الاثنين، 25 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الثانية والعشرون للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الـ22 للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ 23-04-2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من أهم المبادئ الإسلامية، والفرائض الدينية، والمتطلبات الضرورية لواقع الحياة، وطبيعة المسؤولية، هي: الاعتصام بحبل الله جميعاً، والتوحد، والأخوّة بين المؤمنين، يعتبر هذا المبدأ العظيم فريضةً من فرائض الله “سبحانه وتعالى” الإلزامية، التي لابدَّ منها في تحقيق التقوى والالتزام الإيماني، أي: لا يمكن أن يُحسَب الإنسان عند الله من عباده المؤمنين الصادقين، ومن عباد الله المتقين، إذا لم يكن عنده اهتمامٌ وسعيٌ للالتزام بذلك، اهتمامٌ بتنفيذ ذلك، بتحقيق ذلك، وسعيٌ وفق توجيهات الله وتعليماته “سبحانه وتعالى”.

وهي فريضةٌ ضروريةٌ للقيام بالمسؤوليات الجماعية الإيمانية، الله “سبحانه وتعالى” أمرنا بمسؤوليات، نتعاون فيها، نتحرك فيها بشكلٍ جماعي، على مبدأ الأمة الواحدة، ومنها: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة القسط… ومسؤولياتٌ أخرى، وكذلك التعاون على البر والتقوى، كل هذه المسؤوليات الجماعية التي لابدَّ من التحرك فيها على نحوٍ جماعي، وبجهدٍ جماعي منظَّم، لابدَّ فيها من أخوة المؤمنين فيما بينهم، لابدَّ فيها من أن تقوم على أساس مبدأ التوحد.

وكذلك المشروع الإلهي في أساسه هو مشروعٌ جماعي؛ لأن الواقع البشري هو واقعٌ مترابط، والناس يتحركون في إطارٍ جماعيٍ: إمَّا في صف الحق، أو في صف الباطل، وفي أي اتجاهٍ كانوا، المجتمعات البشرية على الأرض هي مجتمعات تتحرك بشكلٍ جماعي، ضمن تكتلات وأطر، منها دول، منها كيانات، منها…إلخ. هذا شيءٌ معروف في الواقع البشري، فالمشروع الإلهي هو في نفسه مشروعٌ جماعيٌ، يجمع ويرسم المسؤوليات الجماعية، التي يتحرك فيها المؤمنون، على أساس القيام بها، والنهوض بها، والتحرك لتنفيذها.

إضافةً إلى ذلك، هو عامل قوة، وهذه مسألةٌ معروفةٌ في الواقع البشري، أنَّ التوحد قوة، وأنَّ التفرق ضعف، والقوة في التوحد قوةٌ في مواجهة الأعداء، قوةٌ في أداء المهام الجماعية، قوةٌ في إنجاز المشاريع الكبرى، قوةٌ في كل ما تحتاج الأمة فيه إلى قوة، قوةٌ في مواجهة التحديات والأخطار، قوةٌ في تحقيق الأهداف العظيمة والكبيرة والمهمة…إلخ. وهذه أيضاً مسألةٌ معروفة.

إضافةً إلى أنَّ التوحد، والتآخي، والتعاون، والتفاهم، والألفة، من أهم عوامل الاستقرار الداخلي، كل أمة تتحرك في واقع الحياة ضمن مسؤولياتها وأهدافها، تحتاج إلى استقرارٍ داخلي يساعدها على النهوض بمسؤولياتها كما ينبغي؛ لتحقق التعاون المطلوب، المبني على الانسجام القائم، والتفاهم القائم.

ثم أيضاً لتتحرك بجهدٍ كبير، بجهدٍ جماعيٍ قوي، يحتاج ذلك كله إلى أن يكون هناك تفاهم، انسجام، تعاون، استقرار داخلي، إذا فقد الاستقرار الداخلي، انشغل الناس أصلاً بالمشاكل التي تتكاثر، فتزعجهم، تؤثر عليهم، انشغالهم بها انشغالٌ تام، على المستوى الذهني، والنفسي، والفكري، وعلى مستوى الاهتمامات العملية، فيؤثر ذلك بشكلٍ مباشر على اهتماماتهم الرئيسية، على أعمالهم المهمة؛ وبالتالي على أهدافهم الكبيرة، وهذه أيضاً من المسائل المعروفة: الاستقرار الداخلي، الذي يؤمنه التوحد، وتؤمنه وتوفره الأخوّة، هو عاملٌ مهمٌ جداً في النجاح، وفي أداء المهام الكبرى، وفي النهوض بالمسؤوليات مهما كان حجمها، وبتحقيق النتائج الكبيرة والعظيمة، وهذه مسألة سنتحدث عنها على نحوٍ من التفصيل بشكلٍ أكثر.

مع كل ذلك، مع اعتبار هذه المسألة فريضة إيمانية، ومبدأً إسلامياً عظيماً ومهماً، ولابدَّ منها في الالتزام الديني وتحقيق التقوى، لابدَّ منها في النهوض بالمسؤوليات الجماعية، ومواجهة التحديات والأخطار، لابدَّ منها في تعزيز وترسيخ الاستقرار الداخلي، أهميتها الكبيرة جداً فيما يترتب عليها من نتائج لأي مجتمع ينطلق على أساسها، مع كل هذا، هي من الفرائض التي لا تحظى بالاهتمام المطلوب على المستوى العملي في الواقع، وتلقى محاربةً شرسةً جداً من الشيطان، وأولياء الشيطان، وقلة اهتمام في واقع المسلمين، إمَّا بشكلٍ عام، أو حتى على المستوى الداخلي لدى المسلمين.

وهذه من المفارقات العجيبة، مسألة بهذه الأهمية في موقعها في القرآن الكريم والآيات الكثيرة، وفي ما تحدث به الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، لها هذه الأهمية، لها هذه الثمرة، لها هذه النتيجة، والإهمال لها، والتفريط بها، يترتب عليه خسائر كبيرة جداً، حالة الفرقة والاختلاف عليها وعيدٌ بعذاب الله العظيم، هو أمر رهيب جداً، كل إنسان مؤمن، صادق الإيمان، يسعى إلى نجاة نفسه من عذاب الله العظيم، يترتب عليها الخسائر الكبيرة، والفشل الكبير، على مستوى سعي الناس للقيام بمسؤولياتهم فلا يتمكنون من ذلك، يفشلون في أعمالهم، ينزعجون من بعضهم البعض، وينشغلون ببعضهم البعض، على حساب قضاياهم الكبيرة والعظيمة والمهمة، ومسؤولياتهم المقدسة، الآثار السلبية جداً شنيعة، وفظيعة، وخطيرة، يفتحون ثغرات للشيطان، فيعمل على توسيع الفجوة، على أن يبذر بذور الشقاق والفتنة، ويترتب على ذلك نتائج سيئة جداً من المعاصي والذنوب المتنوعة، والتي سنتحدث عنها- إن شاء الله- على نحوٍ من التفصيل.

أوامر الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم، التي تتعلق بهذا الموضوع كثيرة، وصريحة، وواضحة، ومؤكدة؛ إنما يبقى الاستجابة، الاستجابة من كل الذين يعتبرون أنفسهم منطلقين على أساس الاستجابة لله، الله يقول في القرآن الكريم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: من الآية103]، يرسم لنا الله في القرآن الكريم أرقى مستوى وأعظم نموذج من الوحدة، التي تفوق أي وحدة في واقع المجتمع البشري، هي: الوحدة الإيمانية، التي ننطلق فيها من منطلقاتٍ إيمانية، فنعتصم بحبل الله جميعاً، نلوذ به، تجتمع كلمتنا على أساس هدى الله “سبحانه وتعالى”، وتعليماته المباركة، الجامعة، المقدَّسة، العظيمة.

وهذه الوحدة الإيمانية يقدِّم الله لنا أساسها المتين، أساسها العظيم، أساسها القوي الذي تبنى عليه، فيكون بنيانها بنياناً شامخاً، متماسكاً، صلباً، قوياً؛ لأنه قام على أساسٍ وأرضيةٍ صلبةٍ، وثابةٍ، ومتينةٍ، وقويةٍ، ومحكمة.

من أكبر العوامل في الفرقة والاختلاف، هو: الاختلاف على المستوى الفكري، على المستوى الثقافي، على مستوى الرؤى، حتى عندما نأتي إلى الجانب العملي، فتتباين الرؤى المتعلقة بالجانب العملي، فيؤدِّي ذلك إلى التباين، وإلى الفرقة، وإلى الاختلاف، والقرآن الكريم يعالج أول ما يعالج هذه المسألة:

فيحدد لنا المنطلق والدافع، ليكون منطلقاً إيمانياً، ودافعاً إيمانياً مقدَّساً، فنحظى من الله “سبحانه وتعالى” بالمعونة، بالتوفيق على ذلك.

ثم يوحِّد لنا الرؤية؛ حتى نتحرك برؤيةٍ موحَّدةٍ، وتوجهٍ واحدٍ.

ثم مع ذلك يؤكِّد لنا في القرآن الكريم أنه لابدَّ مع التحرك الجماعي هذا، من الأخذ بأسباب الوحدة والألفة، والحذر من أسباب الفرقة والاختلاف، ويعدد لنا ذلك في القرآن الكريم.

هنا في هذا الأمر الإلهي: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}[آل عمران: من الآية103]، يأتي الأمر في: {وَاعْتَصِمُوا}، الذي يفيد أن يكون الاعتصام جماعياً من الأساس بـ(واو الجماعة)، ثم أيضاً يضيف إلى ذلك قوله: {جَمِيعًا}؛ ليؤكِّد على أنَّ هذا الاعتصام اعتصام جماعي، هو اعتصامٌ جماعي، ويأتي بعده بقوله: {وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: من الآية103]، فهو تأكيدٌ ثالث، هذا التأكيد الكبير والواضح يبين خطورة التفرق، وأنه يعتبر من المعاصي، من الذنوب، من الجرائم، من الجرائم الكبيرة، والخطيرة، والسيئة.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: من الآية10]، فالمؤمنون بانتمائهم الإيماني، ومسؤولياتهم الإيمانية، ومسيرتهم الإيمانية هم إخوة، عليهم أن يشعروا بهذه الأخوة الإيمانية، التي هي أسمى من روابط النسب، ومن كل الروابط.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال: من الآية1]، فيأمر بصلاح ذات البين؛ للحفاظ على الوحدة، على الأخوة، على التعاون.

يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف: الآية4].

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: من الآية13].

ويحذِّر أيضاً من الفرقة والاختلاف بتحذيرٍ شديد؛ باعتباره من الجرائم الكبيرة، من كبائر الذنوب، فيقول “سبحانه وتعالى”: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[آل عمران: من الآية105]؛ لأن البينات تجمع، هي كافية في أن يجتمع بها وعليها المؤمنون، في أن تحل أي حالاتٍ من الاختلاف، أو سوء التفاهم، في أن تقدِّم ما يعالج العوائق النفسية المؤثرة سلباً على مسألة التوحد والتعاون بين المؤمنين.

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، وهذا شيءٌ مخيف جداً، هو وعيدٌ صريح، ووعيدٌ لا يمكن أن يختلف، وهذا الذنب- بحد ذاته- كفيلٌ أن يدخلك إلى جهنم، أن يوصلك إلى العذاب العظيم، حتى لو كنت تتظاهر بالاهتمام بصلاتك، وبصيامك، وببعض الأعمال الأخرى، ولكنك ممن يتفرَّقون، ممن يسعون للفرقة، ممن لا يسعى للأخوّة الإيمانية، ممن يتجه اتجاه الفرقة والشتات، وينأى، ويبتعد، ويسعى للخروج عن الصف الإيماني والأخوّة الإيمانية، فهذا الذنب- بحد ذاته- كافٍ في أن يوصلك إلى جهنم، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وهو في الواقع جرمٌ عظيم، تداعياته وآثاره السلبية خطيرةٌ جداً، وبالذات تجاه المسؤوليات الجماعية العظيمة والكبرى والمهمة في واقع الأمة.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[الأنعام: الآية159]، قوله تعالى مخاطباً لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله”: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، عبارة مهمة جداً جداً، تبين ألَّا علاقة لهم برسول الله، ولا بما عليه رسول الله؛ وبالتالي لا علاقة لهم بالدين، أمر رهيب جداً، وأمر خطير جداً.

في الحديث النبوي الشريف عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام))، الهجر بالقطيعة، بالمباينة، بالانفعال والجفاء، فالقطيعة التي هي مبنيةٌ على جفاء، قطيعةٌ متعمدة، هي لا تحل، إذا حصلت يجب التخلص منها قبل أن تطول، ((ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)).

يقول أيضاً “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا))، الإيمان له أهميته حتى على المستوى التربوي، بمثل ما أهميته على المستوى المبدئي، أنه يرسي المبادئ الجامعة، هو أيضاً على المستوى التربوي يزكي النفوس، ويصيغها لتكون قابلةً لأن تأتلف، لأن تتعاون، لأن تتفاهم، لأن تتظافر جهودها في طاعة الله “سبحانه وتعالى”، تعالج من الإنسان كل الترسبات والشوائب الخبيثة والسيئة، التي تمثل عائقاً عن الإخوّة الإيمانية، وعن التعاون على البر والتقوى، وعن التعاون في النهوض بالمسؤوليات الجماعية، ((ألَا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السَّلام بينكم، وتواصلوا، وتبادلوا)).

النصوص التي تتعلق بالوحدة وأهميتها بين المؤمنين، والأخوّة فيما بينهم، هي كثيرةٌ جداً، ومؤكدةٌ، وواضحةٌ، وجعلت من المسألة مسألة أساسية، والنصوص التي تحذِّر من الفرقة، هي كثيرةٌ وصريحةٌ، واقترنت بالوعيد الصريح، ومع هذا من الواضح في واقع المسلمين أنَّ من أكبر مشاكلهم أنهم فرَّطوا، فرَّطوا في هذا المبدأ العظيم، فرَّطوا في هذه الفريضة المقدَّسة، بكل ما لها من أهمية، وما يترتب عليها من نتائج عظيمة، ودفعوا الثمن الباهظ، والمكلف، والكبير، نتيجةً لذلك.

فعلى مستوى واقع الأمة الإسلامية، وعلى مدى التاريخ، وفي المرحلة الراهنة، تضرر المسلمون جداً من فرقتهم، فهم أمةٌ كبيرة، لديها الإمكانات الهائلة، ولكن لأنها أمةٌ مشتتة، مفرقة، واتجه أعداؤها للتوحد ضدها، أصبحت أمةً مضطهدة، فانتماء الإنسان المسلم إلى أمةٍ كبيرة بحجم المسلمين، إلى أكثر من مليار مسلم، لا يجعله يشعر بأنه فعلاً يستند إلى أمة كبيرة، إلى دعم كبير، إلى سند عظيم، هو أمته التي ينتسب إليها؛ لأنه يدرك أنه قد يكون- وهو هناك، أو هناك، في بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي- مهما واجه من تحديات، ومن أخطار، أو من ظلم واضطهاد، أو من إذلال وإهانة، فليس هناك اهتمام بواقعه، ليس هناك ذلك التآخي، التعاون فيما بين هذه الأمة، التكاتف فيما بين هذه الأمة، لتكون إلى جانب بعضها البعض، لا في مواجهة التحديات، والأعداء، والأخطار، ولا في تحقيق المصالح المشتركة الكبيرة والعظيمة، التي تنهض بالأمة في كل مجالات حياتها، ولا في أشكال التعاون على البر والتقوى.

ولذلك تجرَّأ أعداء هذه الأمة عليها، ويضطهدون المسلمين في مختلف بقاع الأرض، يلقى المسلمون في كثيرٍ من بلدانهم، في كثيرٍ من المناطق، وحتى على مستوى القارات، الاضطهاد على المستوى الديني المباشر، في شؤون دينهم، يُمنَعون، أو يعذَّبون، أو يضطهدون، أو تحصل إبادات جماعية، أو تهجير واسع… أو أي شيء من ذلك، يمنعون من أشياء حتى من أشياء سلوكية، أشياء تعبِّر عن هويتهم الإيمانية، كالحجاب مثلاً، أشياء كثيرة جداً، تصدر الإساءات إلى القرآن الكريم، والعمل لحرقه، وتصدر الإساءات إلى رسول الإسلام “صلوات الله عليه وعلى آله”، إلى مقدسات المسلمين، وبكل جرأة من جانب الأعداء؛ لأنهم يدركون أنَّ هذه الأمة وإن كانت كبيرةً في حجمها، كأمة من حيث العدد، والرقعة الجغرافية، والإمكانات، لكنها ليست قوية، ليست قوتها بحجمها؛ لأنها مشتتة، مفرَّقة، مبعثرة، غرق كل بلدٍ من بلدانها في همومه، ومشاكله، وجزئياته، وقضاياه، وتخلت عن مسؤولياتها الجماعية، التي هي المفتاح لتعزيز الأواصر فيما بينها، والروابط فيما بينها.

دخلت الفرقة بكل أشكالها ما بين العالم الإسلامي والأمة الإسلامية، الفرقة بكل أشكالها: الفرقة والاختلاف على المستوى الفكري والثقافي، وعلى المستوى السياسي، واشتغل الأعداء من جانبهم أيضاً على المستوى الجغرافي، فقطَّعوا أوصال هذه الأمة إلى بلدان، وقسَّموها، وجزَّؤها، ورسموا بينها حدودها السياسية، ثم اشتغلوا بشكلٍ مستمر، ويعملون بشكلٍ مستمرٍ ودؤوب على توسيع الفجوة بين أبناء الأمة، يستنسخون بشكلٍ مستمر المزيد من كل عوامل الفرقة، مما يشتت المسلمين على المستوى الثقافي، وعلى المستوى المذهبي، وعلى المستوى الفكري، وعلى المستوى السياسي، وعلى… على كل المستويات، حتى على المستوى العرقي، أصبحوا يشتغلون لبعثرة المسلمين من خلال ذلك.

