السبت، 17 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

(نص ) المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 05 رمضان 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

سورة الرحمن من السور القرآنية المباركة، التي قدَّم الله فيها عرضاً عن حياة الإنسان: الحياة الأولى، والحياة الثانية، وعن الربط ما بين الحياتين، وفيها دروسٌ مهمةٌ وعظيمة، نتحدث- إن شاء الله- على ضوء ما ورد فيها من الآيات المباركة باختصار، وبتركيز على بعضٍ من النقاط المهمة والمفيدة؛ لأن القرآن الكريم هديه واسع، وهو بحرٌ لا يدرك قعره، ولكننا نركِّز بشكلٍ أساسي على بعض النقاط المهمة، والتي لها علاقةٌ بسياق موضوعنا.

يقول الله "سبحانه وتعالى":

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن: 1-2]، الرَّحمن: هو الله "سبحانه وتعالى" الرحيم بعباده، الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو أرحم الراحمين، ومن رحمته "سبحانه وتعالى" التي أسبغها علينا: ما عرضه علينا في هذه السورة المباركة من أصناف النعم الواسعة والعجيبة، وفي مقدِّمتها قوله "سبحانه وتعالى": {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}.

القرآن الكريم هو مفتاح النعم بكلها، هداية الله "سبحانه وتعالى" هي أول متطلبات السعادة لهذا الإنسان في حياته في الدنيا، وفي حياته في الآخرة، والقرآن الكريم هو العنوان الأعظم للهداية الإلهية، وهو خاتم كتب الله "سبحانه وتعالى"، فهو مفتاح النعم على أساس الإتِّباع له، والتحرك وفق منهجه، تتحول النعم المادية التي عرضها الله لنا "سبحانه وتعالى" في هذه السورة، إلى نعيمٍ، ويعيش الإنسان في هذه الحياة براحةٍ وسعادةٍ واطمئنان، كما قال الله "سبحانه وتعالى" في كتابه الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف: من الآية96].

القرآن هو كتاب رحمة، كل ما فيه من تعليمات، وإرشادات، وتوجيهات، كلها رحمة، وتحقق للإنسان الرحمة في هذه الحياة، وفي مستقبله في الآخرة، فيماتحققه للإنسان بشكلٍ مباشر، وفيما تقيه وتدفعه عنه من أخطار ومصائب ونكبات وشرور من جانبٍ آخر، وهو رحمةٌ معنويةٌ كبرى، ينير لك الطريق، يرشدك لليسرى، يرشدك إلى ما يوصلك إلى رحمة الله، وإلى رضوانه، وإلى جنته، وإلى السلامة من عذابه، فالرحمة فيه رحمةٌ عظيمةٌ، وهو يسمو بك كإنسان فيما يعلِّمك وفيما يزكيك، فهو مفتاح النعم، وهو ما يجسِّد الرحمة العظمى، هو من أجلى صور الرحمة من الله "سبحانه وتعالى" لك، فهو يعلِّمك كيف تحيا، وكيف يجب أن تكون، وماذا عليك أن تعمل، وماذا يلزمك أن تترك وأن تحذر منه.

{عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، ونعمة التعليم التي هيَّأت للإنسان القابلية لأن يتعلم القرآن، وأن يستفيد منه، هي من أعظم النعم التي أكرم الله بها هذا الإنسان، وجعل من خلالها لهذا الإنسان الفرصة لأن يكون له دور كبير في هذه الحياة، وأن يستمتع بالنعم الإلهية الواسعة.

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ}[الرحمن: الآية3]، الله "سبحانه وتعالى" أنعم على الإنسان حينما خلقه، وجودك كإنسان هو نعمة، وكلٌّ منا يعرف هذه الحقيقة: أنَّ وجوده في هذه الحياة هو نعمةٌ عليه، وخَلْقُ الله لك كإنسان في أحسن تقويم هو نعمةٌ كبيرة، وما خلق الله لك من الحواس، وفي مقدمتها: السمع، والبصر، والإدراك العقلي، وما خلق الله "سبحانه وتعالى" لك من الأعضاء والجوارح، التي تستفيد منها، وتعتمد عليها، وجعلها على كيفيةٍ تستفيد منها على نطاقٍ واسع، بما ليس لغيرك من سائر الحيوانات والمخلوقات على هذه الأرض، ليست كيفية خلقها، وتركيبها، وجوارحها، وأعضائها، على النحو الذي خلقك الله عليه، وهيَّأ لك من خلاله أن تستفيد منها على نحوٍ واسع جداً.

لو نلحظ مثلاً نعمة اليدين، كيف تختلف يد الإنسان عن يد غيره من الحيوانات، وهذا يتيح له أيضاً الاستفادة منها بأشكال كثيرة جداً، وهكذا بقية الأعضاء والحواس، ما وهبك الله "سبحانه وتعالى" من قدرات، من مواهب، من طاقات، كلها- على المستوى الذهني والنفسي والجسدي- كلها نعمةٌ كبيرةٌ عليك، وتستفيد منها في حياتك هذه على نطاقٍ واسع، وبأشكال كثيرة ومتعددة.

والإبداعات الإنسانية التي هيَّأها الله، والتي جرت على يد الإنسان، هي شاهدٌ أنَّ الله "سبحانه وتعالى" هيَّأه، وصنعه، وخلقه، وركَّبه على كيفيةٍ، وعلى نحوٍ، وبمدارك، وبآليات، وطاقات، وقدرات، ومواهب، تساعده على الإبداع في هذه الحياة، وعلى أن يعمل لنفسه أشياء كثيرة فيما وهبه الله في نفسه، وفيما مكَّنه الله فيه في هذه الحياة من وسائل وإمكانات، هذا شاهد على هذه النعمة العظيمة.

{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن: الآية4]، الله "سبحانه وتعالى" علَّم الإنسان البيان، وسيلة التخاطب والتفاهم مع الآخرين، والإنسان يحتاج إلى هذه؛ لأن مسيرة الحياة البشرية هي مسيرة اجتماعية، يتعاون فيها المجتمع البشري، والعلاقة فيما بين الناس في تعاملهم، في شؤون حياتهم، في أمور حياتهم الواسعة، من متطلباتها الأساسية وفي مقدِّمة احتياجاتها: أن يكون بينهم وسائل للتخاطب والتفاهم، والحديث إلى بعضهم البعض، وإيصال ما يحتاجون إيصاله إلى بعضهم البعض، ما يصطلح عليه في هذا العصر بالتواصل، التواصل جانب أساسي وحيوي لحياة الناس في كل شؤونهم، في أمورهم الاقتصادية، في شؤونهم الاجتماعية... في مختلف حياتهم وشؤون حياتهم، فتعتبر هذه نعمة عظيمة أنعم الله بها على الإنسان، وتقوم عليها الحضارة الإنسانية، ويقوم عليها التعامل فيما بين البشر، وتجري شؤون حياتهم في مختلف شؤونها على أساس هذه النعمة: نعمة البيان، ووسيلة التفاهم، والتخاطب، والتواصل فيما بينهم، بقليلٍ من التأمل لهذه النعمة، يدرك الإنسان كم هي نعمة عظيمة جداً على الإنسان كفرد، وعلى المجتمع البشري بشكلٍ عام.

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن: الآية5]، من نعم الله "سبحانه وتعالى" علينا كبشر، على الإنسان كإنسان فرداً ومجتمعاً: هي نعمة الشمس، الشمس وما يأتينا منها من الضياء، وما يأتينا منها من الدفء والحرارة، نعمةٌ كبيرةٌ جداً، وشيءٌ أساسيٌ لحياتنا هذه، ما كانت الحياة لتستقيم، لتستمر، لتكون على هذا النحو، لولا هذه الهبة الإلهية، وهذه العطية والنعمة الكبيرة من الله "سبحانه وتعالى"، جانبٌ منها يتصل بهذه المسألة: بمسألة الدفء، والضياء، والحرارة، وما لهذا من أهمية كبيرة بالنسبة للإنسان هو، وبالنسبة للنباتات التي يعتمد عليها في غذائه.

ولكن إضافةً إلى ذلك: الاستفادة منها، والاستفادة من القمر التي لها أهمية كبيرة، وتفيد الإنسان في الليل، وفي حركته في الليل بضوئها الهادئ، الخافت، المنير، المناسب، ولكن مع كل ذلك: للشمس والقمر علاقة مهمة جداً بمسألة تعاقب الليل والنهار، وبمسألة الحساب، والأوقات، وعلامات الشهور والسنين، وتعاقب الفصول، وهذه مسألة أساسية في حياة الإنسان، وانتظمت حياة البشر على أساس انتظام أوقاتهم، ليل ونهار، شهور وسنين، فصول، ولها علامات.

الشمس والقمر لها حساب دقيق في حركتها، وتنتظم عليه بدقةٍ تامةٍ وبالغة، وانتظمت بهذا حياة الناس في مختلف شؤونهم وأمورهم، وهذا معروف في واقع الحياة، الإنسان يعتمد في انتظام حياته على هذه العلامات: على علامة الشهور، علامات السنين، علامات الفصول، وصلتها بشؤون حياة الإنسان على مستوى المعاملات، على مستوى الأعمال، على مستوى الاهتمامات والأنشطة المختلفة في الحياة.

وحتى على مستوى مواسم الزراعة، نحن نعرف أنَّ لكل صنفٍ من أصناف الزراعة مواسم محددة، مرتبطة بحركة الشمس والقمر والأرض، ومنتظمة بذلك، ومتوزعة على النطاق الجغرافي على كوكب الأرض، ففي بلد معين يناسب أن يكون زراعة صنف معين مثلاً القمح من أصناف الزراعة في وقت كذا؛ بناءً على منازل الشمس، وحركة الشمس، وحركة القمر، وحركة الأرض، وحتى فيما يتعلق بالقمر لها علاقة بحركة المد والجزر في حركة البحار على وجه الأرض... وهكذا، لهذا علاقة مهمة جداً، انتظمت به حياة الناس في أعمالهم، واهتماماتهم، وزراعتهم، وتجارتهم، وأنشطتهم، مع نعمة تعاقب الليل والنهار، وبقَدَرٍ مناسبٍ لحياة الإنسان، وبما يتناسب أيضاً مع الحفاظ على مستوى معين من الحرارة والبرودة على هذه الأرض، تلائم حياة الإنسان، وتنسجم مع احتياجاته، ونلحظ أهمية ذلك: ماذا لو كان الليل طويلاً جداً، كما هو في بعض الكواكب يستمر بما يعادل العام من أعوام الأرض؟ لكانت هذه مشكلة كبيرة، أو كان الليل سرمداً إلى يوم القيامة؟ لكان في هذا ضيق من استمرارية الظلام والتعب، وهكذا لو استمر النهار من دون تعاقب الليل الذي يأتي للسكن والراحة والنوم، ويتحقق للإنسان فيه السبات- كما قال الله "سبحانه وتعالى"- بنومه واستراحته.

فهذه النعمة الكبيرة، وهي أجرام كبيرة، القمر جرم كبير، والشمس جرم كبير جداً، مشتعل ووهَّاج، ولا يحتاج إلى عناية من البشر أنفسهم، لا يحتاج إلى أن يهتموا به، وأن يقدموا له الوقود، أو البترول، أو الديزل، أو الغاز، ولا يحتاج إلى أي تعب، نعمة تصلهم بشكلٍ مستمرٍ ومنتظمٍ، وتستمر بشكلٍ دائم وفق ذلك النظام العجيب، وتمدهم بالطاقة، وتمدهم بالدفء والحرارة، ولها أهمية كبيرة فيما يتصل بحياتهم، وغذائهم، وحركة المياه على وجه الأرض، ومنافع واسعة جداً، واتساق الزمن، واتساق الزمن، وحركة الزمن المنضبطة، التي يضبط الإنسان عليها مسيرة حياته، وأدائه في هذه الحياة، وأعماله في هذه الحياة، كلها تعتمد على الوقت، من الساعات إلى السنين، ومن الفصول إلى الشهور، إلى منازل الشمس، إلى حركة الأرض... وهكذا.

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن: 5-6]، الشجر- كذلك- من النعم الكبيرة على الإنسان، وما أودع الله فيها من الخواص التي تعود بكل نفعها على هذا الإنسان، النباتات من أهم ما يحتاجه الإنسان على هذه الأرض، والنباتات واسعة جداً، أصنافها بمئات الآلاف، يقال: أنَّ البشر إلى حد الآن في إحصاءاتهم وصلوا إلى إحصاء أكثر من خمسمائة ألف نوع من النباتات، منها النباتات التي تدخل بشكلٍ أساسيٍ في غذاء الإنسان، ومنها النباتات التي يستخدمها في الطب، ما يقارب لحد الآن مما قد اكتشفه الإنسان- واكتشافاته لا تزال محدودة وبسيطة- أكثر من مئة ألف نبات مما قد اكتشفه من النباتات الطبية، ومنها النباتات التي تفيده أيضاً في ملابسه، ونباتات تفيده في أشياء كثيرة جداً، الأشجار ذات نفع كبير جداً للإنسان، وذات علاقة مهمة بالنسبة لتوفر وانتظام عملية الأوكسجين في الأرض، وفوائدها كثيرةٌ جداً، وهي كذلك نعمة أودعها الله لهذا الإنسان، وأودع فيها الخواص والمنافع التي يحتاج إليها في جوانب كثيرة من حياته، مع الطابع الجمالي لها، ذات جمال ومناظر خلَّابة ومبهجة.

{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}[الرحمن: من الآية7]، السماء هي نعمة، وهي سقف، والله "سبحانه وتعالى" عندما رفعها، فهو أنعم بذلك نعمةً كبيرةً علينا كبشر، لو كانت ملاصقة لهذه الأرض؛ لكان في هذا ضيق كبير للإنسان، ولكن رفعها مريح للإنسان، سقف رفيع جداً، وأيضاً لها منافع كثيرة جداً، واكتشف في هذا الزمن كم هناك من المنافع والوسائل التي يستفيد منها الإنسان من خلال السماء وارتفاعها.

{وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن: من الآية7]: العدل بمفهومه العام، العدل كقاعدة أساسية للتعامل؛ لأننا لسنا فقط بحاجة إلى النعم المادية ويكفينا هذا فقط، من أهم ما نحتاج إليه، ومن متطلباتنا الضرورية كبشر: هو أسس للتعامل فيما بيننا، أسس نمشي عليها في مسيرة حياتنا، في التعامل فيما بيننا، وفي العمل فيما استخلفنا الله فيه.

والله "سبحانه وتعالى" جعل العدل هو الأساس الذي قدَّمه لنا لنعتمده كنظام للتعامل فيما بيننا في واقع حياتنا، وللتعامل مع ما استخلفنا الله فيه في هذه الأرض، وما فيها من الإمكانات، نحتاج إلى هذا المبدأ العظيم، وبه تستقيم حياتنا، وبه تستقيم حياتنا؛ لأنها حتى لو توفرت لدينا هذه الإمكانات والنعم المادية من دون نظامٍ سليمٍ يقوم عليه التعامل فيما بيننا، والتعامل مع هذه النعم؛ لكان لهذا تأثير سلبي علينا، لما استفدنا من هذه النعم على الوجه المطلوب، لكننا كنا مع وجود كل هذه النعم بحاجة إلى نظامٍ عادل، وإلى العدل نفسه كنظام نتعامل من خلاله بشكلٍ موزونٍ وصحيحٍ ومستقيمٍ مع هذه الأشياء، ومع بعضنا البعض، {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}، فالله جعل العدل هو الذي نزن به كل المعايير والمقاييس، وأسس التعامل فيما بيننا بشكلٍ عادل.

{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن: الآية8]؛ لأن ما يخرِّب حياة البشر، وما يكدِّر عليهم ما قد أولاهم الله من النعم، وما هيَّأ لهم من ظروف الحياة الطيبة والاستقرار: هو طغيانهم، عندما لا يلتزمون بالعدل فيما بينهم، عندما يفقدون الاتزان في التعامل على أساس العدل فيما بينهم، وتجاه هذه الأشياء التي استخلفهم الله فيها.

ما يفسد على الإنسان حياته، والاستقرار فيها، وما يفسد على الإنسان النعم هذه التي أعطاه الله: هو عدم التعامل بشكلٍ متوازنٍ على أساس العدل معها وفيها، هذا هو الذي يخرِّب الأشياء، يفسد الأشياء، يدخل هذا إلى مسألة التعامل، والعلاقات، والأعمال، ويدخل هذا إلى نفس الأشياء المادية، عندما نعمل فيها، فلا نضبط أداءنا وعملنا فيها، واستغلالنا لها، وفق المعايير والمقاييس الصحيحة المتوازنة، فالزيادة والإفراط تخرِّب هذه الحياة، تخرِّب هذه الحياة في أمنها واستقرارها، وفي أشيائها المادية.

{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن: الآية9]، مهمٌ جداً أن نقيم الوزن بالقسط، على أساس القسط، على أساس العدل، على أساس المقياس الصحيح، الذي لا يكون فيه لا إفراط وطغيان وتلعُّب، ولا أيضاً إخسارٌ ونقصان.

{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}، عندما جعل الله لنا في هذه الحياة مقاييس وآلات، آلات للمقاييس وللوزن وللكيل، هذا يدخل ضمن المفهوم العام للعدل، هذا مما يحقق لنا العدالة في التعامل فيما بيننا، ولذلك هناك الآن مثلاً مقاييس محددة، وآلات تستخدم للوزن، للكيل، للمقاييس في مختلف شؤون حياة البشر، في كل ما ينتجه البشر هناك مقاييس معينة، يعني: عندما نلحظ مثلاً من الميزان الذي يعتمد على الشوكة أو الرقم، إلى مختلف المعايير، إلى الأطنان، إلى مختلف المقاييس، لمختلف الأغراض، هذا مما يساعد على العدل في تعاملات البشر فيما بينهم؛ لأن العدل هو العنوان الأعم، الآليات والوسائل والمقاييس التي تستخدم لتحقيقه، هي تدخل ضمن هذا المفهوم، وهي مهمةٌ جداً في حياة الناس، هي نعمة من الله "سبحانه وتعالى"، وبها تستقيم حياة الناس؛ ولذلك من المهم الالتزام بها، فهو هنا أكَّد على الالتزام بها، قد أنعم الله بها علينا، وهيَّأ لنا من خلالها أن تستقيم بها حياتنا على أساسٍ من العدل، بدون غشٍ ولا ظلمٍ، فيبقى علينا نحن كبشر أن نلتزم بها، أن نقيم الوزن على أساسها، وهذا يدخل- كما قلنا- ضمن مختلف ما ينتجه البشر، في زراعتهم، في تجارتهم، في معاملاتهم التجارية والاقتصادية، أن يكونوا أوفياء، ودقيقين، وملتزمين بهذه المقاييس والمعايير؛ حتى يكونوا ملتزمين بالعدل؛ لأنها وسائل لإقامة العدل فيما بينهم، وأن يحذروا الغش، وأن يحذروا الخداع.

