأن يقعدوا، وأن ينتظروا العدو حتى يتمكن إلى نهاية المطاف، أو أن يستسلموا، وتنتهي الأمور على هذا الأساس، لا، كان هناك أمر واضح للنبي "صلوات الله عليه وعلى آله أن يتحرك على هذا النحو.

ولم تكن أيضاً الطريقة أن يتجه أمام هذا التهديد إلى المسجد، ويتجه معه المسلمون، ثم يعتكفون ليلاً ونهاراً بالدعاء الدائم، أن يدمر الله قريشاً ويستأصلها، وأن يعفيهم من أن يحتاجوا إلى قتالها، فيكفي الدعاء، ويكفي الابتهال، وتلاوة القرآن، توسلاً إلى الله أن يهلك العدو، وينتهي الأمر.

الدعاء مهم، وكان لا بدَّ منه، وهو دعا، والمسلمون دعوا، ولكنه دعاءٌ في إطار عمل، في إطار تحرك، في إطار جهاد، في إطار النهوض بالمسؤولية، وليس على أساس القعود والتنصل التام عن المسؤولية وعدم التحرك.

النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" وهو أرشد الناس وأكثرهم حكمةً، الراشد، الحكيم، الشخصية العظيمة جداً في رشده، فهمه، وعيه، وأيضاً يتحرك وفق تعليمات الله، وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، التي هي حكيمة، ورحيمة، وعظيمة، وصائبة، لم يمكن أن يشكك الإنسان بصوابيتها، كان له هذا الموقف، هذا التحرك، حمل سيفه، لبس لامة حربة، انطلق وتحرك، لم تكن المسألة أن يقعد، أو أن يكتفي بالدعاء، وهذا يبين لنا حتمية الصراع مع الأعداء، حتمية الصراع مع الأعداء؛ لأن منهج الإسلام في أساسه: هو منهج تحررٍ من الطاغوت، ومن سيطرة الطاغوت، منهج تحررٍ تبني فيه الأمة مسيرة حياتها على أساس منهج الله "سبحانه وتعالى"، وهذا بشكلٍ فوري ينتج عنه مشكلة مباشرة مع الطاغوت، مع المجرمين، مع المتسلطين، مع الظالمين، مع المستكبرين؛ لأن المستكبرين، والأشرار، والطغاة، يعملون بشكلٍ دائم على السيطرة على الناس، والتحكم بهم، والهيمنة عليهم، والاستعباد لهم.

فعندما نتحرك بناءً على انتمائنا لهذا الدين الإسلامي، بهذا الشكل الصحيح، لنبني مسيرة حياتنا على أساس منهج الله "سبحانه وتعالى"، بتحررٍ من سيطرة الطاغوت، الطاغوت يواجه توجهنا هذا التحرري، هذا التوجه التحرري والاستقلالي، يواجهه بالشر، يواجهه بالعدوان، فالنتيجة الحتمية لهذا التوجه الذي هو تحرري؛ لأن الإسلام من أول ما فيه، ومن أعظم ما فيه، ومن أهم ما فيه: أنه يحررنا، يحررنا من الاستعباد للطاغوت المستكبر، للطغاة المجرمين، ونبني مسيرة حياتنا بعيداً عن تحكمهم، إملاءاتهم، شروطهم، ووفق منهج الله "سبحانه وتعالى" وتعليماته؛ لأنه ربنا "سبحانه وتعالى"، نؤمن به، نؤمن بهديه، نؤمن بدينه، ولذلك ينتج هذا الصراع، الصراع حتمي.

لو كان بالإمكان أن تكون الدعوة الإسلامية بشكلها الإرشادي، والتعليمي، والوعظي، كافيةً في تفادي الخطر، وفي أن يتمكن المسلمون من تحقيق هذا التحرر من سيطرة الطاغوت؛ لأمكن ذلك للنبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"؛ لأنه كان الأرشد، والأحكم، والأقدر إرشادياً، هو أعظم واعظٍ، وأعظم خطيبٍ، وأعظم مرشدٍ، وأعلم وأرشد إنسانٍ، وبالتالي هو فيما يمتلكه من الحكمة، فيما أهله الله به من مؤهلات عظيمة جداً، فيما هو عليه من خلقٍ عظيم، فيما كان يمتلكه من الجاذبية الكبيرة، والتأثير الكبير، وما منحه الله من البركات والتوفيق، لو كان يمكن أن يكتفي بالإرشاد والوعظ والحديث مع الناس، ولا يحتاج إلى تحرك مسلح، لكان هو الأولى بذلك، الأولى بذلك رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، هل يستطيع أحدٌ في هذا الزمن أو في غيره أن يقدم نفسه في حكمته، أو في أخلاقه، أو في منزلته العالية عند الله "سبحانه وتعالى"، بأنه أعظم شأناً من النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" في ذلك، أكثر حكمةً، أقدر على تحقيق النجاح بدون أي صراع، لا أحد يستطيع أن يدعي لنفسه ذلك من المسلمين أبداً.

