الثلاثاء، 27 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

نص المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد الملك بدر الدين الحوثي 14رمضان 1442هـ 26-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛

في سياق الآية المباركة من سورة الأنعام يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الأنعام: من الآية151]، بعد قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الأنعام: من الآية151]، في سياق قائمةٍ من المحرَّمات التي حرَّمها الله "سبحانه وتعالى"، وفي أولها، وعلى رأسها، وأهمها: الشرك بالله، فهو أول المحرمات، {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، وتحدثنا عن هذا، وأتى بعد ذلك قوله "سبحانه وتعالى": {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، نجد أنه في هذه الفقرة من النص القرآني، في هذه الفقرة لم يأت ليقول: [ولا تسيئوا إلى الوالدين]؛ لأنه لا يكفي في علاقتك بوالديك عدم الإساءة، فتكون غير محسن، وغير مسيء، لا بدَّ من أن تكون محسناً، وإذا لم تكن محسناً؛ فهذا ذنب، من المحرَّم عليك أن تكون غير محسنٍ إليهما، فلا بدَّ من الإحسان، لا يمكن أن تقول: [لن أحسن ولا أسيء، وستكون علاقتي بوالديَّ علاقة عادية، كعلاقتي بأي إنسانٍ عادي، فلا أحسن إليه، ولا أسيء إليه]، لا بدَّ من الإحسان، هو العنوان الذي يضبط طبيعة هذه العلاقة مع الوالدين.

ثم بالنسبة للترتيب، بعد حق الله "سبحانه وتعالى"، وهو ربنا العظيم، المنعم الكريم، الخالق الملك، يأتي الحديث في هذا الترتيب نفسه عن الوالدين، والعلاقة مع الوالدين، والإحسان إلى الوالدين؛ لعظيم حقهما عليك، ففي الواقع البشري يأتي حق الوالدين كحقٍ عظيم، ويأتي ترتيبه في الآيات القرآنية منها في هذه الآية المباركة، ومنها في سورة الإسراء، عندما قال الله "سبحانه وتعالى": {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء: من الآية23]، وهكذا في موارد أخرى من القرآن الكريم، فالترتيب هذا بحد ذاته يبين لنا أهمية المسألة في موقعها من الدين، في موقعها في التزاماتنا الإيمانية، في موقعها في التوجيهات الإلهية، فليكن عندنا هذه النظرة تجاه هذه المسألة بحسب أهميتها الإيمانية والدينية والإنسانية.

الإحسان هو عنوانٌ مهمٌ وأساسيٌ في القرآن الكريم، وفي التربية الإيمانية، وفي توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، وبشكلٍ عام، إنما هناك خصوصية في مستوى الإحسان فيما يتعلق بالوالدين، فالإحسان إليهما ينبغي أن يكون أعلى مراتب الإحسان في العلاقات البشرية، وفي التعامل مع الناس، فلهما خصوصية في مزيدٍ من الاحترام، والتوقير، والاهتمام بأمرهما، والإحسان إليهما في التعامل، وفي الاهتمام بأمرهما.

ولهذا يأتي في القرآن الكريم التركيز على موضوع الإحسان في كثيرٍ من التوجيهات الإلهية، في عرضٍ للمواصفات التي يتَّصف بها ويتحلى بها المحسنون، وكذلك في الوعد بالأجر، والثواب، والخير، والمنزلة عند الله "سبحانه وتعالى".

يقول الله "جلَّ شأنه" في القرآن الكريم: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: من الآية195]، أمرٌ بالإحسان، وهذا أمرٌ عام: أن تكون محسناً في علاقاتك بشكلٍ عام، في تعاملك بشكلٍ عام، وكذلك في اهتمامك بأمر الآخرين، وهذا يبدأ من واقعك النفسي، من مشاعرك، من وجدانك، من ثقافتك، من فهمك للدين، ولدورك الإنساني، ومسألة الإحسان سواءً على مستوى التعامل، أو على مستوى الاهتمام بأمر الآخرين، وبالذات من هم من الفئات المعانية، عندما تهتم بالفقراء، عندما تهتم بالمساكين، عندما تهتم بالمظلومين، عندما تهتم بأمر المستضعفين، ثم- بشكلٍ عام- عندما تهتم بالمنكوبين، بالمتضررين، وهكذا بشكلٍ عام، الإحسان هو فطرة لدى الإنسان، والإنسان يستشعر أنَّ الإحسان هو قيمة إنسانية وأخلاقية، في نفس الوقت نرى أنه قيمة دينية ذات أهمية كبيرة في الدين، والتوجيهات القرآنية تعطيه أهميةً كبيرة.

والإنسان يستشعر بفطرته جمال هذه القيمة، كم لها من بُعدٍ إنساني، وأثرٍ إنساني، وإيجابية في مشاعر الإنسان، هي تعبِّر عن فضيلة، وعن خُلُقٍ حسن، وعن نفسٍ طيِّبة، فالإنسان المحسن هو في نفسه غير أناني، هو يحب الخير للآخرين، يحمل إرادة الخير للآخرين، يفكِّر بالآخرين
، يهتم بأمرهم، ليس أنانياً لا يفكر إلَّا بنفسه، ولا يبالي بغيره، ليس من النوع الحريص الجشع الطامع، الذي يتجه كل همه في إطار شخصيتة ونفسه فحسب.

ولذلك انعدام حالة الإحسان لدى الإنسان، تعبِّر عن خللٍ تربوي، عن خلل في نفسيته، في قيمه الإنسانية والإيمانية؛ لأنها تعبِّر عن حالةٍ من الأنانية، إلى درجة أنه لا يفكِّر بأمر الناس، ولا يستشعر معاناتهم، وقد يكون الإنسان في مجتمع فيه الكثير ممن يعاني، يعاني من الظروف الصعبة، من الفقر، من المرض، من... ويرى مجتمعه أيضاً إمَّا مجتمعاً مظلوماً مضطهداً، إمَّا مجتمعاً فيه المنكوبون، وفيه المعانون بمختلف أنواع المعاناة، فإذا وصل في قسوة قلبه، وتبلد مشاعره الإنسانية، ألَّا يأسى لحالهم، وألَّا يتألم لآلامهم، وألَّا يبالي بهم، وألَّا يكترث بحالهم، فالحالة هذه حالة خطيرة جداً، تدل على إفلاس في مشاعره الإنسانية، في قيمه الإنسانية، وتدل على ضعفٍ كبير في إيمانه؛ لأن للإيمان الأثر التربوي في نفسية الإنسان وفي مشاعره، تكون مشاعر خيِّرة، معطاءة، رحيمة، الإنسان يتربى على أساس الرحمة حتى في مشاعره، تتجذر الرحمة بالآخرين حتى في وجدانه، وحتى في شعوره، فيتألم عندما يرى حالات مأساوية، على مستوى المظلومية، أو على مستوى الفقر، أو على مستوى النكبة، أو على أي مستوى من المستويات التي تجمعها كلها عبارة المعاناة.

عندما يكون الإحسان موجوداً في مجتمعٍ من المجتمعات كسلوكٍ عام، وكغريزةٍ حافظ عليها الناس، وفطرةٍ نمت في مشاعرهم ووجدانهم وإحساسهم، وتجسَّدت كسلوكٍ في معاملاتهم واهتماماتهم، فإنَّ هذا المجتمع سيسوده الخير، والمحبة، والألفة، والتعاون، وأيضاً سيكون من الواضح فيه مستوى التكافل الإنساني، والتراحم فيما بين الناس، وهذا فيما هو ذو قيمة إنسانية عظيمة جداً يعبِّر عن أنَّ هذا مجتمع فيه الخير، فيه الإنسانية، فيه القيم العظيمة، فهو أيضاً له أهمية كبيرة على مستوى الاستقرار، على مستوى القوة في وحدة ذلك المجتمع، الانسجام فيما بين أبناء المجتمع، ترسيخ العلاقات الإيجابية فيما بين أبناء المجتمع، هذا له أهمية كبيرة في أمنهم واستقرارهم، وصلاح حياتهم.

أمَّا كلما غابت، إذا غابت مثل هذه القيم من أوساط المجتمع، وسادت حالة القسوة، وانعدام التراحم، واللامبالاة بأمر الآخرين، وعدم الاكتراث لحال من يعاني، فهذا المجتمع بقدر ما يتجلى فيه الخواء الإنساني، والإفلاس القيمي، وضعف الإيمان، فهو أيضاً سيفقد الاستقرار في داخله، ستزداد الفجوة والتباين فيما بين أبنائه، ستنتشر البغضاء والكراهية بين أفراد مجتمعه، سينتج عن ذلك إشكالات كثيرة، سيكون مجتمعاً بعيداً عن أن يتوحد في القضايا الكبيرة والجامعة التي تهمه، والتي ينبغي أن يتوحد، وأن تجتمع كلمته للتصدي لها؛ لأن هناك القضايا الجامعة، القضايا الهامة، التحديات الكبيرة، المسؤوليات الجماعية، هذه كلها تحتاج إلى أن يكون أبناء المجتمع فيما بينهم في حالةٍ من الألفة، والأخوة، والتعاون، والتراحم، والتقارب، والعلاقات الإيجابية، والمشاعر الإيجابية، فإذا سادت حالة الفرقة، والتباين، والبغضاء، والكراهية، والتنافر، وعدم الاكتراث، كلاً لا يكترث بالآخر، فهذه الحالة السلبية جداً ستكون عائقاً عن وحدة الكلمة، وعن الاعتصام بحبل الله جميعاً، عن الاجتماع في القضايا المهمة، في القضايا الكبيرة جداً، ولهذا نجد أنَّ الإحسان بقدر ما هو ذو قيمة إيمانية وأخلاقية وإنسانية، له أهمية كبيرة في أمور المجتمع، في قضايا المجتمع، في أن يكون المجتمع مجتمعاً قوياً في مواجهة التحديات التي عليه أن يتعاون في التصدي لها، وفي النهوض أيضاً بالمسؤوليات الجماعية التي عليه أن يتحرك فيها كأمةٍ واحدة.

يأتي الحديث عن الإحسان في القرآن الكريم بهذا الترغيب الكبير، وبهذا التشجيع العظيم جداً: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فالمجتمع على مستوى المجتمع بشكلٍ عام، والإنسان بمفرده أيضاً بشكلٍ شخصي، إذا كان محسناً، فهو يحظى بمحبة الله "سبحانه وتعالى"، وأكرم بهذا من شرفٍ عظيم، هذا مفتاحٌ لكل خير، أنت عندما تحظى بمحبة الله "سبحانه وتعالى"، فهذا بحد ذاته شرفٌ كبير، أعظم وسام شرف يمكن أن يناله الإنسان: أن يحظى بمحبة الله رب العالمين، ملك السماوات والأرض، وأن يكون بذلك في مصاف أوليائه وأحبائه، هذا شرف، شرف عظيم جداً.

البعض من الناس لو عرف أنه يحظى بمحبة ملك من ملوك الدنيا، رئيس، زعيم، مسؤول في مرتبة معينة، شخص له نفوذ معين، شخص له أهمية معينة، وأنه أصبح يحظى بمحبته، وله منزلةٌ عنده؛ لرأى في ذلك شرفاً كبيراً، ولاستشعر من خلال ذلك بالراحة النفسية، والاعتزاز، أصبح يحس أنه شخص له أهمية وله قيمة، وإلَّا لما حظي بمحبة عند ملك، أو رئيس، أو وزير، أو مسؤول، أو شخص له أهمية وقيمة اعتبارية.

أما عندما يكون من تحظى بمحبته، بالمنزلة عنده، بالمرتبة الرفيعة لديه، هو الله "سبحانه وتعالى"، ملك السماوات والأرض، رب العالمين، ذو الفضل العظيم، فهذا هو الشرف الكبير، ولكن لسوء حظنا، ولحقارة أنفسنا، ولضعف تربيتنا الإيمانية، قد لا ندرك قيمة هذه المسألة، أهميتها، قد لا نستشعر مدى عظمتها، ولكن لنسعى من خلال التربية الإيمانية أن نستشعر مثل هذه القيمة العظيمة، والأهمية الكبيرة، هذا أمرٌ تتوق إليه نفوس أولياء الله، يتسابقون، ويتنافسون، ويسارعون، في كل ما يعرفون أن فيه محبة الله "سبحانه وتعالى"، وأنهم سيحظون من خلاله بمحبة الله "جلَّ شأنه"، شرف عظيم، منزلة رفيعة جداً.

وأيضاً ما يترتب على ذلك من رعاية الله "سبحانه وتعالى"، ورعاية خاصة، بأكثر من رعايته الشاملة لكل عباده، فضل الله ورحمته عمَّت كل خلائقه، وكل عبادة، ولكن الرعاية التي هي بمحبة هي رعاية خاصة بأوليائه، يمنحهم فيها ما لا يمنح سائر عباده في رعايته الشاملة، ورحمته الواسعة.

عندما نتأمل مثلاً في واقعنا كصورة تقريبية للذهن، كيف تتعامل مع من تحبه، وماذا يمكن أن تخصه به نتيجةً لمحبتك الكبيرة له، فعلاقتنا بالله "سبحانه وتعالى"، عندما نحظى فيها بمحبة الله، ستأتي فيها الرعاية الخاصة، المزيد من الهداية، والتوفيق، والعزة، ورعاية خاصة في أشياء كثيرة، كما أنها ضمانةٌ للسلامة من عذاب الله "سبحانه وتعالى"، فهي ترغيبٌ كبيرٌ جداً، عندما يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة : 195]، وتكرر هذا في القرآن، أيضاً من مثل قوله "سبحانه وتعالى" في أوصاف المتقين، هو يعرضها في سورة آل عمران، عندما قال "جلَّ شأنه": {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: الآية134]؛ لأن هذه كلها مواصفات هي مواصفات للمتقين، وهي إحسان، فالإحسان ملازمٌ للتقوى، فالإنفاق في السراء والضراء هو لصالح من؟ لصالح المظلومين، لصالح الفقراء، لصالح المحتاجين، لما يخدم عباد الله، لما فيه المصلحة لعباد الله بشكلٍ، أو بآخر.

وكذلك كظم الغيظ والعفو عن الناس، هذا سلوك إحساني رفيع جداً، هذا من السلوك والتعامل بالإحسان، عندما تكظم غيظك تجاه من استفزك، تجاه من زل نحوك من أبناء مجتمعك المؤمن، عندما تعفو، فأنت تمارس هذا السلوك، الذي هو إحسان، وفي نفس الوقت لهذا أهميته الكبيرة في تقليص المشاكل في داخل المجتمع، والحفاظ على وحدة كلمته، للنهوض بمسؤولياته الكبيرة، ولتحركه في المواقف المهمة.

فيختم هذه المواصفات التي عرضها في الآية المباركة بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؛ لأنها كلها إحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وهو من أعظم ما قدمه الله "سبحانه وتعالى" من المرغبات في الإحسان، مما يشجع عليه، ومما يساعد على اندفاع الإنسان إليه.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً في القرآن الكريم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: من الآية56]، رحمة الله واسعة، ورحمته في الآخرة، ورحمته في الدنيا، هي أقرب ما تكون إلى المحسنين من غيرهم، يعني: هم من يحظون برحمة الله "سبحانه وتعالى" أكثر من غيرهم، وهم من هم أقرب إلى رحمة الله في كل المواقف، في كل الظروف، في كل المراحل، عند كل التحديات، هم الأقرب دائماً إلى أن يحظوا برحمة الله "سبحانه وتعالى".

يقول "جل شأنه": {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة: من الآية120]، فإحسانك لن يضيع منه شيءٌ أبداً، ولا يخفى على الله منه شيءٌ أبداً، قد لا تلحظ تفاعل مع إحسانك من جانب الناس، أو من جانب بعضهم، أو قد تتصور في بعض الحالات أنه ما قيمة إحساني هذا؟ ما هي ثمرته، ما هي جدواه، قد تتخيل هذا التخيل تجاه ما قد تلاقيه من جفاء من البعض، وإساءة من البعض، واستفزاز من البعض الآخر، ونكران من البعض الآخر، ولكنك لأنك مخلصٌ لله "سبحانه وتعالى"، وتتجه بآمالك نحوه "جلَّ شأنه"، فهو لن يضيع من أجرك شيء، كل ما تقدمه في إحسانك، في التعامل، والعطاء، والاهتمام بأمر الآخرين بكل أشكاله، فهو مكتوبٌ لك عند الله "سبحانه وتعالى"، لك عليه الأجر، لك عليه المقابل الكبير، عندما تكظم غيظك، عندما تعفو، عندما تقدم المال، عندما تحسن بكل أشكال الإحسان، فهذا له أهميته عند الله "سبحانه وتعالى"، أثره في الواقع، قيمته، والله لن يضيع شيئاً من أجرك، كله محسوب، وكله لن يضيع منه مثقال ذرة.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً عن جانبٍ من جوانب الإحسان الكبيرة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت: الآية6]، يعتبر الجهاد في سبيل الله وفق مفهومه القرآني الصحيح من أعظم الإحسان، من أعظم مراتب الإحسان، ومن أكبر ما تحسن فيه إلى الناس؛ لأن الجهاد في سبيل الله- كما كررنا هذا كثيراً- ليس وسيلةً لحماية الله والدفاع عنه، هو القوي العزيز، والغني الحميد، الجهاد في سبيل الله هو وسيلة لحماية الناس، لدفع الشر عنهم، لدفع الخطر عنهم،
لدفع العدوان عنهم، لدفع المجرمين والأشرار عنهم، فهو وسيلة حماية للناس أنفسهم، ووسيلة دفاع عنهم وهو دفع للخطر والشر والإجرام عنهم، منعٌ للمجرمين والأشرار المتسلطين من السيطرة عليهم، والاستعباد لهم، والإذلال لهم، والامتهان لكرامتهم، فهو إحسانٌ كبيرٌ إلى الناس، عندما تجاهد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، فأنت تحمي مجتمعك من أن يستعبد من المتسلطين الطغاة، من أن يقهر ويذل ويهان من خلال سيطرة الأشرار والمجرمين، أنت تدفع شر العدو عنه، أنت تتصدى لذلك العدو الذي يستهدف مجتمعك، يظلم أمتك، يقهر شعبك، وهكذا يعتبر هذا من أكبر الإحسان إلى الناس، وأنت قد تقدم حياتك في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، وأنت تدفع عن شعبك هذا الشر، وعن أمتك هذا الخطر، فيعتبر هذا من أعلى مراتب الإحسان، ولهذا ختمت هذه الآية المباركة بقوله "سبحانه وتعالى": {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

فنجد من مثل قوله "سبحانه وتعالى"، كل هذه المرغبات الكبيرة في الإحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: من الآية148]، وهنا: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، المحسنون وهم يجاهدون في سبيل الله، وهم يقدمون في سبيل حماية أمتهم الغالي والنفيس، حتى أرواحهم في سبيل الله "سبحانه وتعالى" والمستضعفين من عباده، هم يحظون بمعية الله، أن يكون الله معهم، وهذه عبارة مهمة جداً؛ لأنها جامعة لكل خير، إذا كان معهم، فهم الأقوى، هم المنتصرون، هم الذين سيفلحون، هم سيحظون برعايته القوية والعجيبة والشاملة والواسعة...الخ.