ثم عندما ندخل إلى مسألة الاستخلاف في الأرض، والتمكين لهذا الإنسان لاستغلال خيراتها وهو يصنِّع، وهو ينتج مختلف الأشياء، لكل الأشياء مقادير محددة بالشكل المناسب الذي يجعلها صالحةً للإنسان، الاختلال في هذه المقادير، والاختلال في هذه المقاييس، يعود بأضرار بالغة على هذا الإنسان، على صحته، على حياته، وهذه مسألة مهمة جداً.

معروفٌ الآن في العملية الصناعية، والإنسان يصنِّع وينتج، أنه قد يصنع شيئاً معيناً، وهو مركب من مواد مختلفة، وهذه المواد حتى يكون هذا الشيء نافعاً وصالحاً للإنسان، إما في غذائه، إما في زراعته، إما في بنائه، مختلف أغراض حياته، هناك مقادير محددة، الالتزام بهذه المقادير يحافظ على جودة هذا المنتج، وعلى صلاحيته للإنسان، وعلى ألَّا يكون مضراً، الاختلال في هذه المقادير ينتج عنه ضرر وخطر، إما ضرر بهذا الإنسان، أو بالبيئة، أو بالزراعة، أو... ولهذا نحن معنيون بكل هذا المفهوم الواسع، أن نلتزم، أن نلتزم؛ لأن بهذا تستقيم حياتنا، وإلا فالإنسان يخرب، يخرب على نفسه حتى الانتفاع بهذه النعم، المزارع الذي يستخدم مواد ضارة، أو مقادير ضارة، الشركات التي تستخدم مقادير ضارة؛ بغية أن تحصل على المزيد والمزيد من الأرباح بأقل تكلفة، وهكذا عملية الإنتاج في كل مراحلها وأشكالها، عندما لا يلتزم فيها بالمقادير الصحيحة المناسبة، التي تضمن أن يكون هذا الذي أُنتِج من هذه النعم، وفقاً لما ينفع هذا الإنسان، ولا يجلب الضرر إليه، ينشأ بذلك ضرر كبير في حياة الناس، فلذلك نجد هذا المبدأ مبدأً عظيماً ومهماً، ونحتاج إليه في مختلف شؤون حياتنا الاقتصادية: في الزراعة، في الصناعة، وفي التعامل بشكلٍ عام.

الإنسان في مسيرة حياته بحاجة أيضاً إلى أن يكون متوازناً في كل أموره، وأن يعطي لكل شيءٍ مستواه الصحيح، فهو إن أفرط يضر بنفسه، وإن فرط يضر بنفسه، ثم يسري هذا الضرر إلى واقعه، إلى محيطه الاجتماعي.

{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}[الرحمن: 9-10]، الأرض التي يعيش فيها الإنسان، الله "سبحانه وتعالى" هيأها للخلق، هيأها للبشر، جعلها مجهزةً تجهيزاً عجيباً يلائم حياة هذا الإنسان ويناسبه، في بيئتها، في حرارتها، في برودتها بما يلائم هذا الإنسان ويناسبه، وبما يهيئ له استمرارية حياته، وأيضاً في جغرافيتها، مساحات شاسعة وواسعة، يستغلها الإنسان للعمران، وللزراعة، ولأعراض متعددة.

أيضاً جبالها التي هي أوتاد لها؛ لكي لا تكون مضطربةً بشكلٍ مستمر، ولكن الكثير منها أيضاً مكسوٌ بالتراب، ويمكن أن يستغله الإنسان، وأن يسكن عليه، وأن يستقر فيه، وأن يكون له فيه أنشطة زراعية، وظروف حياتية ملائمة له لأشكال متعددة من متطلبات هذه الحياة، ومنافعه في هذه الحياة.

ثم أيضاً هذه الأرض، ببيئتها وجغرافيتها، تناسب الإنسان في السير عليها، والحركة فيها، والعمران عليها، والزراعة فيها، فهي مجهزة تجهيزاً مناسباً جداً.

{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}[الرحمن: 11]، في هذه الأرض، وفيما هيأ الله للإنسان فيها: الفواكه، الفواكه هي في مقدمة المواد الغذائية المناسبة جداً للإنسان، وهي من النعم العجيبة على هذا الإنسان؛ لأنها نعم مستساغة، وذات قيمة غذائية مهمة جداً لحياة الإنسان، وذات قيمة غذائية وطبية تفيد هذا الإنسان، وهي في أصلها، في أشكالها، في قيمتها الغذائية، في مذاقها، في أنواعها الكثيرة جداً، من مظاهر رحمة الله بهذا الإنسان، وتكريمه لهذا الإنسان، نعمة وتكريم؛ لأنها مستساغة، وجميلة، وذات قيمة غذائية، ومناسبة لحياة الإنسان، حتى أن الإنسان يستمتع بأكلها، ويتذوقها، فيها جمالها، ولونها، وشكلها، ومذاقها، وفوائدها، وهي من النعم الكبيرة، وهي أصناف كثيرة جداً، ومنتشرة على الأرض، فيتوفر في مناطق من الأرض أصناف لا تتوفر في منطقة أخرى، وتتكامل بها العملية التجارية بين بني البشر.

النخل كذلك خص بالذكر؛ لأنه أيضاً نعمة متميزة جداً، ومتوفرة بشكلٍ كبير، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}، مع الجانب الجمالي فيها كلها.

{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن: 12]، الحب بأنواعه، مثلاً: القمح، الشعير، الذرة... أصناف كثيرة جداً تدخل تحت عنوان الحب، الحبوب أنواع كثيرة جداً، وهي من المواد الغذائية الرئيسية للإنسان، التي يعتمد عليها في غذائه وحياته، وتناسبه، وهيأ الله للإنسان أن تتوفر له بأشكال وأصناف كثيرة جداً، ويسر ذلك، حتى أنها على المستوى الزراعي من أسهل الأشياء في زراعتها، ومن أكثرها وفرةً في إنتاجها؛ لأنها أساسية في غذاء الإنسان، فكانت على هذا النحو: يتيسر زراعتها، وتتوفر محاصيلها، ويكثر منتوجها، إذا تحرك الإنسان في إطار هذه النعم.

{ذُو الْعَصْفِ}: الحب أيضاً فيه الثمار التي يستفيد منها الإنسان بشكلٍ مباشر، وفيه (عصفه): تبنه، وقصبه، وورقه، الذي يستفيد الإنسان منه في إطعام حيواناته، ماشيته، البقر، الغنم، الإبل، يستفيد الإنسان لإطعام هذه الحيوانات الأساسية، التي يحتاج إليها الإنسان هي، ويستفيد منها، من حليبها، من لحومها، من جلودها، من شعرها، يستفيد منها الإنسان فائدةً كبيرةً في هذه الحياة، فكانت نعمة أضيفت إليها نعم كبيرة على هذا الإنسان.

وَالرَّيْحَانُ}: كل النباتات العطرية ذات الرائحة الطيبة والزكية، وسع الله على هذا الإنسان في النعم ليس فقط في غذائه واحتياجاته الغذائية، وإنما أيضاً حتى إلى هذا المستوى: أن يقدم لك "سبحانه وتعالى"، وأن يخلق لك، وأن ينعم عليك بكثير من الأشجار العطرية، ذات الرائحة الزكية الطيبة، التي تستمتع برائحتها، ترتاح برائحتها الزكية، مع ما فيها أيضاً من فوائد طبية، وقيمة غذائية، ومنافع كثيرة جداً يستفيد منها الإنسان، والإنسان يلحظ هذا الجانب في حياته: الروائح الزكية والطيبة، التي ينتعش بها، يرتاح بها، ويصنع الآن منها الكثير والكثير من المنتجات، من العطور وغيرها، التي يستخدمها في إطار هذه النعمة الواسعة جداً عليه.

كل هذه النعم العجيبة المتنوعة، وهذا النموذج المتكامل، الذي قدم لنا أصنافاً كثيرة، نعم عظيمة جداً، يقول الله عنها: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية13]، بأيٍ من هذه النعمة يمكن أن تكذب، هل يمكنك أن تقول أن الشمس كذبة كبيرة، وأنه لا وجود للشمس، أو لا وجود للقمر، أو لا وجود لهذه الأرض بهذه الكيفية، وأنت تعيش عليها، وترى كم هي مهيأةٌ لك؟ هل يمكن أن تنكر وجود هذه الأشجار والنباتات، وهذه النعم: نعمة التعليم، نعمة الهداية، نعمة خلق الإنسان بهذه الكيفية، نعمة ما خلق له في هذه الأرض، نعمة الفواكه، نعمة العدل، نعمة الحبوب هذه، نعمة الرياحين، كل هذه النعم نعم ملموسة، مرئية، مشاهدة، لا يمكن للإنسان أن ينكرها أبداً، وأن يكذب بها.

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14){وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 14-16]، نجد أن الله "سبحانه وتعالى" قد ذكر لنا في بداية الآيات المباركة نعمة خلق الإنسان، فهو قال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ}[الرحمن: 1-3]، ثم نجد أنه هنا من جديد يذكرنا بخلقنا، بعد أن ذكر الله "سبحانه وتعالى" هذه النعم الكبيرة علينا، أصل هذه النعم، خلق الإنسان، وتسخير هذا العالم الكبير، وهذه النعم الكبرى لهذا الإنسان، هي نعم كبرى، أنت مخلوق صغير بسيط على هذه الأرض، وتجد كل هذه النعم أكبر منك، نعم كبيرة، نعم عظيمة، فلماذا خلقها الله لك؟ لماذا أنعم بها عليك؟ إنما كل هذا برحمته، بجوده، بكرمه، ليس لأنك أنت، ليس لأن لك حقاً عليه، ليس لأنه ضروري أن يخلقها لك، وأن يعطيها لك؛ حتى لا ترى له فضلاً عليك، الفضل له، هذا برحمته، هذا بنعمته، هذا بكرمه، هذا بجوده، له الفضل عليك، فلا تكن متكبراً، لا تكن مستهتراً تجاه هذه النعم، لا تكن وكأنه ليس لله فضلٌ عليك، وكأنه كان من الضروري أن يخلقك، وأن يعطيك كل هذه النعم، أنت مخلوق بسيط، استذكر أصلك، أصلك مخلوقٌ من الطين، الذي يبس حتى صار صلصالاً، يصلصل من شدة جفافه، كالخزف، كالآنية التي يصنعها القواع، التي يصنعها من يصنع الأواني من الخزف، هذا هو أصل خلقك، ليس لأن أصل خلقك شيءٌ عظيمٌ جداً، فكان لا بدَّ أن يحترمك الله، وأن يقدم لك هذه النعم، وكأنه ليس له فضلٌ عليك.

مشكلة الإنسان أنه ظلومٌ كفار، لا يقدر نعمة الله عليه، وكأنها كانت من الضروري، كأنه كان على الله أن يفعل له ذلك بدون فضلٍ ولا منة، لا، الله هو المنعم العظيم، المتفضل الكريم، الجواد البر الرحيم، وهو ذو الإفضال والمنة عليك، عليك أن تستشعر نعمته عليك، أن تقدر نعمته عليك؛ حتى تشكر هذه النعم، مصيرك حتى في مستقبلك في الآخرة متوقفٌ على شكرك لهذه النعم، وعلى تقديرك لهذه النعم، حتى حركتك في هذه الحياة على نحوٍ صحيح هو مبنيٌ على تقديرك لهذه النعم؛ لأنك حين ذلك ستحب الله "سبحانه وتعالى" وتشكره، وأيضاً تسير على هديه، وبهذا تستقيم حياتك، وتنتفع أكثر بنعمه، وتحظى برعايته أكثر.

فالله يذكر الإنسان بأصل خلقه، ويذكر الجان أيضاً؛ لأن هذه السورة يخاطب الله فيها الجن والإنس، عندما يقول: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، الجن والإنس.

الجن مخلوقٌ أيضاً {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}، قطعة من اللهب، مادة بسيطة جداً من اللهب، فالإنسان لو يستذكر أصله هو يستشعر نعمة الله عليه، وتكريم الله له، الله هو الذي كرمك، وإلا فأصلك مخلوقٌ من الطين اليابس، الذي صار يصلصل في ابتداء خلق الإنسان، في خلق آدم "عليه السلام"، ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين، ماء مهين، العناصر التي خلق الله منها الإنسان عناصر بسيطة ومحدودة، ولو ينظر إليها بقيمتها المادية لا تساوي شيئاً، هي شيء بسيط جداً، الإنسان مخلوق مجهري صغير، مركب من عناصر بسيطة من الطين، مستخلصة من هذا التراب، قد تكون قيمته المادية لا تساوي شيئاً، حتى بعد أن يبلى ويتحول إلى تراب، تراب القبر مكروه، لا يبقى له قيمة، ولا يستحسن استخدامه للزراعة، فالإنسان ليستشعر، عليه أن يستشعر تكريم الله له، نعمة الله العظيمة عليه.

نكتفي بهذا المقدار، ونواصل- إن شاء الله- المشوار في المحاضرة القادمة.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، صالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛

نص المحاضرة الرمضانية 1442هـ الرابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

نص المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 04 رمضان 1442هـ

 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

يقول الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}[الأنبياء: 1-3]، يتبين لنا من خلال هذه الآيات المباركة أن من أخطر العوامل التي تبعد الإنسان عن التقوى، وعن العمل الصالح، وعن الاستقامة في هذه الدنيا، والاتباع لهدى الله “سبحانه وتعالى”، هي الغفلة عن الجزاء، والإعراض عن المستقبل الأبدي الدائم الآتي لهذا الإنسان. هذه الغفلة ينتج عنها الإعراض، والاتجاه ذهنياً، والاتجاه عملياً، وبشكلٍ رئيسي إلى الانشغال بأمور هذه الحياة، وكأنه لا وجود لنا إلا في هذه الحياة، أن وجودنا كبشر يقتصر على هذه الحياة الدنيا، فيتوجه نحوها كل الاهتمام، وكل التركيز، وكل الانشغال، الذهني والنفسي.

عندما نذكّر أنفسنا، وبالذات عندما نذكر أنفسنا كمؤمنين، نؤمن بالله “سبحانه وتعالى”، نؤمن برسله وأنبيائه وكتبه واليوم الآخر، فنحن نجد أن الله “سبحانه وتعالى” قدم لنا في القرآن الكريم، وهو من أساس ما نؤمن به: أنه “جلَّ شأنه” خلقنا لحياتين، في القرآن الكريم يقدم لنا تصوراً لحياتين خلقنا الله “سبحانه وتعالى” لهما: الحياة الأولى، والحياة الأخرى.

الحياة الأولى: لها مدة محدودة وقصيرة.
والحياة الأخرى: لا نهاية لها، ولا انقطاع لمدتها، حياة أبدية.
إذا غفلنا عن هذا المستقبل في الحياة الأبدية، ولم نعد نستذكر ونستحضر إلا هذه الحياة المحدودة المؤقتة، فهنا ندخل في حالة الغفلة، وهنا نتشبث في هذه الحياة ونتجه في سبيل الحصول على رغباتنا في هذه الحياة، ومتطلباتنا في هذه الحياة، بأي طريقة، بأي وسيلة، بأي ثمن، وهذا هو من أهم عوامل الانحراف للكثير من المنحرفين في هذه الحياة، أنهم في سبيل الحصول على مبتغاهم، على شهواتهم، على رغباتهم، على آمالهم، على طموحاتهم، في سبيل الحصول على ما يحقق هوى أنفسهم، لا يرتدعون، ولا ينزجرون، ولا يتحرون، عن فعل أي شيءٍ، مهما كان معصيةً، مهما كان إثماً، مهما كان جرماً.

فالله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم، وفي آياتٍ كثيرةٍ جداً، تحدث عن حياتنا في الآخرة، وأنها حياةٌ لا بدَّ منها، وأنها آتية، وقدم لنا في القرآن الكريم أيضاً تصوراً عن هاتين الحياتين، وما بينهما من ترابط، وما يميز كلاً منهما عن الأخرى، وأول ما يميز هاتين الحياتين، يميز كلاً منهما عن الأخرى، هو الوقت، أن هذه الحياة هي حياة محدودة، مؤقتة، أنت موجودٌ فيها بأجلٍ محدود، والأجل هذا ينقضي، يمر وينقضي، وما مضى منه كأنه أحلام، كأنه مر وانقضى سريعاً جداً.

بينما تلك الحياة المستقبلية في الآخرة، هي حياةٌ أبديةٌ لا انقطاع لها، والموت بينهما هو فاصلٌ قصيرٌ ونقلة، نقلةٌ، تنتقل من خلاله إلى تلك الحياة الأبدية والدائمة.

ولذلك يؤكد الله “سبحانه وتعالى” في آياتٍ كثيرة على هذه الحقائق، وينبهنا إليها في القرآن الكريم، منها قوله “جلَّ شأنه”: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: الآية28]، هذا الإيمان بهذه الحياة الأخرى، وأنها آتية، وأن هذه الحياة ليست إلا جزءاً بسيطاً في مقابل تلك الحياة، وأن الإنسان في الأساس مخلوقٌ للأبد، والفناء بالنسبة له هو حالة عارضة، وحالة فاصلة، ينتقل بعدها إلى حياةٌ أخرى، له أهميةٌ كبيرةٌ جداً، أولاً كي لا نتشبث بهذه الحياة، ويكون كل اهتمامنا، كل اهتمامنا متوجهٌ نحوها على حساب هذه الحياة الآخرة الأبدية المهمة، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن الكثير الكثير من الناس اتجهوا بكل اهتماماتهم إلى هذه الحياة، وغفلوا بشكلٍ تام عن الحياة المستقبلية الأبدية الدائمة، وبذلك تورطوا في الكثير من المعاصي، وأعرضوا، وهذا يؤثر حتى على استقامة هذه الحياة؛ لأنه كما قلنا: هناك ترابط ما بين هذه الحياة والحياة الأخرى، وهذا ركز عليه القرآن الكريم كثيراً، ومن ضمن ذلك في قوله “سبحانه وتعالى”: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}[طه: 123-126]، فهنا نجد الربط ما بين هاتين الحياتين، استقامتك في هذه الحياة، هو خيرٌ لك في هذه الحياة نفسها، وهو أيضاً أساسيٌ لا بدَّ منه في أن تستقيم حياتك الأخرى الأبدية والدائمة.