فإذاً يتضح لنا في تحرك النبي حتمية الصراع، وإلا لكان هو الأولى أن يسْلَم أعباء الصراع، ومخاطره، كان يتعرض للخطر في هذا الصراع، كان مهدداً، كان هو أول شخص مستهدف في هذا الصراع، وكان يتحمل أعباء هذا الصراع، يقدم التضحيات، يتحرك، يبذل جهده، يقوم بدورٍ رئيسي في التصدي للأعداء وهو يحرك الأمة، وهو يوجهها، وهو يعمل ليلاً ونهاراً؛ من أجل التصدي لهذا الخطر.

فلنعي حتمية الصراع مع الأعداء؛ لأنهم أشرار، مجرمون، متسلطون، طغاة، لا يسكتوا عن توجهنا التحرري والمستقل على أساس منهج الله وتعليماته، هذا درسٌ مهمٌ جداً، ويصحح الكثير من المفاهيم لدى بعض الناس السذج والأغبياء والمغفلين، الذين لديهم فكرة أخرى.

ثم أيضاً من الدروس المهمة التي علينا أن ندركها: إيجابية الصراع:

الصراع له جوانب إيجابية كبيرة جداً، ومهمة جداً، ولا ينبغي النظرة إليه نظرة سلبية تدفع إلى التنصل عن المسؤولية، والتهرب من التحرك الجاد في التصدي للأخطار، وفي إدارة هذا الصراع بشكلٍ صحيح:

الصراع هو أهم ميدان لتجلي القيم، وتجسيد المبادئ:
إيمانك، ثقتك بالله "سبحانه وتعالى"، أخلاقياتك العالية، تضحيتك، إيثارك، عطاؤك، بذلك، صدقك، وفاؤك، كل القيم المهمة أكبر ميدانٍ يجليها، تجسد فيه هذه القيم والمبادئ، هو ميدان الصراع، الإنسان إذا نزل إلى هذا الميدان بأخلاقيات الإسلام: وفاء، وشجاعة، وشهامة، ومروءة، وعطاء، وتضحية، وإيثار، ووفاء، وصدق، والتزام بالحق، وكل القيم العظيمة، أهم ميدانٍ لها هو ميدان الصراع، كل الأجواء الأخرى والميادين الأخرى لا ترقى إلى مستواه.

الوفاء، قد تكون وفياً في قضايا معينة بسيطة، لكن هل تكون وفياً أمام مخاطر كبيرة، قد يكون ثمن وفائك فيها أن تضحي بنفسك، أن تقدم مالك، أن تضطر للهجرة من منطقتك، هنا الكثير من الناس لا يرتقي وفاؤهم إلى هذا المستوى.

مصداقية الإنسان أن يثبت على موقفه الحق، حتى لو كان الثمن أن يضحي بنفسه، كثير من الناس لا يصمدون، لا يرتقون في مصداقيتهم إلى هذا المستوى، قد يكونون صادقين في أشياء بسيطة، وعادية، ومن الأمور الطبيعية، لكن أن يصدق في موقفه، في تضحيته، في ثباته، حتى لو كانت النتائج كيف ما كانت.

الإيثار، التضحية، الغيرة على المستضعفين، والتألم لألمهم، والإباء والعزة... كل هذه القيم تترجم على أرقى مستوى بشكلٍ عملي في ميدان الصراع.

الصراع أيضاً هو محك لمصداقيتك مع الله في انتمائك الإيماني:
هل تثق به؟ هل تثق بوعده؟ هل تثق بقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]؟ هل تثق بقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}[الحج: من الآية40]؟ هل تثق بقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]؟ مصداقيتك في تصديق هذه الثقة، في الإيمان بهذا الوعد الإلهي، عندما تتحرك على أساس ذلك؛ أما عندما لا تجرؤ على أن يكون لك الموقف الحق والتحرك الجاد، فهذا يدل على خلل في مدى ثقتك بالله "سبحانه وتعالى".

