الثلاثاء، 26 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الرابعة والعشرون للسيد عبد الملك بدر الدين للحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الرابعة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م
نشر في أبريل 26, 2022 
موقع انصار الله
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

تحدثنا عن الأخوّة الإيمانية، ومبدأ الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً، كمبدأٍ عظيمٍ من أهم المبادئ الإسلامية، وباعتبار الأخوة الإيمانية من الفرائض الإيمانية الدينية الإلزامية، وتحدثنا عمَّا يرتبط بذلك، وعن أسسه، التي هي متمثلة: بالاعتصام بحبل الله جميعاً، باجتماع الكلمة على أساس هدى الله “سبحانه وتعالى”، والتحرك وفق ذلك في مسيرة الحياة، بقيادةٍ واحدةٍ على هذا الأساس، وأيضاً من خلال القيم التي تساعد على التزام الأخوّة الإيمانية، وتنمِّي حالة الإخاء بين المؤمنين، مما يعود فيها إلى حسن التعامل، إلى كظم الغيظ، إلى المواصفات المهمة جداً، في مثل قوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]… إلى غير ذلك.

ومجمل ما يفيد في ذلك، هو: أنَّ الثمرة المهمة التي هي قائمةٌ على تعاملهم فيما بينهم بالصدق، والوفاء، والأخوة، وتلك القيم القرآنية، تثمر فيما بينهم الثقة، الثقة ببعضهم البعض، الاعتماد على بعضهم البعض، الاطمئنان إلى بعضهم البعض، وهذا له أثره الكبير جداً في الواقع العملي، في أن ينطلقوا معاً في مختلف المهام والمسؤوليات والأعمال، وفي مواجهة التحديات والأخطار مهما كانت، وبفاعليةٍ عالية، كلما كانت الثقة قوية، والاطمئنان كبير؛ كلما كانت الفاعلية في ميدان العمل، في النهوض بالمسؤوليات، في مواجهة التحديات والأخطار عالية جداً، وهذه مسألة معروفة في الواقع البشري.

فالموضوع في أساسه كما هو موضوعٌ يرتبط بالجانب الإيماني للإنسان، بتحقيق التقوى، بقبول العمل عند الله “سبحانه وتعالى”، له أيضاً جاذبيته الكبيرة من حيث نتائجه في واقع الحياة، ما يترتب عليه في واقع الحياة، ما يتحقق به في واقع الحياة.

ولهذا يحرص الآخرون من غير المسلمين على أن يتكتلوا في تكتلات كبرى، وأن يتحالفوا، وأن يتعاونوا، وأن تتظافر جهودهم في مواقف معينة، تجاه تحديات معينة، في مواجهة خصمٍ، أو عدوٍ معين، حتى ضد الإسلام والمسلمين، هم يحرصون على أن تتظافر جهودهم، وأن ينسِّقوا تحالفات كبرى، كما هو حاصلٌ في هذا العصر بقيادة أمريكا، ويتحركون كذلك على مستوى واسع في أمورهم الأخرى، المتمثلة بالجوانب الحضارية، والاقتصادية… وغيرها.

الأكثر غبناً في كل هذا، وتفريطاً في هذا الجانب، هم المسلمون، وعندما يتحرك البعض من المسلمين على أساس التوجه الصحيح، وعلى أساس المبادئ الإيمانية العظيمة، ويسعون إلى أن تجتمع كلمتهم على أساس هدى الله، وفي الموقف الحق، وفي الاتجاه الصحيح، فعليهم أن يكونوا مرسِّخين في واقعهم لهذا الجانب، وأن يكونوا على الدوام حذرين من حالة الفرقة والاختلاف.

تحدثنا في كلامنا بالأمس وما قبله عن الوعيد الإلهي على التفرق والاختلاف، عندما قال الله “سبحانه وتعالى”: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، فمن الخطورة الكبيرة على الإنسان أن يدخل ضمن هذا الوعيد، الوعيد الشديد: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، هذا- بحد ذاته- كافٍ بالنسبة للإنسان المؤمن أن يسعى بكل جد إلى الحذر من الفرقة، من الاختلاف في داخل صف المؤمنين، وأن يسعى دائماً إلى أن يبقى في حالة الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن يرعى الأخوّة الإيمانية بكل ما تبنى عليه، بكل لوازمها، بكل العوامل المساعدة عليها، وأن يحذر- في نفس الوقت- من أسباب الفرقة.

هناك عوامل وأسباب تؤدي إلى الفرقة، ويجب الحذر منها، وسنتحدث عن البعض منها باختصارٍ إن شاء الله:

في مقدِّمة العوائق التي تؤثِّر سلباً على الأخوّة الإيمانية، وعلى الاعتصام بحبل الله جميعاً، وتسبب للفرقة، والاختلاف، والتباين، وتؤثِّر على مستوى الانسجام والتفاهم: العوامل النفسية:

وفي مقدِّمتها: الكبر:

الكبر هو من أسوأ الصفات، ومن أكبر الذنوب والمعاصي، وخطورته على الإنسان في كل دينه، وفي كل واقعه، خطورته كبيرةٌ على الإنسان، يستحيل معه الاستقامة على أساس هدى الله، ويبعد الإنسان عن القابلية لهدى الله “سبحانه وتعالى” في كثيرٍ من الأمور المهمة، وله تأثيره الخطير في مسألة الأخوّة الإيمانية، والاعتصام بحبل الله جميعاً؛ لأن الإنسان المتكبر، الذي يصبح متكبراً، يربط الأمور في الواقع العملي بهذا الجانب، هو يرى نفسه أكبر من الحق، وترتبط الأمور في جوانبها الثلاثة:

أولها الموقع:

ترتبط الأمور العملية بالموقع، وأكثر الناس عرضةً لهذا الجانب هم أصحاب المواقع الاعتبارية على المستوى الاجتماعي، أو على المستوى العلمي، أو على المستوى الثقافي، أو على مستوى السلطة، من لهم مناصب، أو وجاهة، أو يرون أنفسهم أصحاب كفاءة معينة، أو مهارة معينة، أو مقام معين، أو ألقاب معينة، هم من أكثر الناس عرضةً لخطورة الكبر، ومشكلة الكبر.

فتجاه أي عمل من الأعمال، أو تحرك في أي مهمةٍ من المهام، أو مسؤوليةٍ من المسؤوليات، المعيار عند الإنسان المتكبر، هو: كبره، هل هذا العمل، هل هذه المسؤولية، هل هذا الدور، هو بمستوى الموقع الذي أفترضه لنفسي، هو يلبِّي الطموح الشخصي؟ ويرى نفسه مثلاً متطابقاً مع مستواه، مع موقعه، مع أهميته، مع شخصيته، وإلَّا فقد لا يقبل به أصلاً، مهما كان عظيماً، مهما كان مهماً، مهما كانت فيه مرضاة الله “سبحانه وتعالى”، مهما كان له من أثرٍ في الواقع، فهنا تكون استجابته ليست مرتبطةً بالغاية الإيمانية العظيمة، التي هي رضوان الله، والقيمة العملية الفعلية بهذا المعيار: معيار مرضاة الله “سبحانه وتعالى”.

المعيار عنده معيارٌ آخر، المعيار هو: كبره، هل هذا العمل يتوافق مع كبره، مع الموقع الذي له في نفسه، وإلَّا فلن يلتفت إليه مهما كان عظيماً، ومهما كان مهماً.