إذا لم تستقم على أساس هدى الله في هذه الحياة، فأنت ستكون خاسراً في هذه الحياة، لو نلت منها ما نلت، ولو حصلت منها على ما حصلت، فأنت لا بدَّ خاسر؛ لأن ما يميز أيضاً هذه الحياة عن الحياة الأخرى: أن هذه الحياة ممزوجةٌ بالمنغصات، ممزوجةٌ بالخير والشر، والسعادة والشقاء، والعسر واليسر، والسقم والعافية، مع أنها حياة محدودة، مؤقتة، قصيرة، هي أيضاً ممزوجةٌ بالخير والشر، ليس فيها خيرٌ خالص، ولا شرٌ خالص، ولا شقاءٌ دائم، تتنوع حالات الإنسان فيها، الإنسان فيها يمر بحالات مختلفة، بحالات متنوعة، أحياناً في يسرٍ، وأحياناً يكون في عسر، أحياناً في عافية، وأحياناً يكون في حالة سقمٍ ومرض، أحياناً في غنىً، وأحياناً في حالة فقرٍ وشدة، أحياناً في حالة فرح، وأحياناً في حالة حزن، وهكذا، حالات مختلفة، حالات متنوعة، وأحوال متنوعة، هذا فيه درس كبير لهذا الإنسان:

أولاً يبين لنا حقيقة هذه الحياة؛ حتى لا نؤثرها على تلك الحياة الآخرة، الأبدية؛ لأن تلك الحياة على العكس من هذه الحياة، خيرها خالصٌ، ليس فيه أي منغصات، ولا لحظة واحدة، عندما تكون في نعيمها يمكن أن تعتريك لحظة واحدة، أو ذرة واحدة من الشقاء، أو الغم، أو الحزن، أو الألم، أو الهم، أو الضجر، أو الضيق، أو العناء، أو التعب، هي حياةٌ نعيمها نعيمٌ خالصٌ من أي منغصات ولا لمستوى لحظة واحدة، والشر فيها كذلك هو شرٌ خالص، في الحياة الآخرة الشر خالص، لا يمكن أن يكون هناك لحظة واحدة من الراحة، ولا لحظة واحدة يفارقك فيها الألم والعناء والوجع والشدة والعذاب، فخيرها خالصٌ، وهو على أرقى مستوى، نعيمٌ عظيمٌ جداً، وشرها إذا كان الإنسان في تلك الحياة، إذا كان خاسراً وإلى العذاب، فشرها خالصٌ وعذابها خالص، وعلى مدى مليارات السنين، وعلى مدى ذلك الزمن الذي لا انقضاء له، وتلك المدة التي لا نهاية لها، لا يمكن أن تحظى حتى بلحظة واحدة، ولا بثانية واحدة، من الراحة، ولا بلحظة واحدة من أن يفارقك فيها الألم، والوجع، والعذاب، والشدة، والضيق، والعذاب النفسي والجسدي.

فإذا كان هذا هو حال كلٌ من هاتين الحياتين، أفلا يجدر بنا أن نحرص على أن نسير في الاتجاه الذي فيه الخير لنا في هذه الحياة، وفي تلك الحياة المستقبلية الأبدية، عندما نسير على أساس هدى الله “سبحانه وتعالى”، فالله سيمن علينا بالحياة الطيبة، سنحظى في هذه الحياة برعايةٍ واسعة من الله “سبحانه وتعالى”، ولن نكون في حالة خسارةٍ أبداً، حتى عندما نواجه العناء، فهو عناءٌ مكتوب، مكتوبٌ لنا، عندما نواجه شيئاً من عناء هذه الحياة، من عسرها، أو من ضيقها، عندما نضحي ونحن في إطار العمل في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، ونحن في إطار الاهتداء بهدى الله “سبحانه وتعالى”، ونحن نتحرك على أساس ما وجهنا الله إليه، أي عناءٍ يحصل لنا ونحن في حال ذلك هو عناءٌ مكتوب، لك فيه ما يقابله، وأنت في نفس الوقت تكون في حالة رضى عن الله “سبحانه وتعالى”، بل إنه سيكون عاملاً مهماً في أن يدفع بك أكثر وأكثر إلى الاهتمام بما يؤمِّن لك تلك الحياة الأبدية الدائمة، وأنت في الأساس لا تكترث؛ لأنك تدرك أنه وحتى إن نالك شيءٌ من العسر في هذه الحياة، أو من العناء في هذه الحياة، فأنت متجهٌ بآمالك لتلك الحياة الأبدية، والسعادة الخالصة، التي لا يكدر صفوها أي عناء، ولا أي ضر، ولا أي شر، ولا أي كدر، ولذلك أنت في حالة رضى عن الله “سبحانه وتعالى”، أنت لا ترى نفسك خاسراً، حتى لو كان الثمن أن تضحي بنفسك، أن تقتل شهيداً في سبيل الله، هذه بالنسبة لك ليست خسارة، تنتقل بعدها شهيداً، في حياة الشهداء إلى يوم القيامة، رابحاً، تنال حياة أفضل من هذه الحياة، ثم تأتي أيضاً مرحلة الحياة الآخرة، التي هي حياةٌ سعيدةٌ للأبد في جنة المأوى.

عندما تقدم شيئاً من مالك، عندما تواجه العناء والجهد في حياتك، وأنت في هذا الطريق الذي تضمن به مستقبلك الأبدي، والسعادة الدائمة، فأنت في حالة رضى؛ لأنك تدرك أنه: إن نالني شيءٌ محدودٌ يسيرٌ من العناء، فهو في مقابل أنني سأرتاح الراحة الدائمة، الراحة الأبدية، سأسعد السعادة العظيمة على أرقى مستوى، والحال مختلف، الحال مختلف لمن لم يحسب حساب الحياة الآخرة، لمن لم يحسب حساب حياتين يعيش فيهما، وإنما حياة واحدة هي هذه الحياة، لن تصفو له هذه الحياة، لن تصفو له أبداً، حتى وإن كان له إمكانيات، وحصل على وفرة من هذه الدنيا، وكان لديه أموال، ولديه ممتلكات، ولديه إمكانيات، فهو لن يسعد بذلك، لا بدَّ أن يكون معانياً، لا بدَّ أن تأتيه المعيشة الضنكا، وفق الوعيد الإلهي، وفق الوعيد الإلهي؛ لأن الله قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، تختلف هذه الحالة من شخصٍ إلى آخر.

البعض قد تكون حياته الضنكا، ومعيشته الضنكا، والضيق الذي يأتيه في حياته، حتى بأمواله، حتى بممتلكاته، حتى بسلطانه، حتى بموقعه الاجتماعي الذي راهن عليه، وكان بالنسبة له أهم شيء، قد يكون سبب عناءٍ له، ولا ينال الراحة النفسية التي يبتغيها، يمكن للإنسان أن يعذب حتى بالمال، ويمكن للإنسان أن يعذب حتى بموقعه في السلطة، أن يكون ذلك سبب اضطرابٍ وقلقٍ مستمرٍ بالنسبة له، وهمٍ دائم، وانشغالٍ نفسيٍ وذهنيٍ على نحوٍ غير طبيعي، ليس فيما يؤمل من ورائه الخير عند الله “سبحانه وتعالى”، والمستقبل الأبدي السعيد والمهم.

فلذلك لن تصفو له هذه الحياة؛ إنما يأتيه فيها ما يكدرها، وتأتيه فيها المنغصات الكثيرة، فينال أيضاً مع خيرها من شرها، ومن عسرها، ومن آلامها، ومن همومها، ومن منغصاتها الكثيرة، والذي هو في هذه الدنيا قد يجد نفسه أنه أكثر الناس ثروةً، أو أنه أكبر الناس سلطاناً وجاهاً، لا يمكنه أبداً أن يعيش ولو لفترة مؤقتة محدودة من حياته، بدون أن يعاني من الهموم، من الآلام، من الأمراض، من المشاكل، من القلق، من… العوامل الكثيرة التي تنغص عليه حياته هذه، فلن تصفو له هذه الحياة أبداً، وهذا أمرٌ واقعي، قائمٌ في حياة الناس، حتى على مستوى أغنيائهم، وملوكهم، وسلاطينهم، وأصحاب الثروة والجاه والمال فيهم، من يتجه في حياته كل اتجاهه ليستمتع بهذه الحياة، لتطيب له هذه الحياة، لن يحصل له ذلك، لكن إذا كان عند الإنسان توجه على أساس ما يصوره لنا القرآن الكريم، وما يقدمه الله لنا في القرآن الكريم، وما أخبرنا به، عن حياتين مترابطتين، استقامتك في هذه الحياة هي أساسٌ لاستقامة حياتك الأخرى الأبدية ومستقبلك الدائم، هنا سيكون هناك فارق كبير، سيتحقق لك في هذه الحياة ما قاله الله “سبحانه وتعالى”: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}.

على مستوى المكاسب المعنوية، الراحة والاطمئنان الكبير، وأنت تتحرك في حياتك هذه على نحوٍ هادفٍ، وبأهداف عظيمة جداً، ولك صلتك بالله “سبحانه وتعالى”، ترجوه “جلَّ شأنه”، وتعمل على أساس الحصول على مرضاته، وهذا له أهمية كبيرة على مستوى الرضا النفسي، والاطمئنان النفسي، والحياة الطيِّبة، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، ولا تعني الحياة الطيِّبة ألا تواجه في هذه الحياة مشاكل، أو هموم، أو أمراض معينة، أو صعوبات معينة، أو تحديات معينة، أو معاناة معينة، ولا يعني ذلك أنَّ هذه الحياة لم تعد ميدان مسؤولية، ودار ابتلاء، ودار عمل، لا، هذا كله لا بدَّ منه، لكن هناك فارق كبير جداً على المستوى النفسي، وعلى مستوى الواقع، واقع حياتك أنت، في الحالة التي لك فيها صلةٌ بالله سبحانه وتعالى، أنت مؤمنٌ به جلَّ شأنه، ترجوه، وتخافه، وتحبه، هذه الحياة لديك فيها هذه الصلة العظيمة، التي تزيح عنك أكثر الهموم، وتنال فيها رعاية الله سبحانه وتعالى، وفضله الواسع، الذي ينقذك ويقيك من أكثر الأشياء.

ثم أنت تشعر بقيمة ما تعمله، وأهمية ما تقدِّمه، ثم آمالك ممتدةٌ إلى مستقبلك الكبير في الآخرة، هذه مسألة مهمة جداً، ولهذا سمَّى الله هذه الحياة بالمتاع، بالمتاع، وأنها ليست إلَّا حياةً مؤقتة، هي جزءٌ من وجودك كإنسان، هذا الوجود الذي جزءٌ منه في هذه الحياة، وجزءٌ منه يستمر في مستقبلك الكبير في الآخرة.

الخطورة على الإنسان: عندما يؤثر هذه الحياة على تلك الحياة، ثم يغفل عن تلك الحياة، ولا يحسب حسابها، هنا الخطورة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: 16-17]؛ أمَّا عندما تحمل هذا الإيمان، وهذا اليقين، وهذا الوعي، فأنت ستحسب حساب هاتين الحياتين، وتحسب حساب هذا الارتباط بين هذه الحياة وهذه الحياة الأخرى، الحياة الثانية، الحياة الأبدية، ولذلك لا قلق عندك.

القلق الكبير عند من اتجهت كل آمالهم نحو هذه الحياة، هم يرونها حياةً قصيرة، فتتجه كل آمالهم نحوها، وعذاباتهم الكبيرة لما يفوت منها، وهمومهم الكبيرة عندما لا تصفوا لهم، وسعيهم الدؤوب الذي لن يصل بهم إلى نتيجة في كيف تستقر لهم هذه الحياة، ولذلك لن يصلوا إلى نتيجة؛ لأنها متاع، حياة مؤقتة ومحدودة، وما فيها هو قليلٌ يفنى ويزول وينتهي، لكن من يحسب حساب هاتين الحياتين، وأن وجوده المستقبلي هو وجودٌ مهمٌ جداً، وأنَّ الله خلقه في الأساس لكي يكون موجوداً للأبد، إنما الفناء في حقه حالةٌ عارضةٌ- كما قلنا- وفاصلٌ قصير، إذاً أصبحت نظرته ممتدة هناك إلى أفقٍ واسع، وفضاءٍ واسع، ورَحْبٍ واسع، لا يعيش هذا القلق والاضطراب نتيجة اتجاهه إلى فقط حياةٍ مؤقتة.

ثم يكون ما ينالك في هذه الحياة من أحوالها المختلفة، وهي- كما قلنا- حياةٌ ممزوجة بالعسر، واليسر، والسقم، والعافية، وحالة الفرح، وحالة الحزن، وحالاتٌ متفاوتة متنوعة، تتنقل فيها أنت، تكون بالنسبة لك درساً مهماً، فهي نماذج مصغَّرة جداً من أحوال تلك الحياة الأبدية؛ لأن ما في تلك الحياة الأبدية هو على أرقى مستوى، وعلى أشد مستوى في جانب الشر أيضاً، وللأبد.

عندما ينالك اليسر في هذه الحياة، عندما تشعر بالرضا، عندما تشعر بالسعادة، بالراحة، بالاطمئنان، فليذكِّرك هذا بالسعادة الأبدية، بالراحة الأبدية، التي هي على أرقى مستوى، ما يمكن أن تناله هنا في هذه الحياة من حالة فرح، أو سرور، أو اطمئنان، أو سعادة، أو ابتهاج، أو توفر لشيءٍ من آمالك ورغباتك، هو نموذج مصغَّر جداً جداً جداً فيما يقابله في عالم الآخرة، السرور هناك الذي هو سرورٌ، وفرحٌ، وابتهاجٌ، وراحةٌ، ورضا، واطمئنان على أرقى مستوى، لا يقارن أبداً فيما هنا من هذا النموذج اليسير الصغير المحدود جداً، فلتهتم، فلتسعى، فلتحرص، فلتعمل على أن تصل إلى ذلك الرضا، إلى ذلك السرور، إلى ذلك النعيم، إلى تلك الراحة، التي هي عظيمةٌ جداً، ولا نهاية لها، ولا يشوبها أي منغِّص، ولا يشوبها أي شيءٍ من هذه الحالات التي تأتي فتنغِّص عليك راحتك هنا في هذه الدنيا، فكِّر في هذه الحياة المستقبلية الدائمة، التي ستكون فيها فرحاً بلا انقطاع، مستبشراً، وراضياً، ومطمئناً، ومرتاحاً بدون أي منغصات، وعلى نحوٍ دائمٍ وأبدي، أليست جديرةً منك بالاهتمام؟ أليست جديرةً منك بالعمل؟

البعض- مثلاً- قد يعاني، قد يبذل جهداً، قد يكد، قد يتعب في مقابل أن يحصل على راحة في بعض الحالات، على متطلبات معينة قد يرتاح بها لبعض الوقت، عندما يصل إلى تلك الراحة، عندما تتوفر له تلك المتطلبات، تهون عنده كل المتاعب التي حصلت له في سبيل الحصول عليها؛ لأنه شعر بالرضا عندما وصل إلى تلك المتطلبات، أو تحققت له تلك الراحة، شعر بالرضا، ووجد أنها تستحق منه ذلك الجهد، وذلك العناء؛ لأنه في الدنيا لا نصل إلى راحة إلَّا بعناء، إلَّا بعمل، إلَّا بجهد، لا يصل الإنسان إلى متطلبات معينة من حياته إلَّا وقد سبق ذلك شيءٌ من الجهد، والعناء، والمتاعب، والصعوبات، ولكنه عندما يصل إلى تلك الراحة، قد يجد أنها تستحق منه ذلك العناء، وذلك الجهد، ففكِّر في تلك الراحة العظيمة جداً، ذلك النعيم العظيم جداً، الذي هو على أرقى مستوى، لا يماثله شيءٌ في هذه الدنيا، حتى فيما يمكن أن يكون قد وصل إليه أغنى الأغنياء من الناس، أكثر الناس مالاً وسلطاناً وتمكُّناً في هذه الدنيا، لا يمكن أن يصل إلى ما يصل إليه أقلُّ الناس نعيماً في الجنة، أقلُّ الناس وأدنى الناس فيما وصل إليه من نعيم الآخرة، هناك نعيم عظيم جداً، على مستوى راقٍ جداً.

كذلك فيما يتعلق بما تمر به في هذه الحياة من حالات عسر، أو ألم، أو وجع، أو عناء، أو ضيق، أو ضجر، أو همّ، كل هذه الحالات التي تعرض لك، كيف تترك أثرها على نفسك؟

الإنسان عندما يأتيه آلام شديدة جداً، كيف يشعر بالضيق، والتعب، والعناء الشديد، عندما يأتي له حزن من أمرٍ معين، فيستغرق في حالة الحزن تلك، ولم يعد يشعر بحالةٍ فرحٍ ولا ارتياحٍ، وأصبح يعاني نفسياً من تلك الحالة من الحزن الشديد، أو الضجر والغضب والضيق النفسي، الذي يجعله في بعض الحالات يتمنى الموت، الإنسان في بعض الحالات، كثيرٌ من الناس من شدة الضيق النفسي، من شدة العناء، من شدة الهم، من الكدر، من الضجر، قد يتمنى أن يموت، أو من الألم كذلك، البعض من شدة الألم قد يتمنى أن يموت، هذه الحالة عندما تعرِض لك، هي ليست إلَّا نموذجاً مصغَّراً جداً جداً جداً عما يمكن أن يحصل لك في الآخرة عند الهلاك والعياذ بالله، إذا كان مستقبل الإنسان إلى العذاب.