ميدانٌ للفرز والاختبار:
فرز المجتمع المسلم، اختبار مهم جداً، قد يكون الكثير من الناس من أهل الخير، وما شاء الله عليهم، إذا الأمور والظروف عادية، وقد يتظاهرون بثباتهم على مبادئ هذا الدين وقيمه وأخلاقه، والتزامهم بتوجيهات الله "سبحانه وتعالى"، ولكن- كما قلنا- في ظل الظروف الاعتيادية والطبيعية، يقولون عندنا في المثل الشعبي: [يوم العيد كلاً جيد].

لكن أمام التحديات والمخاطر، يأتي هذا الفرز، ليتبين الثابتون، الصادقون، الأوفياء، مِن مَن ليسوا كذلك، ممن إيمانهم ضعيف، ووعيهم ضعيف، ممن ليسوا أصلاً يحافظون على الحد الأدنى من الانتماء الإيماني، من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ولهذا كان يركز القرآن الكريم على أن يجعل من مسألة الولاء والموقف، والتحرك في سبيل الله، والقتال في سبيل الله، علامةً مميزةً للمؤمن الصادق من غيره، وعملية فرزٍ للمجتمع المسلم؛ حتى يتبين الناس، وكان هذا هو المحك الذي يفرز ويبين ويغربل، هو الغربال الضخم، الذي يغربل المجتمع الإسلامي والساحة الإسلامية، هذه سنة من سنن الله "سبحانه وتعالى"، كما قال في القرآن الكريم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179]، وكما قال "جلَّ شأنه": {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة: من الآية16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا هكذا على ما أنتم عليه، بدون أن يتضح من سيجاهد، من سيكون وفياً في ولائه، لا يدخل في ولائه ولاءات أخرى، ميول أخرى، ارتباطات أخرى، بأعداء الله، بأعداء الإسلام، بأعداء المسلمين، لا بدَّ من هذا الفرز، يعني: أنه لا بدَّ من هذا الفرز، من هذا الاختبار، من هذا الغربال، ولا بدَّ منه في كل زمانٍ ومكان.

يأتي قول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، يعني: نختبركم، الاختبار الذي يبين حقيقتكم، يجليكم، يفرزكم، يغربلكم، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد: الآية31]، فيأتي في إطار الصراع هذه الغربلة للمجتمع المسلم، يتبين المجاهدين، الصابرين، الصادقين، الأوفياء، الثابتين، ويتبين المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، ويتبين ضعاف الإيمان الذين لديهم رؤى أخرى واتجاهات أخرى.

من إيجابيات الصراع أنه عاملٌ مهمٌ في النهضة، وعاملٌ مهمٌ في البناء، ووسيلةٌ فعليةٌ لتحقيق التحرر في واقع المجتمع المسلم:
الصراع من متطلباته البناء، إعداد القوة، التوجه لامتلاك الإمكانات لكل عوامل القوة، الصراع يدفع نحو عوامل القوة، نحو اقتناء عوامل القوة، نحو توفير عوامل القوة؛ لأن من متطلبات الصراع: أن تكون قوياً، أن تسعى لتكون قوياً، وهذا ما يسعى له كل الكيانات، كل القوى البشرية، كل المجتمعات البشرية، كل الدول تسعى لتكون قوية، وتدرك حتمية الصراع، والترويج للضعف، وللجمود، وللقعود، والاستسلام، وللانصراف عن التحرك الجاد في إطار الصراع، والعزوف عن عوامل القوة، هذا يسوَّق ويروج حصرياً بين المسلمين فقط؛ أما الأمم الأخرى، والكيانات الأخرى، والدول الأخرى، فكلها تسعى لكي تمتلك بأقصى ما تستطيع القوة، ولتكون في موقع القوة بأقصى ما تقدر عليه وتستطيعه.

لو نأتي إلى زماننا اليوم، أكبر ميزانية عسكرية تسليحية هي لدى الأمريكيين، الإسرائيلي أيضاً يسعى بكل جهد لكي يكون قوياً، والمبدأ الذي يعمل عليه، ويحظى بالدعم الأمريكي على أساسه، والدعم الغربي على أساسه، أن يضمن التفوق العسكري في المنطقة، على مستوى العالم الإسلامي بكل، وهو كيانٌ غير شرعيٍ، فرضوه وزرعوه في أوساط أمتنا وبلادنا الإسلامية، وأرادوا منه أن يكون متفوقاً عسكرياً، وأن يسيطر عسكرياً، وأن يكون هو الذي يسود هذه المنطقة.