على مستوى التقبل:

سواءً في ميدان التوجيهات العملية، أو في مقام النصح والتذكير، أو في مقام الأخذ والرد والنقاش للمواضيع العملية، المتكبر من أكثر الناس أنفةً، وأبعدهم عن التقبل، يصر ويعاند على رأيه، حتى لو كان خاطئاً، حتى لو لم يكن سليماً ولا صائباً، لكن ارتبطت المسألة عنده بالاعتبار الشخصي، فتصبح المسألة فوراً مسألة شخصية، يتشبث بوجهة نظره الخاطئة، أو بتوجهه الخاطئ، أو بموقفه الخاطئ، لا يريد أن يتراجع عنه أبداً، ولا يقبل نصحاً، ولا يقبل نقاشاً، ولا يقبل أن يُذَكَّر أبداً، وبالذات إذا كان التذكير يأتي له ممن يراه أدنى مرتبةً منه، أو أقل شأناً في نفسه منه، فيصبح الكبر أيضاً عائقاً كبيراً أمام تقبل التوجيهات، التي يصبح المعيار عند الإنسان تجاهها هي كبره، هل هي تتناسب، أم لا تتناسب، من معيار الكبر فقط، على مستوى النصح، على مستوى التذكير… وهكذا، وهذه جوانب خطيرة جداً، ومؤثرة إلى حدٍ كبير.

ثم مما يؤثِّر في مسألة الكبر، هو: سلبية الإنسان في تعامله:

المتكبر عادةً ما يكون سلوكه وأسلوبه في التعامل أسلوباً مطبوعاً بالتكبر، لا يتواضع في تعامله، يبرز كبره وتعاليه وغطرسته في أسلوبه في التعامل مع الآخرين:

سواءً وهو في موقع مسؤولية، فهذا أكثر، سيجعله أكثر سلبيةً في طريقته في التعامل مع الآخرين من موقع مسؤوليته المعينة.

أو حتى باعتداده بنفسه، ومقامه، واعتباره الشخصي، فهو يتعامل مع الآخرين بتكبر، بتعالٍ، بغطرسة، يبرز في أسلوبه حالة التكبر والتعالي.

وهذا منفرٌ جداً في واقع الأمة، يستحيل مع هذه الحالة أن يكون هناك انسجام تام، تعاون، وقرب، قرب في المشاعر، وقرب أخوي، وتحقيق لحالة الأخوّة الإيمانية كما ينبغي.

فالكبر في هذه الاتجاهات الثلاثة، والإنسان يربط الأمور بموقع معين، لا يتحرك إلَّا إذا كان سيحصل على ذلك الموقع، ومن ذلك الموقع موقفه مما يأتي من الآخرين، سواءً على مستوى توجيهات عملية، أو نصح، أو مناقشة للأمور بشكلٍ عملي، حتى لو كان بطريقة أخوية، لا يتقبل أصلاً، وفيما يتعلق بالتعامل، فالكبر خطيرٌ من كل هذه الجوانب، وكلها تؤثر سلباً على الأخوّة الإيمانية، تأثيرها سيءٌ جداً، وكلها تؤدي إلى الفرقة، فهو يؤدي إلى الفرقة من كل جوانبه الثلاثة.

ولذلك أتى في القرآن الكريم قوله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}[السجدة: الآية15]، {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، هم خاضعون لله، همهم ما يرضي الله “سبحانه وتعالى”.

والإنسان المؤمن هو يعي جيداً أنَّ قيمته ليست بالتكبر، وأنَّ منزلته المهمة التي يسعى للحصول عليها هي عند الله “سبحانه وتعالى”، ويسعى لمرضاة الله، لأن يرضى الله عنه، وهو يعلم أنَّ العزة لله جميعاً، وأنَّ الله يعز عباده المؤمنين، لا يحتاج لكي يكون عزيزاً، ولكي يحظى بالعزة من الله “سبحانه وتعالى” إلى التكبر.

بل في الواقع، واقع الناس، المتكبر مذموم، وغير محترم، لا يحظى بالاحترام، حتى لو داراه الناس، ليس على أساس احترام وتقدير من أعماق قلوبهم، بل إنَّ الإنسان الذي له دوره، أو له مقامه، أو له شيءٌ معين، كفاءة معينة علمية، أو ثقافية… أو أي اعتبار، إذا كان متواضعاً، مع ما منحه الله ووهبه الله إياه، من دورٍ معين، أو جاهٍ معين، أو جهدٍ معين، أو إسهامٍ معين بارز، فالله أولاً: سيمنحه العزة، ثانياً: الناس يحترمونه، يقدِّرونه، عندما يلمسون تواضعه وقربه، يحترمونه أكثر.

من أهم العوامل المؤثرة سلباً، والمؤدية إلى التفرق حتماً، هي: النظرة الشخصية، والمقاصد الشخصية، والتمحور حول الذات:

إذا فقد الإنسان إخلاصه لله تعالى، لم يعد يعمل من أجل الله، من أجل مرضاة الله، وهذا كل همه، هذا الأساس في انطلاقته، وهذا هو الدافع الرئيسي له ليعمل، بل أصبح يريد من وراء ما يعمل، حتى لو كان جهاداً في سبيل الله، حتى لو كان أداءً لمسؤوليةٍ معينة، حتى لو كان عملاً خيرياً وعملاً اجتماعياً لمصلحة الناس، فيه الخير للناس، أصبح ينطلق من منطلق شخصي، يريد الاعتبار الشخصي:

إمَّا يريد لنفسه الموقع المعنوي، يريد منصباً معيناً، مقاماً معيناً، ويسعى للسمعة الكبيرة بين أوساط المجتمع.

ويسعى أيضاً مع ذلك، أو بدونه، إلى مكاسب مادية.

إذا أصبحت المكاسب الشخصية على المستوى المعنوي، أو على المستوى المادي، أو على المستوى المعنوي والمادي، هي الدافع الرئيسي للعمل، هي المؤثر الكبير في انطلاقة الإنسان، فالإنسان هنا يتغير، وهذا يؤثر على سلوكه، على تعامله، على تفاعله، على مدى استجابته، على مدى إنجازه؛ لأنه يربط الأمور العملية بهذا الجانب، [هل وراء هذا العمل سمعة شخصية، مكسب شخصي، وإلا فليس عملاً مهماً، أنا لا أريده، لا أريد الاستمرار فيه]، عندما ينطلق في عملٍ معين، هل تحققت هذه المكاسب الشخصية، وإلا تثور ثائرته، يشاقق، يعاند، يعارض، يحتج، يثير الضجة، يؤثر سلباً على الواقع العملي؛ لأن هذا هو الأساس الذي يؤثر فيه، وفي أدائه، وفي مستوى تفاعله، وحتى في مستوى التزامه.

وبالتالي تتكون عنده في نفسه هذه الحالة السلبية، التي ينظر من خلالها حتى إلى الآخرين، هل هم يقدِّرون جهده؟ هل هم يعتبرون له دوره، مقامه الشخصي، اعتباره الشخصي؟ هل يهتمون بذلك إلى حدٍ كبير؟ وإلا فقد أحياناً يتهمهم أنهم لا يقدِّرون له ذلك كما ينبغي؛ وبالتالي يمقتهم، يكرههم، يؤثر هذا على علاقته بهم، لم يعد ما يجمعه بهم هو ذلك العمل الصالح، العمل العظيم، أصبحت المقاصد الشخصية، وإذا تصور أنهم لا يعطونه في ذلك ما ينبغي، فلديه موقف منهم، ويستاء منهم كثيراً، وهذه من الحالة الخطيرة جداً، الإخلاص عاملٌ مهم في الحفاظ على الوحدة والأخوّة الإيمانية.