فأيضاً نجد من مثل قوله "سبحانه وتعالى": {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } وهو يحكي عن نبيه يوسف "عليه السلام"{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: الآية22]، نبي الله يوسف، وأنبياء الله بشكلٍ عام، من أعظم الصفات البارزة فيهم هي الإحسان، وكان من يعرفه يقول عنه إنا نراك من المحسنين.

هنا يقول الله "سبحانه وتعالى" أن نبيه يوسف "عليه السلام"، وحكى نفس الشيء عن نبيه موسى "عليه السلام" {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} في مرحلة شبابه، {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} آتاه الله حكماً، وآتاه علماً؛ فكان حكيماً، وكان عالماً، ثم يختم هذه الفقرة بقولة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: الآية22]، ليبيين أنها سنة من سننه "سبحانه وتعالى"، وأنه يعطي عباده المحسنين حكماً وعلماً، هذا ترغيب كبير جداً، فهي وسيلة من الوسائل التي تحصل بها على العلم والحكمة، الإحسان، الإحسان، هذا ترغيب كبير، ويدلنا على أهمية الإحسان، وما ينال المحسنون من الله "سبحانه وتعالى".

فالإحسان هو قاعدة أساسية للتعامل، وروحية مهمة جداً ملازمة للتقوى والإيمان، ويبدأ التعامل على أساس الإحسان والعلاقة على أساس الإحسان، ابتداءً من محيطك الأسري، من والديك أولاً، ولهما خصوصية في هذا التعامل، بالمزيد من الاحترام والتوقير، ألَّا تسيء إليهما، وفي نفس الوقت أن يتجلى إحسانك إليهما في التعامل، والتخاطب، والاهتمام بأمرهما، مثلما قال في سورة الإسراء: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء: من الآية23]، حتى في طريقة التخاطب والقول، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، وتصل أهمية هذه المسألة إلى درجة أن الله "سبحانه وتعالى" نهى عن الإساءة إلى الوالدين حتى المشركين، حتى ولو كانا مشركين، قال "جلَّ شأنه": {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}[العنكبوت: من الآية8]؛ لأنه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله، حتى لو كان الأب، ولو كانت الأم، من يأمرك بما هو معصية لله، لا يجوز أن تطيعه فيما هو معصية لله، ولكن مع ذلك يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: من الآية15]، تبقى الصحبة بالمعروف، تبقى مسألة الإحسان، في الاهتمام بأمرهما، في العناية بهما، في طريقة التعامل المحترمة معهما دون طاعةٌ فيما هو معصية لله "سبحانه وتعالى"، سواءً تجاه ما أمر، أو تجاه ما نهى.

فنكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وأياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ

الاثنين، 26 أبريل 2021

الشهيد ابو المطهر المروني

الشهيد ابو المطهر المروني 

ـــــ ..
بالأمس يودّع ستةٌ من أبناء أخوته شهداء ليودّع بعدهم أربعة عظماء من أبزياءه ثمّ ها هو يودّع اثنان أبنائه هما عبد الفتاح وحمزة شهداء وها قد ودّع قبلهم اثنان من أخوانه شهداء 
وها هو اليوم بشخصه وفي نفس الدرب وقضيته الحقة ومشروعه الجهادي يرتقي شهيداً في سبيل الله مكرّماً خالداً عزيزاً بعزة الجهاد ولواء الحق. 
هو ذا أبو مطهر ( إسما عيل حسين المروني ) الشهيد القائد والأب المجاهد والعم الشهيد والخال الشهيد والأخ الشهيد الذي ما تخلّف عن الجهاد ساعة واحدة وما تجاهل داعي الجهاد للحظةً واحدة فلم تغريه الدنيا ولم يؤخره حدث عن الجهاد واللحاق برجال الجيش واللجان الشعبية بالرغم من كبر سنّه إلاّ خرج مجاهداً ذائباً عن عن دين الله والمستضعفين من النساء والولدان في مواجهة الصلف السعودي الأمريكي وخسة المرتزقة الرخاص.
الشهيد ابو مطهر ( إسماعيل المروني ) من الكرام ولِدَ وبين الكرام نشأ وبزغ عوده وترعرع 
كريمٌ عاش بين أحضان أُسرة كريمة معطاءة خيّرة لا تقبل الهوان والعيش في ذلةٌ وصغار
آل المروني أسرة قدّمت عشرات بل مئات الشهداء من خيرة ابناءها ورجالها رفداً لجبهات العزة والكرامة يتسابقون وإلى الانتصار والعلياء يتنافسون وفي ذلك فليتنافس آل المروني عليهم من الله السلام والتحية والإكرام.
إجلالاً لله وإحقاقاً لحق الله ونصرة لدينه وثأراً لمن ظُلموا انطلق الوالد اسماعيل ومعه ابنائه واخوته وابناء عمومته وكل شرفاء اليمن حميعهم انطلقوا الى جبهات وميادين القتال لدفع شر الاشرار والدفاع عن اليمن الارض والإنسان والعقيدة.
ومن جبهة إلى أخرى تنقل قائد آل المروني أبو الشهداء منكلاً بأعداء الله شاهراً سيفه وقبضة زناد بندقيته إلى نحر المعتدين وأدواتهم المرتزقة 
جاهد جهادٌ حيدري ببصيرة ووعيٌ عالي تحدّى الصعاب نازل احدث السلاح وداس بقدمه الطاهرة على الحديد والمدرّعات وقهر الله به الخبثاء والعملاء والمعتدين
وبشموخ يماني هاشمي وعربيٌ أصيل وبإباءٌ ذماري آنسيٌ نبيل وثب العميد ابو مطهر المروني وثبة الأُسود ظرغامٌ يباهي بحقه وبقضيته التي خرج مجاهداً في سبيلها وفي رضى لله بذل الغالي  النفيس ووهب حياته ومماته لله وإعاره جمجمته نصراً وعزّاً او شهادة في سبيله .
ليرتقي اليوم بعد حياة حافلة بالعطاء والجهاد شهيدٌ إلى العليا غادرنا إلى جنة الفردوس حيث ينتظره من سبقه من ابنائه وابناء عمومته واخوانه وشهداء المسيرة القرآنية التي ما بخل الشرفاء والاطهار من البذل والعطاء ومستمرون حتى النصر او الشهادة او ان يحكم الله بيننا وبين القوم المعتدين الضالمين.
وها قد احسن الله خاتمة الشهيد واصطفاه الى جنة الخلد شهيداً بنعيمها يتنعم وبخلودها الدائم يستبشر بالذين من خلفه ألاَّ خوفٌ عليهم من النار ولا هم يحزنون .
رحم الله الشهيد القائد المروني ابو المطهر اسماعيل حسين المروني
تقبله الله بقبولٍ حسنٍ وغفر له 
وهي لابنائه الفضلاء واخوته الأعزاء المجاهدين الكرماء
وهي لأُسرة العطاء والتضحية والجهاد آل المروني 
وهي لأُسر الشهداء والمجاهدين والأسرى والمرابطين والجرحى ولكل الشرفاء من يجاهدون أئمة الكفر والنفاق وتحالف العدوان

نص المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

نص المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 13رمضان 1442هـ 25-04-2021
اليمن
 25 نيسان/أبريل 2021

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
  
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

 

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛

في سياق الحديث عن خطورة الشرك بالله “سبحانه وتعالى” في شقيه (الاعتقادي، والعملي)، وصلنا إلى الحديث عما يعتبر من الشرك العملي: وهو الرياء والعياذ بالله.

وهنا نتحدث عن أهمية الإخلاص، وعن خطورة الرياء، وما يترتب على كلٍّ منهما.

عند التأمل في القرآن الكريم نجد آياتٍ كثيرة ركَّزت على موضوع الإخلاص لله “سبحانه وتعالى” في عبادته، الإخلاص له في الدين، ونقرأ بعضاً من تلك الآيات المباركة:

 

يقول الله “سبحانه وتعالى” مخاطباً لنبيه محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر: 2-3]، في هذه الآية المباركة في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، يبين الله “سبحانه وتعالى” أنه أنزل القرآن الكريم وفيه تعليماته، وفيه توجيهاته، وفيه شرعه، وهو الذي يتضمن تعاليم هذا الدين، فيقول: {فَاعْبُدِ اللَّهَ}؛ لأن عبادة الله تتحقق من خلال العمل بهذا الكتاب، والإتِّباع لهذا الكتاب، والاهتداء بهذا الكتاب، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، والإخلاص هنا يشمل الجانب الاعتقادي والجانب العملي.

 

{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، وهذا إعلان عام: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، فواجبنا جميعاً، واجب البشر جميعاً: أن يدينوا لله “سبحانه وتعالى” بإخلاص، بشكلٍ خالص، ألَّا يشوبوا دينهم وعبادتهم لله “سبحانه وتعالى” بأي شائبةٍ من الشرك، لا على المستوى الاعتقادي، ولا على المستوى العملي، وهذا هو الإخلاص لله “سبحانه وتعالى”، فما تعبد الله به من العبادات، وما تتقرَّب به إلى الله “سبحانه وتعالى” من القربات، تقدِّمه خالصاً لله “سبحانه وتعالى”، من أجله “جلَّ شأنه”، تبتغي مرضاته هو؛ وبالتالي ليس لك هدفٌ آخر، أو مقصدٌ آخر من خلال ذلك، لا في صلاتك، ولا في حجك، ولا في زكاتك، ولا في إنفاقك، ولا في صدقاتك، ولا في قولك الحق، ولا في جهادك، ولا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، ولا في مواقفك الحق، كل ما تعمله من هذا الدين، تعمله لأجل الله “سبحانه وتعالى”، وليس لأيِّ مقصدٍ آخر من الناس، لا مقصدٍ ماديٍ ولا معنوي، لا لكي تحصل على مكاسب مادية في مقابل ما تعمله من هذا الدين، ما تقوم به من هذه القربات والأعمال الصالحة، التي هي من دين الله “سبحانه وتعالى”، ولا مقاصد معنوية، مثل: المديح، والثناء من الآخرين، أو منصب معين، أو سمعة معينة، ومكانة معينة في نفوس الناس، أو في نفوس بعضهم، أو في نفس أيِّ شخصٍ منهم، فتعمل ما تعمل من دينك وأنت تتقرب به إلى الله “سبحانه وتعالى”، من أجله فقط، ليس لك أي مطلب ولا مقصد آخر من غير الله “سبحانه وتعالى”، هنا يكون ما قدَّمته خالصاً من أي شائبة؛ لأنك اتجهت به إلى الله “جلَّ شأنه”، ولم تتجه به إلى غيره.

 

أمَّا إذا دخل هذا المقصد الآخر، سواءً في صلاتك، تصلي وتتقرَّب بذلك إلى الله، ومع ذلك تبتغي أن تحصل على سمعة طيِّبة، وتنتظر من الآخرين الثناء، والإشادة بك، أو تجاهد وأنت تريد أن تحصل على الأجر والثواب، في نفس الوقت تبتغي وتحرص وتنتظر من الآخرين أن تحصل منهم على ثناء، على مديح، على مكانة في نفوسهم، على احترامٍ من جانبهم، على تقديرٍ من جانبهم، وتتوجه كهدف أساسي لهذا، جزءٌ من هدفك في العمل هو هذا الهدف، وحتى لو لم يتحقق لك هذا الهدف؛ ستغضب، وتستاء، وسيؤثِّر ذلك على عملك نفسه، ففي كل أعمالك: في جهادك، في إنفاقك، في عطائك وإحسانك، في قولك الحق، في مواقفك الحق… في كل ما تعمله من الأعمال الصالحة، كل الذي تعمله من هذا الدين، يجب أن يكون خالصاً من أجل الله “سبحانه وتعالى”، من أجل الله “سبحانه وتعالى”، وتبتغي كل الخير من عنده، كل الخير هو من عنده.

 

يقول الله “سبحانه وتعالى” معلِّماً لنبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وهو تعليمٌ أيضاً لكل مؤمن: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر: الآية11].

 

يقول “جلَّ شأنه” أيضاً: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[غافر: من الآية65]، وهذا خطابٌ للجميع بشكلٍ مباشر، يتوجه إلينا جميعاً: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}؛ لأنه لا إله إلا هو، فكل ما نعمله من الدين، وما نتقرَّب به من الدين، يجب أن نتقرَّب به إليه وحده، وألَّا يشوب إخلاصنا في ذلك أي شائبةٍ من شرك، لا عقائدي ولا عملي، ولا رياء؛ باعتباره من الشرك العملي.

 

يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة: من الآية5]، فلا بدَّ من الإخلاص في العبادة، في الدين، في الدعاء بعنوانه العام، وعنوانه الخاص، لا بدَّ من الإخلاص لله “سبحانه وتعالى”، هذا جزءٌ أساسيٌ من توحيدك لله “سبحانه وتعالى”، هو من مصاديق توحيدك لله “سبحانه وتعالى” على المستوى العملي.

 

يقول “جلَّ شأنه” وهو يعلَّمنا كيف نتخاطب مع أهل الكتاب: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}[البقرة: من الآية139]، وهذا أيضاً من الإخلاص بمعناه العام، الإخلاص في الدين، الإخلاص في العبادة، والسلامة من كل شوائب الشرك الاعتقادي والعملي.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً فيما يتعلق بالجهاد في سبيل الله، ويتكرر هذا في القرآن كثيراً: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، عند الأمر بالجهاد يأتي بقوله “سبحانه وتعالى”: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ويتكرر هذا كثيراً؛ وذلك ليكون جهادك من أجل الله أولاً، وليس من أجل هدفٍ آخر، أو مقصدٍ آخر تبتغيه من الناس، لا سمعة، ولا مكانة، ولا منصب، ولا مديح، ولا مكاسب مادية تبتغيها في مقابل ذلك، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: من أجله، هذا أولاً، ووفق الطريقة التي رسمها وحددها في كتابه، فيكون تحركك في سبيل الله وفق تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، وملتجئاً إليه، ومعتمداً عليه، ومتوكلاً عليه.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً فيما يتعلق بالجهاد: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج: من الآية78]، وهذا أيضاً بشكل أبلغ من قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يفيد أن يكون جهادنا في سبيل الله بكل إخلاص لله “سبحانه وتعالى”، ومن أجله، وابتغاء مرضاته، ومحبةً له، وطاعةً له، فيكون توجهنا في ذلك كله إلى الله “سبحانه وتعالى” من دون أي شائبة.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً عن الجهاد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت: الآية69]، وهنا كذلك: {فِينَا}، من أجل الله “سبحانه وتعالى”، لا يدخل أي شائبة، أي مقصدٍ آخر من الناس نهائياً، هذا يخرِّب جهادك، يعطِّل جهادك، هذا مما يصرف الكثير عن مواصلة الجهاد في سبيل الله؛ لأنها تدخل مثل هذه المقاصد الشخصية، والأهداف الشخصية، وما يريدونه في مقابل ذلك من الناس، ما يريده من الناس، ما يريده من هذا أو ذاك، من هذه الشخصية القيادية أو تلك، وهذا يؤثِّر.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً عن الجهاد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: الآية207]، يبيع نفسه من أجل الله، ابتغاء مرضاة الله، فهو يسعى للحصول على مرضاة الله، هي هدفه الرئيسي، وليس مرضاة الناس، أو المواقع المعينة (مواقع المسؤولية)، أو المناصب المعينة تتحول هي إلى هدف رئيسي يعلِّق عليه جهاده، مكانة وسمعة معينة، مقاصد مادية ومكاسب مادية يعلِّق عليها جهاده.

 

يقول “سبحانه وتعالى” عن الإنفاق: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى}[الليل: الآية17]، يعني: يجنَّب النار، نار الله وعذابه الشديد، {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}[الليل: 17-20]، هو لا يبتغي في مقابل ما ينفقه من المال، لا يبتغي به مقابلاً من الناس، من أيِّ أحدٍ من الناس، كبيرٍ أو صغير، سمعة عامة، أو مكانة خاصة، عند شخص معين، عند شخص قيادي، عند شخص له مكانة معينة، أو لدى الناس عموماً، أو في محيط معارفه أو مجتمعه؛ إنما هدفه الحصري: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}، ما يريده هو يريده من الله، وليس من الناس، هو في المقدِّمة يبتغي مرضاة الله “جلَّ شأنه”، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل: الآية21].

 

أيضاً فيما يتعلق بقيمة العمل الصالح، وفضله، والأجر العظيم عليه، وهذا مما يشجِّع على الإخلاص: أنك عندما تعمل ما تعمله من دين الله، وتنفِّذ ما تنفِّذه من توجيهات الله ابتغاء مرضاته، ومن أجله، ومن دون أي شائبة رياءٍ، تحصل على الأجر الكبير، والفضل العظيم من الله “سبحانه وتعالى”.