ولذلك يجب أن يكون لدينا الوعي الصحيح، الفهم الصحيح؛ لأن حركة التثبيط، والتخذيل، والإرجاف، والتهويل، والتشكيك، وإيهان العزائم، وتقديم الرؤى السقيمة، والأفكار غير الصحيحة؛ إنما يأتي في إطار واقعنا كأمة مسلمة وللأسف الشديد، بقية الدول لديها مشاريع وبرامج وأنشطة؛ لكي تكون قوية، وتتحرك في إطار الصراع بشكلٍ قوي.

فالله "سبحانه وتعالى" عندما أمرنا بالجهاد في سبيله، ليس ذلك ليصيبنا بالمصائب، ويحملنا المشاق والكوارث، هذه رحمةٌ منه بنا؛ لأن حتمية الصراع أمرٌ مفروغٌ منه، لا بدَّ من الصراع، فإذا كان لا بدَّ من الصراع في هذه الحياة، فكيف نتحرك بشكلٍ صحيح، نحظى فيه برعاية الله، ونصره، وتأييده، ووفق توجيهاته وتعليماته، بما يحول هذا الصراع إلى عاملٍ إيجابيٍ وبناء في واقعنا، وميدان لتجسيد المبادئ والقيم والأخلاق، وميدان فرز وغربلة، يبين الناس، وهذا مهم جداً؛ لأن تبيينهم أمر مهم جداً، حتى لهم هم، حتى لهم هم.

ولهذا يقول الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، لم يكن هناك كفاية- على ما يقولون- بالجهاد بالكلمة، كان لا بدَّ من القتال، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية216]، فالله كتب القتال، الميول والطبيعة البشرية قد تكره القتال، نتيجةً لنظرة مغلوطة؛ أما عندما تتصحح النظرة قد يزول هذا الكره، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، هو خيرٌ لكم، يترتب عليه:

عزكم.
استقلالكم.
حريتكم.
كرامتكم.
تدفعون عن أنفسكم الشر الكبير، الذي سينتج إن تمكَّن عدوكم من السيطرة عليكم.
الشر الكبير هو عندما يسيطر العدو؛ أما ما تقدمه الأمة من تضحيات وهي تتصدى لعدوها، فهي تضحيات مثمرة، محسوبة، لها نتائجها، وقيمتها، وثمرتها، وآثارها الطيبة، وهي مكتوبةٌ عند الله "سبحانه وتعالى".

يقول الله "جلَّ شأنه": {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، فمع الخير في الدنيا: العزة، الكرامة، الحرية، الاستقلال الحقيقي، تجسيد المبادئ والقيم، القوة التي تكتسب في إطار الصراع، هناك ثمن مستقبلي عظيم وأبدي ودائم هو الجنة، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: الآية111]، هذا مع النصر في الدنيا، الله قدم الوعود: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: من الآية7]، المهم هو أن تتحرك بشكلٍ صحيح وفق تعليمات الله وتوجيهاته، وأنت في إطار الحق، وأنت تمتلك القضية العادلة، وأنت تلتزم في أدائك العملي بالتعليمات والتوجيهات التي أمر الله بها "سبحانه وتعالى" في كتابه الكريم، هنا يأتيك من الله النصر، والمدد، والعون، والتهيئة، والتأييد، وتأتي التوفيقات والنجاحات الكبيرة.

أمتنا في هذا العصر في أمسِّ الحاجة إلى أن تستفيد الدروس والعبر من هذه الغزوة، وأن تعزز ثقتها بالله "سبحانه وتعالى"، وأن تدرك جيداً أنه لا بدَّ من التحرك الجاد للتصدي لكل المخاطر والتحديات التي تعاني منها، نحن أمة مستهدفة، أمةٌ مستهدفةٌ معتدً عليها يسعى أعداؤها إلى:

السيطرة التامة عليها.
واستعبادها.
وإذلالها.
وقهرها.
وظلمها.
واضطهادها.
والنتيجة لو تمكن هؤلاء الأعداء: أن تخسر الأمة دينها ودنياها.

فالذي يمكن أن يفيد هذه الأمة: هو التحرك وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، مع الثقة بوعده.

نحن كشعبٍ يمني، شعوب المنطقة بشكلٍ عام، في أمسِّ الحاجة إلى الاستفادة من هذه الدروس، ومن هذه العبر، قدوتنا وأسوتنا هو رسول الله محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، الذي تحرك بالرغم من طبيعة الظروف السائدة، التي كان فيها الإرجاف والتهويل، وفيها المتثاقلون والكارهون للتحرك، ولكنه تحرك وانطلق، وكانت النتيجة هي النتيجة المعروفة.