ما يأتيك هناك في عالم الآخرة من العذاب الجسدي، والأوجاع الشديدة جداً في كل جسمك، في كل مكانٍ من جسمك، ما يأتيك على المستوى النفسي من الضيق الشديد، من الضجر الشديد، من الهمِّ الشديد، من العناء الشديد، أمرٌ رهيبٌ جداً، لا يماثله أي شيء في هذه الدنيا، من أشد آلامها، ولا من أشد وأضيق حالات الضيق فيها، من الضجر، والهم، والغم، والحزن الشديد، كل هذا يجتمع على الإنسان في جهنم، يجتمع ويدوم، ويدوم، إلى حد أنه ولا مثقال ذرة من الراحة أو النعيم، ولا لحظة واحدة، ولا ثانية واحدة، ولا بمقدار ثانية واحدة يمكن أن تشعر فيها بالراحة، أو أن يفارقك فيها ذلك الهمّ، أو ذلك الضيق، أو ذلك الضجر، أو ذلك الحزن، أو ذلك العناء النفسي، عناء نفسي للأبد، متى تستفيد في استشعار هذا بشكلٍ أكثر؟ عندما تمر بهذه الحالات، عندما ترى تعبك من الضيق النفسي، أو الضجر، وترى أنه إذا استمر لك لساعات أحياناً، ضيق معين، ضجر معين، غم وهمّ معين، إذا استمر البعض من الناس إذا استمر لهم لفترات طويلة يصابون بالأمراض النفسية، أو يصابون بالجنون، أو تأتيهم أسقام ومعاناة كبيرة جداً، وأمراض شديدة جداً، فأنت في نفس الحالات؛ لأنك ستكون أكثر تذكُّراً، أكثر اعتباراً، أكثر استشعاراً لأهمية هذه المسألة، في الحال الذي تشعر فيه بحالة الهمّ، الضيق، الضجر، العناء النفسي، أو الحزن الشديد، الغضب، تلك الحالة تذكَّر فيها وأنت أقرب إلى أن تستشعر أهمية هذه المسألة، فترى خطورة أن تفرِّط، وأن تبتعد عن هدي الله سبحانه وتعالى، فتورط نفسك للذهاب إلى ذلك الهلاك، إلى ذلك الخسران، الخسران الرهيب جداً جداً، الذي ستعيش فيه الهمّ، والغم، والضجر، والضيق، والتعب، والألم للأبد، فلا تعيش لحظةً واحدة من الراحة النفسية والجسدية، ولا لحظة واحدة يمكن أن يخفف عنك ذلك العذاب النفسي والجسدي في الحياة الثانية، الحياة الأبدية، الحياة الأخرى.

فهذا التصور الذي يقدِّمه لنا القرآن الكريم، ونؤمن به بإيماننا بالحياة الآخرة، هو يساعد الإنسان على أن تستقيم حياته هنا في الدنيا؛ وبالتالي تستقيم في الآخرة، وإذا أصبح عنده اهتمام بمستقبله في الآخرة، يساعده ذلك على الاستقامة هنا في الدنيا، فنجد هذا الترابط، نجد هذا الترابط ما بين الحياتين، استقامة حياتك في الآخرة مرتبطٌ باستقامتك في الدنيا، واستقامة حياتك في الدنيا مرتبطٌ بإيمانك بالآخرة، وسعيك إلى أن تكون حياتك في الآخرة حياةً مستقيمة، وأن تكون إلى النعيم.

عالم الآخرة ليس عالماً مجهولاً حتى يخاف الإنسان بأنه سينتقل إلى عالمٍ مجهول، لا، هو عالمٌ تحدَّث الله عن تفاصيله في القرآن الكريم على نحوٍ واسعٍ جداً، وفي كثيرٍ من السور في القرآن الكريم، وفي كثيرٍ من الآيات، حديثٌ واسع عن هذا العالم الآتي، الذي سنعيش فيه الحياة الأبدية، وهو آتٍ وقريباً يعني، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}[الأنبياء: من الآية1]، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر: الآية1]، يأتي الحديث عن أنه قريب، الفاصل الذي بينك وبينه هو الموت، والموت بالنسبة لك هي لحظة أو نقلة سريعة، نقلة سريعة، إلى درجة أنه عندما تأتي إلى عالم الآخرة، فإنك تتوقع أنَّ هذه كانت مرحلة قصيرة جداً، {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}[يونس: من الآية45]، وجودك في هذه الحياة، أما وجودك ما بين مرحلة موتك أو مرحلة فنائك، التي هي نقلة ما بين هذا العالم، ثم بعده إلى عالم الآخرة، كذلك حالة ساعة، بمستوى ساعةٍ من الزمن، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، إلى هذا المستوى: كأنهم لم يلبثوا في تلك الفترة من موتهم إلى بعثهم إلَّا ساعة، وفي آية أخرى:{لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}[النازعات: الآية46] فترة قصيرة جداً، فترة قصيرة جداً.

فالقرآن الكريم يؤكِّد لنا حتى نكون على استعدادٍ تام، وحتى نبني مسيرة حياتنا هذه على أساس هذا التصور: تصورٌ لحياتين مترابطتين، هناك في القرآن الكريم من سوره العظيمة والمباركة والمهمة، ما يقدِّم تصوراً لهاتين الحياتين مع ربطٍ كبيرٍ بينهما، وتفاصيل مهمة وكثيرة عنهما، سورةٌ عظيمة هي سورة الرحمن، إن شاء الله في المحاضرة القادمة نتحدث على ضوء الآيات المباركة في سورة الرحمن، ونستفيد منها فيما يرسِّخ لدينا الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلقنا لحياتين، وعلينا أن نستقيم في هذه الحياة؛ لكي تستقيم حياتنا في الآخرة.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الجمعة، 16 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية 1442هـ الأولى للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

 المحاضرة الرمضانية الأولى لقائد الثورة السيد / عبدالملك بدر الدين الحوثي 

01 رمضان 1442هـ
13 أبريل 2021م

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نفتتح المحاضرات الرمضانية بالحديث ابتداءً عن الغاية العملية من الصيام، والتي يترتب عليها بقية النتائج المهمة، والمكاسب الكبيرة التي وعد الله بها على الصيام، سواءً فيما هو عاجلٌ في الدنيا، أو آجلٌ في الآخرة.
الله "سبحانه وتعالى" قال في كتابه الكريم، وهو يحدِّثنا عن هذه الفريضة العظيمة والمهمة: فريضة صيام شهر رمضان، قال "جلَّ شأنه": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: الآية183]، هذه الآية المباركة التي تضمَّنت الأمر من الله "سبحانه وتعالى" بصيام شهر رمضان، وباعتباره فريضةً إلزاميةً، لولم يلتزم الإنسان بصيامها من دون عذرٍ شرعيٍ؛ فإنه يعتبر عاصياً، ومخلاً بركنٍ من أركان الإسلام، ومرتكباً لذنبٍ من كبائر الذنوب والمعاصي والعياذ بالله.
هذه الفريضة العظيمة، المهمة، الإلزامية، لها غايةٌ عمليةٌ، تتعلق بك أنت كإنسان، على مستوى الفرد كفرد، أو على مستوى المجتمع، والإنسان عادةً هو في إطار مجتمع في كل شؤون حياته، فالله "سبحانه وتعالى" عندما قال في هذه الآية المباركة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، هو يخبرنا بأنَّ لهذا الصيام غايةً عمليةً، تتعلق بما هو ذو أهميةٍ كبيرةٍ جداً بالنسبة لنا نحن؛ لأن الله "سبحانه وتعالى" هو الغني عنا، وعن أعمالنا، وعن طاعاتنا، لكنه يرشدنا ويأمرنا إلى ما هو خيرٌ لنا، وبما فيه خيرٌ لنا وصلاحٌ لنا، فيما يتحقق لنا به من النتائج الإيجابية والجيدة، فيما نحقق من خلاله لأنفسنا من الخير العظيم، وفيما ندفع عن أنفسنا من خلاله ومن خلال الالتزام به الشرور الكبيرة.
عندما قال الله "سبحانه وتعالى": {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، هو يبين لنا أنَّ الصيام يعتبر وسيلةً عمليةً تساعدنا على تحقيق التقوى، والتقوى مسألة مهمة بالنسبة للإنسان، الإنسان هو مفطورٌ (في فطرته) مفطورٌ بالمحبة لما يقي نفسه، ولكل ما يمكن أن يكون وقايةً له من الشرور، من العذاب، من الخزي، من الشقاء، من الهوان، من كل النتائج السليبة التي يمكن أن تحدث عليه، في حياته هنا في هذه الدنيا، وفي مستقبله الأبدي في الآخرة.
فالله "سبحانه وتعالى" يوضِّح لنا في هذه الآية المباركة، ويبين لنا، أنَّ الصيام هو وسيلة عملية لتحقيق هذه الغاية العملية، التي هي منسجمة مع فطرة الإنسان، ذات أهمية كبيرة بالنسبة للإنسان (كفردٍ، وكمجتمع)، الإنسان في أمسِّ الحاجة، وهو في العادة يعطي أهميةً كبيرة لما يدفع عنه أي شر، أو أي خطر، أو أي ضر، أو أي مصائب، أو أي عواقب سيئة جداً، تؤثر على شؤون حياته، في أي جانبٍ من جوانب حياته، وكثيراً ما يتجه الإنسان لأعمال كثيرة، أو اهتمامات كثيرة، يرى فيها أنها تحقق له هذا الهدف، فإذا عرف عن شيءٍ معين، أو ظن وتوقع في شيءٍ معين، أنه يقي عنه خطراً معيناً، أو شراً معيناً، أو سوءاً معيناً، أو ضرراً معيناً، فإنه يحرص على أن يهتم بذلك الذي ظن فيه وقايةً له، ودفعاً لشرٍ، أو خطرٍ، أو سوءٍ، أو فقرٍ، أو ضنكٍ، أو شقاءٍ، عنه، يلحظ الاهتمام بذلك، هذه هي فطرته، هذه هي فطرته، وواقع حياته يشهد بذلك؛ إنما مشكلة الإنسان أنه يخطئ في كثيرٍ من الأمور: يرى فيها خيراً لنفسه، ويرى فيها أنها تقيه من أشياء كثيرة، أو شرور كثيرة، أو شقاء، فيتجه إليها، وقد يكون الكثير منها سبباً لشقائه، أو سبباً لهلاكه، أو سبباً لجلب الشر إليه.
ولذلك عندما نلحظ في واقعنا كأمةٍ مسلمة تنتمي للإيمان، فإنها من خلال إيمانها لها هذه الصلة بالله "سبحانه وتعالى"، صلة عظيمة جداً، تحظى من خلالها برعايةٍ من الله، رعاية في جانبٍ مهمٍ من شؤون الحياة: هو جانب الهداية من الله "سبحانه وتعالى"، أن تأتينا التعليمات من ربنا العظيم "سبحانه وتعالى"، التي يبين لنا ما يشكِّل خطورةً علينا، وما يشكِّل وقايةً لنا بالفعل.
وإذا تأملنا في: ما هي علاقة الصيام بالتقوى، وبما يقينا من كلما نحن مفطورون على الحرص بأن نقي أنفسنا منه، من الشقاء، والعذاب، والهوان، والخزي، فالمسألة تتضح لنا عندما نعرف مصدر الخطر علينا، أين هو مصدر الخطر علينا؟

في البداية علينا أن نتذكر أنَّ الله "سبحانه وتعالى" أنعم علينا كبشر بوجودنا في هذه الحياة، فوجود الإنسان منذ بدايته هو برحمةٍ من الله، وبفضلٍ من الله، وبنعمةٍ من الله "سبحانه وتعالى"، وهيَّأ الله لنا في وجودنا في هذه الحياة كل أسباب ولوازم الخير والاستقرار والاستقامة لحياتنا، هيَّأ لنا ما يكفل لنا الحياة الطيبة، وما يمكن من خلال ذلك أن نضمن لأنفسنا وأن نحقق لأنفسنا- بهداية الله، برحمته، بتوفيقه "جلَّ شأنه"- السعادة الأبدية في الآخرة أيضاً؛ لأن الإنسان هو مخلوقٌ لحياتين: للحياة الأولى، وللآخرة، وما الموت إلَّا فاصلٌ قصيرٌ ما بين الحياتين، وكلا هاتين الحياتين مترابطتان أو مترابطتين، هناك ارتباط كبير ما بين هذه الحياة الأولى بالنسبة للإنسان، والحياة الآخرة، فاستقامة الإنسان في هذه الحياة، هي لصلاح حياته الأولى، وهي أيضاً لصلاح حياته الآخرة، يمتد ذلك إلى صلاح حياته الآخرة الأبدية.
فالله "سبحانه وتعالى" أنعم علينا في هذه الحياة ابتداءً من خلقنا، هو "جلَّ شأنه" خلقنا، وأحيانا، ووهبنا هذا الوجود، وعندما خلقنا فهو خلقنا كما قال "جلَّ شأنه": {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين: الآية4]، حتى في خَلقِنا، خَلَقَنا كبشر في أحسن تقويم، هذه نعمة وتكريمٌ في نفس الوقت، فالله "سبحانه وتعالى" أحاطنا برعايته، بنعمته، بفضله، وأيضاً بتكريمه.
هو "جلَّ شأنه" ذكَّرنا بعظيم نعمه علينا في كتابه الكريم، عندما قال "جلَّ شأنه": {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}[البقرة: من الآية28]، يعني: هو الذي وهبنا هذه الحياة، هو الذي أحيانا وخلقنا، {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة: 28-29]، نعمه علينا واسعة وعظيمة، كلما في هذه الأرض هو مسخَّرٌ لمصلحة الإنسان، ولحياة الإنسان، وله أثر إيجابي في حياة الإنسان، وعلاقة باحتياجاته المتنوعة والواسعة والمتعددة.
فالله "سبحانه وتعالى" هو ولي كلِّ هذه النعم، هو الذي أنعم بها علينا، هو "جلَّ شأنه" قال في كتابه الكريم: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[لقمان: من الآية20]، نعم كثيرة جداً، ونعم واسعة جداً، ونعم تدخل في كل شؤون حياة الإنسان واحتياجاته المتنوعة، هو "جلَّ شأنه" قال في كتابه الكريم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[إبراهيم: من الآية34]، نعم الله واسعة جداً وكثيرة، إلى درجة أنه لا يمكن عدها ولا حصرها، إذا أتيت لتعمل عملية حصر لنعم الله؛ فلن تستطيع أن تحصيها، وأن تحصيها بأرقام معينة؛ لأنها واسعة جداً جداً جداً، فوق الحصر، وفوق إمكانية الإحصاء؛ لكثرتها وتنوعها، وهي واسعةٌ جداً جداً في كل محيط الإنسان على الأرض، وفي السماوات، وهي على نحوٍ عجيبٍ جداً، وفيها- بكلها- تكريمٌ لهذا الإنسان، ولهذا قال الله "سبحانه وتعالى": {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: الآية70]، مع كونها نعمة على الإنسان، هي نعمة بتكريم، بتكريم لهذا الإنسان، حتى عندما قال "جلَّ شأنه": {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، أن يهيئ الله للإنسان الوسائل التي يستخدمها لتنقلاته براً وبحراً، وفي المراحل هذه من الحياة جواً أيضاً، كلها جزءٌ من التكريم، نعم وتكريم للإنسان، وتكريمٌ في خلقه، وفي النعم عليه، وفي رزقه، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، رزق الله البشر من طيِّبات الرزق، ما خلقه لهم من رزق، هو كله في إطار الرزق الحلال من الطيبات، من الطيبات، كله طيبٌ في شكله، في مذاقه، في لونه، في أثره في حياة الإنسان، فيما يغطيه من احتياج لهذا الإنسان، على نحوٍ طيبٍ وراقٍ وعظيمٍ وسامٍ، وفيه كله تكريمٌ ورحمةٌ ونعمة.
ثم يقول: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، فضَّلهم في النعم، فضَّلهم في الدور، في طبيعة دورهم في هذه الحياة، دور أساسي واستخلاف على الأرض، وفضَّلهم برعايته الواسعة، بهديه العظيم، فضَّلهم بما هيَّأ لهم أيضاً من الارتقاء في الكمال الإنساني، والكمال الإيماني، وعظيم المنزلة عند الله، تفضيل واسع على كثيرٍ ممن خلق من مخلوقاته الكثيرة جداً.
هكذا هو واقع الإنسان، وهكذا منذ بداية خلقه وإلى الآن يعيش في نعم الله "سبحانه وتعالى" في جوٍ من الرحمة والنعمة والتكريم، فالله "سبحانه وتعالى" هو مصدر الخير، والرحمة، والفضل، والتكريم، والإنسان هو عبدٌ لله "سبحانه وتعالى"، هو مخلوقٌ من مخلوقاته الكثيرة، وهو يعيش في عالم الله "سبحانه وتعالى"، في مملكته الكونية الكبرى، وهو لا يخرج عن إطار سلطان الله "سبحانه وتعالى" وملكوته؛