 

فيما يتعلق بالإنفاق يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة: الآية265]، الإنفاق {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}، {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: يرجون لأنفسهم التثبيت من الله، فكل هدفهم ومبتغاهم هو من الله، وليس من الناس، لا سمعة، ولا مديح، ولا ثناء، ولا مكانة معينة يطلبونها من الناس، مَثَلُهم في هذا المثل، في هذه الآية المباركة، {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ}، جنة في مكان مرتفع وممتاز، وموقع متميز، خصب، مُنتِج على المستوى الزراعي، {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}، فيأتي للإنفاق أثره الكبير في نفوسهم، ويأتي للإنفاق أثره العظيم في أجرهم المضاعف، وفي نتائجه وآثاره الطيِّبة، {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}، ولو لم يصبها وابل، ولو لم يصبها إلَّا القليل يأتي عطاؤها الواسع.

 

يقول “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بمساعي الخير من صلحٍ بين الناس، أو أمرٍ بصدقة، أو أمرٍ بمعروف: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}[النساء: من الآية114]، هذه مساعي خير، لكن ما الذي يفترض أن يكون الدافع إليها؟ {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: من الآية114]، من يفعل ذلك ليس ليحصل على مكانة كبيرة في المجتمع، ووجاهة في المجتمع، أنه يحل مشاكل الناس، وأنه يقوم بدور إيجابي في معالجة مشاكل الناس وفي خدمتهم، ما يقدِّمه من الخدمة في مجتمعه، سواءً خدمات من هذه الخدمات الإحسانية، خدمات إحسان: أمر بمعروف، صدقة، أو فيما يتعلق في الصلح بين الناس، يفعله ابتغاء مرضاة الله، هو لا يعمل ليحصل على مقابل من الناس سمعة، ومكانة، واحترام، ووجاهة… وغير ذلك، ما يريده يريده من الله.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً عن أجر العمل بشكلٍ عام: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة: الآية7]، وهذا فيه طمأنة كبيرة، على أنَّ ما تعمله من أجل الله “سبحانه وتعالى”، ما تعمله من الخير قربةً إلى الله، فأنت ستراه، وسيعطيك الله عليه الجزاء في المقابل، المقابل لذلك من الله، وما تحصل عليه من الله هو الشيء العظيم جداً.

 

يقدِّم في القرآن الكريم طمأنةً على الأجر، على المقابل العظيم لما تعمله من العمل الصالح قربةً إلى الله “سبحانه وتعالى”، يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}[طه: الآية112]؛ لأن كل ما عمله محسوبٌ له، وسيجازيه الله خير الجزاء عليه، وعظيم الجزاء عليه، ولن يغيب منه شيء، ولن ينقص منه شيء، ولا مثقال ذرة، فلا يخاف أنه سيقول: [أنا فعلت كذا، عملت كذا، ضحيت بكذا، قدَّمت كذا، سعيت كذا، فعلت كذا، ولكن ذهب جهدي هذا أدراج الرياح، أين التقدير لجهودي هذه؟ أين الجزاء على أعمالي ومتاعبي هذه، ومعاناتي هذه، وعطائي هذا]، {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}، فأنت ستوفى كل أجرك، لا نكران لجهودك، لا نكران لعملك، لا تجاهل لسعيك، هو كله محسوب، مقدَّر طالما قدَّمته بإخلاص، ووفق توجيهات الله وتعليماته، فلن يضيع منه مثقال ذرة، وما تحصل عليه من الله هو المهم، هو العظيم، هو الدائم، هو الذي فيه الخير لك في الدنيا والآخرة.

 

يقول “جلَّ شأنه”: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: الآية40]، يضاعف الأجر الكبير، ليس فقط يحسب لك العمل، بل ويضاعف لك عليه الأجر الكبير الواسع، الأجر من الله أجر شامل وواسع، أجر معنوي، وأجر مادي، وأجر عظيم ومكانة.

 

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: من الآية171]، وهذه ضمانة يقدِّمها الله لكل المؤمنين فيما عملوه، فيما قدَّموه، في تضحياتهم، في جهودهم، أنه لا يضيع عليهم من أجرها أي شيء نهائياً، على أي مقدار أبداً، ولا على أي جهد نهائياً، هل يريد أحد أكثر من ضمانة يقدِّمها الله له؟

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: من الآية56]، {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، فهو “جلَّ شأنه” يمنحهم الأجر على ما عملوه في الدنيا وفي الآخرة، جزءٌ من الأجر بأشكال متعددة: رعاية واسعة، ألطاف عجيبة، دفع للشر عنهم، تثيبت وهداية وتوفيق… الأجر عنوانٌ واسع، يدخل فيه رعاية من الله واسعة تشمل جوانب كثيرة: تشمل الرعاية المادية، والرعاية المعنوية، وصرف الشر، والتوفيق، والتثبيت، والهداية، وتشمل أيضاً توفية الأجر بغير حساب، بالوصول إلى رضوان الله، وجنته، والنعيم الدائم، والسلامة من عذابه.

 

يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}[البقرة: من الآية197]، لا تقلق أنه يمكن أن يكون لم يطَّلع على عملٍ معين من أعمالك، من أعمال الخير التي عملتها، تقول: [يمكن لم يصل إليه العلم بذلك، لم يطَّلع على ذلك، لم يعرف بذلك، إذاً سيضيع أجري]، كل ما تعمله من خيرٍ يعلمه “جلَّ شأنه”، فهو يعلمه، ويجازيك عليه بخير الجزاء، لا يمكن أن يغيب عنه لأنه لم يصل إليه تقرير من المسؤول الفلاني، أو المعني الفلاني، أو المشرف الفلاني، هو العليم بكل عباده، وبكل ما يعملون.

 

أيضاً من العطاء الإلهي، الذي يعطيه الله “سبحانه وتعالى” العزة، فالإنسان مثلاً قد يكون راغباً في أن يحظى بالعزة في هذه الحياة، وأن يكون عزيزاً، إذا أردت العزة، فلا تنشدها من الناس، ولا تتقرب بالأعمال الصالحة، والأعمال العبادية، تتقرب بها إلى الناس؛ تبتغي بها العزة منهم، بل أخلص لله “سبحانه وتعالى”، وبإخلاصك لله “سبحانه وتعالى”، وعملك وفق توجيهاته تحصل منه هو على العزة، ويمنحك العزة يقول “جلَّ شأنه”: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر: من الآية10]، فتنال العزة من الله “سبحانه وتعالى” عندما تتجه بنيتك، بمقصدك، فيما تعمله من الأعمال الصالحة، فيما تتقرب به من العبادة إليه وحده “جلَّ شأنه”.

 

يقول أيضاً فيما يتعلق بالنصر، أنت تريد أن تنتصر، تكون قوياً، تحسم الصراع مع أعدائك لصالحك، يقول “جلَّ شأنه”: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]، فتحرك وأنت تتحرك من أجل الله، من أجل الله، ليس لتحصل على صيت، أنك الفاتح العسكري، أنك الذي يحسم المعركة لصالحه، أنك الذي يتمكن من التقدم والغلبة وكسر الأعداء، وتريد هذه السمعة من الناس، وتعمل من أجل ذلك، وأنك من فتحت الموقع الفلاني، أو المعسكر الفلاني، أو المنطقة الفلانية، وأنك وأنك، لا، تعمل من أجل الله، من أجل الله، وتريد منه هو رضاه، وتتحرك وفق تعليماته، وهنا سينصرك، سينصرك، وهو الذي سيجعلك منتصراً، وفاتحاً، وغير ذلك، فاتجه بمقصدك إليه “سبحانه وتعالى”، والحديث يطول عن هذا الجانب في القرآن الكريم كثيراً كثيراً.

 

ثم نأتي إلى التحذير من الرياء، يقول الله “سبحانه وتعالى” مخاطباً لنبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: الآية110]، هذه الآية المباركة من المعروف بين المفسرين وفي التاريخ والحديث أنها نزلت بشأن مجاهدين سألوا النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، عمَّا إذا كان الإنسان يجاهد وهو يريد رضوان الله، ويبتغي مرضاة الله “سبحانه وتعالى”، ولكنه مع ذلك يحب أن يذكر بين الناس بشجاعته وبإقدامه، وبسالته، وتضحيته، فهو يريد من الله الأجر، ويريد من الناس الصيت، السمعة، الإشادة، المديح، فهل سيؤتى الأجر على ذلك؟ فنزلت هذه الآية المباركة لتحسم الأمر حسماً نهائياً، من غير المقبول أن يكون لك مقصدٌ تتجه به إلى الناس، ليكن كل مقصدك من الله، كل الذي تبتغيه وترجوه من الله “سبحانه وتعالى”، هنا تكون مخلصاً؛ أما إذا شاب جهادك، مواقفك، قولك الحق، عطاءك، إنفاقك، شائبةٌ من هذه الشوائب، تريد منها مقابلاً من الناس، فهذا هو الرياء، وهو شرك، شرك عملي، ولو كنت محسوباً على المسلمين، وأنك مسلم في انتمائك الإسلامي والديني، ولكنك تكون قد ارتكبت جريمةً من أكبر الجرائم؛ بسبب الرياء، يتحول هذا الأمر إلى شرك.

 

يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً في التحذير من الرياء، وأنه يبطل الأعمال، يجعل عملك، لا قيمة له، لا تحصل في مقابله على الأجر من الله أبداً، ولا تكسب به كل النتائج الإيجابية للعمل الصالح، الذي تعمله ابتغاء مرضاة الله، وهو في سياق الحديث عن الصدقة والإنفاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}[البقرة: من الآية264]؛ لأن المن، عندما تتمنن بما أعطيت، مما يبطل صدقتك، والأذى كذلك، عندما تتبع ما أنفقت أذية، هذا يبطل صدقتك، ثم يقدم مثالاً مهماً، يربط به هذا الإبطال أيضاً، يقدمه أنه أيضاً من أكبر ما يبطل الصدقات ويفقدها قيمتها، {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} صخرة كبيرة ملساء عليها تراب {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} مطرٌ غزير {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} ذهب بكل ما عليه من التراب، فبقي صخرةً ملساء، ليس عليها شيءٌ من الطين، {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}، هذه هي الخلاصة، هذا هو ما يعنيه المثل، لا يقدرون على شيءٍ مما كسبوا، يكون عملك مهما كان، صلاتك، صيامك، زكاتك، حجك، إنفاقك، زكاتك، عطاؤك، جهادك، مواقفك، قولك الحق، وقفتك الجادة في موقفٍ من مواقف الحق، أي موقف دخله الرياء يبطل، لا قيمة له، لا أجر عليه، لا فضيلة منه؛ وبالتالي أنت خاسر، هذا يجعلك تخسر، أمر خطير جداً، {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}.

 

يقول “سبحانه وتعال” أيضاً في سياق التحذير من الرياء في الإنفاق: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ليس بدافعٍ إيماني، الرياء هو يبطل الدافع الإيماني، هو يذهب بالدافع الإيماني، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}[النساء: الآية38]، لاحظوا والعياذ بالله كيف يتحول الإنسان إلى قرين للشيطان بسبب الرياء، بسبب الرياء تصبح أنت مقترناً بالشيطان، وقريناً، ويكون الشيطان قريناً لك، وساء قرينا.

 

يقول “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بالصلاة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون: 1-6]، فعندما ترائي حتى في صلاتك، فالويل لك، وهنا يتبين لنا أنك لا تقتصر خسارتك فقط على ذهاب الأجر، على أنك لم تحظ بالأجر، لم تحظ بقبول العمل، بل أكثر من ذلك، يتحول ذلك العمل بنفسه إلى معصية، يتحول ذلك العمل بنفسه إلى معصية؛ بسبب الرياء، أشبته بشائبة جعلت منه معصيةً، بدلاً من أن يكون قربةً تحظى من خلالها بذلك الأجر العظيم والفضل الكبير.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً فيما تعلق بالجهاد والمجاهدين: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}[الأنفال: من الآية47]، (بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ): لا يكون هناك سعي للرياء، والعرض أمام الناس، يكون هناك حرص على مرضاة الله “جلَّ شأنه”.

 

يقول أيضاً عن واحدةٍ من صفات المنافقين البارزة، فيما يتظاهرون به من أعمال الخير: {يُرَاءُونَ النَّاسَ}[النساء: من الآية142]، فمن أهم صفات المنافقين الرياء والعياذ بالله، ومن أكثر آفاتهم، وأخطر آفاتهم التي يعانون منها في دينهم: الرياء، فإن عملوا خيراً، فلهم مقاصد للرياء أمام الناس.

 

فنجد من خلال هذه الآيات المباركة أن من أهم ثمرات الإخلاص لله هو:

 

قبول العمل:

 أن يقبل الله منك عملك، أن يتقبل منك عملك الصالح، يتقبل منك عبادتك، أن يتقبل منك جهادك، لا بدَّ من الإخلاص، وأن يكون لعملك قيمته في الأجر، والفضل، والقربة، وأثره في واقع هذه الحياة، وأن يكتب لك أثر عملك، الذي قد يبقى أحياناً على مدى أجيال، وكذلك في نتائج العمل وفي نموه، أن يبارك الله عملك وجهودك في أثرها في نفسك، وفي أثرها في الواقع، وأن يحقق لك النجاح الكبير، هذه قيمة مهمة للإخلاص، وعظيمة وأساسية.

 

ثانياً: الفاعلية في العمل:

من أهم ثمرات ونتائج الإخلاص، أنك ستعمل بكل فاعلية، بكل جد، وفي كل الأحوال، في السر، والعلن، المرائي ينشط إذا كان أمام الناس، أو إذا كان يلحظ أن الناس يلهجون دائماً بالإشادة به، والحديث عنه؛ أما بمجرد أنه يلحظ أن الناس لم يتفاعلوا بالمديح والثناء والإشادة، أو لم يقدموا له ما يبتغيه منهم: منصب معين، مكانة معينة، رتبة معينة، عنوان معين، فهو سرعان ما يتحطم، ويتكاسل عن العمل، ويستاء من العمل، ويقول: هؤلاء لا يقدرون لي جهودي، ولا يهتمون بأعمالي، ولا يلحظون لي إنجازاتي؛ فيستاء.

 

لكن الذي مقصده الله، ومرضاة الله، وتوجهه نحو الله، وما يريده يريده من الله؛ سيكون نشيطاً في كل الأحوال، فاعلاً، ولو كان وحيداً في الصحراء، لا ينتظر من فلانٍ أن يراه، ولا من فلانٍ أن يقدر عمله، ولا من فلانٍ أن يشيد به، وإلا تكاسل وتخاذل، لا، هو ذلك الجاد والمهتم في كل الأحوال.

 

فمن أهم الثمرات العظيمة للإخلاص هو الفاعلية، والجد في العمل؛ لأنك تدرك أن الله يراك أينما كنت، ويقدر جهودك، ويعلم بأحوالك، وأنه لا أحد يقدر جهودك كالله “سبحانه وتعالى”، الذي يعلم حقيقة عنائك وجهدك، وقيمة عملك، هو”جلَّ شأنه” من يحيط بك، ويعلم بكل أحوالك، الناس لا يستطيعون حتى لو كان لديهم رغبة أن يهتموا بك، أن يشيدوا بك، أن يقدروا عملك، لن يحيطوا علما وخبراً بمقدار عنائك، بمقدار جدك، بمقدار اهتمامك، بمقدار إخلاصك، ثم مهما قدموا لك فهو لا شيء، في مقابل ما يقدمه الله “سبحانه وتعالى”، فالفاعلية في العمل، في السر والعلن، وفي كل الأحوال والظروف، والجد في العمل بشكلٍ مستمر هو من ثمرات الإخلاص.

 

من أهم أيضاً ثمرات الإخلاص هو: الحفاظ على التوحد، والإخاء، والتعاون، والألفة، فيما بين المؤمنين:

بإخلاصهم لله “سبحانه وتعالى” فهم لا يدخلون في إشكالية الأنانية، الأنانيات والمقاصد الشخصية مدمرة للأخوة؛ أما مع الإخلاص فلديهم القابلية أن يتحركوا جميعاً بكل تفاهم، بكل تآخٍ، بكل تعاون، بكل محبة، وكلٌ منهم ليس له مقصد شخصي من الآخر، ينتظره نحوه.

 

أيضاً فيما يتعلق بخطورة الرياء:

 

من أكبر مخاطر الرياء هو خسران العمل، خسران الجهود، فالله لن يقبل منك أي عمل: لا جهاد، ولا إنفاق، ولا صلاة، ولا أي عمل ترائي فيه.

أيضاً لن تحظى بالنتائج والآثار الإيجابية للعمل، ستخسر كل ذلك الذي كان الله سيعطيك في مقابل عملك في الدنيا والآخرة، وهي خسارة رهيبة جداً، وإذا حصلت على شيءٍ من الناس، فهو شيءٌ وهميٌ وزائلٌ وبسيط، ليس له أي قدر في مقابل ما خسرته من الله “سبحانه وتعالى”.

من السلبيات الكبيرة للرياء:

 

هي السلبية في الأداء العملي: الذي أصبحت له مقاصد شخصية، سواءً في جهاده، أو في أعماله الأخرى، في الأعمال الدينية، فأداؤه يكون أداءً سلبياً، لا فاعلية فيه، لا جد فيه، مليء بالعقد، مليء بالسلبيات، مليء بالإشكاليات، كثير التذمر، كثير الاستياء، كثير العقد، ويحد من فاعليته، لن يعمل بجدية، وبراحة، وبتفاعل، وبجد، كثير التململ، ضعيف الجدية، وقد يصل إلى التوقف، قد يتوقف لأي عائق، لأي استفزاز، لأي إشكالية، وكأن عمله كان من أجل الناس، بمجرد أن استفزه أحدٌ منهم، أو أساء إليه، أو واجه معه إشكالية، أو حصل له أي عقده، فوراً يتوقف، كأن عمله كان للناس، وليس لله “سبحانه وتعالى”، هذا دليل على الرياء.