من أهم ما يؤثِّر سلباً على الأخوة الإيمانية، ويؤدِّي إلى التفرق، هو: حالة العجب والغرور لدى الإنسان:

وهي حالةٌ خطيرةٌ جداً، وقد تعرض للإنسان في مرحلة من مراحل العمل في سبيل الله، والعمل الصالح، قد ينطلق الإنسان في بداية الأمر بإخلاصٍ لله “سبحانه وتعالى”، وتوجهٌ نحو الله “سبحانه وتعالى”، وفيما بعد نتيجةً لإنجازات عملية معينة وفَّقه الله لها، أو نتيجةً لأنه وصل إلى موقع عملي معين، أو منصب معين، أو مسؤولية معينة؛ أصبح معجباً بنفسه، ومغروراً بنفسه، وبالذات عندما يترافق مع ذلك أن يحظى بالمديح والثناء من الآخرين كثيراً، فإذا أحيط أيضاً بالبعض من الأصدقاء والأصحاب المتملِّقين، أو استخدم كأسلوبٍ معه لتوطيد العلاقة معه، وللوصول إلى مكاسب من جانبه، كما هو الأسلوب الحاصل بالذات عندما يكون الناس في مواقع مسؤولية، يتقرب البعض إليهم بأسلوب التملق، والإكثار من المديح، والثناء الكثير، والإشادة المتكررة… وهكذا، على نحوٍ يصنع لدى البعض عجباً بنفسه، وغروراً تجاه نفسه، فينظر إلى نفسه أنه أصبح إنساناً عظيماً ومهماً، وأنَّ منزلته عالية، ثم يتهم الآخرين بأنهم لا يقدِّرونه كما ينبغي، لا يهتمون به كما ينبغي، لا يحترمونه كما ينبغي، لا يعطونه ما يستحق بحسب مقامه، ودوره، وأهميته… وما إلى ذلك، ويغرق في هذا التفكير، وهذا التوجه؛ حتى ينسى الله، ينسى العمل الصالح، ينسى كل شيء، ينسى أن يكون مبتغاه من الله، وأن تكون وجهته إلى الله.

ثم مهما عمل، مهما قدَّم، يعظم هو عند نفسه، لا يشعر بتوفيق الله “سبحانه وتعالى”، ولا يتجه إلى الله “سبحانه وتعالى”؛ وبالتالي تكثر نقمته، يصبح ناقماً، ناقماً على الناس، ناقماً على الواقع من حوله، من هذا الاعتبار: [أنه إنسانٌ عظيمٌ مهمٌ جداً، وأنه إنسانٌ خارقٌ للغاية، وأنه وأنه وأنه…]، فهو دائم التسبيح بحمد نفسه، يفكِّر في نفسه، يسبِّح بحمد نفسه، وهو يتذكر أنه عظيم، وأنه مهم، وأنه الذي يفعل، وأنه الذي يعمل، وأنه المهم جداً، وأنه العبقري، وأنه لو الذي حصل على ما يستحق من الاهتمام والعناية به، لفعل، ولكان، ولـ… ثم يبدأ في حالة التذمر من الآخرين، والاستياء من الآخرين، والتعقد على الآخرين.

حالة العجب والغرور بالنفس هي حالةٌ خطيرةٌ على الإنسان، وهي تتنافى مع الإيمان، الله “سبحانه وتعالى” قال في القرآن الكريم: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء: من الآية36]، المغرور بنفسه، المعجب بنفسه هو المختال، الفخور، كثير الافتخار، فهو يتحدث عن نفسه أنه وأنه وأنه وأنه… كثيراً كثيراً، ينسى الله، بل قد لا ينظر حتى إلى جهود الآخرين، ولا يعتبرها ذات قيمة ولا أهمية، لا يرى إلَّا نفسه، ولا يرى إلَّا جهده، ولا يرى إلَّا إنجازه، ولا يرى إلَّا عمله، ويعظم عنده ما يفعله كثيراً، حتى الشيء البسيط الذي قد يعمله، أو الإنجاز البسيط الذي قد يحققه؛ لأنه منه، يراه شيئاً عظيماً، شيئاً مهماً، وينتظر دائماً في مقابل ذلك من الآخرين أن يثنوا عليه، أن يسبحوا بحمده، أن يعظِّموه، وينتظر في مقابل ذلك المزيد من الألقاب، والاستحقاقات، والمقاصد الشخصية، والحسابات الشخصية، والمكاسب الشخصية، وهذه حالةٌ خطيرةٌ جداً على الإنسان.

وأيضاً هذه من الحالات التي تصنع فجوةً ما بين الإنسان وبين الآخرين، يصعب مع الإنسان إذا أصبح على هذا النحو التفاهم معه، التعاون معه، العمل سوياً معه، المناقشة للأمور العملية معه، يتعقَّد جداً من النصح له، يستاء جداً من التذكير له، يصبح في الواقع العملي من الصعب التنسيق في عملٍ معه، يكاد يكون مستحيلاً؛ لأنه دائماً غارقٌ في هذه العقد الشخصية، والحالات الشخصية، فهي من الحالات الخطيرة جداً جداً، وتعرض للبعض من الناس بعد مرحلة عملية معينة، يتغير تماماً، يتغير تماماً، ثم يتلو بعد ذلك التعقد الشديد، والكره الشديد، وحتى الوحشة، ((العجب وحشة)) كما روي عن الإمام عليٍّ “عليه السلام”، المغرور بنفسه، المعجب بنفسه يشعر- في نهاية المطاف- بالوحشة، ولا يشعر بالانسجام مع الآخرين، وينفر من الآخرين، ينفر منهم إلى حدٍ كبير.

من أهم عوامل الفرقة: الطمع والأنانية، الطمع المادي:

عندما تصبح أطماع الإنسان هائجةً، تحكم توجهاته، وتؤثِّر عليه في أعماله، وتمثل هي الدوافع لتحركه؛ فهو بالتالي يتجه على حساب الأعمال الأساسية والمسؤوليات المهمة، يصبح المهم عنده أن يجمع، إذا لم يحصل على ما يبتغيه من الأطماع المادية، تقوم القيامة، يكره الآخرين، يسخط عليهم، يمقتهم، ولا ينسجم معهم، ولا يتفاهم معهم، رضاه عنهم مرتبطٌ بمقدار ما يتحقق له معهم من المكاسب المادية، {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}[التوبة: من الآية58]، فرضاه وسخطه يرتبط بالجانب المادي، هذه حالة خطيرة جداً.

من الأسباب المؤدِّية للفرقة، والعوامل الخطيرة المؤدِّية إليها: الغضب والانفعال المنفلت:

كل إنسان يغضب، وكل إنسان ينفعل، لكن الله قال عن عباده المؤمنين: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}[آل عمران: من الآية134]، وقال عنهم: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}[الشورى: من الآية37]، وقال عنهم: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[آل عمران: من الآية134]، من القيمة الإيمانية، ومن المميزات التي تعود إلى التقوى: أنَّ الإنسان في حالة الغضب يضبط نفسه، يسعى- بالاستعانة بالله “سبحانه وتعالى”- إلى كظم غيظه؛ وبالتالي يسعى إلى السيطرة على ردة فعله، أن تكون ردة فعله متوازنة، وفق ما يرضي الله “سبحانه وتعالى”، ألَّا يتجاوز فيها الحق، بل أكثر من ذلك: أحياناً إلى أن يكظم غيظه بالكامل، وألَّا يظهر غضبه أصلاً، ألَّا يترجم حالة الغضب في ردة فعلٍ سلبية، بل يصبر، ويكظم غيظه، ويصرف ذهنيته، وهذه مسألة مهمة جداً، وتحتاج إلى تقوى، إلى إيمان.

الله قال عن هذه الحالة، التي وصف البعض من خيار عباده بها، الذين يدرؤون السيئة بالحسنة: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: الآية35]، يعني: مرتبة إيمانية عالية جداً، من يصل ليس فقط إلى أن يكظم غيظه، بل أن يدرأ السيئة بالحسنة، مقامه عظيمٌ عند الله، وشأنه كبيرٌ عند الله “سبحانه وتعالى”، ومرتبته عالية، {ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، وأجره كبيرٌ جداً، وهي تعبِّر عن زكاء نفسٍ إلى حدٍ كبير، وعن توجهٍ عظيمٍ إلى الله “سبحانه وتعالى”، وعن اهتمام عظيم بأمر الدين، وأمر الأمة، يجعل الإنسان يصبر من أجل ذلك على كل شيء، مهما كان صعباً على نفسه، مهما كان شاقاً على نفسه.