فأوصلوا المسلمين إلى ما وصلوا إليه من الفرقة والشتات الكبير، الذي لا مثيل له عند غيرهم، فيما الأعداء يتجهون إلى تحالفات، وتكتلات، ويجتمعون على مواقف موحَّدة ضد أمتنا الإسلامية، يصبح اجتماع الأمة الإسلامية على أي موقف أمراً صعباً جداً، وأحياناً يكون الاجتماع محدوداً جداً، وعلى مستوى شيءٍ شكليٍ، إصدار بيان، أو نحوه، ثم في الأخير حتى بهذا القدر لم يعد متوفراً.

دخل الأعداء بالفتنة التكفيرية ليوسِّعوا أكثر وأكثر، ويعمِّقوا جراح هذه الأمة أكثر وأكثر، ودخلوا بالعناوين الأخرى: العناوين السياسية، ودخلوا عبر الأنظمة العميلة لهم من المنافقين، الذين يمثِّلون معاول الهدم في يد أعداء الأمة؛ لـ- كذلك- يوسِّعوا الفجوة من الداخل أكثر فأكثر، وليثيروا الفتن في داخل هذه الأمة أكثر فأكثر.

مع كل ما وصلت إليه الأمة من شتات وفرقة، وما يعمله الأعداء، فلو توفرت لدى الأحرار والأخيار، والذين يتجهون الاتجاه الإيجابي والسليم من أبناء الأمة، توفرت عندهم الإرادة القوية والصادقة على معالجة هذه المشكلة بالتحرك الجاد، من خلال تعزيز الانتماء الإسلامي الجامع، والالتقاء على القرآن الكريم، والقواسم المشتركة، وتوحيد الموقف من القضايا الرئيسية، هذا- بحد ذاته- سيكون مقدمةً فيما يتعلق بالواقع الإسلامي العام، مقدمةً مهمةً جداً، تساعد الأمة الإسلامية؛ لأن الحديث عن توحُّد المسلمين جميعاً دفعةً واحدةً حتى على مستوى الموقف الواحد، يكاد يكون من المستحيل بالنظر لما وصلوا إليه، ولطبيعة التوجهات التي أصبحت سائدة لدى الكثير من أبناء الأمة، الذين غابت من اهتماماتهم مثل هذه المسائل، وأصبحت عندهم العقد الكثيرة، والعوائق الكثيرة، والسلبيات التي تبعدهم عن مثل هذه الأمور إلى حدٍ كبير.

ولكن على المستوى الإجمالي، فيما لو تحرَّك الأخيار، الناس الناصحون، الحريصون من أبناء الأمة، على أساس الالتقاء تحت العناوين الجامعة: العنوان الإسلامي، الذي يتجاوز الأطر المذهبية، والأطر الجغرافية، والعودة إلى القرآن الكريم، والتحرك في إطار المواقف الجامعة، في القضايا التي هي قضايا تهم الأمة كل الأمة، لها علاقةٌ بالأمة بشكلٍ عام، فالتوجه على هذا النحو، وإن شاء الله مؤشراته وبشائره فيما يتعلق بتحرك الأحرار من أبناء الأمة، والمجاهدين من أبناء الأمة في قضية فلسطين، والقضايا الجامعة، مبشراته- إن شاء الله- جيدة.

على مستوى مجتمعٍ معين، كبلدنا اليمن، الذي لنا فيه الهوية الجامعة، الهوية الإيمانية، الانتماء الإيماني الجامع، ونعيش كبلدٍ واحدٍ، يجمعنا الروابط الكثيرة جداً، ترسيخ هذا الانتماء الإيماني، هذه الهوية الجامعة الإيمانية، وهي هوية مباركة، هوية عظيمة، والتحرك على أساس القرآن الكريم، هو من أهم وأعظم وأقدس ما هو كفيلٌ بأن يجمع، وأن يؤلِّف الله القلوب عليه، وفي مواجهة التحديات والأخطار الكبيرة التي نواجهها.

وهناك فعلاً عوامل هدمٍ تشتغل للتفرقة بين أبناء شعبنا، وفي مقدمتها: التكفيريون والمنافقون، التكفيريون هم منافقون، ولكن لهم سمة معينة، يشتغلون تحت العناوين الدينية، ويرسِّخون ويجذِّرون حالة الفرقة، ويوسِّعون الفجوة بين أبناء الشعب اليمني، ويكفِّرون بقية أبناء الشعب، من لا يتجهون بتوجههم، ومن لهم منهم موقف، ويشتغلون كأداة في يد أعداء الإسلام والمسلمين.

على المستوى العام، كلما رُسِّخت الهوية الإيمانية الجامعة، وكلما رُسِّخ الارتباط بالقرآن الكريم، والاهتداء به، والتحرك ضمن المسؤوليات الجماعية، التي هي جهادٌ في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وإقامةٌ للقسط، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر، نعمل من خلالها على أن نحقق لبلدنا الاستقلال عن التبعية لأعدائه، الخلاص من التبعية لأعدائه، العمل على إبعاد سيطرة المنافقين عن شعبنا؛ لأنه شعبٌ عظيم، شعبٌ مسلم، شعبٌ هويته إيمانية، لا يليق ولا يجوز أبداً أن يسيطر عليه المنافقون، التابعون لأعداء الأمة، الموالون لأعداء الأمة، الذين يعملون بكل وسعهم على تنفيذ أجندة ومؤامرات أعداء الأمة في الواقع الداخلي.

لكن عندما نأتي إلى واقعنا كذلك في إطار هذا التحرك الإيماني، ما الذي يساعدنا أكثر على ترسيخ وتعزيز هذه الأخوّة الإيمانية؟

كما قلنا الله: “سبحانه وتعالى” جعل لها الأساس الذي تبنى عليه، وهي: الرؤية الواحدة، عندما نتحرك وفق هدى الله “سبحانه وتعالى”، الذي هو النور، هو البصيرة، ولا نتحرك وفق أهوائنا، وفق آرائنا التي قد تكون البعض منها آراء سخيفة، بعيدة عن الحكمة، بعيدة عن الصواب، ونعود إلى القرآن الكريم، فهذه هي الأرضية الصلبة، التي يبنى عليها بنيان الأخوّة على أرقى مستوى.

ثم التحرك في إطار المسؤولية الجامعة، الله “جلَّ شأنه” يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: الآية71]، فمن ضمن مواصفاتهم الإيمانية، والتزاماتهم الإيمانية، وما يدخل في إطار التزامهم الإيماني، واستقامتهم الإيمانية، قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، فهم يتجهون كأمةٍ واحدة، متآخية، متعاونة، متفاهمة، تتظافر جهودها للنهوض بهذه المسؤولية الجماعية: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}… إلى آخر الآية المباركة، {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

يقول أيضاً: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}[الصف: من الآية4]، صف واحد، يجمعهم التوجه الواحد، الموقف الواحد، التعاون فيما بينهم، تظافر جهودهم فيما بينهم، {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف: من الآية4]، في مستوى تعاونهم، تآخيهم، تماسكهم، صلابتهم، قوتهم، كالبنيان المرصوص.

في القرآن الكريم هدايةٌ واسعة إلى العوامل التي تساعد على الأخوّة الإيمانية، التي تساعد على الحفاظ على وحدة الكلمة، وعلى اجتماع الكلمة من كل الجوانب، كما هو على المستوى الفكري، والثقافي، والرؤية العملية الواحدة، هو أيضاً على مستوى المسؤولية الجامعة، المسؤولية الواحدة التي يتحركون فيها، ويؤلف الله بين قلوبهم، بتوجههم الصادق، بإخلاصهم في ذلك لله “سبحانه وتعالى”، بتوجههم لتنفيذ ذلك من أجل الله “سبحانه وتعالى”.

هناك ما تبنى عليه هذه الوحدة، وهناك ما يحافظ عليها، ويساعد عليها، على المستوى النفسي، على المستوى التربوي، القرآن الكريم يقدِّم ما يزكي النفوس، ما يُخَلِّصَها من الشوائب الخطيرة التي تعيق مسألة الأخوّة والتعاون، يُخَلِّص النفس البشرية من الأنانية، من الحسد، من الكبر، من الطمع، من الجشع، يساعد الإنسان على أن تزكو نفسه، وزكاء النفس يجعل نفسية الإنسان قابلةً للألفة، سليمةً من العقد، قريبةً من الأخوّة، ليس فيها ما يصنع الحواجز والعقد من السلبيات الخطيرة.

ثم على مستوى حسن التعامل، وبذل المعروف، والإحسان، والسعي لصلاح ذات البين، والتحلي بالقيم المساعدة على ذلك، فتأتي المواصفات المهمة، التي تبيِّن ما هم عليه فيما بينهم، من مثل قوله “سبحانه وتعالى”: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، إذا ترسَّخت هذه المواصفات العظيمة، إذا كانت الرحمة هي السائدة فيما بينهم، في تعاملهم مع بعضهم البعض، في اهتمامهم ببعضهم البعض، في أسلوبهم في التعامل مع بعضهم البعض، في الاهتمام بشؤون بعضهم البعض، إذا كانت الرحمة هي السائدة، أَلَا ينتج عنها الألفة؟ أَلَا ينتج عنها الأخوّة؟ أَلَا ينتج عنها التعاون؟ بلى، وحالة مستمرة، {رُحَمَاءُ}، تصبح من المواصفات الرئيسية التي يستمرون عليها، ويبنى عليها سلوكهم، وتعاملاتهم فيما بينهم، ونظرتهم تجاه بعضهم البعض، وبذلهم المعروف لبعضهم البعض، ومستوى التعاطف فيما بينهم لكل ما يستدعي حالة الرحمة.

يقول أيضاً عنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[المائدة: من الآية54]، وهذا كذلك قدَّمه كمواصفة من المواصفات الأساسية المهمة، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، فهم فيما بينهم، في معاملاتهم، في تصرفاتهم تجاه بعضهم البعض، يتعاملون بمنتهى التواضع، ليس فيهم الجرأة على الإساءة إلى بعضهم البعض، القسوة على بعضهم البعض، الغلظة على بعضهم البعض، الجرأة بارتكاب الجريمة في الاعتداء على بعضهم البعض، هم بعيدون عن كل ذلك، هم في منتهى التواضع فيما بينهم، ليس عنده الجرأة لا في الإساءة، ولا في الاعتداء، ولا في الظلم، ولا في أي تصرفٍ سيء يصدر من جانبه عمداً تجاه أخيه المؤمن، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

يقول عنهم أيضاً: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[آل عمران: من الآية134]، أيضاً يتحلون بصفة كظم الغيظ، حتى إذا بَدَر من أخيه المؤمن ما قد يزعجه، أو ينفعل منه، فهو لا يبادر فوراً إلى الإساءة، وإلى الرد حتى بأكثر من ذلك، وإلى أن يُخرِج كل ما في قلبه بشكل إساءات، واتهامات، وكلام جارح، إذا اغتاظ، والغيظ هو أشد حالة من حالات الانفعال والغضب، وهي الحالة الخطيرة على الكثير من الناس، الذين إذا عانوا من هذه الحالة، لم يعودوا ينضبطون بأي ضوابط، سيقولون أي كلام، مهما كان جارحاً، مهما كان مسيئاً، مهما كان فيه أيضاً أحياناً افتراءات، وإساءات، واتهامات باطلة، وكلام جارح، فيتحمل الإنسان الوزر الكبير، ويصنع الفجوة التي تزداد يوماً بعد يوم.

فهم قال الله عنهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، بما يفيد أنها صفة يستمرون عليها، ليس بمجرد أي حالة انفعال يبدأ يتكلم، ويسيء، وتحصل من جانبه ردة فعل، وكثيراً ما تكون ردود الأفعال مبالغاً فيها، أكثر ما تكون مبالغاً فيها، فيها اتهامات أكثر، فيها إساءات أكثر، فيها جرح أكثر، القليل من الناس الذين قد ينضبط حتى في مستوى ردة الفعل، عندما يصدر ما يزعجه، أو ما يجرح مشاعره، أكثر ما يحصل هو: الرد المبالغ فيه، الذي يتحمل الإنسان فيه الوزر، وهو يريد أن يشفي غيظه، أو كما يقولون: [أن يبرد غليله]، أن يتكلم، يتكلم، ويسيء، ويجرح، ويقول ما يرى أنه ارتاح بكل ما قد قال، ولكن هذا لا يليق، لا يليق أخلاقياً، ولا إنسانياً، ولا إيمانياً، وهو- في نفس الوقت- مما يورِّط الإنسان في أن يحمِّل نفسه الوزر والإثم، وهذا يحصل للكثير، يحصل للكثير في ردود أفعالهم الظالمة، المشحونة بالافتراءات، والإساءات، والكلام الجارح، والاتهامات الباطلة، والبعض أيضاً قد يضيف إليها أيمان، ويقسم على ذلك، وهذه أمور شنيعة، وأمر رهيب جداً عندما يحلف الإنسان أيضاً اليمين الفاجرة، يضيف إلى ذلك ذنباً على ذنب.

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قد حتى يعفو؛ لأنه يحمل اهتمامات كبيرة، مسؤولية عظيمة، حريص جداً على ما هو أهم، على القضية الكبرى، على مواجهة التحديات الخطيرة، يمتلك الوعي الكافي عن مخاطر الفرقة، وعمَّا تسببه من ضعف، وشتات، وفشل، وتمكين للأعداء، وما ينتج عن ذلك من مخاطر كبيرة جداً على الناس في دينهم ودنياهم.

يقول عنهم، عن المؤمنين: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}[الشورى: من الآية37]، في واقعهم الداخلي تجاه ما قد يبدر مما يستفزهم، مما يغضبهم من كلمةٍ من هناك، أو تصرفٍ من هناك، هم لا يبادرون بكل سرعة، بكل جرأة، بكل شدة، على ردة الفعل المسيئة، أو الجارحة، أو المؤلمة، أو الانتقامية، لا يعيشون حالة العقدة، عقدة الحقد، وعقدة الانتقام تجاه كل شيء، كل شيء، أبسط كلمة، أبسط استفزاز، أبسط مشكلة، ثم تأتي ردة الفعل المبالغ فيها، الانتقامية، الحنقة، التي تعبَّر عن أنَّ الإنسان يحمل في داخله حقداً، كراهيةً، عقداً، ليست نفسيته سليمة في ذلك؛ أمَّا هم فيقول عنهم: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}، ويأتي هذا في سياق نقاء أنفسهم، صفاء أنفسهم، اهتماماتهم الكبيرة بالأمور العظيمة، بالمسؤوليات الكبيرة، وعيهم بخطر الأعداء، وخطر التفريط في مواجهتهم، وعيهم بحجم القضايا، لا يجعلون من الحبة قبة، يساوي أي إشكالية، أي قضية، أي سوء تفاهم، بأكبر مشكلة، البعض من الناس يعني أبسط قضية عنده أكبر من المشكلة الفلسطينية، أكبر من العدوان الجاري على البلد، أكبر من أي قضية أخرى، انفعاله من ذلك الأمر الذي استفزه، غضبه، توتره الشديد، انزعاجه الشديد، ردة فعله، اهتمامه الكبير، يفوق كل أمرٍ آخر، هذا يدل على حالة نفسية غير سليمة، حالة نفسية صغيرة، لا تحمل الاهتمامات الكبيرة، المشاعر الإيمانية، لا تعطي قيمة للتوجيهات الإلهية، وهذا ما سنتحدث عنه أكثر- إن شاء الله- لاحقاً.

الكلام حول هذا الموضوع له تفاصيله الكثيرة، نتحدث عنها لاحقاً إن شاء الله.

ونكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛

المحاضرة الرمضانية الحادية والعشرون للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الحادية والعشرون للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م 
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

شهر رمضان بكله شهرٌ مبارك، وهو فرصةٌ مهمةٌ وعظيمةٌ في اكتساب الأجر والثواب، وفي الارتقاء التربوي، والروحي، والأخلاقي، والإيماني بشكلٍ عام، وفي التزود بالتقوى، وفرصةٌ عظيمةٌ للدعاء، ولذكر الله “سبحانه وتعالى”، وفرصةٌ عظيمةٌ ومهمةٌ لتقوية الروابط مع القرآن الكريم، وتعزيز العلاقة معه؛ لاكتساب الهداية، واكتساب الوعي، في مرحلةٍ نحن فيها في أمسِّ الحاجة إلى الوعي، وإلى الهداية.

وفي شهر رمضان تأتي العشر الأواخر، لها أهميةٌ أكثر، وبركاتها أكثر، وفيها تُلتَمس ليلة القدر، ورسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” كان مع تذكيره بفضل شهر رمضان، وأهمية شهر رمضان، وما جعل الله فيه من البركات، يلفت النظر وينبِّه على فضل ليلة القدر، وأهمية ليلة القدر، وأهمية اغتنام فرصة ليلة القدر.

والقرآن الكريم أيضاً تحدث عن ليلة القدر، عن عظمتها، وفضلها، وبركاتها، وحديثه عنها حديثٌ عظيمٌ ومهمٌ جدًّا، عمَّا يتعلق فيها بالإنسان فيما يُكتَب له، فيما يقدَّر له، أو عليه.

ولذلك ومع أنَّ البعض عادةً ما يكون قد أصابه الفتور، بعد مرور ثلثي شهر رمضان المبارك، وبقاء الثلث الأخير من الشهر، وهو العشر الأواخر، عادةً ما يكون البعض قد أصابهم الفتور، وأصبحوا ينشغلون من وقتٍ مبكر بالعيد، وما بعد العيد، وهذه حالة غفلة، وقصور في إدراك أهمية وعظمة الفرصة التي أتاحها الله خلال هذا الشهر المبارك، وتجاه العشر الأواخر منه.