من أخطر أسباب الفرقة، والأنانية، وعدم الانسجام، والتعقد، في الأداء العملي. فعلاً الرياء خطير.

المقاصد الشخصية التي تنحرف بك عن الإخلاص لله: أصبح لك مقصد شخصي، أن يكون لك منصب معين، تكون مدير أمن، أو تكون قائد عسكري، أو رتبة معينة، أو وظيفة معينة: وزير، أمير، قائد، مدير… أي موقع معين، سمعة معينة، نفوذ معين، إمكانيات مادية معينة، أن تعطى وتعطى وتعطى، هذه المقاصد المادية والمعنوية من الناس، عندما تكون مقصداً شخصياً لك في العمل، فلها أثر سلبي جداً، تتحول إلى إنسان معقد، وكثير الإشكاليات ويرتبط توجهك العملي بذلك، فأنت لن تستمر في جهادك إلا في مقابل أن تعطى أشياء مادية، أو تحصل على مناصب معينة، أو مواقع معينة، تربط عملك بذلك، لن تقف موقف الحق إلا بذلك، لن تتحرك في واجباتك ومسؤولياتك إلا بذلك.

والكثير من الناس يتوقفون عن العمل في سبيل الله والجهاد في سبيل الله؛ لمّا تغيرت مقاصده، بل إن البعض يكون سباقاً، وتحرك في مراحل معينة، وكان تحركه تحركاً جيداً، ومنطلقاً، ومستمراً؛ لأنه كان سليماً من هذه المقاصد الشخصية، كان يتحرك لا ينتظر مكاسب مادية، ولا مناصب، ولا مواقع في مناصب معينة، يتحرك بشكل كإنسان عادي مخلصاً لله، هدفه ومقاصده من الله، ومبتغاه من الله، ولذلك كان يستمر، بعد أن كان من ثمار إخلاصه- في مراحل معينة- أن يرفع الله من شأنه، أن يجعل له قدراً واحتراماً، أن يهيئه لأعمال أكثر أهمية، ومسؤوليات أكثر أهمية، وعند التمكين ينفذ الشيطان إلى نفسه، فتبرز المقاصد الشخصية، يصبح المنصب عنده مسألة أساسية، لن يواصل إلا بها، وقد يكون منصباً محدداً، تصبح المطالب المادية أساسية عنده، لن يواصل إلا بها، ينسى ان ما وصل إليه سابقاً كان بإخلاصه، وكأنه إن لم يكن مكافحاً ومقاتلاً ومشتداً، ومستخدماً كل أسلوب أن يكون له هذا الموقع المهم، ويستخدم أي وسيلةٍ يراها أنها وسيلة ضغط، فإن الناس سيهمشونه، لن يكون له أي قيمة، أي قدر، هنا أصبح القدر عنده مسألة يحصل عليها من الناس، ويسعى إلى كيف يحصل عليها من الناس، بالتذمر، بالاستياء، بالعقد، بالتشويه… بوسائل كثيرة، أو بالتوقف عن العمل، ومحاولة أن يقول أنا لن أواصل إلا في مقابل ومقابل ومقابل.

 

فمن أهم سلبيات المقاصد الشخصية: أنها تنحرف بالإنسان بشكلٍ كليٍ عن الاستمرار في العمل في طاعة الله “سبحانه وتعالى”، وهذا ملحوظ، الكثير من الناس ممن كانوا سباقين في مراحل معينة، ما أوقفهم إلا المقاصد الشخصية، إلا حين نسوا الله، لو بقي الله مقصدهم، والله مبتغاهم، لما توقفوا، هل هناك مشكلة بينك وبين الله؟ احتجاج تحتج به على الله؟ الرياء ثم الرياء والمقاصد الشخصية هي التي تجعل الإنسان يقطع ما أمر الله به أن يوصل، يتجمد في مرحلة معينة عن الاستمرارية في العمل في طاعة الله، في الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، والإنسان هو الخاسر، في مثل هذه الحالة أنت الخاسر، لو تقرأ في القرآن الكريم ما وعد الله به من الأجر العظيم والفضل العظيم، وما توعد به، ستدرك خسارتك، ما توعد به المفرطين، المقصرين، العصاة، ستدرك خسارتك أنت.

 

في آخر المطاف يتضح لنا أننا من نحتاج إلى الإخلاص، الله “سبحانه وتعالى” عندما أمرنا بالإخلاص ليس من منطلق أنانية، هو الغني عنا وعن أعمالنا، لكن الإخلاص له قيمته، أثره، في أنفسنا، في أعمالنا، في حياتنا، في نجاحنا، ولذلك نعتبر هذا المقدار من هذه الآيات المباركة، والتذكير على ضوئها كافٍ في إدراك أهمية هذه المسألة. 

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الأحد، 25 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 12رمضان 1442هـ

نص المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 12رمضان 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نستكمل اليوم ما تحدثنا عنه بالأمس في سياق الحديث عن خطورة الشرك بالله "سبحانه وتعالى" في شقيه: الاعتقادي والعملي، وفي سياق الحديث عن الأهمية الكبيرة لمبدأ التوحيد لله "سبحانه وتعالى".

قدَّمنا على ضوء الآيات المباركة توضيحاً ملخَّصاً عن الشرك في شقه الاعتقادي: أنه عندما تعتقد مع الله "سبحانه وتعالى" إلهاً آخر، وعن الشرك في شقه العملي: أنه عندما تقدِّم ما هو لله "سبحانه وتعالى"، فتتوجه به إلى غير الله "جلَّ شأنه"، وذلك فيما يتعلق بالعبادة في مجالها الواسع، على المستوى التشريعي، قدَّمنا المثال في أن تلتزم بتحريم ما حرَّمه أحدٌ مما أحلَّه الله، عندما يحرِّم أحدٌ شيئاً أحلَّه الله "سبحانه وتعالى"، فتعتبره حراماً؛ لأن فلان حرَّمه، أو لأن جهة معينة حرَّمته، أو تستحل ما حرَّم الله "سبحانه وتعالى"، وهذا أيضاً قدحٌ في حق  التشريع لله "سبحانه وتعالى".

كذلك عندما تؤثر طاعة غير الله "سبحانه وتعالى" على طاعة الله، فتعصي الله من أجل طاعة ذلك الغير، هذه حالة خطيرة جداً، والشرك العملي خطيرٌ جداً، ولو أنه في جوانب منه لا يصل بالإنسان إلى مستوى الخروج من الملة، وهنا خطورته: أنه يمكنك أن تكون مقراً بمبدأ التوحيد لله "سبحانه وتعالى"، ومنتمياً على مستوى الانتماء الديني إلى الإسلام، فملتك هي الإسلام، ولكنك انفصلت عن مبدأ التوحيد لله "سبحانه وتعالى" في جوانبه العملية، في ثمرته العملية.

الثمرة العملية لمبدأ التوحيد، وهو مبدأ عظيمٌ، عندما نؤمن ونقر ونشهد أن لا إله إلا الله؛ وبالتالي ألَّا يصرفنا عن الطاعة لله، عن العبادة لله "سبحانه وتعالى" في مفهومها الشامل والواسع والعام، ألَّا يفصلنا عن ذلك خوفٌ من أحد، إذا خفنا من أحد إلى درجة أن نعصي الله من أجله، أن نفرِّط فيما أمرنا الله به "سبحانه وتعالى" من أجل ذلك الغير خوفاً منه، هذا هو من الشرك العملي، وهذا هو نقصٌ كبير في إيماننا بمبدأ التوحيد، في استيعابنا لهذا المبدأ العظيم، وما يبنى عليه، وما هي ثمرته، وما ينبغي أن يكون أثره حتى في أنفسنا.

عندما يأمرنا الله "سبحانه وتعالى" بأمر، يوجِّهنا بتوجيه، أو ينهانا عن شيءٍ معين، فنخالف ذلك، بسبب رغبتنا إلى أحدٍ هناك- إلى غير الله "سبحانه وتعالى"- فيما عنده، أو محبةً له... أو بأي دافع، فهذه أيضاً قضية خطيرة علينا، تناقضٌ في إيماننا والتزامنا العملي بمبدأ التوحيد، وهكذا على مستوى التشريع، على مستوى الطاعة في معصية الله تجاه ما أمر، أو تجاه ما نهى، كِلا المسألتين خطيرٌ جداً علينا.

ثم كذلك في حالة الرياء، وهي عندما ترائي بعملٍ من أعمال الطاعة لله، من الأعمال التي هي قربة إلى الله "سبحانه وتعالى"، مثل: الجهاد في سبيل الله، أو مثل: الصلاة، أو الصدقة، أو الإحسان... أو أي عملٍ من الأعمال التي هي أعمال صالحة، ويعملها الإنسان تحت عنوان القربة إلى الله، والطاعة لله، والعبادة لله، فعندما ترائي في ذلك، يعني: تبتغي به السمعة لدى الناس، أو المكانة عند أحد، أو الثناء والشكر من الآخرين، أو تبتغي به مطمعاً مادياً، أو مقاماً معنوياً لدى الناس ومن الناس، أو لدى أي أحدٍ منهم، فهذه الحالة خطيرة جداً، هي حالة الرياء، وهي من أشكال الشرك العملي، والشرك العملي- كما قلنا- هو أكبر الذنوب، الشرك بشكلٍ عام هو أكبر الذنوب، وهو في قائمة المحرمات رقم واحد، أول محرَّم من المحرمات: الشرك بكل أشكاله، فمسألة الشرك مسألة خطيرة، وأهمية مبدأ التوحيد، والضرورة القصوى لترسيخه حتى نحصل على ثمرته، وتتحقق إيجابياته في واقع حياتنا، وفي أعمالنا والتزاماتنا العملية، من أهم الأمور، ونأخذ العبرة في ذلك من خطاب الله "سبحانه وتعالى" لنبيه "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وهو من هو في إيمانه وكمال يقينه، فيقول له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[محمد: من الآية19]، وهو من يعلم ذلك، هو من يؤمن بذلك، هو الأكمل في إيمانه بذلك من كل إنسان، مع ذلك يوجِّه إليه هذا الخطاب: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، هذا يفيدنا أننا بحاجةٍ مستمرة وبدون انقطاع في كل مسيرة حياتنا، وليس فقط إلى مرحلة معينة، أو مرتبة إيمانية معينة، بل في كل مسيرة حياتنا، إلى ترسيخ هذا المبدأ العظيم.

ونجد كم ورد في القرآن الكريم من آياتٍ ترسِّخ هذا المبدأ، تنص على: أنه لا إله إلا الله، على: إلهكم إلهٌ واحد... وهكذا آيات كثيرة، ثم تربط ما بين ذلك وما بين الثمرة المترتبة على ذلك، والنتيجة الأساسية لذلك، من مثل قوله تعالى": {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل: من الآية2]، {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل: من الآية51]، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: من الآية25]، {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ و َاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: من الآية6]، وهذا ما غاب كثيراً في واقع أمتنا الإسلامية: الربط ما بين هذا المبدأ العظيم، وما بين ثمرته، وما بين نتيجته.

تتلخص المشكلة لدى الكثير من أبناء أمتنا، فيما هم معرضون عنه من كتاب الله على المستوى العملي، على مستوى الالتزام به في واقع العمل، ولا سيما ما يتصل بالمسؤوليات الكبرى، من مثل: إقامة القسط، من مثل: التعاون على البر والتقوى، من مثل: الاعتصام بحبل الله جميعاً، والألفة، والأخوة الإيمانية، وتوحد الكلمة على الحق، من مثل أيضاً: الجهاد في سبيل الله بمفهومه القرآني التحرري العظيم المقدس... وهكذا المسؤوليات ذات الأهمية الكبيرة جداً في واقع حياتنا، يتلخص العامل الرئيسي في ذلك: هو بالمخاوف، حالة الخوف من الآخرين، والبعض أيضاً بحالة الأطماع والرغبات فيما لدى الآخرين، وهذا نقص واضح في ثمرة الإيمان بمبدأ التوحيد، وإلَّا فنحن عندما نؤمن بالله "سبحانه وتعالى" أنه لا إله إلا هو، ويرتبط بهذا المبدأ كمال الله "سبحانه وتعالى"، وركَّز القرآن على هذا كثيراً، يتحدث عن أنه الإله، ثم يأتي ويذكر لنا من أسمائه الحسنى ما يبين لنا كماله؛ لأنه الذي يجب أن نأله إليه وحده، أن نرجوه وحده فوق كل شيء، أن نخاف من عقابه فوق كل شيء، أن نؤمن بأنه المسيطر على هذا العالم بكله، أنه ملك السماوات والأرض، أنه الرحمن الرحيم، فنثق به في أنَّ ما يأمرنا به من منطلق رحمته، ونتوكل عليه، ونتيقن أنه سيرحمنا وسيعيننا، ولن يتركنا من ألطافه، ورحمته، وفضله، وهكذا أنه العزيز الحكيم، أنه القوي العزيز... أسماؤه الحسنى في كثيرٍ منها تأتي بعد الحديث عن ألوهيته وأنه لا إله إلا هو.

نجد هذا مثلاً في آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة: من الآية255]، ثم ما تلى ذلك من الحديث عن عظمته "سبحانه وتعالى"، وكماله، وأسمائه الحسنى. نجد هذا في آخر سورة الحشر، وما ورد تبعاً له من أسماء الله الحسنى، والحديث بشكلٍ مركَّز على توحيده، وهكذا نجده في كثيرٍ من الآيات القرآنية، أخذ مساحةً كبيرةً، وحيزاً واسعاً في الحديث داخل الآيات القرآنية، وهذا مهمٌ لنا جداً، من أهم ما يمكن أن نعالج به في واقع أمتنا الإسلامية وفي واقع أنفسنا أزمة الثقة بالله "سبحانه وتعالى": هو الترسيخ لهذا المبدأ بوعي ومن خلال ما ورد في القرآن الكريم.

خلال شهر رمضان المبارك والإنسان يتلو القرآن، من المهم أن يركِّز على هذا الموضوع؛ لأنه- كما قلنا- من المهم أن يركِّز عليه الإنسان في كل مسيرة حياته.

نجد فيما مرَّ بنا من الآيات المباركة: خطورة الشرك في المقام العملي من خلال الاتِّباع الأعمى، والطاعة في معصية الله "سبحانه وتعالى"، والطاعة في المخالفة لمنهج الله "جلَّ شأنه"، من مثل ما ورد في قول الله "سبحانه وتعالى": {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}[البقرة: من الآية165]، فنلاحظ أنَّ علاقة العبد مع العباد، علاقتك مع الناس، يجب أن يكون لها سقف محدد، سقف معين، لا تصل إلى هذا المستوى: إلى مستوى أن تحب أحداً كما ينبغي أن تحب الله، وأن تطيعه في معصية الله، وأن تمنحه ما لا ينبغي أن تقدِّمه إلَّا لله "سبحانه وتعالى"، تبقى علاقتك مع الناس في كل أصنافهم وفئاتهم ومستوياتهم، تبقى هذه العلاقة تحت سقف علاقة العبد مع العبد، في إطار طاعة الله "سبحانه وتعالى"، في إطار السير على هدي الله "سبحانه وتعالى"، لا أن تصل وأن تتجاوز هذا الحد وهذا السقف، هذه حالة خطيرة جداً، وعليه وعلى هذا الحال الكثير من الناس الذين انحرفوا عن منهج الله "سبحانه وتعالى"، وانحرفت بهم مثل هذه الارتباطات: ارتباطات بغير الله "سبحانه وتعالى"، ارتباطات مع أحدٍ من الناس بأي صفة، ثم تصل إلى مستوى الطاعة في المعصية، أو المخالفة لمنهج الله "سبحانه وتعالى" بناءً على ذلك، أو الخلل فيما يتعلق أيضاً بمسألة التشريع والارتباط التشريعي بهم بعيداً عن شرع الله ومنهج الله "سبحانه وتعالى"، ولأن المسألة هنا مسألة اتِّباع، وليست في سياق الحديث عن أنهم اعتقدوهم آلهة، بمعنى: أنَّ هذا هو في إطار الشرك العملي، الشرك العملي الذي هو ذنب خطير جداً، وإن كان في حالاتٍ منه لا يُخرِج من الملة، لكن هنا خطورته: أنك تعتبر نفسك مسلماً، وتنتمي للإسلام، وتقرُّ بمبدأ التوحيد، ولكنك في واقعك تعاني من هذا الخلل الخطير، الذي يمثِّل ضربةً قاضية لاتجاهك العملي، لاستقامتك العملية، لسيرك وفق هدي الله "سبحانه وتعالى"، ولأن السياق سياق عملي، قال في نفس الآية المباركة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}[البقرة: 165-166]، ولذلك من المهم لكل مسلم، لكل إنسان، أن يلحظ طريقة اتِّباعه، مسألة اتِّباعه، من يتَّبع؟ وعلى ماذا يتَّبع؟ وعلى أي أساسٍ يتَّبع؟ والحدود في علاقة الاتِّباع كيف تكون؟ وأنه يجب عليك أن تتبع ما أنزل الله، وأن تتبع سبيل من أناب إلى الله، وأن تكون مسألة الاتِّباع منضبطة بهذا الضابط الإيماني: وفق هدي الله، وفق منهج الله "سبحانه وتعالى"، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة: الآية166].

يقول القرآن الكريم أيضاً وهو يتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}[التوبة: من الآية31]، وطبعاً بالنسبة لأهل الكتاب حصل عندهم شرك في شقيه: يعني: في الشق الاعتقادي: عندما اعتقدوا المسيح عيسى بن مريم اعتقدوه إلهاً ورباً، وأشركوا به مع الله "سبحانه وتعالى"، هذا شرك عقائدي، ولكن أيضاً على المستوى العملي في الجانب التشريعي، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}، يعني: علماءهم، {وَرُهْبَانَهُمْ}، يعني: عبَّادهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وورد الحديث عن النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" يوضح هذه المسألة كيف هي، وكيف تمت، وكيف كانت، فإذا هي من خلال هذا الارتباط التشريعي: أن يحرِّموا عليهم ما أحلَّ الله فيحرِّموه، وأن يحلوا لهم ما حرَّم الله فيستحلوه، فكانت قضيةً خطيرةً جداً.