ولذلك وجوده في هذه الحياة بكل ما فيه من نعمةٍ ورحمة، وبكل ما يتعلق به من دورٍ ومسؤولية؛ لأن وجوده في إطار رحمة، ونعمة، وتكريم، وفي نفس الوقت يرتبط به دورٌ معين، ومسؤولية معينة في هذه الحياة، هو مستخلف في هذه الأرض، الله استخلف الأياالبشر في هذه الأرض، واستخلافهم يتعلق به مسؤولية واسعة، ومسؤولية مهمة، ومسؤولية كبيرة، ويفتقر دائماً في إطار هذه المسؤولية التي هو فيها، وفي إطار مسيرة حياته في هذه الأرض، وفي النعم التي هو فيها، يفتقر دائماً إلى توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، وإلى تعليماته، ومنذ الوجود البشري وإلى اليوم أتى أيضاً جانبٌ آخر يرتبط بحياة الإنسان بشكلٍ أو بآخر.
هذا الإنسان في وجوده في الأرض، في إطار هذه المسؤولية الكبيرة، في إطار هذا التكريم الإلهي الكبير، في إطار هذه الرحمة الواسعة، والنعم السابغة، له عدوٌ (عدوٌ مبين)، يتواجد معه على كوكب الأرض، ويتجه بشكلٍ عدائيٍ جداً لاستهداف هذا الإنسان، لاستهداف هذا الإنسان، ولكن طريقته في الاستهداف لهذا الإنسان، هي طريقة تختلف عن طبيعة الصراع البشري (فيما بين البشر أنفسهم مثلاً)، الشيطان هو ذلك العدو المبين للإنسان، والشيطان يعتمد في عدائه لهذا الإنسان بشكلٍ أساسي على مدخل خطير من خلال الإنسان نفسه، وهي الرغبات، هذا المدخل يتمثل في الرغبات لدى هذا الإنسان، فيما تهواه نفسه، في شهواته ورغباته، ويحاول دائماً أن يقدِّم للإنسان فكرة خاطئة، وتصوراً غير صحيح، لكنه يلامس هذه الرغبة، يلامس رغبات هذا الإنسان، فيدفع بالإنسان من خلال ذلك إلى العصيان لله "سبحانه وتعالى"، إلى الانحراف عن تعليمات الله وتوجيهاته، التي لا يمكن للإنسان أن يتحقق له الخير إلَّا بالالتزام بها، والإتِّباع لها، والتمسك بها.
انحراف الإنسان عن تعليمات الله، عن هديه، يسبب له الشقاء، ويسبب له العذاب، ويسبب له الخزي، ويوقع به في الشر، فمصدر الخطر على الإنسان: هو انحرافه عن تعليمات الله وتوجيهاته؛ لأن الله "سبحانه وتعالى" عندما خلق الإنسان أنعم عليه بهذه النعم العظيمة، استخلفه في هذه الأرض، جعل له دوراً ومسؤوليةً معينة، وأتى بشكلٍ مستمر بتعليمات، وهداية، وتوجيهات، يلتزم بها الإنسان في إطار مسؤوليته هذه، في إطار دوره كمستخلفٍ في الأرض، يلتزم بتلك التعليمات، ويهتدي بذلك الهدى الذي يرشده إلى كيف يتعامل بشكلٍ صحيح في واقع حياته، كيف يتحرك بشكلٍ صحيح في مسيرة حياته، كيف يعمل في إطار هذا الدور وهذه المسؤولية، وفيما استخلفه الله فيه، كيف يتصرف، كيف يعمل، وهدى الله "سبحانه وتعالى" وتعليماته هي التي تضمن للإنسان الحياة الطيِّبة، وتستقيم بها حياته في الدنيا، وتضمن له وتكفل له الحياة السعيدة الأبدية في الآخرة.
ولذلك الشيطان- العدو المبين للإنسان- هو يدخل على الإنسان من خلال: رغباته، وأهوائه، وشهواته، فيحاول أن يضله: بأن يقدِّم له آمالاً خادعة، أن يستغل فيه الرغبات والشهوات لآمال وأماني مخادعة وكاذبة، وفي كثيرٍ من الأحوال وهمية، لا يمكن أن يصل إليها الإنسان، والبعض منها إذا وصل إليه الإنسان فهو على حساب ما هو أهم، ما يحقق له السعادة الحقيقية، ما يحقق له الحياة الطيِّبة، فتكون خسارته كبيرة.
فالله "سبحانه وتعالى" يبيِّن لنا، أننا في هذه الحياة، بمثل ما أحاطنا بنعمه، وبرعايته، وبتكريمه، وبرحمته، في موقع المسؤولية تجاه تصرفاتنا وأعمالنا، وأننا نحتاج إلى هدايةٍ منه، إلى كيف نعمل، وكيف نتصرف، كيف نؤدِّي مسؤولياتنا في هذه الحياة بشكلٍ صحيح، كيف نتصرف بشكلٍ صحيح، كيف نعمل بشكلٍ صحيح، فيما استخلفنا الله فيه، وإلَّا إذا انحرفنا عن ذلك؛ وقعنا فيما هو شر، فيما هو خطر، واستغل عدونا الشيطان ذلك، فأوقعنا فيما فيه هلاكنا، فيما فيه شقاؤنا، فيما فيه خسارتنا، فيما له التبعات والنتائج السيئة والسلبية علينا في شؤون حياتنا.
إضافةً إلى ذلك: أنَّ هناك الجزاء، هناك الجزاء، عندما ننحرف عن منهج الله، عن تعليماته، عن هديه، نحن ننحرف عما هو خيرٌ لنا، في نفس الوقت نوقع أنفسنا في المعصية، التي يترتب عليها- بشكلٍ حتمي- الجزاء والعقوبة، ما لم نتب ونرجع فوراً إلى الله "سبحانه وتعالى".
ولذلك ولأن أعمال الإنسان لها نتائج وآثار في واقع هذه الحياة تعود عليه هو، يقول الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: الآية41]، فما نعمله له نتائج: إما نتائج جيدة تعود لصالحنا، إن كان عملاً صالحاً، وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى" وتعليماته، وإما نتائج سيئة وخطرة، تعود علينا (على واقعنا)، هذا يأتي بالنسبة للإنسان كشخص في إطار حركته في الحياة، وكمجتمع، وكأمة في إطار تحركها الجماعي، مواقفها الجماعية، أعمالها الجماعية، مسؤولياتها الجماعية، إذا أخلت بها.
فهكذا نجد العلاقة ما بين الصيام والتقوى، لماذا؟ لأن الصيام هو وسيلة مساعدة لنا للسيطرة أولاً على أهوائنا، على رغباتنا، وضبط غرائزنا، التي يدخل الشيطان من خلالها لإثارتها فينا بما يستدرجنا به إلى الانحراف، إلى العصيان، هذه السيطرة على الرغبات والشهوات تساعدنا في مسألة الالتزام والانضباط بتوجيهات الله "سبحانه وتعالى"، وفق تعليمات الله "جلَّ شأنه"، هذه مسألة مهمة جداً، ونكتسب من خلال ذلك قوة العزم، قوة الإرادة، فنحن نحتاج إلى قوة العزم، إلى قوة الإرادة، إلى هذه السيطرة على الشهوات، على الرغبات، مقترنةً بتعليمات الله وتوجيهاته وهديه، ومن خلال ذلك نقي أنفسنا، نقي أنفسنا من الشرور، من العذاب، من الشقاء، الذي يسعى عدونا الشيطان لإيقاعنا فيه، من خلال استغلال رغباتنا وشهواتنا، ومن خلال تضليلنا بتقديم آمال وأماني مخادعة، وتضليلنا من خلال تصورات باطلة، يتخيل للإنسان أنه من خلالها يحقق لنفسه الحياة الطيبة والسعيدة، فهنا نحد العلاقة ما بين الصيام وما بين تحقيق التقوى.
في القرآن الكريم قصة مهمة جداً، هي قصة أبينا آدم "عليه السلام"، وهي تلخِّص لنا الأهمية الكبيرة لأن نمتلك العزم وقوة الإرادة، وأن نستحضر دائماً التعليمات الإلهية، والتوجيهات الإلهية، وأن نلتزم بها، وخطورة التفريط في ذلك، كيف يشكل ثغرةً خطيرةً ينفذ من خلالها الشيطان؛ للإضلال لنا، والإيقاع بنا فيما يسبب لنا الشقاء.
يقول الله "جلَّ شأنه" في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: الآية115]، الله يخبرنا في هذه الآية المباركة أنه عهد إلى آدم، أخبره مسبقاً بما يحقق له الخير، والسعادة، والحياة الطيبة، وما يشكل خطورةً عليه، فيمكن أن يخرجه من تلك النعمة، ومن تلك الحياة الطيبة، وما عليه أن يلتزم به، وما عليه أن يحذر منه، وهذا هو هدى الله، هذا هو هدى الله، يخبرنا الله "سبحانه وتعالى" في هديه بما يحقق لنا الحياة الطيبة، ويبين لنا ما يشكل شراً وخطورةً علينا، وما فيه الخير لنا.
المشكلة لدى أبينا آدم "عليه السلام"، كما ذكرها الله "سبحانه وتعالى"، هي تتلخص في قوله "جلَّ شأنه": {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: من الآية115]، النسيان، لم يستحضر تلك التعليمات من الله "سبحانه وتعالى"، ذلك العهد الإلهي، الذي أكد الله عليه فيه، وبين له فيه، ما يمثل خيراً له، وما يشكل شراً وخطراً عليه.
{فَنَسِيَ} حالة النسيان، حالة الغفلة، قد تكون أحياناً عاملاً يساعد الشيطان على الإيقاع بالإنسان، أنه حتى فيما قد عرف، فيما قد وصل إليه من بيانٍ من الله "سبحانه وتعالى"، كذلك من هديٍ واضحٍ مؤكدٍ، وتعليمات واضحة ومؤكدة من الله، لكنه ينسى ذلك، يغفل عنه، تمتلئ ذهنيته، وتتجه به رغباته، إلى شيءٍ آخر.
{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}: فقد العزم، وقوة الإرادة والسيطرة، والاهتمام اللازم، فأصبح في حالة فقد فيها قوة العزم والإرادة، أصبح ضعيفاً، يسهل الإيقاع به.
ثم تأتي التفاصيل لتبين ذلك، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه: 116-117]، ولاحظوا أن الله "سبحانه وتعالى" كرَّم آدم "عليه السلام"، كرمه، وهي تكرمه للإنسان بشكلٍ عام، من خلال أمر الملائكة بالسجود لآدم.
{فَسَجَدُوا}: الملائكة سجدوا تكريماً لهذا الإنسان، لهذا المخلوق.
{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}: إبليس امتنع أشد الامتناع من السجود، وعصى أمر الله "سبحانه وتعالى" بدافع الكبر، وامتلئ عداءً شديداً لآدم، وللإنسان، وللبشرية بشكلٍ عام.
الله "سبحانه وتعالى" وضح لآدم وبين له ما يشكله الشيطان من خطورة عليه، وعلى حياته الطيبة، على سعادته، وبين له ما يهدف إليه الشيطان، {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}، الشيطان عدوٌ مبينٌ لآدم "عليه السلام"، ولزوجه حواء، في نفس الوقت هو عدوٌ للإنسان بشكلٍ عام، للمجتمع البشري، لبني آدم، وهو يسعى إلى الإيقاع بالإنسان في الشقاء، يريد أن يشقى هذا الإنسان.
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}، في تلك الجنة التي أسكنه الله فيها، ليبدأ دوره في الاستخلاف في الأرض، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}[طه: 118-119]، يعني: تتوفر لك كل متطلبات حياتك الأساسية: المواد الغذائية المتنوعة اللازمة؛ فلا تجوع، والملابس والكسوة الكافية؛ فلا تعرى، والماء والمشروبات التي تقيك من الظمأ، والرفاهية في الحياة التي تقيك من العناء الشديد في الكد وطلب المعيشة، {وَلَا تَضْحَى}، لا تحتاج إلى أن تتعب نفسك كثيراً في مشقة الشمس والكد والعناء.
الشيطان لا يريد أن يستقر آدم في حياة فيها هذا الاستقرار، فيها هذه المتطلبات المتوفرة، والاحتياجات المتوفرة له، التي تؤمن له رفاهيةً في حياته، فماذا عمل؟
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ}، الشيطان يستخدم أسلوب الوسوسة؛ للإيقاع بالإنسان، مع أن الله ما يقدمه إلينا هو الهدى الواضح المؤكد البين، لاحظوا في مقابل {وَلَقَدْ عَهِدْنَا}؛ لأن (عَهِدْنَا) فيها توضيح مؤكد، وتبيين لا لبس فيه، وبطريقة واضحة جداً، وبطريقة كافية لدى الإنسان في أن تكون المسألة له في غاية الوضوح.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ}، الشيطان يستخدم أسلوب الوسوسة للإنسان، {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}[طه: الآية120]، لاحظوا، الشيطان حاول أن يوقع بآدم "عليه السلام" وزوجه حواء في المعصية، من خلال ماذا؟ المدخل كان هو الرغبة، وهذه الرغبة تلخصت في قوله، عندما قال: {عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، أتى بطموح كبير لآدم "عليه السلام"، قال: هذه الشجرة إذا أكلت منها تخلد، يعني: تبقى حياً ولا تموت، تبقى حياً للأبد، وتقيك من الموت نهائياً، لا تموت، إضافةً إلى ملكٍ متجددٍ دائمٍ، {وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} تتوفر لك فيه كل متطلبات حياتك، ولكن كملك، وليس فقط كمواطن عادي، كملك، {وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}.
{فَأَكَلَا مِنْهَا}، وهي تلك الشجرة التي كانت فقط محرمةً عليهم بين بقية ما قد أحله الله لهم في تلك الجنة، أحل الله لهم رغداً واسعاً، وعيشاً هنيئاً، وأحل كلما في الجنة لهم، شجرة واحدة فقط استثنيت، هذا هو الاختبار، هنا تقع المسؤولية على الإنسان في ضبط تصرفاته فيما استخلفه الله فيه، فيما هو حلال، وفيما هو حرام، وفيما علينا أن نعمل، وفيما علينا أن نترك، ولاحظوا يعني، هناك سعة، سعة كبيرة في الحلال، سعة كبيرة فيما هو خيرٌ للإنسان، تغنيه عمَّا هو محرمٌ عليه.
{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا}[طه: 121-123]، فنلاحظ أن إبليس استخدم في إغوائه لأبينا آدم "عليه السلام" جانب الإضلال، يعني: قدم فكرة خاطئة، فكرة غير صحيحة أبداً عن تلك الشجرة، لقد قدم فكرة عن تلك الشجرة أن من أكل منها يخلد، يعني: يبقى حياً، فلا يموت، ويحظى بملكٍ لا يبلى، وهي فكرة لا أساس لها من الصحة، ولكنها تلامس رغبةً لدى الإنسان، لامست رغبةً لدى أبينا آدم، قابلها ماذا؟ قابلها نسيان وغفلة لتلك التعليمات من الله "سبحانه وتعالى"، وحتى غفلة عن ذلك التحذير من الشيطان نفسه، أنه عدو، لا ينبغي أن تصدق وساوسه، وأن يقبل منه الإنسان ما يقدمه؛ إنما هو تضليل، فلا يقبله منه.
فقابل هذا التضليل والإغراء والإغواء من إبليس، حالة من النسيان وانعدام العزم: السيطرة على الإرادة، الضبط للغرائز، السيطرة على الشهوات والرغبات، وهذه الحالة ساعدة على الوقوع في المعصية، والنتيجة ما كانت؟ النتيجة كانت هي الشقاء، هي الشقاء، خسر آدم كل تلك الحياة المرفهة، والحياة الطيبة في تلك الجنة، وخرج منها حتى بدون الملابس، لم يبق له حتى الملابس، أخذت عنه حتى ملابسه، وبدأ مشواره بعناء وكد، والله أراد له أن يبدأ مشواره بطريقة مريحة، مشواره في الاستخلاف على الأرض؛ لأنه خلق للاستخلاف على الأرض أصلاً.
وجود البشر على الأرض ليس عقوبة، لم يكونوا في جنة المأوى، في جنة الآخرة، ثم أخرجوا إلى الدنيا وإلى الأرض عقوبة، لا، وجود الإنسان على الأرض هو نعمة، هو تكريم، هو لدورٍ مهمٍ ودورٍ عظيم، هو في إطار حياةٍ أنعم الله فيها عليهم غاية النعم، نعم لا تحصى ولا تعد، ولكن الله أراد لأبينا آدم "عليه السلام" أن يبتدئ مشواره في الاستخلاف على الأرض في إطار حياةٍ مريحةٍ، وليس في إطار عناء من أول لحظة، لم يرد له أن يخلق، ثم يأخذ بالمعول ويبدأ يحرث، ويشتغل، ويتعب، من بعدما ينفخ فيه الروح، كد من أول لحظة، لا، أراد له أن يستقر في تلك الجنة، وهي جنة يستقر فيها، ويبدأ استقراره فيها حتى يأتي له ذرية، ثم يبدأ انتشاره في بقية الأرض، من واقع حياةٍ مريحة، ويبدأ بفترة مريحة، لا يبدأ من بعدما ينفخ فيه الروح، يذهب إلى الكد الشديد والعناء الكبير في هذه الحياة، لكنه خسر تلك الحياة المريحة، بفعل الإغواء من جانب إبليس، وإبليس استخدم ماذا؟ حالة الرغبات والتضليل.
إذاً نحن نحتاج إلى هداية من الله، تعليمات من الله "سبحانه وتعالى"، نستحضرها، ونحذر أن نغفل عنها، في كل مقام من مقامات الحياة، في كل مجال من مجالات الحياة، في كل ظرف من ظروف الحياة، أمام كل تحديات من تحديات الحياة، في مسيرة الحياة في كل مجالاتها، نحتاج إلى هذه التعليمات من الله "سبحانه وتعالى"، وأن نلتزم بها، وأن نستحضرها، وأن نذكر أنفسنا بها، ونحتاج إلى قوة العزم، إلى قوة الإرادة، للالتزام بها، وإلى ضبط غرائزنا وشهواتنا.
ولهذا في شهر رمضان المبارك، بصيامه، الصيام يحقق هذه النتيجة العملية، إذا ركزنا على الاستفادة من الصيام لتحقيقها، وهي: قوة الإرادة، والصبر، والتحمل، وضبط الغرائز، ونحتاج إلى هدى الله "سبحانه وتعالى"، وشهر رمضان كما قال الله عنه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية185]، فالقرآن الكريم هو هدى الله "سبحانه وتعالى"، بما فيه من الهداية الواسعة، والتعليمات المهمة، مع امتلاك هذه الإرادة، والعزم، والصبر، من خلال ذلك كله نستطيع أن نعيش في هذه الحياة بحياةٍ طيبة، بحياةٍ مستقرة، أن نقي أنفسنا من الكثير من الشرور، من العذاب في الدنيا، ومع ذلك العذاب في الآخرة، عذاب الله الأكبر في الحياة الأبدية الدائمة، التي هي ذات أهمية كبيرة جداً.
الإنسان كلما استوعب وأدرك، وآمن وأيقن، أن للمخالفات لتوجيهات الله، نتائج سيئة جداً عليه في حياته في الدنيا، وفي مستقبله في الأبدي في الآخرة، كلما وعى ذلك جيداً، وأيقن به واستحضره، وتذكره أنه يشكِّل ثغرةً للشيطان عليه؛ كلما ساعده ذلك على الاهتمام والالتزام بجديةٍ كبيرة، وبذلك يحقق لنفسه الوقاية من عذاب الله، الوقاية من الشقاء، الوقاية من الخسران المبين الرهيب.
نكتفي بهذا المقدار في محاضرة اليوم.
ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نص المحاضرة الرمضانية 1442هـ للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

نص المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1442هـ 

ُـعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة الأعزاء

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ؛؛

في سياق الحديث عن العلاقة مع القرآن الكريم، وعن الصلة ما بين شهر رمضان المبارك والتقوى والقرآن الكريم، تحدَّثنا بالأمس بعضاً من الحديث، واليوم نستكمل، ولو أنَّ الحديث عن القرآن الكريم هو حديثٌ واسعٌ جداً، ويمكن أن يستغرق الكثير والكثير من المحاضرات والدروس، والإنسان عندما يقرأ في القرآن نفسه، هو يقرأ الكثير من آيات الله، التي تتحدث عن أهمية القرآن، وعن عظمة القرآن، وعن العلاقة مع القرآن الكريم.