التجربة التي هي قائمة في واقع أمتنا اليوم، تجربة فيها الدروس والعبرة: ثمرة صمود شعبنا في التصدي للعدوان، الانتصارات التي أحرزها المجاهدون الأبطال في لبنان، وفي فلسطين، وفي سوريا، وفي العراق، وفي أقطار كثيرة.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الأربعاء، 28 أبريل 2021

حيث الشيطان كان الأذناب

  

ــــ  أذنابٌ وإن شئت قلت فيهم أحذية ذات مقاسات مختلفة تكبر أحياناً وتصغر أحياناً وحيث ما سخرّها الشيطان كانت تابعة بصغرها وذلُها. 
 أنظمةٌ رحلت وأنظمت صعدت 
 جميعها أدوات وأذناب حيث كان الشيطان كانو
 حيث كان الصهاينة والأمريكان كانت الأنظمة العربية العملية والمطبعة وفي مقدمتهم وعلى رأس شرّهم المطلق النظام السعودي والإماراتي ومن خلفهم النظام البحريني ومن أنبطح للسياسة والدين اليهودي والعقيدة الخبيثة من الخليج إلى القارة السمراء حيث وضعت الثورة السودانية لقيط عسكري رمى بنفسه وبكاهل شعبه المضطهد تحت الوصاية والولاء للصهاينة ومثله حط المنحط في المغرب وغرّد مع الأذناب في سرداب التطبيع والخيانة العربية والقومية العظمى. 
 لا غرابة ولا استغراب ولا نستبعد ان يأتي يومٍ لنرى فيه عامة الانظمة العربية وشعوبها الخانعة لجورهم ان نراهم جميعاً في حجٍ إلى تل أبيب ليشهدو مناسك الخسة والتطبيع المباشر مع الكيان المحتل والغاصب والمتعربد في المنطقة بقضه وعملاءه الرخاص. 
 اليوم السعودية والإمارات ومن معهم وفي خظّم حربهم عدوانهم على اليمن نجدهم قد بلغوا أدنى درجات الإنحطاط في الولاء للصهاينة والإسرائيلين من خلال حركتهم الموحدة في كل الدنيا سماؤها وبحارها وما تخطو اسرائيل خطوة واحدة إلاّ كانو هم السبّاقين والممولين المنفذين لما يخطط له الكيان الأسرائيلي اللقيط. 
 هرولة في والولاء والطاعة وسباقٌ نحو التزاوج العربي الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية التي طالما تشدقت بها تلك الأنظمة التي وضعت نفسها في الزبالة الإسرائيلية التي تليق بها بعد ان فرطت بفلسطين وبكل قضايا الأمة العربية وشعوبها المستضعفة التي كانت تنتظر صحوة ظمير الزعماء لكنها تفاجأت بواقع التطبيع والطاعة العمياء للأمريكان الذي ما أنفكوا من حلب أبقار الخليج واستغلال ثروات الشعوب لصالح المشروع الاسرائيلي البغيض الذي يعيش نشوة الانبطاح العربي من بلغ أدنى درجان الحضيظ.  
 على كلٌ نحن لا نؤملّ خيراً في تلك الأنظمة وحاشيتها المنافقة والوضيعة
 فنحن انما رهاننا هو على الله والأمل منه -سبحانه وتعالى- وفي الشعوب العربية الحرّة والعزيزة الرافضة للتطبيع مع الصهاينة تحت أي عنوان كان فهو مرفرض
 وبإذن الله وعمّا قريب ستشهد المنطقة تغيّرات تعصف بمن هوى بنفسه ونظامه في خانة التطبيع والعلاقات المباشرة مع الاسرائيليين لقطاء العالم وشُذّاذ البشرية.  
 وهنا سيتبراء منهم أسيادهم طواغيت العصر في أمريكا وإسرائيل وسيقول الشيطان لَمَّا قُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ فَلَا تَلُومُونِی وَلُومُوۤا۟ أَنفُسَكُمۖ مَّاۤ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَاۤ أَنتُم بِمُصۡرِخِیَّ إِنِّی كَفَرۡتُ بِمَاۤ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیم.  
 ووقتها لن تبقى إلاّ كلمة الله هي العليا ولن يفلح وينتصر إلاّ أولياء الله المؤمنين الصادقين وسيعود الحق لأهله وسيُطرد الصهاينة واليهود من المنطقة العربية وستُفتح المنطقة من جديد فتحاً مبيناً.  . 

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...