في عصرنا هذا في واقع حياتنا- وللأسف الشديد- لا تراعى هذا المسألة في مسألة القوانين والدساتير، تأتي في عملية التقنين، وتحت العنوان التشريعي نفسه، وهي يعني خطيئة كبيرة جداً؛ لأننا لم نكن بحاجة إلى أن نقدِّم صفة تشريعية لأي جهة معينة في واقع أمتنا الإسلامية، لا نحتاج إلى أن نقول: [سلطة تشريعية]، فنمحنها هذه الصفة؛ لأن الحق في التشريع عندنا كمسلمين، كأمةٍ مؤمنة تؤمن بكتاب الله، تؤمن بالله بأنه الإله الحق، الحق التشريعي هو خاصٌ بالله "سبحانه وتعالى"، هو حق الرب، هو حقٌّ إلهيٌ يختص به الله "سبحانه وتعالى"، ولا يجوز أن نقرَّ به لأحد، وأن نقول لأحد: [لك الحق في أن تشرِّع]، هذا الحق ليس لأحد أبداً إلَّا لله "سبحانه وتعالى"؛ لأنه حقٌ يتعلق بالربوبية والألوهية، حق الله الإله الملك الرب "سبحانه وتعالى".

ولذلك عندما نأتي إلى واقعنا الحياتي أو السياسي، كان يمكن أن تكون لعملية صياغة قوانين معينة على ضوء هدى الله "سبحانه وتعالى"، وعلى ضوء شرع الله "سبحانه وتعالى"، أن يكون هناك تسميات وعناوين تختلف عن الطريقة الغربية، عما عليه الغرب، لا نحتاج إلى أن نقدم عناوين من مثل عناوينهم؛ لأن عناوينهم هي مبنيةٌ على انحرافهم الكلي والشامل عن منهج الله، وعن دين الله "سبحانه وتعالى"؛ لأنهم فصلوا حياتهم، ومسيرة حياتهم في كل شؤونها العملية، عن مسألة الالتزام بدين الله، وتعليمات الله، وشرع الله، وهدي الله؛ لأنهم في حالة كفر بما أنزل الله "سبحانه وتعالى".

في واقعنا كمسلمين يفترض بنا أن نحرص على أن نبني مسيرة حياتنا على أساسٍ من هدي الله، من تعليماته، من شرعه، وعادةً ما يحصل الإقرار بذلك، مثلاً: يأتي عنوان أو بند في الدستور يعتبر الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات، لكن تأتي التسميات، ويأتي إشكاليات أخرى تبعد الناس عن المبدأ الأساسي نفسه، وتفتح المجال، وتفتح الثغرات لدخول خلل كبير من هنا ومن هنا ومن هنا، ولذلك يجب أن تضبط الأمة مسارها العملي على أساسٍ صحيح، وأن تسعى لسد كل الثغرات، وأن تتجه بجدية في أن تلتزم بمنهج الله "سبحانه وتعالى"، وبدون أي تحرج، هذا ليس تخلفاً، هذا ليس نقصاً، هذا ليس عيباً، هذا ليس مشكلةً.

التخلف، الحالة الجاهلية، النقص: هو في الانحراف عن منهج الله، عن تعليماته القيمة والعظيمة، تعليمات الله "سبحانه وتعالى" هي الحق، هي العدل، وهي أيضاً التي تنسجم مع فطرتنا الإنسانية، وهي التي تحقق لنا المصلحة الحقيقية في شؤون حياتنا.

ثم على مستوى الانتماء الديني، نجد أن المشكلة التي كانت مشكلة قديمة في واقع أهل الكتاب، وانحرفت بهم- إلى حدٍ كبير- عن منهج الله "سبحانه وتعالى"، وعن شرعه ونهجه، ودينه وتعليماته، أنهم كما قال عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}: علماء الدين لديهم، {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}: العبَّاد المتدينين لديهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، هذا يحصل في أمتنا الإسلامية، ليس فقط في الجو السياسي، وفي الاتجاه السياسي، على مستوى دور سلبي لعلماء السوء، وللعبَّاد المنحرفين؛ لأنه عادةً ما يكون هناك علماء سوء، ممن هم بصفة علماء دين، ولكنهم من المضلين، من المنحرفين، من ذوي الأهواء، من ذوي الاتجاهات المنحرفة، وعندما يرتبط الإنسان بهم ارتباطاً أعمى، ويكتفي منه بصفة عالم دين، يكفيه عنده هذه الصفة، أو هيئة كبار العلماء، مثلما يقولون في السعودية (هيئة كبار العلماء)، أو يكتفي الإنسان بصفته الدينية، بصفة ذلك الشخص الدينية، باعتباره من ذوي الشهرة بالعبادة، والسلوك الديني، والالتزام الديني، ثم يأتي لينحرف بك، ليصدك عن سبيل الله، ينحرف بك عن مواقف أساسية يأمر بها الله "سبحانه وتعالى" في كتابه الكريم، ونحن نلحظ في زمننا هذا دوراً سلبياً بارزاً لعلماء السوء، في الانحراف بالأمة عن الإتباع للقرآن الكريم، والتمسك بهدي الله "سبحانه وتعالى"، فنجد البعض منهم يروجون للتطبيع مع إسرائيل، للعلاقة مع إسرائيل، للولاء لأعداء الإسلام، يروجون للولاء لأمريكا، للتحالف مع أمريكا، للتعاون مع أمريكا، وهذا واضح، يقفون مع من يقف في هذا الاتجاه: اتجاه العمالة لأمريكا وإسرائيل، والتحالف المعلن مع أمريكا وإسرائيل بوضوح، يساندونهم، يدعمونهم بالفتاوى يقدمون لهم الفتاوى التي تساندهم، فيقفون جنباً إلى جنب معهم في نفس الاتجاه، في الدفع بالأمة إلى الولاء لأمريكا وإسرائيل، وهذا انحرافٌ خطيرٌ جداً عن منهج الإسلام، عن مبادئه العظيمة، عن قيمه العظيمة، وفي نفس الوقت تدجينٌ للأمة تحت هيمنة أعدائها وسيطرة أعدائها، وفي نفس الوقت مصادرة لحقوق الأمة، وظلم رهيب للأمة؛ لأنه يُمكِّنُ أعدائها منها، منهم أعداء حقيقيون واضحون، ولا لبس في عدائهم لهذه الأمة، ثم يتجهون لتمكين أولئك الأعداء من هذه الأمة، في كل مجالات حياتها، وشؤون حياتها.

البعض يتجهون أيضاً اتجاها للتجميد لهذه الأمة عن أن تتحرك، أو أن تقف أي موقف في التصدي لأعدائها، عن طريق التثبيط، التجميد، التخذيل، الصرف للأمة عن أن يكون هذا من ضمن اهتماماتها العملية، وهنا نقول إذا كان هذا خارج إطار مسؤوليات هذه الأمة الدينية، أي: لم يبق عليها مسؤولية أن تتحرك لدفع الخطر عنها، فما هي قيمة الجهاد في سبيل الله؟ هل هو إلا لدفع الخطر عن الأمة؟

الجهاد في سبيل الله ليس عنواناً للدفاع عن الله "سبحانه وتعالى"، بحيث يتصور الإنسان أن هناك خطراً يمكن أن يتوجه إلى الله، وأن الله طلب من عباده أن يدافعوا عنه، لا، الله "سبحانه وتعالى" هو القوي العزيز، هو القاهر فوق عباده، والمهيمن على السماوات والأرض، والمهيمن على عباده، حياتهم بيده، موتهم بيده، رزقهم بيده، وهو "سبحانه وتعالى" يمكن بفيروس صغير أن يسلطه عليهم فيقهرهم ويصل بهم إلى حالة الاستسلام التام والعجز التام، أو أن يسلب منهم حياتهم في رمشة عين، في لحظة، في ثانية، في أقل من ذلك، الكل تحت سلطانه وقهره وهيمنته.

الجهاد في سبيل الله هو وسيلةٌ للدفاع عن الأمة نفسها، لدفع الخطر عنها، للحفاظ على حريتها واستقلالها وكرامتها، للحفاظ على مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، ومصالحها، وأوطانها، وممتلكاتها، فائدته وثمرته تعود إلى الناس في الدنيا والآخرة: عزة، وكرامة، وحرية، واستقلال.

عندما يعطَّل هذا الفرض العظيم في دوره المهم، والأمة بأمس الحاجة إليه؛ لكي تكون أمةً حرةً، عزيزةً، مستقلة، ويأتي من يساهم في تعطيل هذا الفرض العظيم؛ فيثبط، ويخذل، ويجمد، هذا المبدأ وهذا الفرض المهم، ثم يسعى أيضاً إلى صرف اهتمام الناس عنه كلياً، والتثبيط عن أي توجه يدفع بالناس إلى القيام بهذا الفرض العظيم، هذا هو من الأحبار، إن كان بصفة عالم دين، من الأحبار الذين يصدون عن سبيل الله، ممن إذا ارتبطت به، وأطعته في ذلك، فقد اتخذته رباً، أشركت به شركاً عملياً، وهكذا بقية الفرائض المهمة، والمسؤوليات المهمة، إذا أنت كفاك أن يكون الشخص بصفة عالم دين، وارتحت بما قدمه لك؛ لأنه توافق مع هوى نفسك، فاعتبرت ذلك مناسباً، واعتبرت أنه أعفاك من مسؤولية، كنت ترى فيها أنها مسؤولية شاقة، فارتحت لذلك، فأنت هنا تورطت في أن جعلت منه رباً، وألّهته في واقعك العملي، من خلال الشرك العملي، عندما يحرم ما أحل الله، ويحل ما حرم الله، عندما يقدم تشطيبات، ويقدم- في نفس الوقت- حالة تجميد للنصوص القرآنية، لأوامر الله، لتوجيهات الله "سبحانه وتعالى"، من أجل هوى النفس، فهي حالة خطيرة جداً.

وكم يأتي أيضاً من علماء السوء، في مسايرةٍ منهم لزعماء الجور، لسلاطين الجور، لملوك الطغيان والانحراف، ما يحل ما حرم الله، فهم يقدمون فتاوى وتسهيلات تواكب التوجهات التي عليها أولئك لانحرافهم، هذا حصل بشكلٍ واضح في حالة النظام السعودي، نرى مسايرة من بعض من يسمون أنفسهم بالعلماء، ليبرروا وليشرعنوا حتى أشياء من الأمور الواضحة جداً في تحريمها، فيشرعنون، ويبررون، ويقدمون الفتاوى الداعمة للانحراف، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية31]، في نفس السياق التشريعي يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: من الآية121]، فيعتبرها حالة شرك {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ}؛ لأنكم إن اطعتموهم وهم يجادلونكم، ويسعون إلى تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، فطاعتكم لهم في ذلك تعتبر شركاً؛ لأنكم أعطيتموهم الحق في التشريع، وفي نفس الوقت لم تتعاملوا مع الله على أنه صاحب هذا الحق، يعني: المسألة ليست فقط أنك أعطيت ذلك الإنسان الحق في التشريع، بل وفي نفس الوقت لم تقبل بالتشريع الإلهي، فكأن ذلك الطرف هو الأحق من الله بالتشريع، وكأن فيما قدمه الحق، وفيما قدمه الله "سبحانه وتعالى" العكس من ذلك، فتعتبر هذه إساءة كبيرة إلى الله "سبحانه وتعالى".

نخلص إلى أن الثمرة المهمة لمبدأ التوحيد، تدفع بنا إلى أن:

نخاف من الله فوق كل شيء.وأن نتحرر من كل المخاوف التي تصدنا عن اتباع ما أنزل الله، وعن الطاعة لله، وعن الاستجابة العملية الكاملة لله.في مسألة المحبة كذلك.في مسألة ما نرجوه، ما نريده.

فنحن نؤمن بأن الله هو الإله الواحد الحق المبين، وأنه المهيمن على كل شيء، بيده ما نرجوه من الخير، وعقوبته أشد من أي عقاب، وأشد من أي عذاب، وأنه أرحم الراحمين، نؤمن بكماله المطلق، فننشد إليه "سبحانه وتعالى" بالعبادة، ونأله إليه بالرجاء والخوف والمحبة.

ثم نرتبط بذلك عملياً في إتباعنا لمنهجه، فنعبده، فنتقيه، فنلتزم بطاعته، فنستجيب له، فنتوكل عليه، فنلتجئ إليه، فنثق به ونعتمد عليه، هذا شيءٌ مهم.

فيما يتعلق بالرياء والإخلاص، يبقى لنا هذا العنوان في سياق حديثنا عن مبدأ التوحيد، وعن خطورة الشرك، نترك هذا العنوان للمحاضرة القادمة إن شاء الله؛ لأنه من المواضيع المهمة جداً جداً، لنخصص المحاضرة القادمة له إن شاء الله.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

السبت، 24 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 11 رمضان 1442هـ 23-04-2021

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

يقول الله "سبحانه وتعالى" في كتابه المبارك في القرآن الكريم:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 151-153]. صدق الله العلي العظيم.

الآيات المباركة من سورة الأنعام.

في هذه الآيات المباركة قائمةً من المحرمات، وأيضاً يضاف إليها، وأتى من ضمنها، بعضٌ من الواجبات المهمة، والإلزامات الإيمانية، وأتت هذه القائمة، وأتى من ضمنها التأكيد عليها بقول الله "سبحانه وتعالى": {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}، فتكررت لثلاث مرات؛ مما يدل على أهمية ما ورد في هذه القائمة، وعلى ضرورة الالتزام به، الالتزام بترك ما نهانا الله عنه في هذه الآيات المباركة، والاهتمام بما أمرنا به "سبحانه وتعالى".

في بداية هذه القائمة قوله جل شأنه: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، ونحن- إن شاء الله- سنتحدث في المحاضرات على ضوء ما ورد في هذه الآيات المباركة، ببعضٍ من الحديث، وإلا فالحديث على ضوء الآيات القرآنية عادةً هو حديثٌ واسعٌ جداً، وكما كررنا: القرآن الكريم هو بحرٌ لا يدرك قعره، ومعينٌ لا ينضب، وهديه واسعٌ جداً، يأتي التذكير على ضوء الآيات المباركة ببعضٍ من النقاط المهمة، على رأس هذه القائمة قوله "جلَّ شأنه": {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.

الشرك بالله هو أول وأكبر المحرمات، وهو ذنبٌ عظيم، وهو أكبر الذنوب، الشرك بالله هو تنكرٌ لأكبر حقٍ، وحجودٌ لأعظم حقيقة، الله "سبحانه وتعالى" ربنا، رب العالمين، رب السماوات والأرض، رب كل شيءٍ، وخالق كل شيء، هو وحده الإله الحق الذي لا تحق العبادة إلا له؛ لأنه "سبحانه وتعالى" الخالق لكل شيء، والمالك لكل شيء، والملك ملك السماوات والأرض، وهو رب العالمين، وهو "سبحانه وتعالى" ذو الكمال المطلق، ليس أحدٌ في كماله يرقى إلى مستوى أن يكون إلهاً إلا الله "سبحانه وتعالى"، هو ذو الكمال المطلق، فعندما تشرك في عبادتك بالله أحداً، فأنت هنا ترتكب أبشع وأعظم الكبائر والذنوب، وتتنكر لربك، لخالقك، لإلهك الحق، المنعم عليك، الذي بيده حياتك، وموتك، وإليه مصيرك، وبيده مستقبلك، وأنت تجعل أو تقدم ما ينبغي أن تقدمه له؛ لأنه من يستحق ذلك وحده من العبادة، أو ما يعبِّر عنها، تقدمه لغيره، أو تشرك معه غيره في ذلك، فأنت هنا ترتكب باطلاً كبيراً، وجرماً عظيماً، وتتنكر لحقٍ عظيم، وهذا أيضاً هو ظلمٌ عظيم، ظلمٌ للحق والعدالة، وظلمٌ لنفسك، ولهذا أتى التحذير من الشرك؛ لأنه تنكر للحق العظيم، لله "سبحانه وتعالى"، وتوجهٌ بما لا ينبغي أن نتوجه به إلا لله "سبحانه وتعالى"، لربنا، لإلهنا الحق، وعندما تتوجه بهذا إلى غيره، فأنت هنا تخطئ هذا الخطأ الجسيم، وترتكب هذا الذنب العظيم.

ومن أخطر ما في الشرك، ومن أسوأ ما يترتب عليه: أنه يصرفك عن الاهتداء بهدى الله "سبحانه وتعالى" عن هذه الصلة العملية بطاعة الله "سبحانه وتعالى"، وهذه مسألة خطيرة جداً؛ لأنك إن لم توحد الله "سبحانه وتعالى"، واتجهت إلى غيره، وأشركت به غيره، فهذا يؤثر على مدى استجابتك لله، مدى طاعتك لله "سبحانه وتعالى"، وهذا تأثيره عليك أنت؛ لأن كل ما يأمرنا الله به، ما يوجهنا إليه، ما يدعونا إليه، وما نهانا عنه، هو فيما هو مصلحةٌ لنا وخيرٌ لنا.