عندما نتأمل في واقعنا، نجد أننا في أمسِّ الحاجة إلى الله تعالى، نحن الفقراء إلى الله، قال “جلَّ شأنه”: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر: الآية15]، نحن الفقراء إلى الله “سبحانه وتعالى”، نحتاج إلى كل شيء، ما يواجهنا وما نعانيه من المخاطر، من التحديات، من الصعوبات، من المشاكل، من الهموم، وما نحن فيه في إطار مسؤوليتنا في هذه الحياة، وما يترتب عليها في الدنيا، وما يترتب عليها في مستقبلنا الأبدي الدائم الكبير في الآخرة، كله يدعونا، ويدفع بنا، إلى أن ندرك قيمة هذه الفرصة، وأن نستغلها.

الله “سبحانه وتعالى” هو الرحيم، هو الكريم، هو العظيم، من مظاهر رحمته، من تجليات رحمته، أن يهيِّئ لنا الفرص الكثيرة، البعض منها على مستوى الزمن: كما هو حال شهر رمضان، كما هو حال العشر الأواخر منه، كما هو حال ليلة القدر فيه، فرص عظيمة جدًّا، يمكن أن تستفيد منها إذا اتجهت أنت، إذا اهتممت أنت، كان لديك اهتمامٌ بذلك، فيمكن أن تحقق لك في واقع حياتك نقلات كبيرة، وقفزات عظيمة، ونجاحات مهمة جدًّا، وبالذات فيما يتعلق بالدار الآخرة، ومستقبلك الأبدي والدائم، وهو الأهم، والأكبر، والأعظم، مع ما يَمُنُّ الله به عليك في عاجل الدنيا، فيما يفرِّجه عنك، فيما يكتبه لك، فيما يحققه لك في نفسك، أو في مسيرة حياتك.

احتياجات الإنسان هي كثيرة، وكبيرة، ومتنوعة، وواسعة: منها ما يحتاجه في نفسه، ومنها ما يحتاجه فيما يتعلق بعلاقته بالله “سبحانه وتعالى”، فأن يهيِّئ الله له الفرص العظيمة، التي يستفيد منها الاستفادة الواسعة من جوانب كثيرة، مثلما هو حال ليلة القدر.

في حديث القرآن الكريم عن ليلة القدر، قال عنها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}[الدخان: الآية3]، فهي ليلة نزول القرآن، القرآن الكريم، بعظمته، بفضله، بما له من أهميةٍ عظيمة، نزل في ليلة القدر، وهذا لأنه من الرحمة الإلهية، هو من أعظم تجليات رحمة الله “سبحانه وتعالى”، هو نوره، له قدسيته العظيمة، له شأنه العظيم، وبركاته العظيمة، هو كتابٌ مبارك، فلقدسية القرآن الكريم، لبركته العظيمة، لأنه رحمة، لأنه نور، لأنه هدى، اختار الله أن ينزله في ليلةٍ مباركةٍ وعظيمةٍ؛ لعلو شأنه وقدسيته، ولعظمته وأهميته، هذا أول ما في ليلة القدر أنها ليلة نزول القرآن الكريم.

ثم يقول عنها: {مُبَارَكَةٍ}، {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[الدخان: من الآية3]، بركاتها واسعة، وبركاتها تشمل أشياء كثيرة، فيما جعل الله فيها من مضاعفة الأجر والثواب، إلى حدٍ عجيبٍ جدًّا، مضاعفة الأجر فيها هي عشرات آلاف الأضعاف، عشرات آلاف الأضعاف، إذا كان شهر رمضان في بقية أيامه تضاعف فيه الأجور إلى سبعين ضعفاً، فالأجور تضاعف في ليلة القدر، تجاه ما يعمله الإنسان فيها، إن كان عمله مقبولاً، تتضاعف عشرات آلاف الأضعاف، فيما قد يساوي عمراً بأكمله، فتعتبر فرصةً عظيمةً جدًّا، العمل فيها تجارةٌ رابحةٌ بين العبد وربه “سبحانه وتعالى”.

على مستوى ما فيها من البركات الأخرى، فيما يكتبه الله للعباد في حياتهم، في شؤون حياتهم، فيما يَمُنُّ به عليهم، بركات واسعة ومتنوعة وشاملة.

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، من بركاتها: نزول القرآن الكريم فيها، {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، من أهم ما في ليلة القدر: أنها ليلة تقديرٍ وتدبيرٍ لأمور البشر، لأمور الناس على مدى العام بكله، في مختلف شؤون حياتهم: في أرزاقهم، في آجالهم، في شؤونهم المختلفة، فيما يتعلق بتدبير أمورهم، في جوانبها التفصيلية، فلذلك قال: {فِيهَا يُفْرَقُ}، ضمن التدبير العام يأتي ما يتعلق بالتدبير التفصيلي لشؤون الإنسان على مستوى عامه القادم، وهذه مسألة تهم كلاً منا.

كُلٌّ منا يهمه ما يُكتَب له، أو ما يُكتَب عليه، خلال عامه القادم، أليس كُلٌّ منا يرجو الخير لنفسه، ويرجو أن يصرف الله عنه خلال عامه القادم الشر، ويرجو لنفسه في إطار الخير أن يوفقه الله “سبحانه وتعالى”، أن ييسر أموره؟ فليلةٌ لها علاقةٌ بك أنت، فيما يُكتَب لك في حياتك، في شؤونك، في أمورك، أو فيما قد يكتب عليك، ألا تهمك؟! يمكن أن يصل الإنسان في حالة الغفلة، الغفلة عن الله، الغفلة عن كل شيء، إلى مستوى نسيان النفس، نسيان ما يهمه، ما له علاقةٌ به، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}[الحشر: من الآية19]، لكن من يذكر الله؛ هو يتذكر بالتالي، ويذكِّره الله بنفسه، بشؤونه، بأموره الهامة، التي يجب أن تكون هي محط اهتمام لديه، هذا على المستوى الشخصي.

لكن هناك أيضاً على المستوى الجماعي، المجتمع الذي لديه توجهٌ معين، والأمة التي لديها توجهٌ معينٌ قد يجمعها، إذا كان توجهاً صحيحاً، وفق توجيهات الله، وتعليمات الله، تبتغي به رضوان الله “سبحانه وتعالى”، فهذه الليلة أيضاً تهم الجميع كأمة واحدة، وكمجتمعٍ لديه توجهٌ واحد.

فهي هامةٌ على المستوى الشخصي، فيما يهمك كشخصٍ، فيما يتعلق بظروفك، وشؤون حياتك الخاصة، وهمومك، ومشاكلك؛ لأن كلاً منا لديه ظروفه الخاصة، لديه مشاكله الشخصية، لديه همومه الشخصية، جانبٌ من حياته، ثم على المستوى الجماعي، فيما يربطك بمجتمعك وأمتك الواحدة، التي تتحرك ضمنها، وتنتمي إليها، هناك أيضاً ما يكتب على المستوى العام.

يهمنا أن يكتب الله لنا الخير، ما يكتب لنا، أو علينا، يتعلق بواقعنا، باهتماماتنا، بتوجهاتنا، بأعمالنا إلى حدٍ كبير، من الجوانب المؤثرة، من الجوانب المتعلقة بما يكتب لنا، أو علينا، هي: توجهاتنا، وأعمالنا، ومواقفنا، وتصرفاتنا، وسلوكياتنا.

ولذلك يجب أن نلتفت إلى هذا الجانب، فعندما نعود إلى الله “سبحانه وتعالى”، ونرجع إلى الله “جلَّ شأنه”، بقدر ما نتوجه بالدعاء، بالتضرع، بالذكر، نحرص أيضاً على أن نتوجه بالعزم والإرادة على الاستقامة على نهجه، على التحرك وفق توجيهاته، على النهوض بمسؤولياتنا التي أمرنا الله بها، والاستمرار فيها، أن يعلم الله منا صدق التوجه في إرادتنا، في عزمنا، في نياتنا، أن نتحرك وفق تعليماته، وفق أوامره، أن نصحح وضعيتنا وفق توجيهاته، أن نتوب إليه من تقصيرنا، من ذنوبنا، من أخطائنا، من خطيئاتنا، وأن نرجع إليه.

ولذلك إلى جانب اهتمامنا بالدعاء، وما نطلبه من الله، وما نرجوه من الله، فلنحرص على أن نتوجه إلى الله بالتوجه الذي يرضيه عنا؛ لأن تدبير الله “سبحانه وتعالى” عندما يكون برضاً عنا، وهو راضٍ عنا، يكتب لنا الخير، يكتب لنا الرحمة، يكتب لنا مما يكتبه من واسع فضله “سبحانه وتعالى” الشيء الكثير في الدنيا وفي الآخرة، وفي الآخرة وهو الأهم، وهو الأبقى، الذي نحرص عليه أكثر، هذا جانبٌ مهمٌ مما ينبغي أن نحرص عليه، وأن نتنبه له؛ لأن من خصوصيات ليلة القدر: أنها ليلةٌ لتقدير أمور الناس، للتدبير الإلهي فيما يكتبه الله للناس وعليهم، وفق حكمته “سبحانه وتعالى”، ورحمته، وتدبيره لشؤون عباده.

مما ذكره الله “سبحانه وتعالى” عن ليلة القدر: سورة بأكملها هي سورة القدر، قال فيها “سبحانه وتعالى”: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية1]، (إِنَّا) الله “سبحانه وتعالى” عظيم الشأن، يؤكِّد لنا بهذا التعبير: (إِنَّا)، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، يعبِّر لنا- مع إشعارنا بعظمته “سبحانه وتعالى” وجلاله- أنه أنزل كتابه المبارك العظيم، المجيد، الكريم، في ليلة القدر، فهي ليلةٌ عظيمة الشأن، ليلة نزول البركات، نزول الرحمة، نزول الخير.

ثم يقول عنها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر: الآية2]، وهذا يعبِّر عن عظيم شأنها وفضلها، (وَمَا أَدْرَاكَ): مستوى عظمة هذه الليلة، وأهمية هذه الليلة، وقدسية هذه الليلة، وبركات هذه الليلة، يفوق إدراكك، يفوق تقديرك، يفوق تصورك، يفوق تخيلك، أعلى من ذلك، لا يدرك الإنسان مستوى عظمة تلك الليلة، مستوى فضل تلك الليلة، شأنها أكبر وأعظم وأعلى مما يدركه الإنسان، أو يستوعبه، أو يتخيله.

{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: الآية3]، لَيْلَةُ الْقَدْرِ في بركاتها، وفي فضلها، وفي خيرها، تفوق ألف شهر، وفي مضاعفة الأجر على العمل فيها، تفوق ألف شهرٍ من الزمان، ما يعادل عمراً بأكمله، عمراً مديداً، فهي ليلةٌ عظيمةٌ جدًّا، وبركاتها كبيرةٌ جدًّا.

{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر: الآية4]، وفيها نزول ملائكة الله على نحوٍ واسعٍ وكبيرٍ إلى الأرض، في إطار التدبير الإلهي لشؤون البشر، وكأنَّ هناك أمور كثيرة، يبتدئ العمل من جانب الملائكة في تهيئتها، وفق التدبير الإلهي الواسع، ووفق المهام التي تتعلق بهم، والتي يقومون فيها بأمر الله “سبحانه وتعالى”، وينفِّذون فيها تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، في تهيئة المقادير والمكتوب للبشر… وغير ذلك مما لا نعلمه.

نزول الملائكة في تلك الليلة المتصل بشؤون الناس، وتدبير أمورهم، هو أيضاً يعبِّر عن أهمية، ويدل على أهمية تلك الليلة، وفضلها، وقدسيتها.

{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر: الآية5]، من مميزات ليلة القدر، من بركاتها العجيبة، أنها: سَلَامٌ، لا ينزل فيها عذابٌ من الله “سبحانه وتعالى”، ولا نقمةٌ من الله “سبحانه وتعالى”، من أولها إلى آخرها، {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، هذا من بركاتها العجيبة، ومن خصوصياتها العجيبة جدًّا.

فهذه الفضائل، والمزايا، والخصوصيات، لليلة القدر، تشجع وتدل- في نفس الوقت- على أهميتها الكبيرة، فبركاتها وبركات الأعمال فيها يفوق ألف شهرٍ بأكمله.

يبقى أن يغتنم الإنسان الفرصة، أن يحرص خلال هذه العشر الأواخر، في كل ليلةٍ منها، وفي الليالي أيضاً المتوقعة أكثر فيها، أن يُقبِل أكثر، ألَّا يضيِّع هذه الفرصة التي لا مثيل لها، على المستوى الزمني لا مثيل لها أبداً، قد يكون هذا الموسم (رمضان هذا) هو آخر شهرٍ للبعض منا، قد لا يدرك في العام القادم شهر رمضان القادم، وقد تكون هذه الليلة المباركة إذا اغتنمها، قد تكون هي ما يحدد له فيها مستقبله السعيد للأبد، ومن الغبن، ومن الحرمان أن يفوِّت الإنسان فرصةً كهذه.

خلال عشر ليال أَلَا يمكن للإنسان أن يقبل إلى الله أكثر، أن يكثِّف جهده، أن يعتني أكثر، أن يقلل من انشغالاته غير المهمة والعبثية، التي يهدر فيها وقته، وأن يكثر من ذكر الله “سبحانه وتعالى”، أن يرجع إلى الله، أن يدعو الله، وأن يكون في سلَّم اهتماماته، وفي مقدِّمة اهتماماته التي يدعو الله فيها: أن يطلب من الله المغفرة، هذا من أهم ما يحتاج إليه الإنسان؛ لأن الله الرحيم، الكريم، العظيم، يريد لنا الخير.

مشكلتنا دائماً هي في ذنوبنا، هي في خطايانا، هي في معاصينا، هي التي تؤثِّر سلباً علينا، هي التي لها آثارها السيئة علينا في الدنيا، وفي مستقبلنا الأبدي في الآخرة، أن نطلب من الله أن يغفر لنا، أن يعفو عنا، وأن نطلب منه أيضاً أن يعتق رقابنا من النار، هذا من أهم ما يطلبه الإنسان من الله، ومن أهم ما يدعو به، أن يطلب من الله ما يتعلق بشؤونه الشخصية، وهمومه، وظروف حياته، وما يتعلق بالواقع العام لأمته ولمجتمعه المسلم، أن يطلب الله له التوفيق، والنصر، والعون، والهداية… وغير ذلك من الخير العام.

ويمكن للإنسان أن يستفيد من الأدعية القرآنية، هي أدعيةٌ عظيمةٌ وجامعة:

من ضمن الأدعية القرآنية المباركة: الدعاء الجامع، الذي نطلب فيه من الله خير الدنيا والآخرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية201]، دعاءٌ جامع يحفظه العامي والمتعلِّم، ويفيد للإنسان المنشغل وغير المنشغل، دعاءٌ عظيم، ودعاءٌ مبارك.

وكذلك دعاء الربَّانيين المجاهدين، من أعظم الأدعية، ومن أهم الأدعية: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية147]، ومن المهم للإخوة المجاهدين أن يكثروا من هذا الدعاء في هذه الليالي المباركة.

من أهم الأدعية: دعاء الراسخين في العلم، الذي ذكره الله “سبحانه وتعالى” في سورة آل عمران، وهو من أعظم وأهم الأدعية التي يحتاج إليها الإنسان، الذي يحرص على التوفيق الإلهي، وعلى حسن العاقبة، ويتخوَّف ويخاف على نفسه من الزيغ، ومن الخذلان، ومن الضلال: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران: الآية8].

وهكذا هناك أدعية مأثورة عن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، أدعية مأثورة من الصحيفة السجادية، من غيرها من الأدعية المأثورة والمباركة المناسبة، التي تتضمن الاعتماد على ذكر الله بأسمائه الحسنى، يمكن للإنسان أن يستفيد منها، مع الأهمية مع الإكثار من ذكر الله “سبحانه وتعالى”، من الاستغفار، والتسبيح… وغير ذلك، مع الاهتمام بالأعمال الصالحة، مع تقوى الله، والحذر من المفسدات للأعمال، والمحبطات للأعمال، مما يتنافى مع التقوى.

من أهم مواطن الدعاء، التي هي من أقرب الأماكن استجابةً، ومن أقرب الأحوال استجابةً للدعاء، هي: أحوال المرابطين في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، في ميادين الجهاد، هم في مواطن المرابطة والجهاد، وفي تلك الحالة التي يعيشون فيها أداء مسؤولياتهم المقدَّسة والعظيمة، وهم يرابطون في سبيل الله، من أهم المواطن، ومن أحسن الأحوال لاستجابة الدعاء، يجب اغتنام الفرصة فيها، والإقبال إلى الله “سبحانه وتعالى” بالدعاء، والإكثار من الدعاء، ومن ذكر الله “سبحانه وتعالى”، إضافةً إلى العناية بأعمال الخير والبر، من إخراج الصدقات وغير ذلك، من أعمال البر والخير، مع الاهتمام أيضاً بشكلٍ مستمر خلال ما بقي من شهر رمضان بالقرآن الكريم، بهدى الله “سبحانه وتعالى”.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يوفِّقنا لاغتنام ليلة القدر، وأن يكتب لنا فيها من خير ما يكتبه لعباده، من رضوانه، ومغفرته، وعفوه، والعتق من عذابه، وأن ينصرنا بنصره، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المحاضرة الرمضانية العشرون للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية العشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ 21-04-2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

كان من أبرز الأحداث وأكبر المآسي في تاريخ الأمة، التي وقعت في شهر رمضان، وكانت في شهر رمضان لسنة أربعين من الهجرة النبوية، في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان آنذاك، أن استهدف أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وسيِّد الوصيين علي بن أبي طالبٍ "عليه السلام"، وهو خارجٌ في مسجده لأداء صلاة الفجر في جامع الكوفة، وهو يتقدَّم لصلاة الفجر، فأصيب في عمليةٍ استهدافيةٍ غادرة، استهدفه فيها أشقى الأشقياء: ابن ملجم لعنه الله.