الحساسية المفرطة لدى الإنسان التي تجعله غير متوازن في انفعالاته، قد يكون أحياناً وراءها العجب، ووراءها الغرور، أو الكبر… أو نحو ذلك، عندما يكون الإنسان حسَّاساً جداً، بمجرد كلمة بسيطة، وقد تكون غير حسَّاسة جداً الكلمة في أصلها، مستفزة بعض الشيء، وجِّهت إليه؛ فيغضب أشد الغضب، يعني: لو هدمت الكعبة، لَمَا غضب كذلك، لو دُمِّر الأقصى، لَمَا انفعل كذلك، لو سُحِقَت الأمة الإسلامية، لَمَا انفعل بذلك المقدار، لو حصل ما حصل في الشأن العام، لَمَا انفعل بذلك المقدار.

الحساسية المفرطة جداً لدى الإنسان إلى درجة أن ينفعل تجاه أبسط موضوع، أو قضية، أو استفزاز، إلى أنهى حد، إلى حالة رهيبة جداً، والبعض يتورَّط: إمَّا بالقتل، أو يتورَّط في الجرح، أو يتورَّط في أن يتكلم بكلام سيئ جداً، فيه السب، فيه الإساءات، فيه الافتراءات، فيه الاتهامات الباطلة، فيه التجريح المبالغ فيه، فيحمِّل نفسه الوزر والآثام، وهذا يؤدِّي إلى الفرقة، يؤدِّي إلى الفرقة.

حالة الغضب أحياناً تجعل البعض من الناس إما يسيء إساءات بالغة، أو يحصل من جانبه ردود أفعال ظالمة، مدمِّرة، تخرِّب تخريباً كبيراً، تمزِّق الصف، والوحدة، والأخوة، والتفاهم، ولها آثار سيئة جداً، حالة خطيرة جداً، أو يتخذ قراراً سلبياً في ردة فعله، بأن يترك طريق الحق أصلاً، أن يتنصَّل عن العمل العظيم، عن العمل الذي فيه رضا لله “سبحانه وتعالى”؛ لأنه غضب وانفعل.

فحالة الغضب والانفعال حالة خطيرة جداً، والإنسان عليه أن يعوِّد نفسه على أن يتوازن في ردود أفعاله، أن يضبط نفسه، وأن يستعين بالله في ذلك، وإذا كان بطبعه إنساناً انفعالياً، فليطلب من الله أن يشرح صدره، وليسعَ أن يرسِّخ أهمية هذه المسألة في نفسه، وأن يستعين بالله في ذلك؛ حتى يضبط ردة فعله.

من العوامل السلبية المؤدِّية إلى التفرق: سوء الظن:

والله نهى عن ذلك، الله “جلَّ شأنه” قال في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: من الآية12]، والعجيب أنَّ البعض يكون سريعاً إلى سوء الظن، يعني: أول ما يحمل أي موضوع، أو أي قضية تلتبس عليه، أو أي شيء يسمعه فلا يعجبه، يبنيه على أساسٍ من سوء الظن، من أول لحظة، يسيء ظنه سريعاً، جاهز لأبسط موضوع ليفسِّره بأسوأ تفسير، وليحمله على أسوأ الاحتمالات، وهذه حالة سلبية لدى الإنسان.

سوء الظن يمثل خطورة كبيرة على الإنسان، في تعامله مع الآخرين، في علاقاته بالآخرين، لا تستقيم مسألة العلاقات الأخوية الإيمانية مع وجود سوء الظن، يفكك العلاقات، ويؤثِّر عليها سلباً.

أضف إلى ذلك، إذا كان الإنسان في موقع مسؤولية، وهذه المسألة خطيرة جداً؛ لأن البعض من الناس يبني على سوء ظنه تصرفاته، مواقفه، يبني عليها مواقف، فيتخذ موقفاً سلبياً من الآخرين، بناءً على سوء ظنه، بل البعض يجعل من مجرد هواجسه دليلاً قاطعاً، يعني: كما لو كان شيئاً رآه، وتحقق منه، كما لو كان شيئاً يقينياً، يكفي أن يحصل لديه هواجس، فيبني عليها تصرفات، يبني عليها ردود أفعال، يبني عليها مواقف، وهذه حالة خطيرة، إذا كان الإنسان في موقع مسؤولية يظلم، يظلم، يبني على سوء ظنه موقفاً معيناً، أو قراراً معيناً، فيظلم، يظلم الآخرين، أو يُصدِر أحكاماً عليهم، ويطلق عليهم التوصيفات التي يرغب بها، فيظلم.

سوء الظن حالة خطيرة جداً، يجب التخلص منه، يجب الحذر منه، يجب الانتباه منه، في تأثيره السلبي على مستوى العلاقة والأخوة، وفي تأثيره السلبي في موقع المسؤولية والأداء العملي، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.

مما يؤدِّي إلى الفرقة وهو من عوامل الفرقة: الحسد:

والحسد من أسوأ الصفات، ومن أذمها، الحسد: عندما تغتاظ من شخصٍ آخر؛ لأن الله أنعم عليه بنعمةٍ معينة، تراه مثلاً: له مكانة معينة، أو له مقام معين، أو يحظى باحترام، أو… تكرهه؛ من أجل أنَّ الله منحه شيئاً معنوياً، أو مادياً، فتغتاظ منه على ذلك، وتكرهه لذلك، لِمَا منَّ الله به عليه، تغتاظ أشد الغيظ عندما تسمع الآخرين يشيدون به، أو يثنون عليه، أو يعجبون به، فتتجه إلى ذمه، إلى الانتقاص منه، أو يكون لك ردة فعلٍ تجاهه.

الحسد لا ينسجم مع الإيمان أبداً، الحسد هو ردة فعلٍ، هي في عمقها ردة فعلٍ نحو الله، قبل أن تكون نحو عبده، وهي حالةٌ خطيرةٌ جداً على الإنسان، ولهذا يقول الله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق: الآية5].

مما يؤثِّر على مستوى التصرفات والسلوكيات على الأخوّة الإيمانية، ومما يؤدِّي إلى الفرقة: الهمز، واللمز، والسخرية، والاغتياب:

هذه تعود إلى اللسان، إلى اللسان، إذا كان الإنسان هَمَّازاً لمَّازاً، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة: الآية1]، البعض يصبح من عاداته من سلوكياته أن يطلق لسانه، أو قلمه وكتاباته، في هذا الزمن أصبحت الكتابة أحد اللسانين، ذات حضور بارز، أن يطلقه في الطعن في أعراض الناس، في تناول هذا، وتناول ذاك، والكلام على فلان، والكلام على فلان الآخر، ينتقص منه، يطعن في عرضه، يسيء إليه، يتكلم عليه بالكلمات الجارحة، ما كان منها في وجهه ومحضره، وهو أذيةٌ له، وظلمٌ له، وما كان منها في غيابه، كل هذا محرَّم، الإنسان عندما يكون على هذا النحو، هو ليس بمؤمن، ليس بمؤمن، من يصبح هذا جزءاً من سلوكه، جزءاً من سلوكه الذي يعتاده، {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم: الآية11].

همَّاز: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، يتكلم على الناس، يجرح مشاعرهم، يتناولهم، وقد يكون كل يوم ولديه ضحية، يتكلم على فلان وعلى علان بكل جرأة ووقاحة، وإساءة بالغة، البعض قد يتخير وينتخب الكلمات الأكثر إساءة، والجارحة أكثر، فإذا كان لديه مَلَكَة، وقدرة تعبيرية وبيانية، أو بلاغة، قد يُسَخِّرها على نحوٍ أسوأ، ليجلب المزيد من الأوصاف السيئة، والكلمات الجارحة.