إضافةً إلى أن الشرك هو ضياعٌ كبيرٌ للإنسان؛ لأن الذي تتجه به إلى غير الله "سبحانه وتعالى"، لن تنال منه ما ترجوه، نحن عندما نتجه إلى الله "سبحانه وتعالى"؛ لأنه الرب الحقيقي، الرب المالك، ذو الكمال المطلق، ولذلك عندما نرجوه، عندما نأله إليه، عندما نخاف من عقابه، فهذا الرجاء هو رجاءٌ في محله، في اتجاهه الصحيح، إلى حيث من يمتلك كل شيء، من بيده الخير كله، من هو على كل شيءٍ قدير، من إن يردك بخيرٍ فلا راد لفضله، عندما نخاف من عقابه، فنحن نخاف من عقاب من هو على كل شيءٍ قدير، من إن أرادنا بضرٍ، فلا يستطيع أحدٌ أن يكشفه عنا، ولا أن يرده عنا، ولا أن يدفعه عنا، ولا أن يحوله عنا، من هو القاهر فوق عباده، من هو بكل شيءٍ خبير، وعلى كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ محيط، وتنفذ قدرته على كل شيءٍ، وهو المهيمن على كل شيء، وهكذا، أما غيره فهم كلهم من خلقه، تحت سيطرته وقهره وهيمنته، وفي إطار ملكه، وتحت سلطانه، ولذلك يعتبر ضياعاً كبيراً، الشرك بالله، والتوجه إلى غير الله، بما هو حقٌ لله "سبحانه وتعالى".

الشرك بالله له شكلان:

الشكل الأول: عقائديٌ، ويتبعه العمل:

من يعتقدون أن مع الله إلهاً آخر كعقيدة، ويشركون به من منطلق هذه العقيدة، ذلك الذي يظنونه، أو يتوهمونه، أو يزعمونه، إلهاً مع الله "سبحانه وتعالى"، وهذه الحالة كانت سائدة، ولا زالت منتشرة في واقع البشر، لا تزال كثيرٌ من الأمم من البشر لها هذه العقيدة: تعتقد مع الله إلهاً آخر، وتشرك به في العبادة، ومن منطلق عقيدة باطلة تعتمد عليها، أو تنطلق على أساسها، ويتبع ذلك- كما قلنا- العمل.

الشكل الآخر من أشكال الشرك: هو الشرك العملي:

فقد تكون في عقيدتك موحداً، وتعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده "سبحانه وتعالى" الإله الحق، ولكن على مستوى الواقع العملي، والالتزام العملي، والعبادة، والطاعة، تشرك به غيره، غيره من الآخرين من الأرض، من مخلوقاته، أو شيئاً آخر، كمثل الهوى، هوى النفس.

الحالة التي تعود إلى الشرك العملي يدخل فيها: الطاعة في معصية الله:

عندما تؤثر طاعة أحدٍ، فيما هو معصيةٌ لله، فآثرت طاعته على طاعة الله، يعني: جعلت طاعته بالنسبة لك أقدم، وأهم من طاعة الله، فأنت عصيت الله، في مقابل أن تطيع ذلك الغير، هذه الحالة هي حالة من الشرك العملي.

أيضاً من حالات الشرك العملي: الشرك في التشريع:

عندما يأتي من يشرع لك ما فيه مخالفةٌ لشرع الله، فيحرم عليك ما أحل الله، أو يحل لك ما حرم الله، ويقدمه لك كحلال، سواءً كان بعنوانٍ ديني، أم بغير عنوانٍ ديني، كالعنوان القانوني، والعنوان الدستوري، أو أي عنوان آخر، عنوان تنظيمي، أي عنوان آخر، ينتج عنه هذا المحذور: فيحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، فإذا قبلت منه ذلك، واعتبرت ما أحله لك من الحرام الذي حرمه الله، اعتبرته حلالاً؛ لأنه أحله لك، أو حرمت ما أحل الله؛ لأنه حرمه، فهذه حالةٌ من الشرك، أنت أعطيته ما ليس إلا لله، حق التشريع، والحق في التحليل والتحريم، هو لله "سبحانه وتعالى"؛ لأنه المالك لنا، والمالك لكل هذا العالم، والمالك للأرض، والمالك لكل ما استخلفنا فيه، المالك الحقيقي وهو "سبحانه وتعالى" العليم بكل شيء، والحكيم، والرحيم، والعدل، هو الذي يقرر ما هو حلال، وما هو حرام، هذا حقٌ خاصٌ به، فإذا تعاملت مع غيره على أن له هذا الحق، وقبلت منه ذلك؛ فهذه حالة من الشرك العملي. وهذه الحالة هي حالة خطيرة: الشرك العملي.

من حالات الشرك العملي: حالة الرياء، حالة الرياء: عندما تعمل عملاً من الأعمال التي هي عبادة، وطاعة، وقربة إلى الله "سبحانه وتعالى"، وشرعها الله لتكون طاعةً له، وقربةً إليه، كالصلاة، كالصيام، كالجهاد، كسائر الأعمال الصالحة التي أمر الله بها وشرعها، وهي قربةٌ إلى الله "سبحانه وتعالى" نتقرب بالطاعة فيها لله "جلَّ شأنه"، فإذا أردت من أي عملٍ منها أن تتودد به إلى الآخرين، وأن تحظى بالقرب منهم، أو بالسمعة لديهم، أو بالذكر الحسن منهم، والإشادة، والذكر الجميل، أو أن يكون لك في نظرهم منزلة ومرتبة عالية، فهذه حالة من حالات الشرك.

الشرك العقائدي: هو شركٌ يخرج من الملة، يعني: من أشرك بالله "سبحانه وتعالى" من منطلق عقيدة، يعتقد في غيره أنه إله، فهذا هو شركٌ يخرج من الملة، شرك يعتبر شركاً كاملاً؛ لأنه انحرف بالإنسان بشكلٍ كلي، حينها لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً بالله "سبحانه وتعالى"، ومسلماً، هذا شرك يخرجه من الملة.

الشرك في الواقع العملي: أيضاً هو جرمٌ عظيم، وذنبٌ كبير، وهو في مقدمة الذنوب.

الشرك في كل أحواله: على المستوى العقائدي وما تبعه من عمل، وعلى المستوى العملي، هو أكبر الذنوب وأعظمها، ولهذا يأتي في أول القائمة، في أول قائمة المحرمات، التي حرمها الله "سبحانه وتعالى"، وما يترتب عليه هو أشياء سيئة جداً.

في المقابل مبدأ التوحيد لله "سبحانه وتعالى": هو أول وأكبر وأعظم المبادئ الإيمانية، والالتزامات الإيمانية، ويترتب عليه في الواقع العملي مستلزماته العملية، وهذا من أكثر ما يغيب عن ذهنية الكثير من أبناء الأمة (من المسلمين)، يغيب عن بالهم، وعن ذهنيتهم، ويغيب حتى في التثقيف الديني، والتعليم الديني، إلى حدٍ كبير، ثمرة التوحيد، الحديث عن ثمرة التوحيد، عن نتيجة التوحيد، عن نتيجة هذا المبدأ العظيم، عمَّا ينبغي أن يبنى عليه.

ولأهمية هذا المبدأ العظيم، فهو من المبادئ الأساسية التي يجب الترسيخ لها، والتركيز عليها بشكلٍ مستمر، أن ترسخ هذا المبدأ بشكلٍ مستمر، طول مسيرة حياتك، كلما ترسخ أكثر؛ كلما كانت نتيجته في الواقع العملي أكبر وأهم.

ولهذا يأتي الخطاب للنبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وهو من هو في كمال إيمانه ويقينه، وهو من هو في توحيده لله "سبحانه وتعالى"، وإيمانه بالله "جلَّ شأنه"، فيقول له الله "سبحانه وتعالى": {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: من الآية19]، {فَاعْلَمْ}، هكذا يخاطب نبيه، ولم يقل: [قد أنا عالمٌ بذلك، وقد عرفت بهذا، ما هي الفائدة أن تقول لي ذلك]، {فَاعْلَمْ}؛ لأنه مهما بلغ إيمانك، مهما بلغ يقينك، مهما كنت في توحيدك لله "سبحانه وتعالى"، وفي بصيرتك تجاه هذا المبدأ العظيم، يجب أن ترسِّخ ذلك في قرارة نفسك أكثر فأكثر، وتجاه كل المستجدات في حياتك، تحتاج إلى هذا المبدأ العظيم، تحتاج إليه في مسيرة حياتك؛ لكي تتحرك بشكلٍ صحيح، لكي تستقيم، لكي تواجه به كل التحديات، التي قد تصرفك عن طاعة الله، وعن العبادة لله، وعن الاستجابة لله "سبحانه وتعالى" فيما هو من الأمور المهمة.

ولذلك نجد في القرآن الكريم التأكيد على مسألة الثمرة المهمة لهذا المبدأ العظيم، يقول الله "جلَّ شأنه": {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: الآية25]، لاحظوا، هذه ثمرة التوحيد: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}، يعني: إلَّا الله "جلَّ شأنه"، {فَاعْبُدُونِ}، النتيجة هي أن نعبده وحده، العبادة في كل معانيها، العبادة في كل ما يجسِّدها، من طاعةٍ كاملةٍ لله "سبحانه وتعالى"، من توجهٍ كاملٍ إليه بالرهبة، والرغبة، والرجاء، والمحبة، والطاعة المطلقة.

يقول "جلَّ شأنه" مخاطباً لنبيه محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله": {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[الأنبياء: الآية108]، هذه ثمرة التوحيد أن نسلم لله، وأن نستجيب له الاستجابة الكاملة، وأن نذعن له في كل أوامره وتوجيهاته، ألَّا يصرفنا عن ذلك هوى نفس، ألَّا يصرفنا عن ذلك مخاوف من الآخرين، ألَّا يصرفنا عن ذلك أطماع ورغبات فيما لدى آخرين، ألَّا يصرفنا عن ذلك توجس، فالإيمان بالله والتوحيد له يجعلك تحب الله فوق كل شيء، ترغب فيما وعدك به فوق كل شيء، تخشى من عقابه فوق كل شيء، فتتحرر من كل ما يمكن أن يصرفك، أو يعيقك، أو يؤثِّر عليك في مقام الاستجابة لله "سبحانه وتعالى" سلباً.

يقول "جلَّ شأنه": {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل: الآية51]، الجدير بأن نرهب من عقابه فوق كل شيء هو الله "سبحانه وتعالى"؛ وبالتالي لا ينبغي أن يخيفك الآخرون، مهما كانت إمكاناتهم، مهما كان جبروتهم؛ لأنه لا شيء في مقابل جبروت الله "سبحانه وتعالى"، فلا يخيفوك، ولا يعيقوك عن الاستجابة لله، في أي أمرٍ من أوامره وتوجيهاته.

يقول "سبحانه وتعالى": {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل: الآية2]، (فَاتَّقُونِ) هي ثمرة من ثمار ترسيخ مبدأ التوحيد، والإيمان بأنه (لا إله إلا الله وحده)، فهو الذي يجب أن تتقيه، فلا يصرفك الآخرون عن الاستجابة له في أي أمر، في أي توجيهٍ يأمرك به "سبحانه وتعالى"، عليك أن تطيعه الطاعة الكاملة، وأن تخشى من عقابه، أن تخشى من التفريط فيما أمرك به.

يقول الله "سبحانه وتعالى" مخاطباً لنبيه "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله": {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: من الآية6]، هذه هي ثمرة، ثمرة لهذا المبدأ العظيم، ليست المسألة أن تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) وانتهى الموضوع، لا تفصل هذا المبدأ عن العمل، عن مسيرة حياتك، عن أن تكون مسيرة حياتك بكلها طاعةً لله، وعبادةً لله، والتزاماً بمنهج الله "سبحانه وتعالى"، واستقامةً على أساس ما وجهك إليه، وسيراً إليه في طريقه وصراطه المستقيم، وأن تستغفره، وأن تستشعر تقصيرك نحوه، وأن تبادر بالتوبة عند الزلل، وعند التقصير، وعند التفريط، تبادر بالاستغفار إليه.

يقول الله "سبحانه تعالى": {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، هو وحده ربكم، المالك لكم، الخالق لكم، الرازق لكم، المربي لكم، المنعم عليكم، الذي حياتكم بيده، رزقكم بيده، موتكم بيده، مصيركم إليه، لذلك هو وحده الجدير بأن تحبوه فوق كل شيء، فوق كل محبة، أن تخافوا من عقابه فوق كل شيء، فوق كل عقابٍ وخوف، أن ترجوه وأن ترغبوا فيما وعد به فوق كل رغبةٍ ورجاء، وبالتالي أن تطيعوه الطاعة الكاملة، وأن تستجيبوا له الاستجابة الكاملة، وألَّا يصرفكم أحد، أو يعيقكم أحد، عن هذه الاستجابة الكاملة.

يقول الله "سبحانه وتعالى" مذكراً لنا بكماله العظيم، وأنه وحده الإله الحق، هو الجدير منا بالعبادة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة: الآية163]، هو وحده إلهنا الحق، وهو أرحم الراحمين، هو الرحمن الرحيم، من وسعت رحمته كل شيء، ليس إلهاً يتجبر، ويتكبر، ويظلم، ويبطش، ولا يرحم عباده، هو أرحم الراحمين، وكل توجيهاته لنا، وكل أوامره لنا، وفي كل ما نهانا عنه، إنما ذلك من منطلق رحمته بنا، ولذلك لا مبرر لنا أن ننصرف عن توجيهاته، أو أوامره، بحجة الرحمة بأنفسنا، ونتصور أننا أعرف، وأننا أرحم بأنفسنا، وأعرف بما فيه الخير لنا، عندما نتنكر لبعضٍ من توجيهاته وتعليماته بهذا الدافع، بدافع الرحمة والشفقة على أنفسنا، فنحن نخطئ بحق أنفسنا؛ لأنه أرحم الراحمين، وكل توجيهاته من منطلق رحمته بنا، مع علمه ما هو الخير لنا.

يقول "جلَّ شأنه": {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فهو "جلَّ شأنه" الإله الحق لا إله إلا هو العزيز الذي لا يقهر، أنت عندما تتولاه، أنت تتولى من لا يقهر، هو الجدير بأن تثق به، بأن تتوكل عليه، هو الجدير بأن تعتمد عليه، وأن تلتجئ إليه، وأن تعتصم به، الحكيم، كل توجيهاته وأوامره وتشريعاته حكيمةٌ لا عبث فيها، لا حماقة فيها، لا جهالة فيها؛ إنما هي بمقتضى الحكمة؛ فلذلك هو الجدير بأن تثق به، أن تعتمد عليه، أن تتوكل عليه.

يقول "سبحانه وتعالى": {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: من الآية110]، الحالة التي ينصرف الإنسان فيها عن التوحيد لله في ثمرته العملية: هي اتخاذ الأنداد، أنداد من دون الله "سبحانه وتعالى"، عندما تعطي ما هو حقٌ خالصٌ لله، فتتوجه به إلى غيره، من الطاعة فيما هو معصيةٌ لله، من المخالفة لتوجيهات الله وأوامره، من خشيةٍ، أو رهبةٍ، أو رغبةٍ، أكبر مما هو لله، أو مساوي لما هو لله، وهذه الحالة أنت تجعل فيها نداً لله "سبحانه وتعالى"، وتعبِّد نفسك له، هذه حالة خطيرة جداً، ولهذا يقول الله "جلَّ شأنه في القرآن الكريم، بعد أن ذكر بنعمه السابغة والعظيمة علينا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: من الآية22]، يبين حال الكثير من الناس الذين يتورطون في ذلك، فيقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة: من  الآية165]، الذين آمنوا أشد حبهم، وأقوى حبهم، وأعلى مرتبات محبتهم، هي لله "سبحانه وتعالى"، لا يعني هذا أنك لا تحب الله، أنت تحب أشياء كثيرة غير الله "سبحانه وتعالى"، ولكن يجب أن يكون حبك أكبر من كل حبٍ لأي شيءٍ آخر، حبك لله "سبحانه وتعالى"، أن يكون أكثر من محبتك لأي شيءٍ آخر؛ حتى لا يؤثر عليك أي شيءٍ آخر، فيصرفك عن الطاعة لله، وعن العبادة لله، وعن الاستجابة لله.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة: من الآية165]، سيتجلى ومن أكبر ما يتجلى فيه ذلك في الآخرة، في يوم القيامة، عندما تأتي جهنم، عندما تتجلى سيطرة الله وقهره فوق عباده في يوم القيامة، عندما يأتي الكل في مقام العبودية والخضوع التام لله "سبحانه وتعالى"، يتجلى كم أن الله هو القوي، وأن القوة كلها لله، أن القوة لله جميعاً، تجلى لكل الذين اتخذوا أنداداً من دون الله، أن من اتخذوهم أنداداً من دون الله، هم عبادٌ في غاية الضعف والعجز والاستسلام أمام الله "سبحانه وتعالى"، وجبروته، وقوته، فمن كانوا ينبهرون بآخرين، سواءً أشخاصاً، أو قوى معينة، أو دول، أو جيوش، أو كيانات معينة، أنها ذات قوة متكبرة، ذات قوة كبيرة متجبرة، واندفعوا بهذا الدافع: بدافع الخوف منهم، فأطاعوهم في معصية الله، فلم يستجيبوا لله فيما أمر به من أجلهم؛ خوفاً منهم، يتجلى لهم يوم القيامة مدى خسارتهم، ومدى ما وصلوا إليه من الخسران والهوان، والعياذ بالله، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}[البقرة: من الآية166]؛ لأنهم اتخذوهم أنداداً لله في هذا السياق: في سياق اتباع، يعني: على المستوى العملي، وليس فقط على المستوى العقائدي، هذا هو الشرك العملي، على المستوى العملي: اتبعوهم بدلاً عن منهج الله، بدلاً عن كتاب الله، بدلاً عن توجيهات الله وأوامر الله "سبحانه وتعالى".

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ}، رأوا العذاب، وهو مشهد رهيب جداً، ومخيف، ورأوا عجز أولئك الذين اتخذوهم أنداداً عن أن يعملوا لهم أي شيءٍ أمام ذلك العذاب، {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة: من الآية166]، لم يبق لهم أي وسيلة، ولا أي طريقة للخلاص من العذاب، أو لدفع العذاب عن أنفسهم، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة: الآية167].