وفي الليلة الثالثة للضربة تلك، ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان آنذاك، التحق أمير المؤمنين "عليه السلام" بالرفيق الأعلى شهيداً فائزاً سعيداً، في اللحظة التي أصيب فيها بالسيف على رأسه الشريف، قال كلمته الشهيرة التي سجلها التاريخ: ((فزت وربِّ الكعبة)).

ذلك الاستهداف كان من أكبر المآسي في تاريخ الأمة، التي امتدت تأثيراتها السيئة على الأمة جيلاً بعد جيل، وما حدث لم يكن مجرد واقعةٍ عاديةٍ، استهدفت شخصاً يحكم الدولة الإسلامية، فأتى بديلاً عنه شخصٌ آخر، الأمر يختلف كلياً، الذي استهدف بتلك الضربة الغادرة هو: أمير المؤمنين، سيِّد الوصيين، إمام المتقين، هو من قال عنه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم" مبيِّناً منزلته، مقامه العظيم عند الله، دوره في الإسلام وحركة الإسلام، علاقته بالأمة: ((أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلَّا أنه لا نبي بعدي)).

فالذي أصيب في ذلك الاستهداف الغادر، هو من له هذه المنزلة، من له هذه المرتبة، التي هي المرتبة الثانية بعد رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم"، في مقامه الإيماني العظيم، وكماله الإيماني العظيم، في منزلته عند الله "سبحانه وتعالى"، في دوره العظيم في نصرة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، ومؤازرته، وفي العمل على إقامة الإسلام، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي التصدي لكل أعداء الإسلام الذين حاربوه في عصر الرسالة الأول، في كل ما يتعلق بمسيرة الإسلام، وأيضاً في طبيعة دوره في الأمة، فيما بعد وفاة رسول "صلى الله عليه وعلى آله"، وامتداد المسيرة الإسلامية وفق أصالتها.

فها هو أمير المؤمنين "عليه السلام" في ذلك المقام العظيم، والمنزلة العالية، يُستَهدف بسيفٍ محسوبٍ على أنه من الأمة، منتسبٌ إلى الأمة، وإن لم يكن في واقع الحال يمكن أن يكون منها من يرتكب جرماً فظيعاً عظيماً مهولاً بذلك المستوى، ولكن كان هناك أيضاً تخطيطٌ لهذه العملية، ولم تكن مجرد تصرفٍ شخصيٍ، نابعٍ من قرارٍ شخصي، كان وراء ذلك تدبيرٌ وسعيٌ من حركة النفاق في هذه الأمة، التي تزعَّمها وحمل لواءها الطغيان الأموي في تلك المرحلة.

أمير المؤمنين "عليه السلام" بمقامه العظيم عند الله، ومنزلته العالية عند الله "سبحانه وتعالى"، يتبين لنا من خلال هذا الاعتبار أن ننظر إلى فظاعة ما حدث، إلى هول الجريمة، إلى شناعة تلك الجريمة، وهي تطال ولياً من أولياء الله، من صفوة أولياء الله "سبحانه وتعالى".

في القرآن الكريم يخبرنا الله "سبحانه وتعالى" عن فظاعة جريمة استهداف أي إنسانٍ مؤمن، في قوله "سبحانه وتعالى": {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: الآية93]، على مستوى مؤمنٍ واحدٍ، من أي المؤمنين، من سائر المؤمنين، لا يُشترط أن يكون قد بلغ أعلى مراتب الإيمان، هذا الغضب من الله "سبحانه وتعالى" إلى هذه الدرجة: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، من أكبر الوعيد الذي أتى في القرآن الكريم، وهو وعيدٌ على جريمةٍ محددة، هناك في القرآن الكريم يتكرر الوعيد على جرائم محددة، ولكن يبرز هذا الوعيد الشديد، الذي يبين غضب الله الشديد، والعذاب العظيم؛ وبالتالي يبين شناعة تلك الجريمة، فما بالك عندما يكون المستهدف هو مولى المؤمنين، هو أكمل المؤمنين إيماناً، هو أعلاهم مرتبةً في إيمانه، وأسبق الأمة في إيمانها برسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، وعلى مستوى عظيم، إيمانٌ متميزٌ بالكمال والسبق بما لا مثيل له في هذه الأمة.

الله "سبحانه وتعالى" قال أيضاً في حديثٍ قدسيٍ مرويٍ: ((من عادى لي ولياً، فقد بارزني بالمحاربة))، من يعادي ولياً من أولياء الله، فعلى ماذا يعاديه؟ إلَّا على ما يحمله من الإيمان، ما يتحرك به في إطار الحق، يعاديه من أجل موقفه الحق، من أجل ما يقوم به ويتحرك به مما يجسِّد إيمانه بالله "سبحانه وتعالى"، وامتثاله لأمر الله "جلَّ شأنه.

فالعداء مثلاً لأمير المؤمنين "عليه السلام" لم يكن مجرد عداءٍ لشخصه، أو لاسمه؛ إنما لما كان يحمله علي، لما كان يمثله علي، لدور عليٍّ "عليه السلام" في هذه الأمة، ودوره كله مرتبطٌ بحركة الرسالة الإلهية، يجاهد من أجل إقامتها، من أجل الدفاع عنها، من أجل إرساء دعائمها في أوساط الأمة، فهو الذي كان دائماً في واقعه، فيما يحمله، في ثقافته، في وعيه، في علمه، فيما يقدِّمه، فيما يعمله، في مواقفه، مقترناً بالقرآن الكريم، لا ينفك عنه، هو الذي قال عنه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم": ((عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع علي))، هذا التلازم الذي لم يفارق عليًّا "عليه السلام" للحظةٍ واحدة، هذا التلازم الذي كان حاضراً في كل حياة عليٍّ "عليه السلام"، في كل مواقف عليٍّ "عليه السلام"، في كل حركة عليٍّ "عليه السلام"، فكان قرآناً ناطقاً، جسَّد تعاليم القرآن، وقف مواقف القرآن، ما يقدمه للأمة يقدمه من نور القرآن، تلازمٌ مستمرٌ منذ يومه الأول في الإسلام، وإلى أن التحق بالرفيق الأعلى شهيداً سعيداً فائزاً، بعد أن قال كلمته الشهيرة: ((فُزتُ وَربِّ الكعبة)).

عليٌّ "عليه السلام" الذي كان يُجَسِّدُ الحق في كل تعاليمه، في كل مواقفه، في كل حكمه، في كل حركته، وكان هذا التلازم أيضاً لا ينفك عنه للحظةٍ واحدة، كان كما قال عنه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم": ((عليٌّ مع الحق، والحق مع علي))، فكان دائماً يقف موقف الحق، وكان دائماً يتحرك بالحق، يُقدِّم الحق، يربط الأمة بالحق، الحق هو العنوان الرئيسي لكل حركته، لكل مواقفه، لكل أعماله.

في مقامه العظيم عند الله، وهو الذي يقول الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" في حديث الغدير بشأنه: ((اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه))، فمن يعاديه، فهو عدوٌ لله، عدوٌ للإسلام، عدوٌ للرسول "صلى الله عليه وعلى آله وسلم"؛ وبالتالي نعرف ما هو مصيره من هو كذلك.

الإمام عليٌّ "عليه السلام" بتلك المنزلة العظيمة عند الله، وفيما يعنيه لنا كمسلمين، من توجهت إلينا كلمات الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله"، وهو يعرِّفنا عن مقام علي، عن دور علي، عمَّا يعنيه لنا علي، أنَّ حبه إيمان، فإذا كنا مؤمنين، ومن يريد أن يكون مؤمناً لابدَّ له أن يكون محباً لعليٍّ "عليه السلام"، وأنَّ بغضه نفاق، فمن يبغض عليًّا، ويكره عليًّا، وينزعج من علي، ويستاء من عليٍّ "عليه السلام"؛ فهو منافق، ولم يدفعه إلى ذلك إلَّا نفاقه، لم يجعله على ذلك المستوى من البغض للحق، والإيمان في صورته الناصعة، والكمال الإنساني في أرقى صوره وأشكاله، إلَّا تلك الحالة غير السوية، التي هي حالة نفاق.

لا يتعب الإنسان حتى يكون محباً لعلي، لا يحتاج ذلك إلى عناء، بمجرد أن تتعرف عليه، فترى كماله الإنساني الذي عبَّرت عنه سورة الإنسان، وترى كماله الإيماني، وهو أرقى نموذجٍ في الأمة، من أتباع رسول الله، من المؤمنين برسول الله، الذي تجسَّدت فيه كل المواصفات الإيمانية على أرقى مستوى، كما وردت في القرآن الكريم، بكل جمالها، وجلالها، وروعتها، وجاذبيتها.

على مستوى الفطرة، الإنسان ينشد إلى أصحاب الكمال الإنساني، أصحاب الكمال الأخلاقي، أصحاب الكمال الإيماني، يحبهم، هي الفطرة البشرية، فإذا كان الإنسان على حالةٍ مغايرة، فهو شاذٌ عن الفطرة، وهي حالة النفاق التي تجعل الإنسان يشذ عن فطرته، فلا يبقى إنساناً سوياً حتى في مشاعره.

عليٌّ "عليه السلام" في دوره الكبير فيما يتعلق بالرسالة الإلهية، وهو: وزير رسول الله، ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى))، هو المؤازر، ((إلَّا أنه لا نبي بعدي))، ليس بنبي، هو وصي، وصي رسول الله، هو إمام المتقين، وسيد الوصيين، وأمير المؤمنين، هو ولي المؤمنين: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: من الآية55]، في هذا الدور المهم الذي يمثل امتداد الرسالة الإلهية بكل أصالتها، ونقائها، وصفائها، ومن دون الشوائب، التي سعت حركة النفاق إلى أن تلوثها بها؛ حتى تشوّه الإسلام، وتحرِّف معالمه، ندرك من خلال ذلك كله فظاعة ما حدث، شناعة ذلك الاستهداف، آثاره السيئة، وما يمثله من جريمةٍ كبيرةٍ جدًّا.

هو في واقع الحال عندما حصل من ساحة الأمة، من الداخل، كان شاهداً واضحاً على طبيعة الانحراف، وعلى حقيقة المشكلة التي وقعت في تاريخ الأمة، وطبيعة الدور الذي كان يقوم به أمير المؤمنين عليٌّ "عليه السلام" في تصديه لتلك المشاكل.

أمير المؤمنين "عليه السلام" بمثل ما كان له الدور العظيم في حركة الإسلام، منذ بداية حركة الإسلام، وهو أول المسلمين إسلاماً، وأعظمهم إيماناً، وأعظمهم إسهاماً في نصرة الإسلام، في مؤازرة النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، في العمل على إحقاق الحق، في التصدي للأعداء، والتصدي لكل الأخطار التي كانت تحيط بالمسلمين وبالإسلام، في كل المرحلة التي يمكن أن نسميها بمرحلة التنزيل، مرحلة نزول القرآن الكريم، وحركة النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" بالرسالة في تبليغها؛ لإخراج الأمة من حالة الشرك والكفر، إلى نور الإسلام.

في تلك المرحلة كان دور عليٍّ "عليه السلام" دوراً متميزاً وبارزاً، فكان هو الرجل الاستثنائي، في كل المحطات الاستثنائية، وفي كل المراحل والتحديات الاستثنائية والخطيرة:

كان هو في معركة بدر وغزوة بدرٍ الكبرى الأعظم إسهاماً، والأكبر أثراً في عطائه، في تضحيته، في استبساله، في تفانيه، فيما حققه الله على يديه من ضرباتٍ منكِّلةٍ بالأعداء، وبرز في غزوة بدرٍ دوره الكبير والمتميز، وإسهامه العظيم في المعركة، بما هيَّأه الله على يديه.

وفي أحد كان له الدور المحوري والمتميز جدًّا، وبالذات مع الانتكاسة التي حصلت للمسلمين، وما كان إثرها من تهديد لحياة النبي "صلوات الله عليه وعلى آله"، فثبت أمير المؤمنين "عليه السلام" مع القلة القليلة ممن ثبتوا، وكان في تفانيه، واستبساله، وأدائه العظيم، وما حظي فيه من معونة الله، وتوفيقه، وتأييده، ونصره، إلى الدرجة التي أثارت إعجاب جبرائيل "عليه السلام"، وهو حاضرٌ عند رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، فقال كلمته التي نقلها المحدِّثون والمؤرِّخون: ((إنَّ هذه لهي المواساة))، قال عن ذلك المستوى من التفاني، من الاستبسال، من التضحية، من الأداء العظيم الذي ينطلق من منطلقٍ إيمانيٍ عظيم، قال عنه: ((إنَّ هذه لهي المواساة))، فقال النبي "صلوات الله عليه وعلى آله": ((إنه منِّي، وأنا منه))، فقال جبرائيل "عليه السلام": ((وأنا منكما))، فيما يعبِّر عنه من علو المنزلة، وعظيم المقام الإيماني، وعند الله "سبحانه وتعالى".

في مقام الخندق، في تلك المرحلة الحرجة جدًّا، كان موقف عليٍّ "عليه السلام" هو الموقف الاستثنائي والعظيم، والذي عبَّر عنه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم" بتلك العبارة الشهيرة العظيمة، التي لها مدلولها الكبير جدًّا: ((برز الإيمان كله، إلى الشرك كله))، فكان عليٌّ "عليه السلام" في ذلك الموقف يجسِّد الإيمان، يعبِّر عن الإيمان، وكانت واقعةً حسَّاسةً جدًّا، لها تأثيراتها الممكنة في هذا الاتجاه، أو في ذلك الاتجاه، فانتصر الإيمان بانتصار عليٍّ "عليه السلام".

في كذلك وقعة خيبر وغزوة خيبر، كان هو فاتح خيبر، بعد أن قال رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" كلمته العظيمة: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار، يفتح الله على يديه))، وهو يتحدث لنا عن مشاعر عليٍّ الإيمانية، عن أعظم ما يحمله الإنسان المؤمن، وهو: محبته لله، ومحبته لرسوله "صلوات الله عليه وعلى آله"، وفي نفس الوقت يذكر مقام عليٍّ عند الله، وعند رسوله، ((ويحبه الله ورسوله))، ليبين لنا كيف هي المنطلقات التي ميَّزت عليًّا في استبساله وتفانيه في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، أنها كانت قبل أن تكون فطريةً، هي كذلك كانت إيمانيةً، فاجتمعت الفطرة بالإيمان، وتنامت، وعظمت؛ حتى ميَّزت ذلك الرجل العظيم، في دوره العظيم، وإسهامه الكبير، في رفع راية الإسلام، وفي التصدي لأعداء الإسلام... وهكذا في كل المواطن، في كل المقامات.

في فتح مكة كان هو حامل راية رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله".

في كل المقامات، في كل المواقف كان أمير المؤمنين "عليه السلام" الحاضر كرجلٍ أول في أنصار رسول الله، وأعوان رسول الله، والمجاهدين في سبيل الله، بإسهامه الأول، فكان دائماً الذي يتجسَّد في أدائه السبق والتميز على أرقى مستوى.

إضافةً إلى ذلك، كان تكامله الإيماني، الذي جمع فيه بين الاستبسال في سبيل الله، والجهاد العظيم في سبيل الله، والشجاعة الخارقة في نصرة الإسلام، مع كماله في بقية المواصفات الإيمانية: رحمته بالمستضعفين، تواضعه للمؤمنين، فيما يتعلق بالجانب الإنساني في رحمته بالناس، فيما يتعلق بكماله العلمي، فيما يتعلق بحكمته، بتدبيره، كان يجسِّد الشخصية المسلمة المتكاملة، من كل الجوانب والأبعاد، بكل المواصفات اللازمة؛ ولذلك هو بقدر ما كان يحمله من استبسالٍ وتفانٍ في سبيل الله، وتحركٍ جادٍ، يحمل البصيرة، يحمل أعلى مستويات الوعي، هو الأُذُنُ الواعية، هو باب مدينة العلم، وكذلك هو باب دار الحكمة، هو الذي كان يحمل الحكمة، يحمل العلم، كان مستنيراً بنور الله "سبحانه وتعالى"، كان على بصيرةٍ عظيمةٍ وعالية، هو القائل في شعره يوم برز لعمرو بن عبد ود، قال عن نفسه: ((ذو نيةٍ وبصيرة)).

ذو نيةٍ وبصيرة

      والصدق منجي كلَّ فائز

هو يحمل الوعي في حركته، يحمل المعرفة، يحمل العلم، يحمل النور، رجلاً عظيماً مستنيراً بنور الله، وهو الأُذُنُ الواعية، التي استوعبت هدى الله "سبحانه وتعالى"، وعظمة ذلك الهدى.

ومع ذلك بكله، في كل ما يمثله من أهمية، ارتقت به إلى أن يكون الشاهد، الذي يمثِّل النموذج المتكامل الذي يشهد على عظمة الإسلام، عظمة الرسالة، الذي تجلَّى فيه أثر رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" في تربيته، في حكمته، وهو الذي ربَّاه منذ طفولته، أثر تربية رسول الله، أثر تعليمه، أثر تأثيره في صياغة الشخصية الإسلامية، أثر الإسلام، وأثر القرآن؛ فقدَّم الشهادة من كل واقعه بتكامله ذلك على عظمة الإسلام، عظمة الرسول، عظمة الرسالة، فكان شاهداً لرسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، من حيث تقديمه النموذج الراقي، والعظيم، والمتميز، المتكامل عن الإسلام وأثره، وقيمه، وأخلاقه، عن أثره في بناء الشخصية الإسلامية.

لكن مع ذلك له دوره المهم فيما يتعلق بالأمة: في امتداد الإسلام بأصالته ما بعد وفاة النبي "صلوات الله عليه وعلى آله"، وفي التصدي للخطر الكبير الداخلي، الذي تمثله حركة النفاق في داخل الأمة.