وفي هذا الزمن عَظُمَ هذا الوزر في مواقع التواصل الاجتماعي، ومع وجود هذه الإمكانيات، يأتي البعض ليشنِّع، وليجرح، ولسيء، وليطعن في عرض إنسان في بيئةٍ مفتوحة، في نادي إعلامي، مواقع للتواصل الاجتماعي، أو غيرها، على مرأى ومسمع الكثير من الناس، يحاول أن يعمم إساءته إلى أوسع نطاقٍ ممكن.

الله يقول: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}[الحجرات: من الآية11]، أنتم كمجتمعٍ مؤمنٍ واحد، عندما تلمز الآخرين، أنت تلمز نفسك، أنت تسيء إلى نفسك، أنتم كالجسد الواحد، أنتم أمةٌ واحدة، حافظوا على أخوتكم، {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}.

الغيبة كذلك: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: من الآية12]، حالة خطيرة جداً، ينزِّه الإنسان لسانه، حتى يكون في تعبيره نظيفاً سليماً من الوزر والإثم، عن الاعتياد لهذا الأسلوب.

السخرية: الله قال: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}[الحجرات: من الآية11]، السخرية التي فيها استهزاء، واحتقار، وإساءة بأي اعتبار: باعتبار اجتماعي… أو بأي اعتبار من الاعتبارات التي هي باطلة، لا يبنى ولا يجوز أن يبنى عليها سخرية من أحد، لا على المستوى الشخصي، ولا على المستوى الجماعي، فأن تصبح المسألة إلى هذا المستوى: {قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}، يأتي البعض ليسخر من أهل بلد بأكملهم، أو منطقة معينة بأكملهم، أو قبيلة معينة، أو عرق معين، لا يجوز أبداً السخرية والاستهزاء بأي تصنيف وبأي مستوى أبداً، لها آثارها السيئة في التفكيك بين المجتمع.

الله جعل العلاقة والأخوّة الإيمانية قائمة على أساس: أن يرعى الإنسان الكرامة الإنسانية للآخرين، وأن يرعى الاحترام المتبادل مع الآخرين، قائمة على قاعدة الاحترام المتبادل، الصدق، الوفاء، العطف، الإحسان، إرادة الخير للآخرين.

من العوامل المؤدية إلى الفرقة: سوء الخلق، والفظاظة والغلظة:

البعض من الناس لا يجسِّد الذلة على المؤمنين، والرحمة بين المؤمنين، في أسلوبه في التعامل، في طريقته في التخاطب مع الآخرين، فهو سيء الخلق، فظ، غليظ، عُتُل، جافي، يطبع أسلوبه في التخاطب مع الآخرين، والكلام مع الآخرين، والتعامل مع الآخرين، الجلافة، الفظاظة، الغلظة، الكلمات الجارحة، الجرأة، الوقاحة، قلة الأدب، عدم الاحترام، وهذا يؤدي إلى التفرق، هذا يؤدي إلى التفرق، ويصبح عائقاً حقيقياً عن التعاون، الانسجام، المحبة، الأخوّة في معناها الحقيقي.

وهذه حالة مذمومة، سواءً على مستوى العلاقة، تأثيرها السلبي على العلاقة حتى فيما بين الأفراد، أحياناً تؤدي إلى مشاكل كثيرة، ومشاكل خطيرة، أو في موقع المسؤولية، إذا كان الإنسان في موقع مسؤولية، أو في منصبٍ معين، وهو سيء الخلق، وهو فظٌ غليظ، وللأسف الشديد انتشرت هذه الظاهرة السلبية في أوساط المجتمع المسلم، من أصبح- خاصةً المقامات والأعمال والمسؤوليات- من أصبح لديه عمل مهم، الكثير منهم يصبح فظاً، غليظاً، سيء الخلق، تعبيراته، أسلوبه في التعامل، مستفز، وسيء، وجارح.

انتشرت حتى في المستشفيات، حتى لدى الممرضات، حتى لدى الأطباء، الكثير منهم- من الأطباء- تراه سيء الخلق، هناك منهم نماذج راقية جداً، تجسِّد الرحمة، والإحسان، والعطف، وأسلوبها جزءٌ من المعالجة للمريض، البعض منهم سيء الخلق.

في المناصب والمسؤوليات، وبالذات الحكومية، والمواقع الرسمية، والمقامات الشخصية، وكما سبق عن المتكبرين، والمعجبين بأنفسهم، والمغرورين بأنفسهم، هم أيضاً من أكثر الناس المتصفين بهذه الطريقة في التعامل، في سوء خلقهم، في فظاظتهم، في غلظتهم، وهي ظاهرة سيئة جداً، يجب التخلص منها.

مهما كان منصب الإنسان، أو موقعه، أو مسؤوليته، أو مهارته، أو كفاءته، مهما كان اعتداده بنفسه، فينبغي له أن يتخلق بالخلق العظيم، وأن يكون حسن الخلق، حسن التعامل، وأن يتعامل مع الناس باحترام، كبيرهم وصغيرهم، يتعامل باحترام مع الجميع، مع الجميع، يكون الاحترام هو الأساس الذي يبني عليه أسلوبه في التعامل، في التخاطب مع الآخرين.

في مواقع المسؤولية بكلها، مهما كان موقع المسؤولية، يجب على الإنسان أن يتعامل باحترام، أن يكون متواضعاً، أن يكون مؤدباً في عباراته، في أسلوبه في التخاطب، حتى لو غضب، البعض قد يكون مؤدباً محترماً إذا كان راضياً؛ أما إذا سخط، أو غضب، أو انفعل، أو استاء، ينقلب على موجة أخرى، بسرعة بسرعة، ولو كلمة بسيطة، موجة ثانية، فيظهر قليل الأدب، جريئاً في الإساءة والوقاحة، لا يتحرج من إطلاق أي كلمة، أو أي تعبير مهما كان سيئاً، يسيء تعامله جداً، وهذا ما لا ينبغي.

الله قال لنبيه، وهو خاتم النبيين، وسيد الرسل “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: من الآية159]، يعني: لَمَا صبروا عليه وهو رسول الله، لَمَا قدَّروا له أنه رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، لَمَا تحمَّلوه.

وفعلاً البعض في موقع مسؤولية معينة، قد يكون لديه مهارات في مجال العمل، وإنساناً ناجحاً من حيث خبرته العملية في عمل معين، لكن لا يطيقه الناس، ليتواجدوا معه، ليتكاتفوا معه، لينشطوا معه، ليكونوا ضمنه، ضمن عمله، لماذا؟ لأنه سيء الخلق، لأنه فظ، غليظ، في أسلوبه في التعامل، وإذا انفعل، لا يتحرج من أي إساءة، وسريع الغضب، وسريع الانفعال، وبطيء الرضا، وكثير الجفاء.

الإمام عليٌّ “عليه السلام” قال كلمة جميلة: ((مَنْ لَانَ عُودُه، كَثُفَت أَغصَانُه))، الإنسان المتواضع، المحترم للآخرين، الصبور، الحليم، يحبه الناس، يألفه الناس، يجتمع عليه الناس، حتى عندما يكون في إطار مسؤولية، يرتاح الناس للعمل معه، والبعض يكون حتى العمل معه متعباً.

إذا كان الحال أن الناس ما كانوا ليتحملوا حتى رسول الله لو كان فظاً غليظ القلب، لكن {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}[آل عمران: من الآية159]، فكيف بالإنسان في أي موقع من مواقع المسؤولية؟! فأمَّا البعض يلوم الآخرين، أو يتهمهم، هو منفِّر بطبيعته، منفِّر بأسلوبه، منفِّر بفظاظته، بغلظته، بسوء خلقه، ثم يشك في الآخرين أنهم السبب في ألَّا يرغب الناس في أن يبقوا حوله، في أن يكونوا معه، في أن يكونوا ضمن مهامه، أو عمله، في أن ينسجموا معه، مع أنَّ الحقيقة أن الناس ينسجمون تلقائياً أصلاً، إذا كان الإنسان وبالذات إذا جمع بين مهارة عملية في مجال عملٍ معين، وبين حسن خلقٍ، يرتاح الناس له كثيراً.