فنجد أن الثمرة الصحيحة لمبدأ التوحيد: هي الاستجابة العملية لله "سبحانه وتعالى"، العبادة بمفهومها الشامل، الذي فيه التسليم التام لأمر الله وتوجيهاته، وطاعةٌ كاملة، والتوجه بالرجاء، والرهبة، والمحبة، والخوف، إلى الله "سبحانه وتعالى"، فوق كل شيء، وهذا ما نحتاج إلى ترسيخه في واقعنا، وفي مسيرة حياتنا وبشكلٍ مستمر؛ لأنه من سيفيدك، وسيكون هذا المبدأ العظيم، هو الذي تواجه به كل من يبرز ليكون آلهةً لك، حتى هوى نفسك، حتى المطامع، حتى الرغبات، حتى الآخرين بكل جبروتهم وطغيانهم، هذا المبدأ العظيم سيحررك من أن تعبِّد نفسك لغير الله "سبحانه وتعالى" بكل أشكال التعبيد للنفس، في مقام الطاعة والعمل، أو في مقام الاعتقاد، أو في مقام الخوف والرجاء، فهو مبدأٌ مهمٌ جداً.

نكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

الجمعة، 23 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 10 رمضان 1442هـ 22-04-2021

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 في محاضرة اليوم نختتم حديثنا على ضوء الآيات المباركة في سورة الرحمن.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية77]، بعد ذلك العرض لنعمه الواسعة التي أسبغها علينا في الدنيا، وهو قدَّم لنا في هذه السورة المباركة عناوين لنماذج عامة من أهم وأجمع نعمه علينا، وهي نعمٌ مرئيةٌ مشاهدٌة، ينتفع الإنسان بها بشكلٍ واضحٍ، لا يمكن انكارها، ولا يمكن للإنسان أن يقول أنها أكاذيب، أو دعايات لا أساس لها من الصحة.

ثم نعمه "سبحانه وتعالى" التي أعدَّها لنا في الجنة، وهيَّأ لنا أسباب الوصول إليها، وأرشدنا إلى الطريق الموصلة إليها، ويسَّرها لنا، وجعلها أيضاً مما تستقيم بها حياتنا هنا في الدنيا، كيف نتنكَّر لهذه النعم؟! كيف نتجاهل فضل الله المنعم الكريم "سبحانه وتعالى" علينا؟! بأيٍّ من هذه النعم يمكن أن نكذِّب، وأن نبرر تنكُّرنا لنعم الله وفضله "سبحانه وتعالى"؟!

ثم يختم هذه السورة المباركة بقوله "جلَّ شأنه": {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية78]، تبارك الله "سبحانه وتعالى" المنعم العظيم، الذي نعمه لا تحصى ولا تعد، وهي أيضاً نعمٌ عظيمة، ليست نعماً عادية، ليست صناعة تقليد، أو أشياء ليست ذات جودة، أو ليست ذات أهمية، كلها من حيث أهميتها بالنسبة لنا كبشر، ومن حيث أنها تسد احتياجاتنا، وهي في نفس الوقت من أهم متطلباتنا، وهي مما نرتاح به، نسعد به، ننعم به، نستفيد منه، فلا يمكن للإنسان أن يعتبرها أشياء عادية، أو من حيث أيضاً الكم، من حيث عددها الوافر جداً، نعمٌ واسعةٌ جداً جداً جداً.

فالإنسان إذا تأمل في نعم الله "سبحانه وتعالى" بدءاً مما أسبغه علينا من النعم في هذه الحياة، مع تطور العلوم، ومع استخدام الإنسان لوسائل متطورة، يعرف من خلالها الفوائد الكثيرة لهذه النعم، وما أعدَّ الله فيها، وأيضاً ما هيَّأ الله لنا فيها من خلال ما سخَّره وهيَّأه لاستخدامها واستغلالها بأشكال كثيرة، بأنواع كثيرة، بطرق ووسائل كثيرة، جعلت كل جزئيةٍ من نعم الله "سبحانه وتعالى" تمثِّل عالماً واسعاً في كيفية الاستفادة منها، في منافعها الوافرة، في الأشكال، والأساليب، والاستخدامات الواسعة جداً لها، وهذا معروفٌ اليوم في النهضة الصناعية في الواقع البشري، في سعة الإنتاج، في سعة الاستخدامات لهذه النعم بشكلٍ واسع، وكلما استفاد الإنسان أكثر على المستوى المعرفي وكلما تقدم أكثر في مسألة الإنتاج واستكشف أكثر في مسألة التسخير والاستغلال لهذه النعم؛ كلما أدرك المزيد والمزيد من فوائدها، من منافعها، من استخداماتها المتنوعة والواسعة والمفيدة.

فالله "سبحانه وتعالى" أسبغ علينا نعمه العجيبة جداً، والواسعة جداً، وهو "جلَّ شأنه" قدَّمها لنا على أجلِّ صورة، وعلى أرقى مستوى، وعلى أرقى مستوى، من واقع كماله المطلق، فهو أحكم الحاكمين، وهو العظيم، وهو على كل شيءٍ قدير، ولذلك أبدع في هذه النعم إبداعاً عجيباً، وجعلها على أرقى مستوى في شكلها، في منافعها، في كيفيتها، أيضاً في التسخير فيها لاستخدامات على نطاق واسع جداً، والانتفاع بها بمنافع واسعة جداً، فليست نعماً عادية، ولا قليلة، ولا محدودة، وكل صنفٍ منها استخداماته واسعة، ومنافعه عديدةٌ وكثيرة.

{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ}، نعم عجيبة، راقية، عظيمة جداً، على أجلِّ صورةٍ، وعلى أرقى مستوى، {وَالْإِكْرَامِ}، يعطي "سبحانه وتعالى" بكرم، عطاؤه عطاءٌ واسع؛ لأنه الكريم العظيم، هو أكرم الأكرمين، فعطاؤه فيما أسبغه علينا من نعم في هذه الدنيا، في هذه الحياة، عطاءٌ واسع، يتجلى كرمه "جلَّ شأنه" في هذه النعم الواسعة في كل مجالٍ من مجالات حياتنا: المأكولات، كم خلق الله "سبحانه وتعالى" من مأكولات للإنسان، مما هي حلال، من الطيبات؟ وكيف هيَّأ للإنسان فيها أن ينتفع بها بأشكال وأحوال مختلفة، ووسائل كثيرة جداً، وأن يصنع منها، وأن يطبخ منها، وأن ينتج منها الأشكال العجيبة جداً، وأن ينتفع بها، وأن تكون ذات قيمة على المستوى الغذائي للإنسان، وذات مذاق راقٍ جداً، وذات جاذبية في أشكالها وألوانها؟ في عالم الطب، في عالم الملبوسات، في عالم المشروبات، في كل ما يلبِّي احتياجات هذا الإنسان، وكل ما هو من متطلبات حياته على مستوى واسع جداً، عطاء الكريم.

أمَّا في الآخرة، أمَّا في الجنة، فهو عطاءٌ أعظم، عطاءٌ أوسع، هذه النعم التي أعطانا في الدنيا هي لمحات، هي نماذج تلفت أنظارنا إلى كرمه الواسع، وفي نفس الوقت هيَّأ الله لنا الطريق التي توصلنا إلى ذلك النعيم العظيم، دعانا إليها، بيَّنها لنا، يسَّرها لنا، طريق الجنة هي اليسرى، ليس صحيحاً ما يتصوره البعض أنها هي الطريق الأصعب، طريق النار هي الأصعب، هي الأسوأ، ولو أنَّ الإنسان يتجه فيها إلى الشهوات بانفلات، ولكنه في نفس الوقت يعاني، يشقى في هذه الحياة، ويشقى في الآخرة، لا يرتاح أبداً، لا يصل إلى الراحة الحقيقية، الراحة الحقيقية بالاطمئنان النفسي، والسمو الإنساني، والكرامة الإنسانية، ما يتحقق لك في طريق الجنة هو أسمى، هو أرقى، هو أعظم، هو أهنأ، هو أطيب، هو أفضل، هو الذي ترتاح به مع الإحساس بالكرامة، بالاطمئنان، بالسمو الإنساني، تسعد به وأنت تشعر بالرضا أيضاً، ليس فيه ما يخزيك، ليس فيه ما يضرب عليك القيمة المعنوية، التكامل في النعم المعنوية والمادية يأتي في طريق الجنة، أما في طريق النار، فلو اتجه الإنسان بانفلات نحو الشهوات، ونحو الجوانب المادية، فهو لن يصل إلى مبتغاه في ذلك، وفي نفس الوقت إنما يزداد بهيميةً، ولا يصل إلى الراحة التي يصل إليها من هو في طريق الجنة، فيجتمع له في طريق الجنة مع النعم المادية النعم المعنوية، يكون بكل شيء تأتيه راحته، لا يشعر بتأنيب الضمير، لا يشعر بالخزي والهوان، لا يشعر بالانتقاص من كرامته وقيمته الإنسانية والأخلاقية، وينال ما كتب الله له في ذلك، وفي نفس الوقت لا يزال يتطلَّع إلى ما عند الله "سبحانه وتعالى" مما هو أعظم مما في هذه الحياة؛ لأن ما في هذه الحياة هو نماذج محدودة معينة، في مقابل أن هناك نعيماً عظيماً واسعاً راقياً، لا ينقطع، وليس فيه أي منغصات، الإنسان يحمل الوعي تجاه حقيقة هذه الحياة، وأنَّ ما فيها ليس سالماً من كل المنغصات، وليس في نفس الوقت مستمراً للأبد، إنما سينقطع، فهو يعيش هذه الحياة بواقعية، يدرك ما فيها أيضاً من ظروف هذه الحياة، من منغصاتها، من مشاكلها، من همومها، ولكنه- مقارنةً بغيره- هو الأحسن في واقع الحال راحةً واطمئناناً؛ لأنه راضٍ عن الله "سبحانه وتعالى"، ويدرك قيمة النعم المعنوية في نفس الوقت، ويتطلَّع إلى ما عند الله "سبحانه وتعالى" من النعيم العظيم، الدائم، الأبدي، الخالص والسليم من كل المنغصات، الذي لا يشوبه كدر، فهو في حالة رضا، يدرك أنَّ آماله الكبيرة آتية، أنَّ طموحاته الواسعة قادمة، أنَّ النعيم العظيم والأبدي في مستقبله آتٍ لا محالة، ولذلك فهو راضٍ عن الله "سبحانه وتعالى"، فالله "جلَّ شأنه" أكرم الأكرمين، أسبغ علينا نعمه، ودلَّنا على الطريق التي ترتقي بنا إلى أسمى النعم، وأعظم النعم، وواسع الرحمة والفضل والبركات.

فما الذي يصرف الإنسان، والله "سبحانه وتعالى" من كرمه يدعونا، حتى عندما يعرض علينا هذه النعم، حتى عندما يذكر لنا تفاصيل منها، هو يرغِّبنا، هذه وسيلة من وسائل سعيه "سبحانه وتعالى" أن يوصلنا إلى هذه النعم: أنه يعرض علينا نماذج منها، أنه يدعونا إليها، أنه يرغِّبنا فيها، أنه يشرح لنا عنها، ويبين لنا عنها، ويدعونا إليها، كما قال "جلَّ شأنه": {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}[يونس: من الآية25]، يدعونا، ينادينا، كم في القرآن الكريم وهو يعرض علينا ما يوصلنا إلى هذه النعم العظيمة، إلى المستقر الأبدي، {وَاللَّهُ يَدْعُو}، ينادي، ينادينا، كم في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؟ ينادينا نداءً، ويدعونا، ويتلطَّف في دعوته بنا، فيأتي بكل العبارات التي هي مليئة بالرحمة والحنان، ويكرر بأساليب كثيرة، ونداءات كثيرة، وطرق كثيرة في خطابه لنا وهو يرغِّبنا ويحاول فينا أن نتجه إلى هذه النعم، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}، إلى مستقر السلام، الذي هو سلامٌ من كل الشرور، من كل العذاب، من كل الشقاء، من كل الهوان، من كل الخزي، تلك الدار التي يتحقق لك فيها السَّلام الشامل، والاطمئنان التام، والاستقرار الحقيقي، فليس فيها أي شيءٍ يشكِّل خطورةً عليك، أو ضرراً بك، أو أذىً لك، أو ازعاجاً لك، ليس فيها أي شرٍ، أي شقاءٍ، أي عناءٍ، أي تعبٍ، أي نصبٍ، أي همٍّ، أي غمٍّ، سلامٌ من كل الشرور، سلامٌ من كل الآلام، سلامٌ من كل العذاب، من كل الشقاء، من كل الهوان، سلامٌ تامٌ، الله يدعوك إلى ذلك، فلماذا أنت لا تقبل؟ لماذا تقبل دعوة عدوك الشيطان؟ والشيطان إلى أين يدعوك؟ إلى أين يسعى للوصول بك؟ هو كما قال الله عنه: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: من الآية6]، الشيطان حتى وهو يستغل فيك جانب الشهوات والرغبات والأهواء، ولكنه يدعوك لماذا؟ لتكون من أصحاب السعير، ليصل بك إلى قعر جهنم، ليصل بك إلى الشقاء الأبدي، ليجعلك تخسر في هذه الدنيا وفي الآخرة.

أمَّا الله الكريم، الرحيم، العظيم، فيدعوك إلى دار السَّلام، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس: الآية25]، يدعو ويهدي، فهو يبين هذه الطريق، ومع البيان أيضاً هو يعينك، من هدايته أنه يعينك أيضاً، أنه يشرح صدرك لتواصل مشوارك في هذه الطريق، ويعطيك العون على المستوى النفسي والعملي، وأنه أيضاً مع  شرحه لصدرك، يزين لك الإيمان، يحببه إليك، يرغِّبك، ويوفر لك أسباب الهداية، يتلافاك بألطافه وتوفيقاته... يعمل لك الأشياء الكثيرة من أجل أن يصل بك إلى جنته، إلى دار السَّلام.

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}[البقرة: من الآية221]، هكذا يقول "سبحانه وتعالى": {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ}، دعوة الله لنا في كل ما أمرنا أن نعمل، وفي كل ما نهانا عنه، هو ليوصلنا إلى الجنة، ليوصلنا إلى المغفرة، مع ما يتحقق لنا في عاجل هذه الدنيا من فضله، من عونه، من رحمته، من نصره، من بركاته، من نعمه الواسعة المعنوية والمادية، فهو يدعونا، ويهدينا، ويعيننا، وييسر لنا طريق الوصول إلى هذه النعم العظيمة، وكلنا نعلم أنَّ الانتقال من هذه الحياة انتقالٌ حتمي، الموت في كل يوم يأتي إلى البشر، في كل يوم وهناك من يغادر هذه الحياة، لا يمر يومٌ واحد إلَّا وهناك قوافل وأعداد كبيرة من البشر ترحل من هذه الحياة بشكلٍ يومي، وكلنا نعلم أنَّ هذه الحياة ليست مستقراً، وأن لنا آجال محدودة، والأجل ينتهي، مرحلة العمر تطوى، والكثير من الناس يتفاجأ عند موعد الرحيل من هذه الحياة، يأتيه الموت بشكل مفاجئ، في الوقت غير المتوقع، وقد يتفاجأ الكثير من الناس أنَّ فلاناً رحل، وفلاناً لم نكن نتوقع أنه سيموت وهو لا يزال في هذا المستوى من العمر، فمرحلة العمر تطوى، والإنسان لا يعلم كم سيستقر أصلاً في هذه الحياة، ولذلك إذا لم تأخذ بعين الاعتبار هذا المستقبل الأبدي الدائم؛ فأنت ستخسر، وخسارتك رهيبةٌ جداً، رهيبةٌ جداً، لكن عندما تأخذ بعين الاعتبار أنَّ هناك حياتين: الحياة الأولى أسبغ الله فيها عليك النعم، وفي نفس الوقت إذا شكرت نعمه عليك وإذا اتجهت وفق ما هداك إليه، واستجبت له فيما يصلح حياتك هنا وتنال به الحياة الطيبة هنا، تبقى متطلِّعاً إلى هذه الحياة المستقبلية الأبدية، وعندما يأتي يوم القيامة، وكنت من عباد الله المتقين الذين استجابوا لهديه، كم ستكون فرحتك حتى في يوم القيامة، يؤمِّنك الله في يوم الفزع الأكبر، يحشرك فتتلقاك الملائكة لتطمئنك، ولتبشرك، تأتي لك البشارات الواحدة تلو الأخرى في ساحة القيامة، حتى عندما تُأتى كتابك بيمينك، تفرح، تسعد، حتى وأنت تقرأ كتابك، وتطَّلع على أعمالك الصالحة، الأعمال التي بها فوزك، بها نجاتك، بها فلاحك، تستبشر وتسعد، حتى عندما تأتيك أيضاً البشارة الكاملة الخالصة التامة النهائية ما بعد الحساب، ويأتي القرار بضمك إلى موكب النور، إلى أولياء الله، إلى أنبيائه، لتكون في زمرتهم، كم ستكون فرحتك وأنت تضم إلى زمرة أولياء الله، وإلى زمرة أحباء الله، وأنبياء الله، والصالحين من عباد الله، فيما يميَّز الهالك، الخاسر، الخائب، المستهتر، الذي لم يستجب لدعوة الله "سبحانه وتعالى" في هذه الدنيا، يميَّز إلى صف المجرمين، إلى صف الشياطين، إلى صف الهالكين، إلى صف الكافرين، إلى صف المنافقين، إلى صف المجرمين، إلى تلك العناوين التي كلٌّ منها عنوانٌ يوصل أهله إلى نار جهنم والعياذ بالله.