كان للمنافقين حركتهم ونشاطهم، الذي كشفه القرآن، وتحدث عنه كثيراً في عصر رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وكان رسول الله يتصدى لهم مدعوماً ومؤيَّداً بالقرآن الكريم، بتعاليم الله "سبحانه وتعالى"، بما ينزِّله الله في القرآن الكريم مما يفضحهم، مما يكشفهم، مما يبيِّن طبيعة مؤامراتهم، وأتى الأمر من الله للنبي "صلوات الله عليه وعلى آله" في قوله "سبحانه وتعالى": {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: من الآية73].

فكان رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" يجاهد الكفار، ويحاربهم على المستوى العسكري وعلى كل المستويات، وكان أيضاً يجاهد المنافقين، ويتصدى لهم في داخل الساحة الإسلامية، من خلال الحركة الكبيرة التي تُحَصِّن المجتمع من تأثيرهم، والتصدي لهم بأشكال كثيرة، كان من بينها: التهديد، والوعيد، والضغط، والنفي لبعضهم، وكذلك السعي لإبطال تأثيرهم، وتقليص نفوذهم، والوصول بهم إلى مستوى التلاشي في فاعليتهم وتأثيرهم في الساحة الإسلامية، وكان يبذل الجهد الكبير في ذلك، ويشفع ذلك بتحذيره الشديد، الذي يأتي وفق آياتٍ قرآنية ينزِّلها الله "سبحانه وتعالى" عليه، منها: الوعيد بالقتل، الوعيد بالنفي... وغير ذلك، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}[الأحزاب: 60-61]، فكان رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" يتحرك بكل جدية، للتصدي لهم في داخل الساحة الإسلامية، وكانوا يظهرون- في ظاهر أمرهم- الإسلام، الشهادة بالشهادتين، التظاهر بالإسلام، بل منهم من بلغوا إلى حالةٍ خطيرةٍ جدًّا في أسلوبهم النفاقي، إلى درجة أن قال الله عنهم: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}[التوبة: من الآية101].

كان من الطبيعي ومن المتوقع جدًّا أن يكون تأثير المنافقين ما بعد وفاة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" في داخل الأمة أكثر خطورةً مما كان في عصر رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، وأن يكون خطرهم أيضاً يتجه إلى جوانب كثيرة، تتجه إلى الجوانب الفكرية، والأخلاقية، وإلى التأثير والنفوذ في حركة الأمة... من جوانب كثيرة، وهذه مسألة واقعية، فهم لم ينتهوا مثلاً بوفاة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، والنبي حذَّر منهم، وأكَّد على أنهم سيتواجدون في واقع هذه الأمة في كل جيل، وفي كل عصر، ونبَّه إلى خطورتهم.

أمَّا القرآن الكريم فحديثه عنهم حديثٌ واسعٌ جدًّا، وتحدَّث عنهم في بعض العبارات ليبيِّن أنهم أسوأ خطورةً، وأكثر خطورةً على الأمة، من أعدائها الآخرين؛ لطبيعة دورهم التخريبي في داخل الأمة، إلى أن قال في السورة التي هي باسمهم (سورة المنافقين)، قال عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون: من الآية4]، {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}.

تحدَّث في الوعيد لهم بأنَّ موقعهم في جهنم هو أشد موقع، وأنهم إلى أشد عذاب، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: الآية145]، نعوذ بالله، حالة رهيبة جدًّا في عذابهم، تبيِّن سوء فعلهم، وسلبية دورهم في تاريخ الأمة، وفي واقع الأمة.

ولذلك من بعد وفاة رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" نشطوا في ساحة الأمة، في واقع الأمة، وتحرَّكوا أكثر فأكثر، والنبي "صلوات الله عليه وعلى آله" عندما قال في الحديث المروي عند المسلمين جميعاً، قال لعليٍّ "عليه السلام": ((لا يحبك إلَّا مؤمن، ولا يبغضك إلَّا منافق))، بيَّن أنَّ علياً "عليه السلام" يمثِّل علامةً فارقة في ساحة الأمة، في واقعها الداخلي بين المؤمنين والمنافقين؛ لما يمثله من نموذجٍ أصيلٍ يعبِّر عن الإسلام بشكلٍ صحيحٍ وتام، ولطبيعة دوره في حركته لامتداد الرسالة، لامتداد الإسلام، لامتداد الحق، سليماً من الشوائب.

من أخطر الأدوار التي ينشط فيها المنافقون، هي: حالة التحريف لمفاهيم الإسلام، هم حركة زيفٍ في داخل الأمة، النفاق يعتمد على الزيف، يعتمد على التحريف للمفاهيم، للوقائع، للحقائق، هم حركة زيغ، تسعى إلى الزيغ بالأمة عن المسار الصحيح، عن الاتجاه الصحيح، الذي يمثِّل امتداداً صحيحاً كاملاً سليماً للإسلام في كل شيء: في عقيدته، وشرعه، وموقفه، ومشروعه الحضاري في الحياة.

فتعاظمت حركة النفاق في داخل الأمة، وسعت للسيطرة على مقاليد أمر الأمة، والانحراف بالأمة بشكلٍ كامل، كان من حمل لواء النفاق في داخل الأمة، وتحرَّك بحركة النفاق، ليصل إلى موقع القرار في الأمة، وليتمكَّن من السيطرة على الأمة، هم: بنو أميَّة، سعى الطغيان الأموي للسيطرة على الأمة بشكلٍ تام، والانحراف بها من موقع السلطة، من موقع القرار، والتحكم بالأمة من موقع القرار، وموقع الإدارة، وهذه من أخطر الأمور على الأمة.

كان عليٌّ "عليه السلام" يمثِّل الحصن الحصين، والسد المنيع، الذي تصدى للطغيان الأموي، وخاض معركته في التصدي للطغيان الأموي في كل الاتجاهات، وعمل على أن يربي الأمة التربية الإيمانية المتكاملة، وأن يتحرَّك بالإسلام وهو يقدِّمه، وهو يتحرَّك فيه أيضاً من موقع الإدارة، من موقع القرار، في الاتجاه الصحيح، وفق تعاليم الإسلام، فيما يمثل اقتداءً صحيحاً برسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، ويمثل تجسيداً حقيقياً للقرآن الكريم، فهو كان مع القرآن، والقرآن معه، مع الحق، والحق معه.

وواجه صراعاً مريراً وهو يحمي الأمة من حركة النفاق، ومن تأثيرها، وواجه المعاناة الكبيرة؛ نتيجةً للاختلال الذي كان قد تغلغل في أوساط الأمة في جوانب كثيرة، أفرزت ظواهر سلبية، كان من ضمنها: ظاهرة الخوارج التكفيريين، والذين يتطابق حال التكفيريين مثلاً في عصرنا هذا يتطابق معهم تماماً، ظاهرةٌ مُتَديِّنةٌ عمياء، تحركها أدوات النفاق، وتستغلها أدوات النفاق بكل وسائلها وأساليبها، تلك الظاهرة العمياء، التي تتدين بغير بصيرة، الدين في واقعها هو انطلاقة، هو حركة، هو اندفاع، لكنه ليس على بصيرة، ليس على بيِّنة، ليس وفق الاتجاهات الصحيحة، ليس مستنيراً بنور الله "سبحانه وتعالى"؛ إنما هو عقدة، عقدة، وضغينة وحقد، تدفع الإنسان لموقفٍ عدائيٍ معين على غير بصيرةٍ من أمره.

فاستطاعت حركة النفاق الأموي أن تستفيد من ظاهرة الخوارج، وأن توظِّفها ضد أمير المؤمنين عليٍّ "عليه السلام"، وصولاً إلى تلك المؤامرة الرهيبة في اغتيال عليٍّ "عليه السلام"، واستهدافه، عن طريق أحد المنتمين لتلك الظاهرة التكفيرية، وهو: ابن مُلجم لعنه الله، أشقى الأشقياء، الذي وصفه بهذا الوصف هو رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، قال عن قاتل أمير المؤمنين "عليه السلام" بأنه أشقى الأشقياء، وشبهه بعاقر ناقة ثمود؛ لأنه جلب الشقاء على الأمة، فكانت جنايته فظيعةً جدًّا، وهي جنايةٌ لحركة النفاق الأموي، هي وراء ذلك، هي من دبرت ذلك، هي من خططت لذلك، وكان من مخاطر ذلك إضافة إلى ما يمثله أمير المؤمنين "عليه السلام" من مقامٍ عظيم، وهو ولي الله، وهو إمام التقوى، وهو إمام وسيد المؤمنين، إضافةً إلى منزلته العظيمة عند الله "سبحانه وتعالى"، وما يمثله من امتدادٍ أصيلٍ للإسلام، فقد استفادوا من استهدافه "عليه السلام" ليتمكنوا أكثر.

وفعلاً كان من أكبر المخاطر والكوارث التي حدثت على الأمة بعد استشهاد أمير المؤمنين عليٍّ "عليه السلام": تمكن حركة النفاق الأموي من السيطرة التامة على الأمة الإسلامية، ومن ثم اتجهوا في مشروعهم النفاقي الخاص بهم، الذي وصَّفه رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" بكلماته الجامعة، والمعبِّرة والمهمة: ((فاتخذوا دين الله دَغَلاً، وعباده خَوَلَا، وماله دُوَلَا))، حوّلوا الأمة الإسلامية بكل ما تملك، بكل إمكاناتها، بكل مقدراتها، إلى مشروعٍ استغلالي للسلطة، والثروة، والنفوذ، والمكاسب الشخصية، والأهواء، والرغبات، واتجهوا إلى كل ما يرون فيه من مفاهيم الإسلام، من شعائر الإسلام، من تعاليم الإسلام، عائقاً أمامهم، إلى استنساخ بدائل عنه، تخدمهم، تنسجم معهم، تعزز من نفوذهم، ويكون محسوباً على الإسلام، فقدَّموا صورةً أخرى، غير تلك الصورة التي كان يقدِّمها أمير المؤمنين، التي كانت تمثل حقيقة الإسلام، جوهر الإسلام، امتداده الأصيل، فقدَّموا صورةً مزيفة، فيها الكثير من الزيف، فيها الكثير من التحريف، وما بقي من شعائر الإسلام وظفوه، بعد أن جرَّدوه من دوره الحقيقي، من أثره الصحيح، فأزاحوا الإسلام كمشروعٍ للأمة، أزاحوا الإسلام كمشروعٍ للأمة، يربي الأمة، ينهض بالأمة، تتحرك الأمة من خلاله في دورٍ عظيمٍ متميز، واستغلوا إمكانات ومقدرات الأمة الإسلامية لصالح أطماعهم، وأهوائهم، ونزواتهم، ورغباتهم، وظلموا الأمة، استهدفوا أخيارها، انتهكوا حرماتها، استهدفوا مقدساتها، دمروا وأحرقوا كعبتها، أساءوا إلى الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله"، لعبوا دوراً تخريبياً شنيعاً امتدت آثاره ونتائجه فيما بعدهم، واستمرت إلى اليوم، وآثارها إلى اليوم تتمثل بكثيرٍ من المفاهيم الظلامية، والمرويات المكذوبة، والعقائد الفاسدة، إضافةً إلى تأثيرهم السيء عندما انحرفوا بالأمة عن المسار الصحيح، فبدلاً من أن يكون مسار الأمة مساراً تصاعدياً مع الزمن، تزداد به قوةً، ووعياً، وفهماً، وارتقاءً، كان مساراً هبوطياً نحو الأسفل، فإذا بنا في هذا الزمن نرى واقع أمتنا الإسلامية واقعاً هابطاً، مقارنةً ببقية الأمم، واقعاً تمكَّن اليهود الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة أن يكونوا طرفاً مناوئاً- وهم حثالة- لأمةٍ قوامها أكثر من مليار مسلم، ولديها الإمكانيات الهائلة، ولكنها أصبحت غثاءً كغثاء السيل.

لماذا، ما الذي أوصل الأمة إلى ما وصلت إليه؟ ليس وليد اللحظة، ليس نتاجاً لزمنٍ محدود، أو لمتغيراتٍ محدودة، هو امتدادٌ طويل، كان له تأثيراته في واقع الأمة، فأوصلها إلى ما وصلت إليه.

بقي للحق امتداده، بقي للحق صوته، بقي للحق نقاوته التي استمرت في واقع الأمة، وإن كان محارباً، وإن كانت التوجهات المنافقة تتصدى له من موقع السلطة، من موقع السيطرة، من موقع القرار، لكنه بقي حاضراً، بقي لجهود أمير المؤمنين "عليه السلام"، وتضحياته، ومساعيه المباركة، أثرها الكبير، وحضور هذا الصوت، هذا الحق، هذا الهدى في الأمة، الذي امتد إلى عصرنا وزمننا نعمةٌ عظيمةٌ من الله "سبحانه وتعالى" علينا.

وبالتالي عندما نتطلع ونحن في هذا الزمن المتأخر، بعد كل ما قد مضى من الأحداث، والمتغيرات، والأحداث الرهيبة جدًّا في تاريخ أمتنا الإسلامية، والمتغيرات الكبيرة في تاريخ أمتنا الإسلامية، لكن بقي لنا المعالم واضحة، بقيت لنا كل معالم الأصالة التي تعبِّر عن أصالة الإسلام قائمة، بقي لنا القرآن الكريم، وبقي لنا ما يمثل امتداداً للقرآن الكريم، في معالم الحركة به في تاريخ أمتنا، وأرقى من كان يمثله، وأعلاه شأناً، وأعظمه مقاماً من بعد وفاة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" وإلى اليوم، هو: أمير المؤمنين عليٌّ "عليه السلام"، فبقي أمير المؤمنين مدرسةً كاملة، عندما نتطلع إلى سيرته، عندما ندرس سيرته، نقرأ عنه، نرى كل ما يفيدنا، كل الذي يجسِّد بالفعل ما ورد في القرآن الكريم، نرى المعالم الواضحة التي نستفيد منها.

يبقى لنا أيضاً، إضافةً إلى ما يمكن أن نستفيده بشكلٍ كبير من أمير المؤمنين "عليه السلام" في دراسة سيرته، في قراءة تاريخه، وهو ما ينبغي أن نحرص عليه جميعاً، يبقى لنا أن نلحظ من ضمن ذلك، ومن أهم ذلك: أن نستفيد منه فيما يتعلق بالانطلاقة الإيمانية الجادة، الصابرة، المستبصرة في مواجهة التحديات مهما كانت، هذا من أهم الدروس التي نتلقاها من أمير المؤمنين عليٍّ "عليه السلام".

وهو الذي عندما أخبره رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" بما سيواجهه، وأخبره بشهادته، وقال له: ((فكيف صبرك إذاً؟ قال: يا رسول الله إنها ليست من مواطن الصبر، إنها من مواطن البشرى والشكر))، هكذا كانت نظرته إلى الشهادة، وبهذه النظرة، بهذه الروحية العظيمة، كان ينطلق متفانياً في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، ومستبشراً، فكان يواجه التحديات مهما كانت، مهما كان حجمها؛ لأنه يحمل هذه الروحية، التي ترى في الشهادة في سبيل الله تعالى أنها نعمة عظيمة، وتوفيقاً إلهياً كبيراً نشكر الله عليه، نرجوه من الله "سبحانه وتعالى"، نطلبه من الله "سبحانه وتعالى".

عندما أخبره الرسول أيضاً عن استشهاده، وعمَّا سيحدث له، قال أيضاً كلمته الشهيرة والعظيمة والمهمة: ((أفي سلامةٍ من ديني يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: إذاً لا أبالي))، هكذا كان وعيه، هكذا كان إيمانه، هكذا يعِّلمنا أنَّ سلامة الدين هي أهم من كل شيء، وأن الإنسان المؤمن حقاً سيحرص قبل كل شيء، وفي مقدمة كل شيء على سلامة دينه، سيكون هو المعيار، مهما كانت التضحيات، مهما كان ما يقدمه الإنسان، أو مهما كان ما يفوت على الإنسان، المهم هو سلامة الدين.

وهكذا عندما نحب عليًّا المحبة الصادقة، نقتدي به، نتأثر به، نستفيد منه، يكون لمحبته تلك الأثر الكبير في أنفسنا، ونحن نتأثر بما كان عليه، بما جسَّده من أخلاق وقيم الإسلام والقرآن، ((أفي سلامةٍ من ديني؟)).

ثم عندما أصيب أيضاً قال كلمته الشهيرة: ((فُزتُ وربِّ الكعبة))؛ لأنه يرى المنهجية التي سار عليها في حياته منهجيةً يفوز من يسير عليها.

فنحن في ظل التحديات التي نواجهها عندما نقتبس من روحية علي، من إيمان علي، من وعي علي، من بصيرة علي، من نور علي؛ سنكون أقدر وأعلى في مواجهة كل التحديات، ونصل إلى الفوز العظيم؛ لأنها منهجيةٌ يفوز من يسير عليها.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛

المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

في سياق الحديث عن غزوة بدرٍ الكبرى، ثم بالتالي الحديث عن جهاد رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، ونهوضه بأمر الله “سبحانه وتعالى”، وعن المساحة التي أخذها الجهاد في القرآن الكريم فيما تحدث الله به عنه، وفي حركة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، تحدثنا عن الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” كضرورةٍ لها علاقةٌ بنظم حياتنا، وبشؤون حياتنا، فليست- كما قلنا- عبءً إضافياً يُنتِج لنا المشاكل التي كنا في غناً عنها، بل هي وسيلةٌ جعلها الله “سبحانه وتعالى” لنا لنتصدى من خلالها للمشاكل القائمة في واقع الحياة، والمخاطر والتهديدات التي نواجهها نحن في ظروف حياتنا، وفي واقع حياتنا.