مشكلتنا إلى حدٍ كبير كأمةٍ مسلمة في العالم الإسلامي بشكلٍ عام: أننا لا نستوعب بالقدر الكافي أهمية القرآن الكريم وعظمته، وكذلك لا نستوعب طبيعة العلاقة معه، كيف ينبغي أن تكون، ومشكلة العرب في المقدمة: أنهم لم يدركوا ولم يستوعبوا أهمية القرآن، وعظمة القرآن، والحاجة إلى القرآن، ونعمة الله الكبرى على عباده بالقرآن الكريم.

ولذلك الله “سبحانه وتعالى” أخبرنا في القرآن الكريم عن نبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” في شكواه عندما قال: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[الفرقان: الآية30]، إلى هذه الدرجة: حالة هجرٍ للقرآن، واتخاذه كمهجور، يعني: أكثر من مجرد الهجر، بل اتخاذه كمهجور، وكأنه مما ينبغي الإعراض عنه، ومما يفترض ألَّا يلتفت الإنسان إليه، وألَّا يهتم به، يتخذه مهجورا، فهو يعتبره قليل الأهمية، قليل الفائدة، أو حتى عديم الأهمية، وهذه حالة خطيرة جداً، أفقدت الكثير من الناس الاستفادة من هذه النعمة الكبرى، التي يتوقف على الاهتداء بها: النجاة، والفوز، والفلاح.

الله “سبحانه وتعالى” قال أيضاً مذكِّراً في القرآن الكريم: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء: الآية10]، القرآن فيه الذكر، ما يذكِّرنا بهدايةٍ كاملة إلى كل ما فيه الخير، والفلاح، والنجاة، والفوز، والعزة، والكرامة، والسعادة، والخير للناس في الدنيا والآخرة، وفيه الشرف الكبير أيضاً، الشرف الكبير لمن يهتدي به، تسمو به نفسه، يتحقق له به السمو، والمجد، والخير، والعزة، والكرامة، والشأن الرفيع في الدنيا وفي الآخرة.

ولذلك تعتبر خسارة كبيرة جداً عندما لا يهتدي الناس به، لا يعرفون عظمته، وقدره، وقيمته، فيعرضون عنه، ويبحثون- في أكثر الأمور- عن بدائل، سواءً- كما قلنا بالأمس- من خارج الساحة الإسلامية، أو من داخل الساحة الإسلامية، إنتاج بدائل، بدائل من الضلال، من الضياع، بدائل ليس لها أهمية كبيرة، بدائل لا يمكن أن تساوي القرآن الكريم في أشياء كثيرة.

عندما ندرك أهمية القرآن الكريم، ونعي كيف يجب أن تكون علاقتنا به من خلال هذا المفتاح المهم: استشعار عظمته، أهميته، قيمته، فائدته، ما يترتب على الاهتداء به، والتمسك به، والإتِّباع له، وأنَّ علينا أن نُقْبِل إلى تلاوته، إلى التدبر لآياته، إلى التثقف بثقافته، إلى أن نستبصر ببصائره، إلى أن نحمله وعياً، ومعرفةً، وفهماً، ومفاهيم نتحرك على أساسها في كل شؤون ومجالات هذه الحياة، هذه مسألة مهمة جداً.

 

الله “سبحانه وتعالى” قال في كتابه الكريم: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: الآية24]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، من الخطأ الكبير أن تكون علاقة الإنسان بالقرآن- في الحد الأقصى- علاقة تلاوة عادية، قراءة عادية، ومن دون تأمل، من دون تدبر، من دون استفادةٍ من هديه العظيم، هذه حالة خطيرة جداً.

الله “سبحانه وتعالى” أيضاً قال في آيةٍ أخرى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]، فنحن معنيون أن تكون علاقتنا بالقرآن الكريم علاقة تأمل، وتدبر، واهتداء، واستبصار، واستيعاب لما فيه من المفاهيم، لما فيه من النور، لما فيه من الإرشاد، لما يدُّلنا الله عليه في كل مجالات هذه الحياة ومختلف شؤونها، هذا هو المطلوب، لا أن تكون العلاقة- في الحد الأقصى- مجرد تلاوة، قراءة عادية، أو البعض يزيدون أكثر من ذلك في الاهتمام مثلاً بالتجويد، ويقفون عند هذا الحد، أو معرفة بعضٍ من المفردات.

يجب أن تكون علاقتنا بالقرآن من واقع حياتنا، من واقع حياتنا، في كل مجالات هذه الحياة، وفي المواقف والولاءات، والقرآن- كما قلنا بالأمس- هو يفصلنا كلياً عن التبعية للضالين، والمستكبرين، والكافرين، والمفسدين في الأرض، ويصلنا بالله “سبحانه وتعالى”، وهذا ما يحقق لنا الاستقلال التام كأمةٍ مسلمة.

من أكبر المشاكل التي تعيشها الأمة الإسلامية: أنَّ كثيراً من حكوماتها، وأنظمتها، ومن مكوناتها الفاعلة في الساحة، من أحزاب واتجاهات سياسية مختلفة، علاقتهم بالقرآن ضعيفة جداً، وعلاقتهم بأعداء الأمة الإسلامية من الكافرين، والضالين، والمفسدين في الأرض، والمستكبرين، علاقة تبعية، تبعية، يتَّبعونهم في كثيرٍ من الأمور، يرتبطون بهم في كثيرٍ من القضايا، يتصلون بهم في كثيرٍ من الشؤون (شؤون الحياة)، ويعتمدون على ما يأتي من عندهم من سياسات، وتوجيهات، ونظم، وخطط، ورؤى، وأفكار، وكما قلنا بالأمس: بإعجابٍ وانبهار، هذه قضية خطيرة على الأمة الإسلامية.

يجب أن يكون من أول ما ندركه ونعيه جيداً: أنَّ القرآن الكريم هو يصلنا بالله، ويصلنا بهديه، بتوجيهاته؛ وبالتالي برعايته، الله “سبحانه وتعالى” لم ينزل هذا القرآن ليكون مجرد توجيهات نعمل بها، توجيهات إيجابية وانتهى الأمر عند هذا الحد، لا، هو مع كتابه، هو مع كتابه، فعندما نتَّبع كتابه، هذه هي صلة برعاية الله الواسعة، بنصره، بتأييده، بالبركات من عنده، بالتوفيق، بالهداية في كل مجالات الحياة، بالرعاية الواسعة الشاملة في الدنيا، وبعد الدنيا، وفي الآخرة: الجنة، ورضوان الله “سبحانه وتعالى”، والسلامة من عذاب الله “جلَّ شأنه”.

أما بالإعراض عن هديه، وبالإتِّباع لبدائل من عند الآخرين، فالنتيجة خطيرة جداً في الدنيا وفي الآخرة، هذه المسألة إذا حُسمت في الساحة الإسلامية يترتب عليها إيجابيات كبيرة جداً، يترتب عليها تقبّل لما يأتي من هدى الله “سبحانه وتعالى”.

الآن لا يزال الكثيرون من أبناء أمتنا- وحتى في أوساط شعبنا- لا يزالون بعيدين عن حالة التقبل لما يأتي من القرآن، من هدى الله “سبحانه وتعالى”، عندما تقدَّم لهم رؤية واضحة من هدى الله، من كتابه المبارك، في أي مجال من المجالات، في أي موضوع من المواضيع، يفترض أن يكون ذلك كافياً، وأن يكون هو المطلوب ابتداءً، أن يكون ما نعتمد عليه في أمور حياتنا هو هدى الله، ولكنهم لا يزالون بعيدين، وغير متقبلين، بل البعض ينزعج من مثل هذا الكلام، ويتبنى مواقف معاكسة، واتجاهات مختلفة.

ويتجه- في نهاية المطاف- ليتصدى لأي عمل، لأي تحرك ينطلق على أساس الإتِّباع للقرآن الكريم، والاهتداء بالقرآن الكريم، وهي حالة الإعراض، حالة الإعراض التي حذَّر الله منها، وتوعَّد عليها، وقرأنا بالأمس عنها، عن خطورة الإعراض عن القرآن الكريم، وأيضاً قرأنا من مثل قول الله “سبحانه وتعالى” في مناسبات متعددة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}[السجدة: الآية22].

الإعراض: عندما يأتي التذكير بآيات الله “سبحانه وتعالى”، ويقدَّم ما فيها من هدى في أي موضوع من المواضيع، في أي قضيةٍ من القضايا، في أي مجالٍ من المجالات؛ لأنها للحياة، لأنها نورٌ لنا في هذه الحياة، في كل مجالات هذه الحياة، فعندما يأتي التذكير بآيات ربنا “سبحانه وتعالى”، وفيه ما يبين موقفاً محدداً، أو توجهاً محدداً، رؤيةً محددة، أوامر معينة، فالشيء الصحيح الذي ينسجم مع انتمائنا للإسلام: أن نقبل، وأن يكون هذا هو الذي نريده، وليس أن نعرض، وأن نبحث عن بدائل أخرى، وأن نتجه لتشويه ما يقدَّم من رؤى، لتشويه ما يقدَّم من أوامر، من توجيهات، أتت من خلال كتاب الله “سبحانه وتعالى”.

هناك أيضاً نصٌ مهمٌ عن الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، يبين لنا الحاجة الماسة إلى القرآن الكريم، والأهمية الكبيرة للقرآن الكريم، سيما والأمة ستواجه حتى في واقعها الداخلي الكثير من الفتن، فتن قال عنها النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” في أحد النصوص المروية عنه: كقطع الليل المظلم، تُلَبِّس على الكثير من أبناء الأمة، تشتبه عليهم الأمور إلى حدٍ كبير، يلتبس عليهم- بسبب تلك الفتن- الحق من الباطل؛ لأنها تأتي العناوين من الجميع، يأتي العمل حتى لخدمة الباطل تحت عنوان الحق، يأتي العمل لإضلال الناس حتى تحت عناوين دينية، من شخصيات قد تكون منظورٌ إليها بأنها شخصيات دينية، فعند الفتن يحتاج الناس إلى نور، إلى هدى ينقذهم من الفتن.

عن أمير المؤمنين عليٍّ “عليه السلام” قال: قال رسول الله “صلى الله عليه وآله”: (ألا إنها ستكون فتنة)، هذا إعلان، إعلان عام، (ألا إنها ستكون فتنة)، وهو “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” يتحدث عن مستقبل الأمة، وهذا أمر مؤسف جداً، أمر مؤسف، هذه الأمة التي أنعم الله عليها بالقرآن والرسول “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وقدَّم الله إليها الهداية الكاملة الكافية، مستقبلها ستعاني فيه من الفتن، الفتن، وخطورة الفتن: الضلال، أنها تُضِل الكثير من الناس، ويَضِل بها الكثير من الناس، وتشتبه الأمور فيها على كثيرٍ من الناس.

(ألا إنها ستكون فتنة)، هذا الإعلان من النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” فيه إنذار، فيه تحذير للأمة؛ حتى تكون متنبِّهه، الإمام عليٌّ “عليه السلام” بين الحاضرين، هو عنده اهتمام بالنقطة المهمة: ما دام وأنه سيكون هناك فتن في مستقبل الأمة، فالذي يجب أن نركِّز عليه هو: ما الذي ينقذ من هذه الفتن؟ ما هو المخرج من هذه الفتن؟ ما الذي يقي ويحمي من ضلال الفتن، ومن مضلات الفتن؟

فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ هذا السؤال مهم جداً، سؤال مهم جداً، هو يفيد اهتمام الإمام علي “عليه السلام” بما فيه انقاذ الأمة، بما فيه حماية الأمة من الوقوع في ضلال الفتن ومضلات الفتن، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: (كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحَكَمُ ما بينكم).

كتاب الله هو المخرج، هو الذي يمكن أن يقي الإنسان من مضلات الفتن، ومن الالتباس عند الفتن، ومن الاشتباه للأمور عند الفتن، لماذا؟ لأن القرآن فيه كل هذه المواصفات التي ستأتي:

أولها قال: (فيه نبأ ما قبلكم)، القرآن يخبرنا عن الأمم الماضية، وبطريقة فيها الكثير من الدروس والعبر المهمة، التي تصنع لدى الإنسان الوعي، والبصيرة، والفهم الصحيح، والإدراك للسنن الإلهية، والمعرفة عن الاختلاف في الواقع البشري، وعن الأساليب التي تأتي من كل فئات الضلال، هذا بحد ذاته- نبأ الذي قبلنا من الأخبار، أخبار الأمم المتقدمة والسالفة، وأخبار الأنبياء وأممهم- فيه دروس كثيرة ومهمة جداً تجاه الفتن، تفيد الإنسان تجاه الفتن.

يلحظ من خلال ذلك تقييماً شاملاً لكل المراحل المهمة البارزة، التي قدِّمت عنها نماذج مهمة في القرآن الكريم، ودروس وعبر كافية في أن يكون لدى الإنسان الوعي العالي جداً، والبصيرة الكبيرة، والفهم العميق الصحيح، فيكون هذا- بحد ذاته- الوعي من خلال النماذج التي قدَّمها القرآن الكريم عمَّا قبلنا من الأمم والأجيال والأحداث، يكون هذا- بحد ذاته- عاملاً مهماً في أن يكون لدى الإنسان بصيرة وفرقان وفهم صحيح؛ فيبتعد عن حالة الالتباس، التي يعيشها الكثير من الناس.

(فيه نبأ ما قبلكم)، والذي هذا النبأ، هذا الخبر من الأمم الماضية، متضمناً الدروس والعبر الكافية والمهمة جداً، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف: من الآية111].

(وخبر ما بعدكم)، خبر ما سيأتي، كيف ذلك؟ هل عن طريق السرد الإخباري، على شبيه ما يأتي في بعض الملاحم: [سيأتي في عام كذا، أو آخر الزمان حدث كذا وكذا، ويأتي كذا، ويفعل البعض كذا]؟ لا، ليس عن طريق السرد الإخباري، في القرآن الكريم بعض الأخبار عمَّا يأتي في آخر الزمان، كمثل ما حكاه عن يأجوج ومأجوج وغير ذلك، ولكن المقصود هنا ليس السرد الإخباري، هو يخبرنا في القرآن الكريم: عن الأعمال وعن نتائجها، وعن الأسباب وعن نتائجها، وعن السنن التي رسمها الله في واقع هذه الحياة في أعمال الناس ونتائجها، وهذه طريقة مهمة جداً جداً، فيستطيع الإنسان أن يعرف من خلال سلوك معين، من خلال تصرفات معينة، مسيرة عملية معينة، لأمة، لقوم، لشخص، لمجتمع، أنَّ نتائجها الحتمية هي بالتحديد كذا وكذا، نتائج جيدة، أو نتائج سيئة.

عوامل تصل بالأمة إلى حالة الانهيار، عوامل تسمو بالأمة، وترتفع بالأمة، أسباب للعزة، للفلاح، للنجاح، وللنهضة، أسباب للسقوط والانهيار، وهذا هو مهم، هذا من أهم ما تحتاج إليه الأمة، من أهم ما نحتاج إلى الوعي عنه، أن نعي الاتجاهات الخطيرة، وأين مآلاتها، وأين يمكن أن تصل بالأمة، والاتجاهات الصحيحة، وكيف هي نتائجها، وكيف يمكن أن ترتقي بالأمة، فيصبح هناك أيضاً تقييم من خلال الواقع العملي، من خلال نتائج الأشياء، تقييم حتى للتوجهات الصحيحة، للأفكار الصحيحة، للمواقف الصحيحة، بقياس آثارها ونتائجها في واقع الحياة، وهذا مما يغيب عن أي طرحٍ آخر خارج القرآن الكريم، عن أي أطروحات، أفكار، ثقافات، مفاهيم، مقروءات وعلوم تقدم من خارج القرآن الكريم، هي لا تعطي ما يعطيه القرآن الكريم فيما يتعلق بهذا الأمر.

الآن من خلال القرآن الكريم تستطيع حتى أن تقيم فكرة معينة، أو حتى عقيدة معينة، أو مقولة معينة قدمت باسم الدين، عندما طُبِّقَت كيف كانت نتائجها، كيف كان آثرها في واقع الحياة، هل سلباً، أم إيجاباً، جيداً، أم سيئاً، وهكذا مما يفيده القرآن فيصنع الوعي تجاه الفتن، والفتن يترتب عليها نتائج كبيرة جداً، لها مخرجات كثيرة، الفتن يبتني عليها عقائد، الفتن يبتني عليها: أفكار، وثقافات، ومفاهيم، الفتن ينتج عنها: توجهات، وولاءات، ومواقف، فالقرآن الكريم هو الذي يقيس من خلال ما يربطنا به في واقع الحياة، ويكشفه لنا من النتائج في واقع الحياة، يقيس لنا الأمور الصحيحة، والتوجهات الصحيحة، والمواقف الصحيحة، والعقائد الصحيحة، والمفاهيم الصحيحة.

(وحكم ما بينكم)، في القرآن ما يحكم، ما يفصل، عند الاختلاف، الاختلاف في كل الأمور، في كل المسائل، الأمور العقائدية، المفاهيم الدينية، المفاهيم العامة، يأتي القرآن الكريم ليقدم الحق، ويقدم لنا ما هو صحيح في المسألة، فيكون فصلاً، لكن يحتاج هذا إلى الرجوع إليه.

(هو الفصل، ليس بالهزل)، القرآن ما يقدمه هو فصل، وأمور جادة، ومؤكدة، ويجب أن نتعامل معه بجدية، لا نتعامل معه بالهزل، فما فيه هو حقائق فاصلة، ليس فيه أي هزلٍ.

(من تركه من جبارٍ قصمه الله)، من تركه، النتيجة أن يقصمه الله حتى لو كان جباراً، بإعراضه عن القرآن، وابتعاده عن القرآن، وإن كان ينتمي للإسلام وهو جبارٌ مُعرِضٌ متكبرٌ، ويرى أنه في غنىً عن القرآن الكريم، وعن هديه، عن تعليمات الله فيه، في النهاية يقصمه الله ويخسر.

(ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله)، وهذا نص مهم جداً، (ومن ابتغى الهدى)، إنسان يريد الهدى، ويطلب الهدى، ويسعى للحصول على الهدى، ولكنه لا يريد أن يعتمد على القرآن الكريم في ذلك، قد تكون عنده نظرة خاطئة تجاه القرآن يستنقص القرآن يعجب بكتب أخرى، بمصادر أخرى، ويرى أن فيها الهداية الكافية، ويكون تعامله مع القرآن الكريم إما تعاملاً ثانوياً هامشياً، أو بالإعراض التام، النتيجة: أن يضل، وأن يضله الله، فلا يهتدي أبداً، حتى وهو حريصٌ على الهدى، لكنه لم يأت للهدى من قناته الصحيحة، من القرآن الكريم.

(وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم)، هو حبل الله الذي إن تمسكنا به أنقذنا الله بذلك، وارتفع بنا من وحل الضلال، من وحل الشقاء، من الحضيض الذي يسقط إليه الناس عندما يبتعدون عن القرآن الكريم، فهو الحبل الذي دلاه الله لنا لينقذنا به، وليرفعنا به من وحل الضلال والشقاء والخسران والعياذ بالله.

(المتين): الذي لا ينقطع، لا ينفصل، موثّق وقوي، (وهو الذكر الحكيم)، فقوله: (حبل الله)، هو يصلنا بالله “سبحانه وتعالى”، يصلنا بالله، إذا أردنا أن ينقذنا الله من دون أن نستمسك بحبله هذا، لن نحصل على الإنقاذ؛ لأنه قد قدم لنا وسيلة الإنقاذ إلينا، والخلاص لنا، فإذا لم نأخذ بها، لا ننجو.

(وهو الذكر الحكيم)، كل ما فيه حكمة، ويهدي إلى ما هو حكمة، إلى المواقف الحكيمة، الرؤى الحكيمة، الأعمال الحكيمة، الأقوال الحكيمة…إلخ.

(وهو الصراط المستقيم)، الذي إن سرنا على ضوء هديه، يصل بنا إلى الغايات العظيمة، والتي من آخرها وأهمها: رضى الله، والجنة، والسلامة من عذاب الله.

(هو الذي لا تزيغ به الأهواء)، مهما أتى الآخرون من ذوي الأهواء ليتقولوا عليه، وليقولوا عنه ما ليس فيه، من مفاهيم باسم تفسير خاطئ، أو باسم كذلك حديث خاطئ، ليس صحيحاً، يحسب على أنه معنى لآية، أو مفهوم لنصٍ قرآنيٍ معين، فمهما أتى هذا التلبيس، وأتى في واقع الأمة بشكل كبير، لكن القرآن يبقى في أصله سليماً، وعند العودة إليه من خلال قرنائه، يتضح لنا بطلان كل ما حُسِبَ عليه من تفاسير غير صحيحة، أو مفاهيم غير صحيحة، يبقى أصله سليماً.

(ولا تلتبس به الألسن): المتقولون الكثيرون، الذين يخدمون الباطل، ويفترون على الله الكذب، وكذلك هو الحال، كمثل ما قال: (لا تزيغ به الأهواء)، (لا تلتبس): يبقى القرآن في أصله سليماً لمن عاد إليه، وعندما يقدم من خلال قرنائه، تتضح الحقائق التي تعبر عن مفاهيمه الصحيحة.

(ولا يشبع منه العلماء)؛ لأنه بحرٌ من العلوم، والمعارف، والمفاهيم، لا يمكن أن ينفد، ولا أن ينضب معينه، ولا أن يدرك قعره، ولا أن يستكمل الإنسان كل ما فيه من المفاهيم والهدى، الله قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}[لقمان: من الآية27]، حتى لو أصبح الإنسان عالماً كبيراً، لا يمكن أن يكون قد استكمل القرآن، وفرغ من كل ما فيه من الهدى، وأحاط بكل ما فيه من المعارف، لا يصل إلى ذلك أبداً، ولا يزال بحاجة إلى المزيد والمزيد، ولا يزال عطاء القرآن واسعاً جداً جداً، هذه النظرة غابت.

غابت حتى عند الكثير ممن هم يتحركون باسم علماء، أو باسم طلاب علم، لم تعد نظرتهم إلى القرآن الكريم هذه النظرة، وجعلوه هناك على جنب، مهمشاً إلى حدٍ كبير، واستغنوا عنه بأشياء أخرى لا تغنيهم، لا تفيدهم، وأعطوها كل الجهد، وكل الاهتمام، وكل الوقت، واستغرقت منهم كل اهتمامهم، وكل جهدهم، وكل جدهم، وكل عنايتهم، مع تعظيمٍ لها يكاد يكون أكثر من تعظيم القرآن الكريم.

(ولا يخلق على كثرة الرد): لا يبلى، لا يبلى، كلما عاد الإنسان إليه، كلما تأمل فيه، كلما استزاد منه، من معارفه، من هديه، من نوره، لا يبلى، يتجدد عطاؤه بشكلٍ مستمر، ويواكب كل الأحداث، كل الأزمنة، كل المتغيرات، كل الظروف، فيعطي المزيد والمزيد والمزيد، وهكذا.

(ولا تنقضي عجائبه)، عطاؤه فيما يعطي من هدى، ونور، وحكم، ومعارف، كلها عجيبة، كلها ثمينة، كلها ذات أهمية، لا تقول أنه: لم يعد يعطي إلا حثل، وإلا معارف عادية، أو نفدت منه الحكم العجيبة، الهدى العظيم، الدلالة العجيبة جداً، المعارف العجيبة، لا، بشكل مستمر، عطاؤه عطاء نفيس وعظيم ومتميز.

(هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}[الجن: 1-2])، هؤلاء الجن الذين عندما سمعوه قالوا هذا القول، هم أدركوا أهمية القرآن وعظمته، فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، عرفوا أنه ليس كتاباً عادياً، وليس شيئاً عادياً، هو شيء عظيم، شيء عجيب ومتميز، {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، عرفوا وظيفة القرآن الأساسية، وهي الهداية إلى الرشد.

(من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فقد هدى إلى صراطٍ مستقيم): عندما تتحرك على أساس القرآن، عندما تكون مسيرتك قرآنية، تقول به، تركز على أن تقدم هديه للناس، وأن تتحدث من خلال آياته ومعارفه، تقدمها إلى الناس، فأنت تصدق؛ لأن كل ما فيه صدق، هذا يبعدك عن تقديم مفاهيم خاطئة، وأفكار خاطئة، وروايات غير صحيحة، ومقولات غير صحيحة، من أقوال الناس، فالتركيز على القرآن الكريم، والتمحور حول القرآن الكريم، فيما يقدم إلى الناس، لتعريفهم بالدين، لتوعيتهم، لتبصيرهم، يجعل الإنسان يقدم حقائق.

(ومن عمل به أُجِر): عندما تعمل به فيما يدعو إليه، فيما يوجه الله فيه إليه، تحصل على أجرك من الله “سبحانه وتعالى” في الدنيا والآخرة، لذلك ثمرة عظيمة في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة.

(ومن حكم به عدل): عندما تحكم به فأنت تعدل وتقيم القسط؛ لأن مضمونه وما فيه مما يفصل بين الناس في كل اختلافاتهم هو العدل.

(ومن دعا إليه): دعا إلى القرآن، إلى اتباعه، إلى الاهتداء به، إلى التثقف بثقافته، إلى إعطائه أولوية على ما سواه مما يقدم باسم كتب، أو ثقافات، أو مفاهيم، إلى أن يكون هو المعيار الفاصل الحاسم، تجاه مختلف الثقافات والمقولات.

(فقد هدى إلى صراطٍ مستقيم): إلى الاتباع له، إلى التمسك به، إلى الالتزام به، (فقد هدى إلى صراطٍ مستقيم): لم يغش الناس، وقدم ما فيه هداية إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى الغايات الكبرى والعظيمة.

هذا النص النبوي فيه ما يكفي ويفي أيضاً، إلى جانب الآيات القرآنية العظيمة، التي تحدثت لنا عن القرآن وعظمته، ليكون دافعاً لنا إلى أن نلتفت بكل جدية إلى الاهتمام بالقرآن الكريم، وإلى أن نؤمن به إيماناً متكاملاً، وأن نتحرك على أساس الاستجابة الكاملة، في مواقفنا، في ولاءاتنا، في حركتنا في هذه الحياة، في كل مجالاتها؛ حتى لا ندخل في محذور الإيمان ببعض والكفر ببعض، هذه حالة خطيرة جداً، عندما نقبل بعضاً من القرآن على المستوى العملي، ونرفض البعض الآخر على المستوى العملي، هذه الحالة الخطيرة التي حذر الله منها في قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}[البقرة: من الآية85]، نعوذ بالله، تحذير ووعيد شديد.

نكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، ونسأله “جلَّ شأنه” أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ؛؛

فيديو المحاضرة الرمضانية الثالثة

الخميس، 15 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الثانية 1442هـ للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

نص المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد عبدالملك الحوثي 1442 هجرية

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة الأعزاء

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

اللهم اهدنا، وتقبل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
نواصل الحديث على ضوء الآية المباركة فيما يتعلق بالتقوى وعلاقتها بالصيام، ونأتي إلى موضوعٍ مهم، له علاقة أساسية بالصيام، وعلاقة أساسية بالتقوى، الله “سبحانه وتعالى” قال في كتابه الكريم عن شهره المبارك (شهر رمضان): {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية185]، شهر رمضان المبارك فيه أنزل الله كتابه العظيم: القرآن الكريم، في ليلة القدر منه ابتدأ نزول القرآن الكريم.
القرآن الكريم هو نعمة الله العظيمة على عباده، هو هديه، هو نوره لعباده، ونزوله في شهر رمضان المبارك، ثم أن يفرض الله “سبحانه وتعالى” صيام هذا الشهر، وأن يجعل هذا الشهر محطةً تربويةً عظيمةً، ومحطةً للتزود بالتقوى، ومحطةً للتزود بالهداية، يدل على عظم هذه النعمة، أنها نعمةٌ عظيمة، ولذلك كان شهر نزولها شهراً مباركاً، عظيم البركات، وواسع الخيرات، ومناسبةً مقدَّسة، وكذلك يدل على عظمة القرآن كذلك، أن يكون الوقت الذي ينزل فيه له خصوصية عن بقية الأوقات، سواءً على مستوى الليلة التي ابتدأ نزوله فيها، وهي ليلة القدر، أو على مستوى الشهر الذي هذه الليلة هي ليلةٌ منه، وهو شهر رمضان المبارك.
تبين لنا في حديث الأمس العلاقة ما بين الصيام في شهر رمضان والتقوى عند من يستشعر هذه العلاقة، يستوعبها ويدركها جيداً، ويسعى إلى تحقيقها، ويستشعر التجلد والصبر، ويكتسب قوة العزم والإرادة، فيصبح عنده الدافع القوي، والإرادة القوية، والعزم القوي، للعمل بما فيه وقاية له من العذاب، من الشقاء، من الخزي، من الهوان، من الخسران الكبير، والخسران المبين.

ما الذي نحتاجه لكي تتحقق لنا التقوى؟

وهنا نأتي إلى جانبٍ أساسيٍّ لتحقيق التقوى، إذا كنا سنكتسب من الصيام، ومن خلال استشعارنا لذلك، لهذه النقطة: لما هو عطاءٌ مهمٌ من عطائه، نكتسب منه قوة الإرادة، وقوة العزم، نروِّض أنفسنا على الصبر وعلى التحمل، نضبط غرائزنا، نسيطر على رغباتنا وأهوائنا وشهواتنا، فنحن حتى تتحقق لنا التقوى بحاجة إلى الهداية الإلهية، إلى ما الذي نعمله، ما الذي نلتزم به، ما الذي نتركه، ما الذي نحتاج إليه من الوعي، والبصيرة، والمفاهيم المهمة، والأسس، التي نبني عليها مسيرة حياتنا، فيما نعمل، وفيما نترك، في مواقفنا، في التزاماتنا العملية، هذه مسألة أساسية؛ لأنه لا يكفينا أن نكتسب قوة العزم والإرادة والصبر والتجلد والتحمل، ثم نتحرك مثلاً بطريقةٍ خاطئة، أو نوظِّف قوة عزمنا، ونسخِّر طاقتنا وقدرتنا وصبرنا وتحملنا في فعل ما هو خطأ، في تصرفٍ خاطئ، هنا لن تتحقق لنا الوقاية، لا بدَّ من أن نهتدي بالطريقة الصحيحة، للعمل الصحيح، للموقف الصحيح، الذي تتحقق لنا به تلك الغايات الكبرى، التي وعد الله بها عباده المتقين.
هناك وعود وعد الله بها عباده المتقين، فيها:

أنهم سيقون أنفسهم بما سلكوه من أسباب التقوى، فيما عملوه مما يحقق التقوى، بما التزموا به فيما فعلوا وفيما تركوا مما يحقق التقوى، يقون أنفسهم بذلك من عذاب الله، من جهنم، من المصير الأبدي المخزي المهين، الذي هو أكبر خسران.

أنهم سيقون أنفسهم في هذه الدنيا من الذلة والهوان.

أنهم سيحظون في هذه الحياة برعايةٍ من الله “سبحانه وتعالى”، ومن عزته، ومن تأييده، ومن نصره، ومن توفيقه، ومن ألطافه.

وأنه سيحيطهم برحمته الواسعة.

أنه ستتحقق لهم الكثير من المكاسب المهمة في أنفسهم، فيما يَسمُون به، فيما تتحقق لهم من كمالاتٍ إنسانية، وأيضاً على مستوى واقع حياتهم، في شؤون حياتهم.

فلتحقيق التقوى لا بدَّ من الهداية الإلهية، من البرنامج العملي الذي نتحرك فيه بشكلٍ صحيح، من الهداية إلى الأعمال التي تتحقق بها تلك النتائج العظيمة التي نرجوها لأنفسنا، فنزول القرآن الكريم، ووظيفته الأساسية، ودوره الأساسي الذي أراده الله لعباده في علاقتهم منه، هو الهداية، فقال “جلَّ شأنه”: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
فعندما نتأمل في هذه الآية المباركة، وندرك علاقة الصيام والقرآن في تحقيق التقوى، ندرك أننا نسعى لأن نمتلك العزم، وقوة الإرادة، والصبر، والتجلد، والسيطرة على شهواتنا ورغباتنا وأهوائنا، من أجل أن نتَّبع هذا القرآن، من أجل أن نهتدي به، من أجل أن ننفِّذ ما فيه من أوامر الله “سبحانه وتعالى”، من أجل أن ننتهي عمَّا نهانا الله فيه، ونستفيد من الصيام فيما يتعلق بتزكية النفس، وصفاء النفس، الصفاء النفسي والوجداني، ونقاء المشاعر، الذي يساعدنا على الاستقبال لهذا الهدى، والاستيعاب له، والفهم له بشكلٍ أفضل.
الصيام من حيث هو قربة إلى الله “سبحانه وتعالى”، لمن يستشعر هذه القربة، ويتقدم في أعماله بكلها إلى الله “سبحانه وتعالى”، وينوي بذلك القربة إلى الله “جلَّ شأنه”، ومن حيث بركة هذا الصيام كقربة، عندما تمارسه كقربة، بركته وأثره النفسي والوجداني في تصفية المشاعر والنفسية، في تخليص الإنسان من كثيرٍ من الكدر، حتى عملية الامتناع عن الشهوات والرغبات في الصيام، والسيطرة على النفس في ذلك، والشعور بأنَّ هذا من أجل الله “سبحانه وتعالى”، وابتغاء مرضاته، له أثر في الجانب الروحي للإنسان، يستشعر القرب من الله “سبحانه وتعالى” أكثر، هذا له أثر في تهيئة الإنسان لحسن استقبال القرآن الكريم، هدايته المباركة، مفاهيمه العظيمة، نوره المبارك.

القرآن الكريم النعمة العظمى.. كيف تكون علاقتنا به؟

عندما نعود إلى الآية المباركة لندرك أهمية هذه النعمة العظيمة، التي هي نعمة القرآن الكريم ككتاب هداية، وكيف يجب أن تكون علاقتنا من واقع حياتنا به.
الله “جلَّ شأنه” قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، مما ينبغي أن نستذكره، وأن نستحضره دائماً: هو أنَّ هذا القرآن هو كتاب الله، ومن الله “سبحانه وتعالى”، هو كلماته هو، آياته “جلَّ شأنه”، من نوره، لم يوكل عملية تأليف هذا الكتاب وإنشاء هذا الكتاب إلى أحدٍ من خلقه، لا من ملائكته المقربين، ولا من أنبيائه المرسلين، فليس نتاجاً لمخلوقٍ من مخلوقات الله في أي مستوى من المستويات، لا، هو من الله “جلَّ شأنه”، وهذا يدلنا على أهمية هذا الكتاب العظيم، على عظمته؛ لأنه من الله “سبحانه وتعالى”، أنزله إلينا هدايةً لنا، وهو من علمه، برحمته، ومن منطلق رحمته بنا، هو “جلَّ شأنه” قال عنه: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[فصلت: الآية2]، فكلما في هذا الكتاب من هداية، من توجيهات، من أوامر، هو من منطلق رحمة الله بنا، ليس فيه شيءٌ من هدايته، أو ما فيه من الأوامر والتوجيهات، خارجٌ عن إطار رحمة الله “سبحانه وتعالى”، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى رحمة الله “سبحانه وتعالى”، ولكن نحصل على هذه الرحمة، نصل إلى هذه الرحمة، تتحقق لنا هذه الرحمة، نتلمس آثار هذه الرحمة في  واقع حياتنا، من خلال اهتدائنا بهذا الكتاب، من خلال اتِّباعنا لهذا الكتاب، من خلال تمسكنا بهذا الكتاب، وهذه هي المشكلة التي نعاني منها حتى في واقعنا كأمةٍ مسلمة: النقص الكبير في اتِّباع القرآن الكريم، والنقص الكبير في الاهتداء به، ترك في واقع حياتنا ثغراتٍ كبيرة، وآثاراً كبيرة، ونقصاً كبيراً، وابتعاداً كبيراً عن أسباب رحمة الله “سبحانه وتعالى”، فكان لذلك آثار سيئة في واقع حياتنا، ونحن كأمةٍ إسلامية من نجني على أنفسنا عندما نترك شيئاً من القرآن، عندما لا نهتدي بالقرآن في أشياء مهمة جدًّا في شؤون حياتنا، وفي مجالات ذات أهمية كبيرة في حياتنا، نخسر من رحمة الله “سبحانه وتعالى”، الرحمة التي تتجسد بتلك التوجيهات الرحيمة، والرحمة التي تأتي إضافةً إلى ذلك من خلال الرعاية الإلهية الواسعة، التي تأتي نتيجةً لاتِّباع كتاب الله، والاستجابة له “سبحانه وتعالى”.
فعندما ندرك أنَّ هذا الكتاب كلما فيه هو رحمة؛ تتغير نظرتنا إلى تشريعات الله “سبحانه وتعالى”، إلى توجيهاته، وبالذات في الأمور التي ننظر إليها نظرةً سلبية، نعتبرها تشكِّل خطورةً علينا، أو نعتبرها ذات مشقة كبيرة في واقع حياتنا، فنتهرب عن الالتزام بها، أو القيام بها، أو النهوض بها؛ نتيجةً لهذه النظرة الخاطئة، هذا مما يجب أن نصحح من خلاله نظرتنا إلى القرآن الكريم، وبشكلٍ كامل، فكلما فيه من أوامر وتوجيهات، وكلما فيه من هداية، هو خيرٌ لنا، ومن منطلق رحمة الله بنا، وهو أرحم الراحمين، هو أرحم الراحمين، والثمرة التي تتحقق لنا من خلال التمسك بكتاب الله، والاهتداء به، والاستبصار به، ثمرة مهمة لنا نحن: رحمةٌ في الدنيا، ورحمةٌ في الآخرة، رحمةٌ في الدنيا: التمسك بهدى الله “سبحانه وتعالى” والاهتداء به يتحقق لنا به كأمة، الخير، والعزة، والكرامة، والحرية بمفهومها الصحيح، العزة بمفهومها الصحيح، الاستقلال، الخير، البركات، الرعاية الإلهية الواسعة في شؤون حياتنا، القوة، المنعة، الغلبة في مواجهة أعدائنا، كم وعد الله “سبحانه وتعالى”، الرحمة دائرتها واسعة، تمتد إلى كل مجالٍ من مجالات حياتنا، وإلى كل شأنٍ من شؤون حياتنا.