من العوامل المؤدية إلى الفرقة، وهي ذات خطورة كبيرة جداً: النميمة:

النميمة ظاهرة سيئة جداً، وهي عندما يسمع الإنسان كلاماً جارحاً، أو كلاماً معيناً يسيء إلى شخص معين، فيذهب لينقله ويشيئ به، وكذلك إذا حاول الإنسان كذلك أن يسعى للفرقة بين هذا وذاك، سواءً بما ينقله من الكلام الجارح، وقد يزيد عليه، وقد يختار أسلوب التقديم له بطريقة مستفزة جداً، وهذا الأسلوب من أخطر الأساليب، ومن أقذر الأساليب، ومن أكبر المعاصي، النميمة هي من الكبائر، ((لا يدخل الجنة قتات)) في الحديث النبوي الشريف، القتات: النمام.

البعض ماهرون في هذا الأسلوب: أسلوب الإثارة لهذا على ذاك، والتفرقة بين هذا وذاك، وكثيراً ما تحصل هذه الأمور في مقام المسؤوليات، ومن جانب المتملقين الانتفاعيين، الوصوليين، المستغلين، يتملقون إلى هذا، أو ذاك، بتحريضه ضد الآخرين، بتحسيسه منهم، بمحاولة أن يشعروا الشخص بأنه محسود من الكل، وأنه وأنه وأنه، يكون أسلوبهم في التملق أسلوباً يثير الفرقة، يسبب الشتات.

إضافةً إلى أن الأعداء يستغلون هذا الجانب؛ لأنهم يعملون دائماً، ومن أهم الأعمال الرئيسية لديهم هي إثارة الفرقة من الداخل، عمل رئيسي من الأعمال التي يسعى لها الأعداء دائماً، يسعى لها الشيطان، ويسعى لها أولياء الشيطان.

فالنميمة هي ظاهرة سيئة جداً، الإنسان إذا كان متعاطفاً مع شخص معين، وسمع شخصاً أساء إليه، بإمكانه أن يرد هو، أن يقول: [يا أخي احترم نفسك، هذا الكلام غيبة، هذا إساءة إلى فلان]، عندما يذهب بذلك الكلام، أو يقول له: [اتق الله، هذا وزر، هذا ذنب…]، لكن عندما يذهب لينقل ذلك الكلام الجارح إلى الشخص الآخر، وقد تكون أحياناً طريقة النقل مبالغاً فيها، أو يضاف إليها، أو نحواً من ذلك.

أو كذلك من أصبح هذا طبعه، يعجبه أن يثير الفرقة، أن يثير الحساسيات، أن يثير العقد، أن يعقد هذا على هذا، وهذا على ذاك، يرتاح للإنسان المشاقق والمسيء، يشجعه على إساءته، يشجعه على شقاقه، ينمِّي العقد، يغذي حالة التذمر، هذه ظاهرة سيئة جداً، هي عملٌ بعيدٌ عن التقوى والإيمان كل البعد، معصية وذنب، ووزر، وتخدم الشيطان، الشيطان هو الذي يتجه على هذا الأساس: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء: من الآية53].

فالإنسان الذي يعمل هكذا، يعجبه إثارة التذمر، والعقد، والحساسيات، والفرقة، والخلافات، والبغضاء، والكراهية، وتعقيد هذا على هذا، وتعقيد هذا على ذاك، يصبح عمله في خدمة الشيطان، ومع الشيطان، ينزغ الشر، ينزغ الفساد، ينشر الفرقة، وهو عملٌ سيء بكل ما تعنيه الكلمة، ومن كبائر الذنوب، فيصبح الإنسان كما قال الله عنه: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}، متحرك ينشر، ينشر، {بِنَمِيمٍ}، نمام، نمام.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛

الاثنين، 25 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الثالثة والعشرون للسيد عبد الملك بدر الدبن الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الثالثة والعشرون للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ 
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

في سياق الحديث عن المبدأ الإسلامي العظيم: الاعتصام بحبل الله جميعاً، ووحدة الكلمة على أساس ذلك، والأخوّة بين المؤمنين؛ باعتبار ذلك من أهم المبادئ الإسلامية، والفرائض الدينية الإلزامية، التي أتى الأمر بها في القرآن الكريم، وتكرر كثيراً، وأتى الحديث عنها واسعاً من جوانب متعددة.

تحدثنا بالأمس عن بعضٍ من النقاط، في بدايتها: أنَّ هذا هو من المبادئ الأساسية، عندما قال الله "سبحانه وتعالى": {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: من الآية103]، عندما قال "جلَّ شأنه": {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: من الآية10]، هذا المبدأ العظيم لأهميته وما يترتب عليه لابدَّ منه في إقامة الدين، في إقامة القسط، لا يتهيَّأ للأمة أن تتحرك ضمن استجابتها لله "سبحانه وتعالى" لإقامة الدين إلَّا بذلك.

كما هو أيضاً فريضةٌ إلزاميةٌ على المستوى الإيماني، لا يتحقق الإيمان، وكمال الإيمان بين المؤمنين، إلَّا به، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، أمرٌ ملازمٌ لإيمانهم، إذا كان الإنسان مفرِّطاً في ذلك، ولا يهمه ذلك، ويتجه اتجاهاً فردياً، وعلى قطيعةٍ مع إخوانه المؤمنين، فهو بعيدٌ عن الالتزام الإيماني، ومخلٌّ بإيمانه، ومذنبٌ بذلك.

لأهمية المبدأ العظيم في الاعتصام الجماعي بحبل الله "سبحانه وتعالى"، لابدَّ منه أيضاً في أن تحظى الأمة بالاستقلال عن التبعية لأعدائها، وأن تتحصن من اختراقهم، ولذلك أتى هذا الأمر الإلهي في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، ضمن ما هدى الله إليه فيما يحمي الأمة ويحصِّنها من سيطرة أهل الكتاب عليها، من سيطرة اليهود عليها، ومن اختراقهم لها، فأتى هذا المبدأ من المبادئ والأعمال الأساسية التي تحصِّن الأمة، وتحفظ الأمة، وتحمي الأمة من اختراق أعدائها، ومن سيطرة أعدائها عليها، ومن تمكُّنهم من التطويع لها واستغلالها، فهو مبدأ له هذه الأهمية بالنسبة للأمة في دينها، في كرامتها، في عزتها، له هذه الأهمية في تحصينها، وحمايتها، والحفاظ عليها، ليس أمراً عادياً، يمكن أن يهتم الإنسان به، أو لا يهتم، فإذا لم يهتم كانت النتائج عادية، أو بسيطة، أو الأضرار طفيفة، أو التبعات محدودة.

نتائج التفريط بهذا المبدأ العظيم: أن يتمكن أعداء الأمة، أعداء المؤمنين، من السيطرة عليهم، من الإذلال لهم، من فرض ما يريدون عليهم، من التطويع لهم، من الاستغلال لهم، ولذلك المسألة في غاية الأهمية.