إضافةً إلى ذلك: فالجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” هو من الفرائض الأساسية في الإسلام، وليس مجرد عملٍ قُدِّم ضمن الأعمال التي تأتي في سياق ما يوصَّف بأنه من المندوبات، أو المستحبات، أو الأعمال التطوعية، التي إن رغب الإنسان فيها، فلا بأس، وإن لم يرغب، فليس هناك مشكلة، ليست من ضمن الالتزامات الأساسية الإيمانية، الجهاد في سبيل الله ليس حاله حال المندوبات والمستحبات، والأمور التي تعود إلى رغبة الإنسان، إن رغب أن يفعلها، فزيادةٌ في الأجر والفضل، وإن لم يرغب، فلا حرج عليه.

الجهاد في سبيل الله هو فريضةٌ من أهم فرائض الدين، ومن ضمن الالتزامات الإيمانية الأساسية، التي على الإنسان المؤمن، إلَّا من عذرهم الله “سبحانه وتعالى” في الآيات القرآنية، ونصَّ عليهم، ونصَّ على عذرهم، وإلَّا فعلى غيرهم أن يتحركوا، أن يستجيبوا لله “سبحانه وتعالى”.

والقرآن الكريم أكَّد على هذا كثيراً؛ لأن الحديث عن الجهاد هو أكثر من الحديث عن أي فريضةٍ أخرى من فرائض الله في القرآن الكريم، فالله تحدث عن الجهاد بأكثر مما تحدث عن الصلاة، وعن الصيام، وعن الحج، وعن الزكاة… وعن مجموع تلك الفرائض، الحديث عنه واسعٌ جداً في القرآن الكريم.

يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء: من الآية76]، فجعله من صفاتهم اللازمة، من شأنهم أن يكونوا هكذا؛ لأن هذا جزءٌ من التزاماتهم ومسؤولياتهم الإيمانية، ذات العلاقة بإيمانهم، {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء: الآية76].

يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: الآية111]، فيأتي الحديث عمَّن؟ عن المؤمنين، باعتبارهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله “سبحانه وتعالى”.

مستوى العلاقة الإيمانية بالله “جلَّ شأنه” تصل إلى هذا المستوى: الذي ينطلق فيه الإنسان بائعاً نفسه من الله، والله هو المالك للنفس؛ إنما جعل الله هذا الباب، وفتحه لخاصة أوليائه، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ “عليه السلام” عن الجهاد: ((بابٌ من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه))، فالله هو المالك للنفس البشرية، الله هو المالك لكل نفس، لكل ما في السماوات والأرض، المالك لنفس البَّر، ونفس الفاجر، والمؤمن والكافر، لأنفس البشر جميعاً، لكل المخلوقات بكلها، هو الملك، مع ذلك أتاح لعباده المؤمنين أن يبيعوا أنفسهم منه ضمن صفقةٍ، هي صفقة الجهاد في سبيل الله، كما قال في آيةٍ أخرى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}[البقرة: من الآية207]، فتستثمر تضحيتك في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، لتكون بالنسبة لك صفقةً بينك وبين الله، تحصل من خلالها على الأجر العظيم، على الفضل الكبير، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة: من الآية111]، فيكافئك على ذلك بهذا العطاء العظيم، العطاء الواسع، الحياة الهنيئة، السعادة الأبدية.

وواقع الكثير من البشر أنهم يبيعون أنفسهم، ومواقفهم، فيقاتلون، ويَقتُلون ويُقتَلون، مقابل رغبات مادية، وأهواء ومطامع، ومقابل إغراءات حصلوا عليها من هنا أو هناك، من جهاتٍ أخرى، هي تقف ضد الحق، جهات عندما يقاتل الإنسان في سبيلها، حتى لو كان في مقابل كل الدنيا، فهو خاسر؛ لأنه أسخط الله، وخدم الباطل، ووقف في صف الظالمين، والطغاة المجرمين، المعتدين، واكتسب الوزر الثقيل في الظلم معهم، في مشاركتهم في ظلمهم، وطغيانهم، وعدوانهم، وإجرامهم، والتمكين لباطلهم؛ فيتحمل الأوزار الثقيلة، التي تكون سبباً لهلاكه وخسرانه الدائم والعياذ بالله.

أمَّا مع الله “سبحانه وتعالى”، فأنت تقدم ما هو لله أصلاً، في مقابل أن تحصل على ذلك الأجر العظيم الذي وعد الله به، وتؤمِّن مستقبلك السعيد للأبد، {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[التوبة: من الآية111]، هذا هو من شأن المؤمنين، هكذا هي علاقتهم بالله، هذا مستوى علاقتهم بالله “سبحانه وتعالى”.

يقول الله “جلَّ شأنه” في رده على الأعراب: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}[الحجرات: من الآية14]، وكانوا يريدون إيماناً بدون جهاد، فقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: الآية15]، فهذا السياق، وبنفس هذه الصيغة أيضاً: (إِنَّمَا) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، تبين أنَّ مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، وادِّعائه للإيمان، تتوقف على كمال إيمانه، من ضمن ذلك بقيامه بهذه الفريضة العظيمة، واهتمامه بها، كجزءٍ من التزاماته الإيمانية والدينية، فتكون المسألة أنَّ الإنسان الذي قد يعتبر نفسه مؤمناً كامل الإيمان، ومن المؤمنين، وأنه قد حاز ما وعد الله به المؤمنين، وحاز الصفات التي وصف الله بها المؤمنين، وهو ممن لا يريد الجهاد في سيبل الله “سبحانه وتعالى”، ويتخلف عن الجهاد في سبيل الله بغير أي عذر، وهو كارهٌ للجهاد في سبيل الله، متنصلٌ عن هذه المسألة، يعتبرها خارج اهتماماته نهائياً، وليس له بها أي علاقة، لا من قريبٍ ولا من بعيد، منصرفٌ عن ذلك بشكلٍ تام، ومضربٌ عن ذلك بشكلٍ تام، فليس بمؤمنٍ أبداً، فليس بمؤمنٍ أبداً، ورد في الحديث عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((من مات ولم يغزُ، ولم يُحَدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبةٍ من النفاق)).

الإنسان لا يمكن أن يتحقق له الإيمان الصادق، إلِّا ويشعر بأهمية الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، ويعتبرها كفريضةٍ من التزاماته الإيمانية والدينية، ويسعى في ذلك بحسب المستطاع، فإذا كان الإنسان في ظروف قد تهيأت لإحياء هذه الفريضة، في وسط شعبٍ مجاهد، أو في وسط أمةٍ مجاهدة، فالمسؤولية أكبر، والوزر في التخلف والتنصُّل عن المسؤولية، والتهرب، الوزر كبير، والذنب عظيم، تكون جريمةً كبيرةً جداً، عندما يتنصل الإنسان عن هذه المسؤولية، بعد أن هيأ الله له الظروف للقيام بها، من أعظم النعم، من أكبر النعم فيما يتعلق بهذه الفريضة: أن تكون وسط شعبٍ مجاهد، أو وسط أمةٍ مجاهدة، قد أحيت هذه الفريضة، قد تعاونت على إحيائها وإقامتها، وأصبحت تتحرك فيها، أنت أمام فرصةٍ حقيقيةٍ لكمال إيمانك.

تكون بعض الوضعيات صعبةً جداً في بيئةٍ، أو في شعبٍ، أو في بلدٍ، لم يبدأ فيه أي تحركٍ في هذا الاتجاه الذي يكتمل فيه إيمانك، فتبقى المسؤولية على الجميع في تقصيرهم، في تخاذلهم، وتكون المسألة بالنسبة لهم مسألة صعبة، حتى يبدؤوا، تكون البداية- عادةً- صعبة.

فإذا تهيأت الظروف، وابتدأت الانطلاقة، وتجاوز الناس الحواجز، التي عادةً ما تكون في البداية حواجز كبيرة، وأصبح الظرف والواقع كله في ظل أجواء الجهاد في سبيل الله، والتحرك في سبيل الله بالمال والنفس، وفي كل مجال من المجالات، في إطار عملٍ مترابطٍ متكامل، فهذه هي نعمةٌ عظيمةٌ جداً، نعمةٌ لكمال الإيمان، وفي نفس الوقت مسؤوليةٌ يكبر فيها ويعظم فيها الإثم عند التخاذل، وعند التقصير، وعند التفريط، وعند التهاون، وعند التنصل عن المسؤولية؛ لأن ظروف المسلمين في واقعها العام هي ظروف تستدعي من كل الأمة أن تتحرك.

وكما قلنا بالأمس: التاريخ يثبت أنَّ كل النكبات الكبرى على الأمة أتتها في ظل تخاذلها عن إحياء هذه الفريضة، وأنَّ أهم المراحل لعزة الأمة، وقوة الأمة، ومنعة الأمة، وحضورها الفاعل في المجتمع البشري، هو: عندما أحيت هذه الفريضة، في المقدمة في عصر رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.

الظروف الراهنة للأمة، ليست ظروفاً بسيطة وعادية، ويبنى على ضوئها التوصيف والتشخيص: بأنه لا حاجة للجهاد في سبيل الله، على العكس من ذلك، حجم التحديات والمخاطر، وما تعيشه الأمة في واقعها، يستدعي منها التحرك بروحٍ إيمانيةٍ جهادية.

الإيمان فيه ما يعزز كل ما تحتاج إليه للقيام بهذه الفريضة، ولهذا كان هناك تلازم ما بين: الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، والإيمان؛ لأن الجهاد في سبيل الله يقوم أساساً على مبدأ الثقة بالله “سبحانه وتعالى”؛ لكي تتحرك في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، لكي تستجيب هذه الاستجابة الكاملة، تحتاج إلى أن تكون واثقاً بالله، متوكلاً على الله “سبحانه وتعالى”، ما الذي يكبِّل الأكثر من الناس عن التحرك في سبيل الله، عن الاستجابة الكاملة لله؟

انعدام ثقتهم بما وعد الله به من النصر، والتمكين، والتأييد، والمعونة.

حجم المخاوف والقلق لدى الكثير من أبناء الأمة، وصولاً إلى اليأس، البعض منهم يعيش حالة اليأس من إمكانية الانتصار، من إمكانية تغيير واقع الأمة، من إمكانية النهوض بهذه الأمة إلى مستوى مواجهة التحديات والأخطار، بالرغم من وجود الشواهد التي تمثل حجةً على الأمة؛ لأنها شواهد من واقع الحياة، مثل:

    انتصار حزب الله في لبنان على العدو الإسرائيلي، أكثر من انتصار، على المستوى العام: انتصار عام 2000، وانتصار عام 2006، انتصارات شاملة، انتصارات كبيرة جداً، مضافاً إلى ذلك الانتصارات المتفرقة، في الغزوات، في العمليات، في الهجوم، في إطار عمليات معينة، مثَّل هذا حجةً على الأمة.

    انتصار المجاهدين في غزة، انتصارات متعددة تمثِّل أيضاً حجةً على الأمة.

    وهكذا تأتي الانتصارات أيضاً في الجبهات الأخرى، التي يقف فيها البعض من أبناء أمتنا موقف الحق، الموقف الذي يرضي الله “سبحانه وتعالى”، فيواجهون الأعداء، ويواجهون التحديات، ويواجهون المخاطر.

    انتصار شعبنا اليمني على مدى سبعة أعوامٍ مضت وانقضت، تحرَّك فيها أعداؤه تحت رعاية الكافرين، وبتنفيذٍ مباشرٍ من المنافقين، لأكبر عدوانٍ في هذه المرحلة على وجه الأرض، وكانت النتيجة هي: الصمود، والتصدي لهذا العدوان، وتحقيق الكثير والكثير من الانتصارات، وإفشال أهداف العدو ومخططاته الرئيسية، التي كان يريد أن يصل فيها إلى نتيجةٍ حاسمة وكاملة.

وهكذا هنا وهناك، وفي العراق، وفي سوريا… وفي مواطن كثيرة.

الشواهد العملية هي تقدِّم دلالةً واضحة من الواقع، تطمئن الناس إلى أن يثقوا بوعد الله “سبحانه وتعالى” لهم، عندما يجاهدون في سبيله، عندما يستجيبون له الاستجابة الكاملة، أنه سيؤيِّدهم بنصره، سيكون معهم، عندما يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية153]، {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: من الآية123]، هو يقدِّم وعداً عظيماً، يطمئن كل إنسانٍ مؤمن؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يتحقق له إيمانه، إذا لم يكن واثقاً بوعد الله، إذا لم يثق بوعد الله، يقرأ وعد الله في القرآن وعداً واضحاً صريحاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: الآية7]، أليس هذا وعداً من الله “سبحانه وتعالى” صريحاً واضحاً بالنصر؟

يقرأ قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج: من الآية40]، وهو وعدٌ مؤكَّدٌ، بصيغةٍ كافيةٍ في التأكيد.

يقرأ قول الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]، وهذا التزامٌ يقدِّمه الله “سبحانه وتعالى”، وضمانةٌ إلهية كافية لأي إنسان يثق بالله “سبحانه وتعالى”.

فكيف يمكن أن نقول عمَّن لم يثق بالله، بأنه مؤمنٌ بالله؟! مؤمنٌ بالله لا يثق بالله! كيف يمكن أن يكون الإنسان هكذا؟! وهذا في حقيقة الأمر ما يجعل الكثير من أبناء أمتنا الإسلامية يتنصَّلون عن هذه المسؤولية، عن التحرك في إطار الاستجابة الكاملة لله “سبحانه وتعالى”، وإحياء هذه الفريضة العظيمة، نقصٌ في ثقتهم بالله “تبارك وتعالى”.

فلهذا نلحظ كيف قرن الله مسألة الجهاد بالإيمان؛ لأنه يعبِّر عن ثقتك بالله “سبحانه وتعالى”، وفي حال التنصُّل، قد يكون أهم سببٍ للتنصل عن هذه المسؤولية، وعن إقامة هذه الفريضة، هو: عدم ثقتك بالله “سبحانه وتعالى”، ولهذا أتى في قوله “جلَّ شأنه”: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}[الحجرات: من الآية15]، (لَمْ يَرْتَابُوا)؛ لأنهم وثقوا، وصدَّقوا، وتيقَّنوا، فلم يرتابوا أبداً تجاه وعد الله ووعيده، ولا تجاه ما هم عليه من الحق، وهم يتحركون في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، فهم أهل يقين، أهل ثقة، لديهم كل الثقة بالله “سبحانه وتعالى”، والتصديق القاطع بوعده ووعيده.

جانبٌ آخر أيضاً يعود إلى الإيمان، والجانب الإيماني، إضافةً إلى مسألة الثقة، والتوكل على الله، هو الرغبة فيما عند الله، والمحبة لله، والرجاء فيما وعد الله، ما وعد الله به المجاهدين في سبيله، هو المرغِّب جداً، الشيء الطبيعي للإنسان إذا وثق، إذا صدَّق: أن يرغب؛ لأنه يرغب فيما هو أقل من ذلك بكثير، وعدهم الله بالجنة، {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، ويؤكِّد إلى درجة أن يقول: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، فهو يعدهم بالجنة، ويقدِّم هذا الوعد بصيغةٍ التزاميةٍ عجيبة، وقدَّمها في كتبه، كتبه السماوية المتعددة: {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، وعن طريق موسى، وعيسى، ومحمد “صلوات الله عليهم”، فيؤكِّد المسألة بكل عبارات التأكيد، ويقدِّمها كضمانة مؤكَّدة، أفلا يرغب الإنسان بالجنة؟! من وثق وصدَّق وتيقن وتأكد، أَلَا يقبل من الله هذه الضمانة؟! أَلَا يثق فيها؟! أَلَا يمكنه الاطمئنان إليها، والاعتماد عليها؟! ولهذا المسألة تلامس وجدان الإنسان، ضميره، عمق مشاعره ووجدانه.

عندما يتأمل الإنسان في موقفه من ذلك، ما الذي يثبِّطه؟ ما الذي يؤثر عليه سلباً؟ ما الذي ينفِّره من فريضةٍ هذا مكسبها؟ إضافةً إلى مكاسبها العاجلة في الدنيا نفسها: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}[الصف: من الآية13]، وسيأتي الحديث عن ذلك.

أضف إلى ذلك: الأجر العظيم، العزة، الكرامة، الخير، والرعاية الواسعة من الله، الهداية… أشياء كثيرة جداً وعد بها الله “سبحانه وتعالى”، يفترض أن تكون دافعاً كبيراً، ومرغِّباً عظيماً.

كما أنَّه يدل على اعتزاز الإنسان بانتمائه الإيماني والديني، عندما يتحرك في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، والذين ستتحرك لمواجهتهم من هم؟ هم المجرمون، المعتدون، الأشرار، الطغاة، الظالمون، المفسدون في الأرض، الذين يمثِّلون شراً على المجتمع البشري، والذين هم دائماً ما يكونون في موقع الاعتداء والظلم والتجبر، ويستهدفون الأمة في قيمها، ومبادئها، ومقدَّساتها، ودينها، إضافةً إلى تركيزهم على السيطرة على الأمة، ومقدراتها، وثرواتها، وخيراتها، وما يفعلونه هم يظلمون الأمة، يظلمون الناس، يسومونهم سوء العذاب، فهذه الحالة عندما يكون الإنسان في إطار انتمائه الإيماني، وجزءٌ مما يركِّز عليه الأعداء، هو: طمس هذه الهوية الإيمانية، ومحاربة هذا الانتماء الإيماني الأصيل، عندما يكون في تكامله وأصالته، فهو يمثل إزعاجاً، لهم وهم يحاربونه، في هذه الحالة الإنسان المؤمن، واعتزازه بإيمانه، وقيمة الإيمان، وما يرتبط به في نفسه من سموٍ وكرامة، يجعله راغباً، يرى في هذه الأعمال التي أمرنا الله بها أعمالاً عظيمة، أعمالاً مقدَّسة، أعمالاً مهمة، يشرف بها الإنسان، وفي نفس الوقت تفيد المجتمع، وهي ضروريةٌ لدفع الشر عن المجتمع.