القرآن كتاب حكيم ولا قيمة لما خالف القرآن

القرآن الكريم أيضاً هو كتاب الله الحكيم، وكلما فيه يتصل بأسمائه الحسنى كافة، كل أسماء الله الحسنى، نرى ما يشهد لها، وما هو نتاجٌ لها ومرتبطٌ بها في القرآن الكريم، والله هو أحكم الحاكمين، “سبحانه وتعالى” هو مصدر الحكمة، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: من الآية269]، فكلما في القرآن الكريم من هداية، من توجيهات، من أوامر، كلما يقدمه لنا من التزامات عملية، هو من حكمته “سبحانه وتعالى”، ولذلك لا يمكن أن ننظر إلى أي رؤية، أو فكرة، أو مقترحات، أو تنظيرات، أو تصورات، أو مفاهيم، مقدَّمة من عند أي أحد، تخالف القرآن الكريم في أي مجال من مجالات الحياة، على أنها حكمة، أبداً، كلما يأتي وهو مخالفٌ للقرآن الكريم ليس بحكمة، الحكمة نجدها في القرآن الكريم، وأيضاً هذه من المشاكل الكبيرة في الساحة الإسلامية: أنهم يتجهون ابتداءً في مجالات كثيرة من شؤون حياتهم إلى إنتاج بدائل عن القرآن الكريم، وعمَّا يقدِّمه القرآن الكريم.
فعندما نأتي إلى الشؤون السياسية، والتي تتصل بمجالات حياة الناس، بتنظيم شؤون حياتهم، يبحثون عن بدائل، إما من خارج الساحة الإسلامية بكلها، بدائل من عند الكافرين بالقرآن، ممن لا يؤمنون بالقرآن، ممن لا يؤمنون بالله ورسله وأنبيائه، فيأتي البعض ليبحث ماذا قدَّموا من آراء، من أفكار، من تصورات، من مفاهيم، تتعلق بالجوانب السياسية لحياة الناس، ثم يرى ذلك أنه هو الأجدر بالإتِّباع، والأنسب للحياة، والأكثر واقعيةً لحياة الناس، وأنه الأفضل، الذي يجب الالتزام به، فتأتي شخصيات تتبنى ذلك، أحزاب تتبنى ذلك، تيارات، اتجاهات تتبنى ذلك، وبإعجاب وانبهار أحياناً، انبهار بما هو من عند الآخرين، مما أنتجه الآخرون من أفكارهم القاصرة، وما قدَّموه من تصورات خاطئة، نتيجةً للإعجاب به، ونتيجةً للانبهار به، يقدَّم في الساحة الإسلامية وتتحرك لفرضه أحياناً، أو للترويج له في أحيان أخرى، حركات، أحزاب، توجهات، ويأتي من يتعصب له بشدة، ويأتي من يسعى إلى إقناع الآخرين به بكل إعجابٍ واغترار، وهذه مشكلة جلبت لنا الكثير من المشاكل في ساحتنا الإسلامية، وساهمت في الإعراض عن القرآن الكريم.
على المستوى الاقتصادي مثلاً، تأتي كذلك الكثير من الرؤى والمفاهيم من خارج الساحة الإسلامية، والتنظيرات والأفكار من خارج الساحة الإسلامية، وفيها ما يتعلق بكثيرٍ من الأمور في المسألة الاقتصادية: السياسات الاقتصادية، النظم الاقتصادية، الخطط الاقتصادية، ثم تأتي المصائب والكوارث الكبيرة علينا في الساحة الإسلامية نتيجةً لذلك، تصبح تلك التنظيرات الاقتصادية، والسياسات الاقتصادية، والنظم الاقتصادية، هي السائدة في حياتنا في الساحة الإسلامية، والتي تبنى عليها حياتنا في واقعنا الاقتصادي، في المجال الاقتصادي.
أكثر من ذلك: تمتد هذه المسألة إلى الجوانب الاجتماعية، إلى جوانب كثيرة في شؤون حياتنا، حتى تصبح مسألة التبعية لأعدائنا، والتبعية للكافرين بديننا، والكافرين بكتاب الله، والكافرين بالله ورسله وأنبيائه، تصبح مسألة التبعية لهم، التأثر بهم، التقليد لهم، ممتدة في كل شؤون حياة الناس، يصبح ما يأتينا من جانبهم حتى على مستوى الأزياء، على مستوى الملابس، على مستوى الشكليات، حتى في الأشياء الشكليات، من الأساسيات إلى الشكليات، تصبح مسألة التبعية لهم، والتأثر بهم، والإعجاب بما هم عليه، وما يأتي من عندهم، تصبح هي السائدة لدى الكثير من الناس، وتصبح هي الموضة، وتصبح- بنظر الكثير من الناس- هي ما يعبِّر عن الحضارة والرقي، وما ينبهر به الكثير من الناس، هذه مشكلة كبيرة علينا في ساحتنا الإسلامية.
ولذلك يجب أن نعي وأن ندرك ماذا تعنيه هذه المفاهيم المهمة: مفهوم أنَّ القرآن الكريم هو كتاب الله الحكيم، وكلما فيه هو الحكمة، ما يرشدنا إليه هو الحكمة، يعني: لا أصوب منه، ليس هناك رؤية أرقى ولا أسمى ولا أكثر حكمةً مما يقدِّمه الله لنا في القرآن الكريم، وأنَّ هذه الحكمة لا تختص بمجال في حياتنا دون سائر المجالات، الحكمة في المجال السياسي، الحكمة في المجال الاقتصادي، الحكمة في نظم أمورنا الاجتماعية، الحكمة في كل مسيرة حياتنا، في كل مجالاتها وشؤونها، ولذلك يجب ألَّا ننبهر بأي شيءٍ يخالف القرآن، ألَّا ننظر إليه نظرة الاغترار به، ولذلك الله “سبحانه وتعالى” قال عن القرآن الكريم: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الزمر: الآية1]، ووصفه بأنه القرآن الحكيم، وصفه بالحكمة أتى كثيراً في القرآن الكريم.
القرآن الكريم هو تنزيل الله “سبحانه وتعالى”، تنزيل ربنا الملك، رب العالمين، ملك السماوات والأرض، قال “جلَّ شأنه”: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، تنزيل من الله العزيز العليم، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر: الآية2]، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[فصلت: الآية2]، قال “جلَّ شأنه”: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: الآية9]، أي كتابٍ، وأي اطروحات، أو رؤى، أو أفكار، تقدم إلى الناس، يمكن أن تكون في مستوى كتاب الله؟ الذي أنزله “سبحانه وتعالى” عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم السر في السماوات والأرض، الذي هو العليم بمصالح عباده، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}[الملك: الآية14]، العليم بنفوسهم، بأمورهم، باحتياجاتهم، بما هو الأصلح لهم، بما هو الخير لهم، بما فيه صلاح حياتهم في كل مجالاتها، هو “جلَّ شأنه” العليم.
وهو الملك، نحن ملزمون باتباع كتابه، هو دستوره لعباده، هو دستوره لعباده، وأنزله ليتبع، أنزله حجةً على عباده ليتبع، أنزله، وإنزاله له إلى عباده جزءٌ من تدبيره الواسع لشؤون مملكته الكونية الكبرى، ولذلك قال “جلَّ شأنه”: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}[الإسراء: من الآية105].
إذا كنا قد ننظر إلى ما يأتينا من البعض إلى أنه من شخصيات مشهورة بمنزلتها العلمية، أو مكانتها العلمية، أو مشهورة بأنها تمتلك الرؤى والتصورات الحكيمة، أو مشهورة أنها ذات تخصص ومعرفة واسعة في مجال من المجالات، فهذا لا يقارن أبداً بالنسبة إلى علم الله، وحكمته، ورحمته، هذا شيء لا يقارن أبداً، ليس هناك أي مقارنة، فلا يساوي شيئاً ما يقدم من الناس، مهما كانت مكانتهم العلمية، مهما كانت تخصصاتهم، عندما يأتي منظر في المجال الساسي، أو يطلق عليه خبير في المجال السياسي، أو خبير في المجال الاقتصادي، فما يقدمه وكان مخالفاً للقرآن فلا يساوي شيئاً، ليس له أي قيمة نهائياً، لا شك في أنه خطأ، لا شك في أنه لا يصلح لحياة الناس أصلاً.
الله قال عن القرآن الكريم: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}، أنزله بالحق، مقتضى ملكه لعباده، قيامه بأمر عباده، بأمر مملكته، بشؤون خلقه، يقتضي أن يقدم لهم منهجاً ونظاماً لحياتهم، لمسيرة حياتهم، لشؤون حياتهم، تعليمات واضحة، منهج واضح.

لكي تستقيم مسيرة الحياة لا بد من اتباع القرآن

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام: الآية155]، كتابٌ أنزله الله لكي نتبعه، نتبعه وتكون كلما لدينا من الثقافات، من المفاهيم، من الأفكار، على أساسه، ومن هديه، ثم تكون منطلقاتنا العملية على أساسه.
{فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا}، اتقوا في اتباعه، لا تفرطوا في اتباعه، لا تقصروا في اتباعه، لا تنحرفوا عن اتباعه.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: هكذا يعلمنا الله أن نبني أساس حياتنا، مسيرة حياتنا، في أعمالنا، في شؤوننا، في نظامنا، في التزاماتنا العملية، في أفكارنا، في منطلقاتنا العملية، على أساس الاتباع لكتابه المبارك.
يقول “جلَّ شأنه”: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: من الآية42]، فكلما في القرآن حكمة، وكلما فيه كذلك ينسجم مع مكارم الأخلاق، ليس فيه ما إن اتبعته يمكن أن تكون غبياً، أو يمكن أن يشوهك، أو أن يمس بك في كرامتك الإنسانية، في أخلاقك، في قيمك، لا، كلما فيه عظيم، يسمو بك، تشرف به.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: من الآية9]، وهدايته هداية واسعة في كل مجالٍ من مجالات الحياة، وهداية راقية وعظيمة، {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، فهو يهدينا في المجال السياسي إلى أقوم ما تستقيم به الحياة في مجالها السياسي، يهدينا في المجال الاقتصادي إلى أقوم وأرقى وأسمى وأعظم ما تستقيم به حياتنا في المجال الاقتصادي، في الشأن الاجتماعي، في كل التفاصيل ذات الصلة بالشأن الاجتماعي: في شؤون الأسرة، في شؤون المجتمع، في علاقات المجتمع، في قضايا المجتمع، المشاكل الاجتماعية، يهدينا إلى ما هو أقوم ما تستقيم به حياتنا في مجالها الاجتماعي، وهكذا في بقية المجالات.
فليس هناك ما يمكن أن يكون بديلاً عنه، فيهدي إلى ما هو أفضل، وليس فقط إلى مستوى أنه ينافس ما لدى الآخرين، ولكنه دائماً يقدم الأرقى، الأقوم، الأفضل، الأحسن.
{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: من الآية52]، لا يمكن أن تنال هداية الله إذا لم تكن مرتبطاً بكتابه، مهتدياً بكتابه، هو يهديك، هو يتدخل في هداية عباده، لكن هذه الهداية تأتي مع التمسك بكتابه.
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}[المائدة: من الآية16]، السلام من الضلال، السلام من الشقاء، السلام من الخزي، السلام من النار، السلام من عذاب الله في الدنيا والآخرة، السلام من الهوان، السلام من كلما نحن مفطورون على أن نبتغي لأنفسنا السلام منه.
ولهذا نجد أنه لا مبرر لنا في المقدمة كمسلمين في أن نبحث- وبشكل عجيب يعني في الساحة الإسلامية- عن بدائل من خارج القرآن في كل مجالات الحياة، معظم من يهتمون بالشأن السياسي ينطلقون من منطلقات بعيدة عن القرآن، ومفاهيم بعيدة عن القرآن، معظم من لديهم اهتمام بالشؤون الاقتصادية يتجهون بعيداً عن القرآن، الشؤون الاجتماعية، حالة من الابتعاد والإعراض حالة خطيرة جدًّا في الساحة الإسلامية.
يقول الله “سبحانه وتعالى”: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: من الآية1]، النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” أنزل الله إليه القرآن ليتحرك به عملياً، لإخراج الناس، وفق هذا القرآن، مفاهيمه، نوره، هديه، {مِنَ الظُّلُمَاتِ}؛ لأن الناس في ظلمات: ظلمات الجهل، ظلمات العمى، ظلمات الأفكار الظلامية، المفاهيم الظلامية، التصورات الظلامية، العقائد الظلامية، التي تحجب الناس عن معرفة الحق كما هو، بنقائه وصفائه، الحق كاملاً، ظلمات تحجب الناس عن إدراك الحقائق، عن إدراك ما هو خيرٌ لهم بالفعل، هذه الظلمات يكشفها القرآن الكريم، {إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.

الإعراض عن القرآن ونتائجه الخطيرة

فالقرآن الكريم، وهو كتاب الله، بعلمه، وحكمته، ورحمته، وهدايته الواسعة الشاملة في كل مجالات الحياة، لا يوجد مبرر للإنسان بأن يعرض عنه، بأن يبتعد عنه في مسيرة حياته، لا كفرد، ولا كمجتمع، ولا كأمه، والإعراض عنه، والانطلاقة على أساس بدائل أخرى، لها نتائج خطيرة جدًّا على الإنسان، وزر كبير، وذنب عظيم.
قال الله “جلَّ شأنه”: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}[طه: من الآية99]، يخاطب نبيه محمداً “صلى الله وسلم عليه وعلى آله”، {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} القرآن الكريم، {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}[طه: 100-101]، من أعرض عنه فهو سيتحمل التبعات الكبيرة لإعراضه، ما هو الإعراض عن القرآن الكريم؟ هو الإعراض عن الاهتداء به والاتباع له، هذا هو الإعراض، لا يكفي أن نتلوه، لا يكفي أن نقتنيه في المنازل، لا يكفينا الإقرار فقط بأنه من عند الله، ثم لا نتبع ولا نهتدي، يجب أن نعود إلى الاهتداء به، أن يكون عندنا اهتمام، حرص، سعي، للاهتداء به، وسعي للالتزام به، سعي للعمل به، للاتباع له، وإلا فالحالة هي حالة إعراض، وهي حالة خطيرة جدًّا.
{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ}: أياً كان هذا المعرض، بأي صفة، بأي دور، بأي اسم، {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}، نعوذ بالله! ذنباً عظيماً وفظيعاً يخلِّده في جهنم! {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}، سيكون حملاً سيئاً، حملاً يكفي بأن يصل بالإنسان إلى قعر جهنم، حملاً ثقيلاً، يبعد الإنسان عن رحمة الله “سبحانه وتعالى”، فلا ينال ذرةً من رحمة الله “جلَّ شأنه”، هذا أمر خطير جدًّا جدًّا، كافٍ لنا جميعاً في أن نتجه بكل جدية إلى الاهتداء بالقرآن الكريم.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}[طه: 124-126]، فالإعراض له أثر في الدنيا هو الشقاء، الشقاء، وليس فقط الشقاء مثلاً بقلة الإمكانات الاقتصادية، يمكن أن يشقى حتى من لديهم الثروة الهائلة، الإمكانات المادية الهائلة، فلا يرتاحون بها، ولا ينعمون بها، يمكن أن يكونوا في حالة شقاء هم أيضاً، الشقاء حالة واسعة، وأشكالها متنوعة، قد يأتي الشقاء إلى الفقراء المعرضين عن كتاب الله، ويأتي الشقاء إلى الأغنياء المعرضين عن كتاب الله، ويأتي الشقاء لمن لديهم قدرات، أو إمكانات وخبرات، في هذه الحياة، ولكنها اتجهت بهم بعيداً عن هدى الله، فيكونون في حالة شقاء.
أما في الآخرة فهو العمى والخسران المبين، وفوات رضوان الله والجنة، والدخول إلى النار- والعياذ بالله- الخسارة الرهيبة الأبدية الكبيرة، ولذلك نجد خطورة الإعراض عن القرآن الكريم، الإعراض عنه في مقام الاهتداء به، وفي مقام العمل، في مسألة المواقف، في مسألة الاتباع العملي، الآن الكثير من المسلمين لا يفكرون أن تكون ولاءاتهم، توجهاتهم، مسيرتهم في هذه الحياة، على أساس القرآن الكريم، وفي كل مجالات الحياة، الإنسان بحاجة إلى قرار حاسم، وتوجه صادق، يبني عليه هذه العلاقة مع القرآن الكريم؛ للاهتداء به، والاتباع له، والتمسك به.

نكتفي بهذا المقدار في هذا اليوم، ونكمل- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة حديثنا عن القرآن الكريم، وعن العلاقة به إن شاء الله.

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...