ثم عند النقل، عند مرحلة الانتقال إلى عالم الجنة، عندما تقرَّب الجنة، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الشعراء: الآية90]، كم ستكون فرحتك؟ كيف هي مشاعرك؟ كم هو اطمئنانك؟ كم هو شعورك بالسعادة؟ مشاعر بالسعادة لا يمكن أن توصف أبداً، ولا يمكن أن يستوعبها الخيال؛ لأنك ترى أنك ستنتقل إلى تلك الحياة الهنيئة السعيدة، وتحشر مع أولياء الله في زمرتهم، { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}[الزمر: من الآية73]، حتى في الطريق حتى من أول نقلة قَدَم، من أول ما تنتقل وأنت ذاهب، وأنت تعرف إلى أين أنت ذاهب إلى الجنة، إلى السعادة الأبدية، إلى أرقى نعيم، واطمئنانك الكبير بأنَّ الله في نفس الوقت نجاك، نجاك من الجحيم، نجاك من العذاب الشديد، من الخزي الدائم، من الهوان والعذاب الأبدي، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا}[الزمر: من الآية73]، عندما يصلون إلى الجنة، وهي لحظة، لحظة لا يمكن أبداً أن نتخيل مدى السعادة فيها، عندما تشاهد الجنة، كم سمعنا من نعيمها، من أوصافها، في القرآن الكريم، ولكن لحظة المشاهدة عن قرب لعالم الجنة، مع معرفة أنك أصبحت من أهلها، هي لحظة من السعادة لا يمكن أن توصف، هي اللحظة التي يمكن فيها أن تنسى كل ألمٍ، أو عناءٍ، أو شدةٍ، قد حصل لك في هذه الدنيا، وأنت تعمل في سبيل الله "سبحانه وتعالى" فيما يرضيه، فيما يوصلك إلى رضوانه وجنته، أي عناءٍ مهما كان في هذه الحياة، أي شدائد، أي متاعب، أي هموم، أي معاناة (جسدية، أو نفسيه) كنت قد عانيت منها في هذه الحياة، وأنت في طريق الوصول إلى هذا النعيم، وأنت تستجيب لدعوة الله "سبحانه وتعالى"، ستعتبرها لا شيء، شعورك العظيم جداً بالسعادة والرضى بما وصلت إليه، شعورٌ عظيمٌ ينسيك كل الآلام، وكل الهموم، وكل المعاناة، وكل الشدائد، وكل الصعوبات.

وعلى العكس من ذلك لحظة الوصول إلى جهنم، بل حالة الانتقال إليها، وأنت تنقل والعياذ بالله، لو لم تسر في طريق الوصول إلى رحمة الله وجنته ورضوانه، تنقل إلى النار رغماً عنك، وأنت تعيش حالةً من الرعب، لا يمكن أن توصف، ومن الخوف، لا يمكن أن يستوعبها الخيال، والإدراك؛ لأنك ستنتقل إلى الخزي، إلى العذاب الدائم، إلى جحيم جهنم، وأنت تسمع تسعرها، تسمع زفيرها وشهيقها وأصواتها المرعبة، فتدفع دفعاً، من خلال الزبانية.

بينما السوق إلى الجنة هو بتكريم، الانتقال بتكريم، وكأنك وفد يتجه إلى ضيافة الله "سبحانه وتعالى"، الضيافة الدائمة؛ أما الانتقال إلى النار فدعَّا: دفعاً رغماً عنك، وتؤخذ بالنواصي والأقدام، ويلقى بك إلقاءً إلى قعر جهنم والعياذ بالله، عندما تعاينها، أهوال رهيبة، خوف شديد جداً؛ أما عندما تلقى فيها لتباشر حرارتها، وتباشر الصلي فيها، والاحتراق بنارها، فهي أحوال رهيبة وشنيعة ومخيفة جداً.

أولئك عندما وصلوا إلى أبواب الجنة، وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها في مراسيم الاستقبال، وأجواء من التكريم والاستقبال من ملائكة الله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر: من الآية73].

كيف هي فرحتك في لحظة الدخول، ومعاينة ذلك العالم العجيب؟ لحظة الدخول هي أيضاً لحظة في النصوص النبوية أنه لو بقي موتٌ لمات الإنسان من الفرحة؛ لأنه سيرى ذلك العالم العجيب جداً: الجنة في مزارعها، الجنة في قصورها، الجنة في عالمها العجيب جداً جداً جداً، التي وصفها النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" وصفاً عجيباً، ويقرب لنا المستوى العجيب مما فيها من النعم، وما هي عليه، عندما قال:

(فيها ما لا عينٌ رأت)، كل ما يمكن أن تكون قد رأيته في هذه الدنيا، من أعجب ما فيها: من قصور، من مدن، من مساكن، من مزارع، من مناظر خلابة، من مشاهد عجيبة... من كل ما يمكن أن تسر به، أو أن تفرح به، أو أن تتمناه، ترى في الجنة ما هو أرقى بكثير، وبما لا يقارن، وبما لا يقارن، (فيها ما لا عينٌ رأت).

(ولا أُذُنٌ سَمِعَت)، حتى إن كنت قد سمعت عن أشياء عجيبة، عن نعم عجيبة، عن ممتلكات عجيبة... مما تهواه نفسك وتتمناه، (ولا أُذُنٌ سَمِعَت)، وحتى فيما يُسمع أيضاً، مما يعجب الإنسان أن يسمعه.

(ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خطر على قلب بشر)، ولا حتى على مستوى الخيال، فنعيم الجنة هو فوق مستوى الخيال، لكن يقرِّب القرآن الكريم لنا صوراً ولمحات؛ حتى تكون الصورة لنا تقريبية، تشدنا إلى ذلك النعيم.

فهي لحظة عجيبة، عندما يقولوا ملائكة الله في ذلك الاستقبال، وبهذا التكريم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} في حالة من الترحيب الحار، ترحيب بالتكريم، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، للأبد، وليس لمرحلة مؤقتة. في الدنيا قد يتهيأ لك شيءٌ من الراحة، ولكنه مؤقت، كل شيءٍ في الدنيا مؤقت؛ أما هناك فللأبد.

عندما تدخل إلى عالم الجنة، ذلك العالم الواسع جداً، وهي في كلها عالمٌ واسع كل ما فيه نعيم يتوفر فيها بشكلٍ عام كل أنواع النعيم، وفيه أيضاً ما يخصك، كما قرأنا في الآيات المباركة التي مرَّت بنا عن الأربع الجنات التي تخص كل واحدٍ من أهل الجنة، ولكن هناك أيضاً نعيمٌ واسع.

عندما تلبس من ملابس الجنة، تلبس ملابس الحرير؛ بينما من يدخل إلى النار: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}، ما هو الفرق الكبير بين من يلبس الحرير الناعم من حرير الجنة، الجميل الناعم جداً، والفاخر جداً، والذي لا يمكن أن يماثله أي ملابس قد لبسها أغنى الأغنياء في هذه الدنيا، أو أكثر الناس سلطاناً ومالا، يمكن لأقل أهل الجنة نعيماً، ملابسه هو، نعيمه هو، هو أرقى من ذلك بكثير، أرقى وأعظم وأسمى مما يكون قد توفر لأكثر أهل الدنيا ثراءً وسلطاناً.

تلبس من ملابس الجنة من حريرها، وتحلى من حليتها، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}[الإنسان: من الآية21]، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}[الحج: من الآية23]، أفخر أنواع الزينة، ويأتي من يلبسك هذه الملابس، هذه الحلية، هذه الزينة، (وَحُلُّوا)، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}، من ذهب الجنة ببريقه الأخاذ، بجماله العجيب، بزينته الفاخرة، ولؤلؤ الجنة، في مقابل أن من يتجه إلى النار يُغَلُ بقيود الله، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}[الحاقة: الآية30]، يُغل بقيود الله، والله قال: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: الآية26].

في عالم الجنة، تتنعم بأنواع النعيم فيها، أنواع النعيم التي لا حصر لها ولا عد، أنواع النعيم، إذا كانت نعم الله في الدنيا يقول عنها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النحل: من الآية18]، فكيف بنعيم الجنة؟!

في القرآن الكريم يبين الله لنا سعة هذا النعيم فيقول "جلَّ شأنه": {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت: من الآية31]، كل ما تشتهي نفسك متوفر، كل ما تطلبه يتوفر لك، ولهذا ليس هناك ما يماثل هذه الحالة بنفسها في الدنيا، لا يمكن لأي إنسانٍ- مهما كان وأياً كان- أن ينال كل ما تشتهي نفسه، تبقى هناك العوائق: عائق الفقر عند البعض، عائق المرض عند البعض... ظروف معينة، أو موانع معينة، أو نواقص معينة، لا يتهيأ للإنسان أن يكون له هذا في الدنيا مهما كان ثراؤه، مهما كانت إمكاناته، مهما كانت سلطته؛ أما هناك فالأمر مختلف، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ}[الفرقان: من الآية16]، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}: من كل أنواع النعم، كل شيءٍ متوفر، وعلى أرقى مستوى، وعلى أعظم ما يمكن أن تتخيل، نعيمٌ واسع، يقول الله "سبحانه وتعالى": {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}[الطور: 17-18]، (فَاكِهِينَ): هم يعيشون حالة السرور، والفرح، والارتياح التام، في ذلك النعيم الذي هم فيه، وبما أعطاهم الله من النعم الواسعة، وفي كل يومٍ يعيشون أجواء هذا النعيم، وما فيه من جديد، وما فيه مما يلتذون به، يرتاحون به، ينعمون به، يسعدون به، يفرحون به، فهم في حالةٍ من السرور الدائم والارتياح التام، ليس عندهم ملاحظات، يقولون: في نقص في هذا الموضوع، أو هذه الملابس ليست مما تروق لنا، أو هذا الطعام لم يعجبنا بالشكل المطلوب، لا؛ لأن كل ما أعطاهم الله "سبحانه وتعالى" هو أرقى نعيم، هو أهنأ ما يمكن أن يهنأ به الإنسان، وهو المناسب على أرقى مستوى، يناسبهم جداً، يرتاحون به جداً، يفرحون به جداً؛ لأن الله العليم بهم، والعليم بكل إنسان، بما يناسبه، بما يلائمه، يقدم له ما يناسبه، ما يلائمه، ما يعجبه، ما يرتاح به، وعلى أرقى مستوى.

في الدنيا قد تنزل ضيفاً عند إنسانٍ كريم، ولكنه لا يعلم بطبائعك، بما يناسبك، بما ترتاح به، وقد تتفضل ويقدم إليك شيئاً وبكرم، وقد يكون شيئاً لا يناسبك، قد تتمنى لو أنه أعطاك كذا، أو أعطاك كذا، وهيأ لك كذا... وأنت تستحي؛ لأنك ضيف، فلا تذكر له ما ترغب به.

أما في الجنة فيقدم لهم كل الذي يرغبون به من العليم بهم، من الله "سبحانه وتعالى"، ويتاح لهم المجال أيضاً في ذلك النعيم الواسع أن يختاروا مما فيه ما يروق لهم، ما يناسبهم.

{فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}، بعطاء الله، ربهم الكريم، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، وهذه نعمة عظيمة جداً، مع ذلك النعيم يتذكرون هذه النعمة، أن الله وقاهم عذاب الجحيم، أنهم قد نجوا؛ بينما هلك أكثر البشر، فعندما نجاهم الله ووقاهم عذاب جهنم، عذاب الجحيم، يستشعرون أنها نعمة عظيمة جداً.

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور: الآية19]، يقدم لهم ما يقدم من النعيم، مع التكريم لهم؛ فهم في حالة ضيافة دائمة، ضيافة للأبد، ضيوفاً دائمين، وضيوفاً الله راضٍ عنهم، لا ينقطع رضاه عنهم، لا يملون، ولا يمل الله منهم، "سبحانه وتعالى"، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، يقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، فهذا من التكريم لهم، وهم- في نفس الوقت- يَهْنؤون؛ لأن ما يقدم لهم وهو على أرقى مستوى، ولأنه لا ينغصه شيءٌ أبداً، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، هذا من التكريم لهم، والتذكير لهم بقيمة ما عملوا، بأهمية ما عملوا، وأن نتيجته كانت هذه النتيجة: هذا النعيم العظيم، هنا يدرك الإنسان قيمة ما يعمل مما أرشد الله إليه، وأمر به، أن له هذه العاقبة الطيبة، هذه النتيجة العظيمة.

{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ}[الطور: الآية20]، متكئين؛ لأنه ليس لديهم أي شواغل مزعجة، أو أعمال متعبة، أو مسؤوليات مرهقة، أبداً، حتى إذا انشغلوا بشيء، هو انشغالٌ بالنعيم بدون تعب، براحة، كما قال عنهم: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس: 55-56]، فهم في حالة إن انشغلوا بشيء انشغلوا بالنعيم، بما هو راحة، بما هو سعادة، وليس بما هو مرهق، وليس بمسؤوليات، أو متاعب، أو عناء، أبداً، ولذلك هم في راحة، هم يجلسون متكئين بكل راحة بال، بكل اطمئنان، لا نصب، ولا هم، ولا تعب، ولا شواغل، ولا مسؤوليات، ولا هموم، راحة تامة، لا يمسهم فيها نصب.

ومتكئين على ماذا؟ {عَلَى سُرُرٍ} من سرر الجنة، مصنوعة مما أعد الله فيها، من ذهبها، من الأشياء الفاخرة فيها، ومزينة، ومريحة جداً، يهنأ الإنسان أن يتكئ عليها وأن يجلس عليها.

{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}، كثيرٌ من الشباب الذي قد يكون استشهد وهو لم يتزوج بعد، وكثيرٌ من المؤمنات التي تصعبت عليها مسألة الزواج، تتحول إلى حوراء في الجنة، أفراح الزواج في الجنة، وأعراس أهل الجنة، لكل أهل الجنة، هي فوق الخيال، هناك السعادة، هناك الراحة، هناك الاطمئنان، هناك الأجواء الممتازة جداً.

 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور: الآية21]، ويلتئم شمل الأسر المؤمنة في ذلك النعيم، من دون نقصٍ على أي واحدٍ منهم، ليس جمع شملهم على أساس أنهم سيشاركون مثلاً الأب فيما أعد الله له وخصه به، وإنما إضافة، إضافة نعيم إلى نعيم.

{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الطور: الآية22]، يمدهم الله بأنواع الفواكه، بأنواع اللحوم، مما يشتهون، يمكن لك أن تتخير وجباتك في الجنة من أي أصناف الطعام، من أي أصناف الفواكه، من أي أصناف اللحوم، يمكن لك أن تحدد ما ترغب به، وأي وجبةٍ من الوجبات.

{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}[الطور: الآية23]، ولهم مجالس يجتمعون فيها، وفي هذه المجالس يشربون من أطيب وألذ شراب الجنة، الذي ليس بمسكرٍ، وليس له آثار سلبية على المستوى الصحي والنفسي.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}[الطور: الآية24]، جو من التكريم، فيه من يخدمهم، ومن يهتم بهم.

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور: 25-27]، يتساءلون، يتحدثون عن ذكريات الدنيا، وهم في تلك المجالس في الجنة يشربون من أطيب شراب الجنة، على سرر الجنة الفاخرة والممتازة، فيستذكرون في تلك الأجواء، وقد اجتمعوا، يجتمع الرفاق، يجتمع الأخوة، يجتمع الذين جمعتهم أخوّة الإيمان، وألفة التقوى، يجتمعون، فيتذاكرون هذه الحياة، وتجتمع بآخرين، يمكنك حتى أن تزور الأنبياء والمرسلين وأولياء الله، وأن تلتقي بهم، وأن تتحدث معهم.

في تلك الاجتماعات يتذاكرون عن عالم الدنيا، عن ذكريات الحياة الدنيا، وما كانوا عليه، وعن أسباب نجاتهم وفلاحهم وفوزهم، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}، (كُنَّا قَبْلُ): في الدنيا، في الحياة الأولى، (فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ): لم نكن مستهترين، ولا متهاونين، ولا مفرطين، كنا نتقي الله، نحذر ونخاف من التفريط، نحذر ونخاف من المعصية، ولم نكن نعيش حالة الاستهتار واللامبالاة تجاه توجيهات الله وأوامره، (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا): عندما كنا في حالة يقظة، انتباه، حذر من التفريط والعصيان رجوع إلى الله، وتوبة عند الزلات والمعاصي والتقصير، كانت النتيجة أن منَّ الله علينا، تفضل علينا ورحمنا ووفقنا، (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ): ووقانا من عذاب جهنم، التي فيها حتى الاكسجين الذي فيها هو عذاب من أشد عذاب جهنم، من أشد عذاب جهنم أنك تتنفس هواءها الحار، تستنشق هواءها وأوكسجينها الحار جداً، الذي عندما تستنشقه في شدة حرارته يتعذب به كل جسمك، يدخل وأنت تستنشقه إلى جسمك، فيتحول إلى عذاب وألم في كل جسمك، قال الله عن أهل جهنم: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}[الواقعة: الآية42]، فبدلاً عن ذلك، وبتقوى الله "سبحانه وتعالى"، وقاهم عذاب السموم، فاستنشقوا من أوكسجين الجنة، من هوائها الطيب، واستنشقوا الروائح العطرية من أشجارها، التي تنشر الرائحة العطرية والزكية فيها؛ أما سموم جهنم يجتمع فيه الحرارة والنتن، الرائحة القذرة جداً، الرائحة المزعجة جداً، مع حرارة شديدة، والعياذ بالله.

{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ}، هم أدركوا أهمية الدعاء، فإلى جانب الحذر، الإشفاق، الانتباه من المعصية، الرجوع إلى الله عند الزلة، التلافي للتقصير، الدعاء، الدعاء لا بدَّ منه، الإنسان لا يمكنه أن يستغني بنفسه، يحتاج دائماً إلى معونة الله، إلى ألطافه، إلى هدايته، إلى توفيقه.

{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: الآية28]، هو واسع البر، واسع الفضل، واسع الإنعام، وهو أرحم الراحمين، عندما تدعوه، تلتجئ إليه، وتسعى للاستقامة على هديه، وتستجيب له؛ يهديك، يوفقك، هو- في نهاية المطاف- ينجيك من عذابه، يوصلك إلى رضوانه، يوصلك إلى هذا النعم العظيم.

نكتفي بهذا المقدار، ونكون بهذا استكملنا دروسنا على ضوء الآيات المباركة من سورة الرحمن، وعن الموضوع بشكلٍ عام.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...