أهمية الجهاد، وأثره، وضرورته لكمال الدين وإقامته: لا يمكن إقامة الدين في واقع الأمة، لكي تحقق لنفسها الاستقلال عن التبعية لأعدائها، وتنظم مسيرة حياتها على أساس انتمائها الإيماني والديني، إلَّا بالجهاد؛ لأن الأعداء- أصلاً- يعملون على الحيلولة دون ذلك.

ما يسعى له أعداء الأمة من الكافرين، ومن معهم من المنافقين: أن تبقى الأمة خاضعةً لأعدائها، لسياساتهم، لتدابيرهم، لإملاءاتهم، لما يريدون أن يفرضوه هم على الأمة، وهو شرٌ على الأمة، وضرٌ على الأمة، وفسادٌ على الأمة، ولكنه يحقق مصالح أعدائها، فيسعى أعداؤها أن يفرضوه على الأمة؛ ليكون أساساً للسياسات، والمواقف، والأمور التي تُنظَم بها شؤون الأمة في كل مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية… وغيرها، هم يعملون على هذا الأساس.

عندما تتوجه الأمة توجهاً صادقاً للاستقلال الحقيقي، الذي تفصل به تبعيتها لأعدائها، تفصل هذه التبعية عن أعدائها، وتترك هذه التبعية لأعدائها، وتتَّبع ما أنزل الله، وتتَّبع هدى الله، وتتَّبع الحق الذي من ربها “سبحانه وتعالى”، وتقتدي بنبيها، وتتمسك بقرآنها، وتَنظِم مسيرة حياتها ومواقفها على أساس ذلك، فهذا هو جوهر المشكلة الرئيسية مع الكافرين في كل زمن، الكافرين في هذا العصر، على رأسهم الأمريكيون، والإسرائيليون، ومن معهم، أو في الأزمنة الماضية، فلابدَّ أيضاً من الجهاد في سبيل الله؛ لأن الأمة تُحَارَب في أن تتوجه كهذا التوجه الاستقلالي المتحرر.

ويصبح الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” مع ذلك، مع الانتماء الإيماني، معياراً يبيِّن مدى مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني؛ لأن الكل من المنتمين للإسلام يأتون ليقولوا عن أنفسهم: بأنهم من المؤمنين، ومن الذين آمنوا، وأنهم في خط الإيمان، وفي طريق الإيمان، فيأتي قول الله “سبحانه وتعالى”: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}[التوبة: من الآية16]، يعني: لابدَّ من أن تُختَبروا في مصداقيتكم، في انتمائكم الإيماني، عن طريق (الجهاد، والولاء)، في جهادكم وولائكم، ما يمكن أن يمثل معياراً حقيقياً يكشف المصداقية، مع اهتمام الإنسان ببقية فرائض الدين، والتزاماته الإيمانية الأخرى، لكن يأتي أيضاً هذا، هذا الالتزام: الجهاد، والولاء.

{وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}؛ لأن الذي يوالي أعداء الله، يوالي خارج هذا الإطار: خارج إطار الله، ورسوله، والمؤمنين، فيوالي الكافرين، يوالي المنافقين، يعتبر من صف المنافقين بولائه لهم، فالخروج عن هذا الإطار الإيماني في الولاء، وعدم القيام بهذه المسؤولية في الجهاد في سبيل الله، في المجالات الجهادية، يجعل الإنسان مفضوحاً ومكشوفاً، وأنه غير صادق في انتمائه الإيماني.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد: الآية31]، تمثل الأحداث نفسها، التي هي ضمن واقع الحياة، ومن واقع الحياة، تمثل اختباراً لك في الموقف، والموقف جزءٌ أساسيٌ من الدين، موقفك، عندما تريد أن تجعل موقفك بعيداً عن انتمائك الإيماني، عن انتمائك الديني، عن علاقتك بالله “سبحانه وتعالى”، وتجعله وفقاً لمزاجك الشخصي: إمَّا في إطار مخاوفك، وإمَّا في إطار رغباتك وأهوائك، فهي حالةٌ تكشفك، أنك بعيد عن الانتماء الصادق، عن مصداقية الانتماء.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}، المجاهدين الذين يستمرون، العبارة نفسها تفيد الاستمرارية في الجهاد، ليست على أساس أن تتجه إلى مرحلة معينة، ثم تكتفي، وتقول: [أنا قد قمت بواجبي، وأدَّيت ما عليّ، ولم يعد عليّ أي اهتمام، ولا أي التزام، ولا أي شيء نهائياً]، وتتنصل بدون عذرٍ من الأعذار التي ذكرها الله في القرآن الكريم.

{وَالصَّابِرِينَ}: الذين يستمرون في صبرهم تجاه مختلف التحديات.

فيمثل معياراً مهماً، يجعله الله “سبحانه وتعالى” مفيداً حتى للإنسان تجاه نفسه، وحتى للمجتمع تجاه بعضه البعض؛ لأن البعض من الناس قد ينظرون إلى البعض الآخر، إلى أنهم من المؤمنين المتدينين، الذين يمثِّلون الإيمان على أرقى المستويات، وأنهم في موقع القدوة الإيمانية، يعني: يرى فيهم القدوة الذين يقتدي بهم في طريقتهم الإيمانية، وقد يكونون ممن هم معرضون كلياً عن مسألة الجهاد في سبيل الله، وعن الموقف الحق، مضربون تماماً عن ذلك، ففي معيار الله، في ميزان الله الحق، ليسوا من المؤمنين، ولا ممن يُقتَدى بهم إيمانياً، فيمكن للإنسان أن يحذر من ذلك، ألَّا يقتدي بهم، أن يتركهم فيما هم عليه، فيما ارتضوه لأنفسهم، وأن يسعى لكمال إيمانه؛ لأنه بحاجةٍ إلى ذلك.

عندما يأتي يوم القيامة سيكون الحجة عليه هو القرآن، آيات الله، كلمات الله، {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ}[المؤمنون: من الآية105]، لن ينفعه فلان، ولا فلان، ولا فلان، الذي رأى فيه أنه العابد، الزاهد، المؤمن، المتدين، الذي ليس له أي موقفٍ ضد أعداء الله، وليس على استعداد أن يكون له حتى كلمة واحدة ضد أعداء الله، ويبذل كل جهده في أن يحتاط وينتبه من أن تخرج منه ولو ربع كلمة، ولو أي شيءٍ يعبِّر عن موقف، موقف حق ضد أعداء الله، واتجاهه مُضْرِبٌ عن ذلك كلياً، فهذه المسألة مسألة خطيرة على الإنسان.

البعض قد يُفَصِّل له القدوة الذي يقتدي به وفق مزاجه الشخصي، [قدوة رطيب]، يتصور أنه لا يسبب له المشاكل، ولا يدفع به إلى ما هو صعب، الناس ينظرون إلى مسألة الجهاد في سبيل الله وكأنها مسألة صعبة، وكأنها مسألة معقَّدة، لكن المعيار الحق هو معيار الله، الذي جعله هو معياراً يجلّي واقع عباده:

من هو المستجيب كامل الاستجابة لربه، من هو المطيع حقاً، من هو الواثق بربه حقاً، من هو الذي ارتقت علاقته الإيمانية إلى المستوى الأعلى، في استعداده حتى أن يضحي بنفسه في سبيل الله “سبحانه وتعالى”.

ومن هو المستجيب في حدود معينة، في إطار معين، بعيداً عن مخاوف معينة وأخطار وصعوبات وتحديات، وفي هامشٍ محدود. 

من أهم ما يتعلق بالجهاد في سبيل الله تعالى: أنه الوسيلة المجدية، النافعة، الصحيحة، الممكنة، الواقعية، لدفع شر الأعداء، لدفع شر المجرمين، والمفسدين، والطغاة المتسلِّطين، من الكافرين، والمنافقين، والفاسقين، الجهاد في سبيل الله لابدَّ منه في ذلك، والله جعله أساساً لرعاية العباد وحمايتهم؛ لأن الله غني، نحن عندما نقول عن أهمية الجهاد، لا يعني ذلك أنَّ الله بحاجة إلينا، ولا بحاجة إلى جهادنا، الجهاد ليس عملية دفاع عن الله، “سبحانه وتعالى” هو القاهر فوق عباده، هو المهيمن، هو العزيز الجبار، هو ملك السماوات والأرض، هو العزيز الذي لا يغالب، القوي العزيز، الجهاد جعله الله وسيلةً لنا نحن، الذين نجاهدهم من هم؟ الأشرار، الذين يتوجه شرهم علينا، المجرمون، الذين يرتكبون الجرائم بحقنا وفي واقعنا، الطغاة، المتسلطون، المفسدون، الذين يتوجه كل فسادهم، كل ظلمهم، كل طغيانهم، كل إجرامهم علينا نحن، فهو وسيلةٌ لنا نحن، نرتقي من خلالها إلى مستوى المنعة، القوة، العزة.

مشكلة الأمة أنها عندما عطَّلت فريضة الجهاد في سبيل الله كثيراً؛ ضعفت، فصعبت الأمور عليها، لكن عند كسر الحاجز، عند النهوض بهذه المسؤولية، هي بنفسها تنهض بالأمة إذا نهضت بها، تقوى بها الأمة، والواقع أثبت ذلك:

المجاهدون في فلسطين ألم يقووا بالجهاد؟ حزب الله ألم يقوَ بالجهاد؟ الجمهورية الإسلامية ألم تقوى بالجهاد، إلى مستوى متقدم وصلت من العزة والمنعة؟ المجاهدون في العراق ألم يقووا بالجهاد؟ عندنا في اليمن ألم نقوى بالجهاد؟ في التاريخ بكله، في مسيرة الإسلام الأولى، في حركة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” وهو الأسوة والقدوة، ألم يقوَ المسلمون بالجهاد؟ كانوا في حالة استضعاف، في حالة قهر، في حالة اضطهاد، قال الله لهم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}[آل عمران: من الآية123]، كانوا في وضعية قهر، واضطهاد، وإذلال، فمنحهم الله بالجهاد النصر، والقوة، واستمر المسار التصاعدي في قوتهم، إلى أن وصل المسلمون آنذاك إلى الأمة الأقوى في الساحة العالمية، الأمة التي تهاوت وتساقطت أمامها جيوش دول كبرى، وامبراطوريات ضخمة آنذاك قائمة على وجه الأرض، كان ذلك بالجهاد.

مستوى التحديات، والحالة العدائية الشديدة جداً، التي واجهها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في محيطه العربي، والعرب كانوا آنذاك شرسين جداً في القتال، وأشداء جداً في القتال في العصر الجاهلي، وكانوا يقاتلون على أبسط الأمور أشرس القتال وأشده، فتحرَّكوا وارتبط معهم أيضاً الخبث اليهودي، تحالفوا مع اليهود ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” وضد المسلمين، وكان المسلمون قلة في العدد، وكانت إمكاناتهم متواضعة، ويعيشون الظروف الصعبة، ويتحركون بالممكن، والمستطاع، والحاصل، فيتحركون ويأخذون بأسباب النصر، لكن كان أداء رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” ونشاطه المكثف، الذي استمر- كما قلنا بالأمس- استمر من الشهر السابع في السنة الأولى للهجرة، الذي هو بعث السرايا المقاتلة، والاستكشافية، والعسكرية، استمر بعد ذلك أيضاً معه الغزوات الكبرى بشكلٍ مكثف، لم يتوقف ولا لعامٍ واحد، بل في العام الواحد في معظم الأشهر، في شهر كذا سريةٌ إلى مكان كذا، وفي شهر كذا سريةٌ إلى مكان كذا، وحرَّك الضربات الاستباقية، التي أبطل بها وأفشل فيها الكثير من المؤامرات، وبنشاط مكثف على مستوى التعبئة للمسلمين، والتحريض المستمر لهم، لم يكن يسكت عن موضوع الجهاد، ويعتبره من الأمور التي يُسكَت عنها، فلا يُتَكَلم بها، لا في خطبة، ولا في جمعة، ولا في جماعة، ولا في أي مناسبة، الله قال له: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}[الأنفال: من الآية65]، {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء: من الآية84]، فكان يستمر في تحريضهم، في تشجيعهم، في إثارتهم للانطلاقة في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وفي- على المستوى العملي- في تحريكهم في السرايا، والتحرك في الغزوات الكبرى أيضاً، وبشكلٍ مكثف، حتى الرمق الأخير، عندما كان في مرضه الذي توفي فيه “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهو يعدّ قوةً عسكرية لتتحرك في مواجهة الروم، حتى في تلك اللحظات، فكان من آخر ما ختم به حياته “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهو يحضِّر، ويعدّ، ويجهِّز، ويؤكِّد، ويدفع في تحريك تلك الغزوة، غزوة أسامة، وللأسف لم تتحرك تلك الغزوة، وتوفي قبل أن تتحرك.

على كلٍّ يُعتَبر هذا الموضوع مهماً لهذا الأمر: لدفع شر الأعداء، للحصول على النصر في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، الأعداء يتحرَّكون بعدائيةٍ شديدةٍ، وباهتمامٍ كبير، وهذا مؤسف، أن يكون أعداء المسلمين أكثر اهتماماً من المسلمين، وأكثر جديةً وهم في موقع العدوان على المسلمين، فيتحركون بجديةٍ كبيرة، واهتمامٍ كبير، وينشطون في مختلف المؤامرات التي يستهدفون بها الأمة، وفي كل المجالات.

الله يقول “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بهذا الجانب: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}[النساء: الآية84]، فمثَّل التحرك في سبيل الله، والاستجابة لله “سبحانه وتعالى”، عاملاً مهماً في أن تحظى الأمة بنصر الله وتأييده، فينصرها على أعدائها.

الأمة بحاجة في مواجهة التحديات والأخطار إلى معونة الله، إلى أن يكون الله معها، بحاجةٍ إلى الله، فإذا أردنا أن يكون الله معنا، وأن ينصرنا على أعدائنا، وأن يؤيِّدنا على أعدائنا، لابدَّ أن نستجيب له الاستجابة الكاملة، الاستجابة الصادقة، فنتحرك في سبيله بدافعٍ إيماني، والتزامٍ إيماني في أدائنا العملي، وأن نسعى لأن تكون استجابتنا استجابةً كاملة، فيكون الله معنا، فينصرنا على أعدائنا، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.

والأعداء هم شديدو العداء لأمتنا، وهم متوحشون، مجرمون، عندما يتمكنوا من السيطرة؛ يبطشون بالأمة، يظلمونها، يقهرونها، ينتهكون الحرمات، لا يعطون أي اعتبار لأي شيء، وهذا ما ثبت في كل مراحل التاريخ وإلى اليوم: وحشية الأعداء، إجرامهم، طغيانهم، استهتارهم بالكرامة الإنسانية، انتهاكهم للحرمات، يقتلون بأبشع جرائم القتل، وبإباداتٍ جماعية، حصل هذا في تاريخنا المعاصر فيما تفعله إسرائيل، وفيما فعلته أمريكا في العراق، وفي غير العراق، وفي أفغانستان، وفيما يفعله المنافقون الذين يقاتلون في صف أمريكا وإسرائيل، مثلما يفعلونه عندنا في اليمن، القتل بطريقة إجرامية ووحشية، العدوانية الواضحة، الاستهتار بكل شيء، الانتهاك للحرمات، الاغتصاب للنساء والأطفال، الجرائم البشعة والمتنوعة.

ظلمهم، وشرهم، وإجرامهم يحتاج إلى ردع، هذا الردع يأتي عن طريق التحرك الجهادي القوي، الذي ترتقي فيه الأمة، وتصل في نهاية المطاف إلى النصر الحاسم، وإلى الردع الكامل، فيردعوا أعداءها.

قال الله عنهم: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}[التوبة: الآية10]، فهم في حقدهم وإجرامهم إلى درجة ألَّا يرقبوا فيك أي اعتبار: لا عهود، ولا التزامات… ولا أي شيءٍ يمكن أن يكونوا قد طمأنوك به، أو تكون أنت قد فكرت أنهم سيراعون ذلك الاعتبار، سيتركونك، لن يتجرؤوا على أن يفعلوا بعض الأمور لاعتبارات معينة، كل الاعتبارات تنتهي، عندما تكون المسألة ما يفعلونه بالمؤمنين، بالمجتمع المسلم، لا يبقى هناك قيود ولا حدود، كل شيءٍ يستباح، تاريخنا المعاصر أثبت ذلك، التاريخ في الماضي أثبت ذلك، القتل الذريع للناس، استباحتهم في حياتهم، في حرمتهم، في كرامتهم… في كل شيء، وتحصل المآسي الكبرى في ظل ذلك.

استنطقوا التاريخ الماضي، واستنطقوا التاريخ المعاصر، ماذا حدث من المآسي الكبرى، من الكوارث الكبرى، من الفظائع الكبرى، جرائم رهيبة جداً في القتل الجماعي، جرائم شنيعة في انتهاك الأعراض والحرمات، جرائم كبيرة جداً واضطهاد للناس في كل شيء، حالة رهيبة جداً، ولكن الذاكرة العربية هي ذاكرة ضعيفة، ذاكرةٌ تنسى، تنسى، تمر أحداث، ينساها الناس، ومع ذلك غُيِّبت الكثير من الحقائق عن المناهج الدراسية، غُيِّبت عن التعليم والنشاط التعليمي، غُيِّبت عن الإعلام، لا تتم إعادة التذكير بها؛ لكي يتذكر الناس من جديد.

{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}[التوبة: من الآية8]، أحياناً قد يطلقون العبارات التي توحي بما يطمئن الناس، تقدِّم ما هو استرضاءٌ للناس، ولكن وراء ذلك: {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة: من الآية8].

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: من الآية62]، (تَرَى) ترى سلوكاً ظاهراً، سياسةً واضحة، ممارسات حقيقية في أرض الواقع، يُسَارِعُونَ مسارعة عند أي فرصة، طالما هناك ظروف مهيأة، ليس هناك ردع يردعهم، {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، لا يحتاجون إلى استثارة، لا يحتاجون إلى مشاكل كبيرة أزعجتهم فحركتهم، هم عدوانيون، أهم شيء لديهم أن تتوفر الفرص الملائمة لذلك، فإذا أصبح هناك ردع، أصبحوا يعيدون الحسابات، وحينها يرتدعون.