كما أنه مرتكزٌ أساسٌ للنهوض بالمسؤوليات الجماعية، المسؤوليات الجماعية التوجه الإلزامي فيها على المستوى الفردي هو مؤكد، بمعنى: أن كل شخصٍ عليه أن يسعى للتوحد مع إخوته المؤمنين، والتعاون معهم في النهوض بتلك المسؤولية الجماعية، لا أن يتجه للتحرك على نحوٍ فردي، بشكلٍ شخصي، وعلى أساسٍ فردي، يقول: [أنا سأتحرك بمفردي، لا شأن لي بالآخرين، وسأعمل في سبيل الله لوحدي، وسأتحرك لوحدي، ولا يهمني الآخرون]، ليست المسألة على مزاج الإنسان، عندما تريد أن تتحرك وفق توجيهات الله، وفق تعليمات الله "سبحانه وتعالى"، من منطلق الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، فالله "سبحانه وتعالى" قد وجَّهك إلى كيف تتحرك، عندما قال في الآية المباركة: {وَاعْتَصِمُوا}، وقال: {جَمِيعًا} وقال: {وَلَا تَفَرَّقُوا}، عندما قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}[التوبة: من الآية71].

احداث اليمن, [٢٤‏/٤‏/٢٠٢٢ ١١:٥٧ م]
[نشره ⁨ابو الحسن⁩]
وأتت هذه المواصفات لتقابل المواصفات النقيضة لها عن المنافقين، قبل ذلك بعدة آيات قال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}[التوبة: من الآية67]، في مقابل أنَّ المنافقين يجمعهم، وإن اختلفت دوافعهم، من حيث الأطماع، والأهواء، والرغبات، لكن يجمعهم قاسمٌ مشترك: هو العداء للمؤمنين، هو الكره للمؤمنين، هو التوجهات التخريبية في الأمر بالمنكر، في النهي عن المعروف، في تخريب الساحة الإسلامية من الداخل، ففي المقابل لابدَّ أن يكون تحرك المؤمنين، سواءً في التصدي لتحرك المنافقين، أو من وراء المنافقين، من الكافرين وأعداء الإسلام والمسلمين، لابدَّ أن يكون تحركاً كما رسمه الله، كما وجّه الله إليه: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، صفٌ واحد، توجهٌ واحد، موقفٌ واحد، والله قد هيَّأ الأرضية الصلبة الملائمة، التي يقوم عليها هذا التوجه، عندما هيَّأ أن يكون هناك منهجية واحدة، هي كتابه، هي هديه، هي نوره، وقيادةٌ واحدة تتحرك بالأمة على ذلك الأساس، تتحرك بالمؤمنين على ذلك الأساس، وموقفٌ واحد، وهيأ أيضاً من جوانب كثيرة- سنتحدث عن البعض منها في سياق الحديث- ما يساعد على ذلك.

من جانبٍ آخر، إلى جانب أن المسألة مسألة إيمانية، إذا لم يلتزم الإنسان بها، فليس بمؤمنٍ صادق الإيمان، وكامل الإيمان، وهو مخلٌّ بما هو من الفرائض الإيمانية الإلزامية، المهمة جدًّا، فقد تكون بقية أعماله لا قيمة لها، ليست مقبولةً منه؛ لأنه مخلٌ بما هو من الأساسيات، في الالتزامات الإيمانية، وفي تحقيق التقوى.

من أهم ما هو معروفٌ عن هذا المبدأ العظيم، وهذه الفريضة المقدسة: أنه عامل قوة، عامل قوةٍ في كل شيء: في التصدي للأخطار، للأعداء، للتحديات، عامل قوة في مستوى إنجاز الأعمال العظيمة والأمور الكبيرة في كل المجالات، عندما يكون هناك تعاوناً، توجهاً جماعياً، تظافراً للجهود، تكاتفاً، هذا يتحقق به الأشياء الكبيرة، والأمور المهمة والعظيمة.

هناك درسٌ كبيرٌ وواضحٌ جدًّا من واقع الأمة الإسلامية، الأمة التي هي كثيرة العدد، بأكثر من مليار مسلم، في بعض التقديرات بأكثر من مليار ونصف مليار مسلم، بأكثر من المليار والنصف مليار، الأمة التي هي تمتلك رقعةً جغرافيةً واسعةً ومهمة، في مناطق من أهم المناطق في العالم، في موقعها الاستراتيجي، الأمة التي تمتلك الثروات والإمكانات الاقتصادية، وفي باطن الأرض، والثروات التي لم تستثمر بعد بشكلٍ هائل جدًّا، واقعها ضعيف على نحوٍ عام، مقارنةً ببقية الأمم، من الأمم الأخرى على وجه الأرض، ومهما زاد عدد المسلمين، ومهما كانت إمكاناتهم، ومهما... وهم على هذا النحو من الفرقة والشتات؛ فذلك يؤثر عليهم، يؤثر عليهم.

بينما إذا اتجه البعض من المسلمين؛ لأن الانتظار للجميع حتى يتوحدوا لا ينبغي أبداً، هو انتظارٌ للمستحيل، عندما يتجه البعض من أبناء هذه الأمة ليتوحدوا، وتجتمع كلمتهم على أساسٍ صحيح، في الموقف الصحيح، تظهر قوتهم، فاعليتهم في الساحة، أثرهم الكبير، إنجازاتهم الضخمة.

عندما نرى مثلاً كنموذج من أحسن النماذج وأرقاها: حزب الله في لبنان، مجموعةٌ من المؤمنين تحركوا، اجتمعت كلمتهم على أساسٍ صحيح، في الموقف الصحيح، في الاتجاه الصحيح، حققوا نتائج كبيرة، وكانت قوتهم في التصدي للعدو الإسرائيلي، وفاعليتهم واضحةٌ جدًّا، وعاليةٌ جدًّا، وهكذا في أي بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي، يجتمع المؤمنون، وتتوحد صفوفهم، وتتظافر جهودهم؛ تظهر النتائج الكبيرة والمهمة.

فهو عامل قوة، وهذا دافعٌ مهم، الوعي بهذه الحقيقة، وحرص المؤمنين، حرص الناس ذوي الوعي، والبصيرة، والرشد، والحكمة، أن يكونوا أقوياء في موقفهم، أقوياء في عملهم، أقوياء وناجحين في مهامهم، فالجهد الجماعي، والتعاون، وتظافر الجهود، والأخوّة الحقيقية، الأخوّة الإيمانية التي هي أرقى أخوّة، وأرقى الروابط، وأسمى الروابط، التي تعزز حالة التعاون، المبنية على انسجام، وتفهم، وتراحم... إلى غير ذلك، فهو عامل قوة في التصدي للعدو وللأخطار في كل المجالات، ولهذا أتى التشبيه في الآية المباركة للمؤمنين المقاتلين في سبيل الله صفاً واحداً، بتعاونٍ، بتوجهٍ واحد، بأخوّةٍ حقيقية، قال عنهم: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف: من الآية4]؛ ولذلك يتحتم على الإنسان المؤمن أن يسعى لأن يكون لبنةً صالحةً تدخل ضمن هذا البنيان المرصوص.

كما هو- كما أشرنا بالأمس- عامل استقرار مهم في الوضع الداخلي، في إطار التحرك العملي لابدَّ من توفير حالةٍ من الاستقرار والهدوء، تساعد على أن تتوجه كل الطاقات، كل الاهتمامات، إلى الموقف المهم في التصدي للعدو، في الاهتمام بالأعمال المهمة، في إنجاز ما ينبغي إنجازه.

احداث اليمن, [٢٤‏/٤‏/٢٠٢٢ ١١:٥٨ م]
[نشره ⁨ابو الحسن⁩]
إذا فسد الواقع الداخلي، وشابته الخلافات، المشاكل، النزاعات، التباينات، العقد، يؤثِّر هذا إلى حدٍ كبيرٍ جدًّا، جزءٌ كبيرٌ من التفكير، إن لم يكن كله، وجزءٌ كبيرٌ من الجهد العملي، من الكلام، يتجه لخدمة فساد ذات البين، لخدمة الشقاق والنزاع، لخدمة الخلافات، والبعض يكون في ذلك أنشط منه في الاتجاه الرئيسي، الاتجاه الصحيح، في النهوض بالمسؤولية، إذا تحوَّلت المسألة مسألة خلافات، وسوء تفاهم، وشقاق، يكون نشيطاً، حاد اللسان، متحركاً، متابعاً، معمماً، نشطاً في الاتجاه السلبي، بأكثر منه في الاتجاه الصحيح، وحاداً، وأكثر جرأة، أكثر جرأةً، لأكثر منه في الاتجاه الصحيح.