كيف كان العدو الإسرائيلي يسارع في الهجوم على مختلف البلدان العربية، كان أحياناً يختلق الذريعة؛ ليبني عليها عملاً عدائياً معيناً، كيف أصبحت حالة الردع في لبنان، عندما أصبح هناك أمة مجاهدة، قوية، مؤمنة، ارتقت في عملها الجهادي والإيماني إلى مستوى الردع، أصبح يحسب ألف ألف حساب لأي عمل يريد أن يقدم عليه، غابت تلك الجرأة التي كان يسارع فيها مسارعة لاكتساح الميدان، تغيرت الأمور، في غزة كذلك أصبحت الظروف مختلفة، عندما أصبح هناك مجاهدون، وارتقوا في جهادهم، كلما استمرت الأمة، الاستمرارية مسألة أساسية في أن تزداد قوةً ومنعةً، وفي أن تترجم التزامها الإيماني المستمر، الذي تحظى فيه بمعونة الله “تبارك وتعالى”.

الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” يطول الكلام عنه كثيراً كثيراً في القرآن الكريم، ولا يتسع المقام للحديث عن كل جوانبه، لكن من أهم ما يجب أن نعيه عنه: أنه أيضاً عاملٌ مهمٌ في بناء الأمة وقوتها، وعاملٌ لنهضتها، الله “سبحانه وتعالى” عندما قال في القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[الأنفال: الآية60]، هذه الآية لوحدها لو عمل بها المسلمون، لما كانوا وصلوا في هذا الزمن إلى ما وصلوا إليه من الضعف، لكانوا هم أقوى الأمم، وأمنع الأمم، وأعز الأمم بكلها، ولكي ينهضوا من جديد، لكي يتحولوا إلى أمةٍ قوية من جديد، لابدَّ لهم من العمل بهذه الآية، أن يستشعروا الخطر، والتحدي المتمثل بعدوهم، وأن يتجهوا لإعداد كل ما يستطيعون من القوة في كل المجالات: على المستوى العسكري القوة العسكرية، على المستوى الاقتصادي… على كل المجالات، تكون القوة وامتلاك القوة في إطار الإيمان هي عنوانٌ أساسيٌ، وهدفٌ رئيسيٌ لأنشطتهم وتحركاتهم.

للأسف الشديد كان البديل عن ذلك هو: عنوان الضعف، والتلاشي، وترك كل عوامل القوة، وكل أسباب القوة، من أهم ما في الجهاد في سبيل الله: أنه يمثل دافعاً، إلى درجة أن يكون دافعاً ضاغطاً بامتلاك القوة؛ لأنك عندما تكون في ميدان المواجهة، وأنت تنازل العدو، وتواجه العدو، تدرك أهمية القوة، وقيمة القوة، وأهمية أن تمتلك المزيد والمزيد من القوة، فتسعى لذلك، عندك الحافز، عند الدافع.

لاحظوا، في بركة الجهاد في عصرنا هذا، في زمننا هذا، في واقع حزب الله، في واقع المجاهدين في فلسطين، في واقع الجمهورية الإسلامية في إيران، في واقع المجاهدين في العراق، في واقع المجاهدين في كل بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي، عندنا في اليمن، الواقع الذي يتجه فيه الناس لمواجهة التحديات، وهم يعتمدون على الله في موقف الحق، ويمتلكون القضية العادلة، ويتحركون في سبيل الله تعالى، وهم يواجهون التحديات، يشعرون بضغط الواقع، بطبيعة الظروف والتحديات، من الأوجاع والآلام في ميدان المواجهات والأحداث، يتجهون بجدية، بحافز كبير، باهتمامٍ كبير، إلى امتلاك القوة، إلى صناعة القوة، إلى تطوير وسائل القوة، إلى الأخذ بكل أسباب القوة، تصبح هذه مسألة مهمة بالنسبة لهم، الآخرون لا يشعرون بأهمية الأشياء، ولا الحاجة إليها؛ لأنهم ليسوا في وارد أن يهتموا بذلك أصلاً، وأن يتحركوا على أساس ذلك أصلاً.

تعطيل فريضة الجهاد من أهم عوامل ضعف الأمة، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في كل المجالات: ضعفها اقتصادياً، ضعفها عسكرياً… ضعفها في كل المجالات، حتى على المستوى الحضاري والنهضة الحضارية.

الآخرون اتجهوا وكأن الآية نزلت إليهم، كأن الآية هذه نزلت في أمريكا على الأمريكيين، أو على الأوروبيين، أو على الصينيين، أو على الروس… أو على أيٍّ من تلك الأمم الأخرى، كأنهم هم أصحاب هذا الشأن، كأنهم من خُوِطبوا، فاتجهوا بكل ما يستطيعون، ويستمرون على ذلك، ويصبح بالنسبة لهم الموضوع موضوع رئيسي، وسعي مستمر في امتلاك المزيد والمزيد من القوة، والاتجاه نحو أن يكون أقوى وأقوى، وهذا نهض بهم، أفادهم في دنياهم.

المسلمون حين عطَّلوا هذا الجانب، خسروا في دينهم ودنياهم، تضرروا كثيراً، ضعفوا، قهرهم أعداؤهم، أذلهم أعداؤهم.

ولذلك من بركات الجهاد: أن الأمة تتجه، ولديها الحافز الكبير، وهو: التحدي، والخطر، والمواجهة، والحاجة، إلى المزيد والمزيد من القوة، إلى مستوى صناعة السلاح العسكري، والعتاد الحربي، وصناعة المتطلبات المتنوعة، وتوفيرها، وتطوير كل الوسائل الممكنة، فيمثل فعلاً عامل نهضة، عامل قوة، تتجه الأمة إلى أن تبني نفسها، تُقَوِّي واقعها، أن تُعِدَّ ما تستطيعه من القوة في كل المجالات، والقوة هذه يجب أن تكون قبل كل شيء قوة الإيمان، أن تكون قوة الإيمان، إذا توفرت قوة الإيمان، قوة الوعي، تجعل الناس يتجهون في الميدان بكل ثقة للإعداد.

وهنا لاحظوا، إلى درجة أنَّ الله أراد للمسلمين أن يمتلكوا القوة إلى درجة أن يمتلكوا الردع في مواجهة أعداء الله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، هذا ما يسمى في المصطلحات المعاصرة والتعبير المعاصر بـ(الردع)، يعني: أن تمتلكوا من القوة، ومظاهر القوة، وأن تعدُّوا من القوة، وفي مقدمتها القوة العسكرية، إضافةً إلى كل عناصر القوة التي تتطلبها المواجهة، ما يردع أعداءكم عنكم، ما يجعلهم يحسبون لكم ألف حساب، ما يجعلهم يتهيَّبون من مواجهتكم، ما يجعلهم ينظرون إليكم إلى أنكم أمة قوية، يصعب كسرها، يصعب السيطرة عليها، يصعب إذلالها، وأن مواجهتها ستسبب كلفة كبيرة على العدو، وتخسَّره كثيراً، وأنه قد يهزم في مثل تلك المواجهة ويخسر، ولا يصل إلى المطلوب.

هذه النتيجة يجب أن يسعى لها المؤمنون، أن يعوا أهميتها، أن يدركوا قيمتها وإيجابيتها، وأنها هي التي ترتقي بالأمة إلى مستوى التغلب على التحديات والصعوبات؛ وبالتالي التغلب على العدو.

عندما نشاهد مثلاً: في واقعنا المعاصر، كمثال واضح، وظاهر، وقائم: الجمهورية الإسلامية في إيران، قوة هناك يعاديها الغرب أشد عداء، أمريكا وإسرائيل تعتبرها العدو الأول في المنطقة، في كل المراحل الماضية، منذ قيام الثورة الإسلامية وإلى اليوم، هناك تحريض أمريكي إسرائيلي شديد جداً ضدها، واستنفار ودفع بالآخرين لعدائها، لكن هناك تهيُّب أمريكي إسرائيلي، مع وجود العداء الشديد، والحقد الشديد جداً، تهيُّب كبير من الدخول في حربٍ مباشرة معها، لماذا؟ لأنهم ينظرون إليها كقوة، وقوة تنامت، ويقلقون من تناميها أكثر وأكثر.

أيضاً مثلاً: في لبنان، في غزة، كيف أصبح العدو الإسرائيلي يتهيَّب كل عام أكثر فأكثر من الدخول في مواجهة مع حزب الله، أو مع المجاهدين في فلسطين؛ لأنه يعتبرهم باتوا أقوى، كلما كانوا أقوى؛ كلما تهيَّب من مواجهتهم أكثر.

تحالف العدوان اعتبر نفسه حتى هو في الأخير أنه دخل في ورطةٍ كبيرة في المواجهة مع شعبنا، وفي العدوان على شعبنا، أنه تورَّط، وباتت مسألة التوصيف لما وقع فيه بأنه وقع في ورطة مسألة معروفة، لماذا؟ لأنه اصطدم بشعبٍ مسلمٍ، فيه أمةٌ مجاهدة، تتصدى له، وتتحرك في مسارٍ تصاعدي في المواجهة، وفي أن تكون أكثر قوةً في هذه المواجهة، ولمسّ- حتى هو العدو- أنَّ هؤلاء الذين يواجهونه في الميدان باتوا بعد كل مرحلة أقوى مما كانوا عليه سابقاً.

كلما كانت الأمة أقوى؛ كلما تهيّب العدو من مواجهتها، من العدوان عليها، لكن كلما كانت أضعف، كلما كان أكثر جرأة عليها، ويأتي عنوان القوة إلى كل شيء: الإعداد العسكري، الأخوّة، التعاون، قوة الوضع الداخلي في تماسكه، فيما هناك من تعاون، من تظافر للجهود، كل عوامل القوة التي أرشد الله إليها في القرآن الكريم يجب العمل عليها، كلها مهمة، كلها لابدَّ منها.

وهكذا نجد في كل الأشياء، في كل الجوانب، أهمية الجهاد في سبيل الله، وأنه خيرٌ للأمة، الله قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}، فيما يتعلق بالمزاج الشخصي، والنظرة المغلوطة تجاه الموضوع، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، لا تعتمدوا على مزاجكم الشخصي، انظروا إلى الأمور نظرةً واقعية، وانظروا إليها بعين البصيرة، واستنيروا بنور الله؛ لتروا أنَّ في هذا الخير لكم، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية216].

الأمة في مثل هذه الظروف تجاه هذه التحديات، أعداؤنا يستهدفوننا في كل شيء، حربهم قائمة منذ زمانٍ طويل: حرب سياسية، حرب اقتصادية، حرب عسكرية، حرب أمنية، حرب ناعمة، للإفساد، وللتضليل، حرب بكل أشكالها، لابدَّ أن نكون في واقعنا الإيماني مجاهدين في سبيل الله، نحمل الروحية الجهادية؛ لكي نكون في إطار التصدي لكل أشكال حرب العدو، وللأخذ بكل أسباب القوة، وأسباب النصر الإلهي، وإلَّا معنى ذلك: أن يخسر الناس، إذا انتصر العدو عليك، سواءً في حربه الناعمة، أو الصلبة، في أي مجالٍ من المجالات؛ هذا نتاجٌ لتقصيرك، لإهمالك، لغفلتك، عندما تكون الأمة في حالة غفلة، في حالة تنصلٍ عن المسؤولية، في حالة برود، في حالة إهمال، في حالةٍ تتعامى فيها عن المخاطر الحقيقية عليها، فهي حالةٌ خطيرةٌ عليها في الدنيا والآخرة.

لو ارتضت أمةٌ، أو شعبٌ، أو ناسٌ، أو قومٌ، أو جماعةٌ، لنفسها أن تخضع لأعدائها في هذه الحياة، أن تستسلم، ألَّا تكون في موقع التحدي، في موقع التصدي، في موقع المواجهة، وأن تكون في حال التنصل عن المسؤولية، والتمكين للعدو، والتماشي مع ما يريده العدو، وترك المجال أمام العدو ليفعل ما يشاء ويريد، والخضوع ضمن ذلك لما يفرضه العدو، فهذه الحالة حالةٌ خطيرةٌ جداً، لن يرضاها لنفسه شخصٌ، أو قومٌ، أو ناسٌ، أو مجتمعٌ، إلِّا وقد أصبحوا خالين من الإيمان، الإيمان له أثر عظيم في سمو النفس، في كرامتها، في عزتها، في إبائها، في حبها للخير، في كرهها للظلم، في مقتها للفساد، وأيضاً فقدوا كرامتهم الإنسانية، لم يعد لديهم حتى القيم الفطرية الإنسانية العادية، في أن يكونوا أحراراً، في أن يكونوا أعزاء، في ألَّا يذلوا، ألَّا يضاموا، ألَّا يقهروا، ألَّا يهانوا.

ولكن حتى لو رضي البعض لأنفسهم كل ذلك، فالخطر هو ما وراء ذلك: جهنم والعياذ بالله، جهنم، لو رضيت أمةٌ لنفسها بالهوان، وكان خيارها الاستسلام، وخضعت للأعداء وذلت، وهانت لهم، وقبلت بما يريدونه منها، وفرضوا عليها ما أرادوا أن يفرضوه فيها، فخضعت لهم فيما هو معصيةٌ لله “سبحانه وتعالى”، وذلٌ، وهوانٌ، وخسران، فوراء ذلك جهنم، وراء ذلك جهنم، ذلٌ في الدنيا، اضطهاد، قهر، ضيم، هوان، خزي، دناءة، انحطاط، فساد، سقوط، ووراء ذلك جهنم والعياذ بالله، {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة: الآية39]، {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}، المسألة تضركم أنتم، المسألة خطيرةٌ عليكم أنتم.

ولذلك يجب أن يكون الإنسان المؤمن، الذي يعتبر نفسه في طريق الإيمان، في موقع التصدي، يحمل الروحية الجهادية تجاه مؤامرات الأعداء، ويحمل الوعي؛ لأن جانباً أساسياً من المعركة مع العدو: هو معركة الوعي، وأن نتسلح بالوعي، هو من أهم السلاح الذي يجب أن نتسلح به، وأن نحمله في مواجهة العدو؛ لكي ننازله في الميدان في كل مجال.

أعداؤنا يحقدون علينا على المستوى الديني والإيماني، ويعبِّرون عن حقدهم في كل زمان، بكل الوسائل، عن حقدهم على قرآننا، عن حقدهم على رسولنا، عن حقدهم على مقدساتنا، عن حقدهم حتى على شعائرنا الدينية، يتضح هذا في ممارساتهم.

كم يتحركون في الغرب- وآخرها ما كان في السويد- لإحراق المصحف الشريف، لماذا هذا؟ لماذا سعيهم لإحراق المصحف الشريف، أقدس المقدسات لدى الأمة الإسلامية، ولدى المسلمين؟ حقد، كره، عداء شديد لك أنت، ولدينك، ولمعتقدك، ولما تعتز به، واستفزازٌ كبيرٌ للمسلمين، واستهانة، وتحدٍ لكرامتهم، وإساءة إلى المسلمين كبيرة جداً.

كم يصدر من إساءات إلى رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” في المجتمع الغربي؟ كم يحصل من تعدٍ على المسلمين في شعائرهم الدينية، واستهداف لمقدساتهم؟ ما الذي يحصل في فلسطين كل يوم؟ لا يكاد يمر يوم إلَّا ويحصل استهداف وانتهاك لحرمة المسجد الأقصى، واعتداء على المصلين، حقد علينا على مستوى انتمائنا الديني.

لو وصلت الأمة إلى درجة ألَّا يمثل لها دينها، مقدساتها، رمزها العظيم: رسول الله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، كتابها المقدس العظيم: القرآن الكريم المجيد، ألَّا يمثل لها أي قيمة، ويرى الأعداء ذلك، هذا يجعل منها أمةً رخيصةً تافهة، ولقمةً سائغةً لأعدائها، ولا تمثل أي شيء، إذا لم يبق لدى الأمة اعتزازٌ بدينها، اعتزازٌ بمقدساتها، ولم تعد تغضب حتى لأهم ما يجب أن يعتز به الإنسان المؤمن، وأن يقدسه، وأن يعظمه، ثم لا يعد يبالي بذلك، فهو إنسانٌ لم يبق لديه أي شيءٍ يمثل أهمية، أصبح لا شيء في هذه الحياة، سهلاً أمام الأعداء، رخيصاً، تافهاً، لا قيمة عنده لشيء، ولا أهمية عنده لشيء.

على مستوى حياتنا، نحن أمة يطمع أعداؤها في السيطرة عليها كثروة بشرية، في السيطرة على مقدراتها، في السيطرة على أوطانها، في السيطرة على موقعها الجغرافي، في الاستغلال لها، في الاستعباد لها.

لا يحمينا تجاه كل هذه التحديات إلَّا أن نحمل الروحية الجهادية، أن نتحرك في سبيل الله، وفق الطريقة التي رسمها الله لنا؛ لنحظى بنصره، بمعونته، بتأييده.

ما يحصل من استفزازات، وانتهاكات، يجب أن يكون للأمة صوتٌ تجاهه، أن تحتج، أن تعترض، أن تبدي غضبها، أن تتكلم بالحد الأدنى، إذا وصلت الأمة إلى درجة ألَّا تتكلم حتى الكلمة، ألَّا تقول شيئاً تجاه ما يفعله أعداؤها، فهي حالةٌ خطيرةٌ على هذه الأمة عند الله “سبحانه وتعالى”؛ لأنها حالة شنيعة دنيئة من التنصل التام عن المسؤولية، والخنوع التام، وحالة خطيرة جداً تطمع أعداءها جداً فيها، ويرون فرصتهم السانحة للاستهداف لها، والسيطرة عليها في كل شيء، فتخسر دينها ودنياها.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...