ثم يتحول الحال في الانشغال، والعوائق، والتأخير، إلى نحوٍ سلبي، وذلك مما يبين جرم وإثم وذنب هذا السلوك، هذا التصرف، الذي هو في إطار الفرقة، وليس في إطار جمع الكلمة، وترسيخ الأخوّة، وتعزيز الأخوّة الإيمانية.

عندما ينشط الإنسان فيما يفرِّق، فيما يبعثر، فيما يوسِّع الفجوة، فيما يعزز حالة الصراع الداخلي، الشقاق الداخلي، فهو يتجه الاتجاه الشيطاني، مع إبليس، هذه هي وظيفة إبليس، وظيفة الشيطان، دور الشياطين، ودور أوليائهم، الذين يعملون دائماً على التفكيك، على إثارة النزاع، على البعثرة، على تعزيز حالة الكراهية والبغضاء بين المؤمنين، ويعملون على ذلك بأهداف شيطانية، بأهداف شيطانية، فالمسألة سلبيتها كبيرةٌ جدًّا، تؤثِّر على الواقع العملي، تؤثر على النفوس، تتفرع عنها الكثير من المعاصي: النميمة، الغيبة، الكذب، الافتراء، البهتان، سوء الظن... كم تتفرع عنها من المعاصي، وسنتحدث- إن شاء الله- عن ذلك بالتفصيل.

فمن أهمية هذا المبدأ العظيم: أنه يمثِّل عامل استقرار وسلامة من كثيرٍ من الفتن، والمشاكل، والهموم، لصالح ما ينبغي توجيه الطاقات والقدرات، وحتى المشاعر الساخطة نحوه، مشاعر الغضب، والسخط، والانفعال، والشدة، وكذلك الجرأة، كل هذا يمكن توجيهه في الاتجاه الصحيح، حيث تؤجر، وحيث تشكر، وحيث يكون لذلك إيجابياته الكبيرة، ضد أعداء الأمة، ضد أعداء المؤمنين، الاتجاه الصحيح.

مما يدل عليه أيضاً هذا المبدأ العظيم في اهتمام الإنسان به، وسعيه للالتزام به: أنه يدل على الوعي لدى الإنسان، يدل في واقع الإنسان نفسه، في حالة التزامه، اهتمامه، سعيه لذلك، أنه إنسانٌ واعٍ، يدرك أهمية هذا الأمر من كل الجوانب، ويدل على تحليه بالمسؤولية، أنه من المهتمين بالنهوض بالمسؤولية، لديه حرص كبير، أنه بالفعل إنسانٌ مجاهدٌ حقاً، يدرك أهمية المسألة، وقيمتها، وما يترتب عليها من النتائج، وأنه مخلص.

يدل أيضاً على زكاء النفس، وسلامتها من الأنانية، والضغائن... وكثيرٍ من الآفات التربوية، التي هي وراء ألَّا يكون لدى الإنسان تقبُّل للأخوة، للتعاون، للانسجام، حتى للصبر من أجل ذلك.

فهذه جوانب مما يدل على أهمية هذا الأمر العالية، أهميته الكبيرة، وشأنه العظيم، ومسيرة الإسلام قامت على هذا الإساس، مسيرة الإسلام بكلها قامت على مبدأ الأمة الواحدة، التي تتحرك وفق مسؤوليةٍ واحدةٍ، ومنهجٍ إلهيٍ عظيم، وفي إطار قيادةٍ واحدةٍ، تتحرك على أساس هدى الله "سبحانه وتعالى"، والأخوّة الإيمانية، والتحلي بالمسؤولية في إطار ذلك، وقدَّمت نموذجاً راقياً وناجحاً، حلَّ مشكلة العرب آنذاك في الفرقة والشتات إلى حدٍ كبير، ووجَّه طاقاتهم في الاتجاه الصحيح.

كان العرب مشتتين، متفرِّقين، وكانوا مختلفين في كل شيء، وكان العرب شديدين في خلافاتهم، وفي صراعاتهم، يمكن أن يقتتلوا حتى على عقال بعير (مربط الجمل)، معركة حامية جدًّا تقوم على ذلك، ويمكن لكلمة تبدر من شاعرٍ في تلك القبيلة، أو خطيبٍ فيها، أن يفتح صراعاً ساخناً، ومعركةً على أشدها، ويمكن لأي خلاف أن يفسد ذات بينهم، وأن يوسِّع الفجوة بينهم، وأن يفتح صراعاً ساخناً فيما بينهم... وهكذا غرقوا في صراعات كثيرة، كثيرة جدًّا، جزءٌ كبيرٌ منها، وعددٌ كبيرٌ منها، على قضايا تافهة، شيءٌ منها لا يستحق أصلاً أن يفتح الإنسان من أجله أي مشكلة، يمكن أن يتجاهله، أن يتغاضى عنه، وجوانب منها يمكن أن تحل، أن تحل بشكلٍ صحيح، بطريقةٍ إيجابية، على أساسٍ من الحق، والعدل، والإنصاف، أو على أساسٍ من التصالح والتراضي، وبقيت هذه المشكلة في الواقع العربي، عادت إليه فيما بعد، كان رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" في حركته بالإسلام يتجه بالمسلمين أن يتوحَّدوا بالإسلام، يتجه بالمؤمنين أن يتآخوا في إيمانهم، وكان يرسِّخ هذا الجانب، ويؤاخي بينهم، ويعزز الروابط فيما بينهم، وكان يحثهم على ذلك، وكان يسعى إلى ذلك بكل جهد، وإذا حصل التوجه؛ حصل معه التدخل الإلهي.

وهذا ما حصل مثلاً في قصة الأوس والخزرج، وكان بينهم قبل الإسلام خلافٌ شديد، ونزاعٌ شديد، واقتتالٌ شديد، وعداءٌ شديد، ثم بالإسلام اجتمعت كلمتهم، وتوجهوا توجهاً واحداً، في موقفٍ واحد، في إطار منهجيةٍ واحدة، تحت قيادةٍ واحدة، فألَّف الله فيما بينهم، وذكَّرهم بهذا، قال "جلَّ شأنه": {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ

احداث اليمن, [٢٤‏/٤‏/٢٠٢٢ ١١:٥٨ م]
[نشره ⁨ابو الحسن⁩]
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}[آل عمران: من الآية103]، ولاحظوا فيما قاله الله "سبحانه وتعالى" في هذا النص المبارك، ذكر أنَّ الأخوة نعمة لمرتين، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، وفعلاً، وفعلاً الأخوة الإيمانية هي من أعظم النعم، آثارها الإيجابية على النفس، على المشاعر، على الحياة، على الواقع، آثارها عظيمةٌ جدًّا.

الإنسان المشاقق، المعقَّد، هو يعيش حالة الغربة، حالة الوحشة، سوء ظنه، سوء نظرته، عقده تجاه الآخرين، تجعله ينظر إلى كل شيء نظرة سلبية، {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، وهذا ترتب عليها نتائج عظيمة، ونتائج كبيرة.

فالإسلام في منهجيته العظيمة، وفيما يترتب على الانطلاقة الصادقة في مبادئه المهمة، هو صلةٌ بالله "سبحانه وتعالى"، يحظى من يتجهون على أساس مبادئه بالرعاية الإلهية، التي تصل إلى درجة أن يؤلِّف الله بين قلوبهم، لكن هذا لابدَّ فيه من الأخذ بالأسباب، والأسباب أساسها الاستجابة لله "سبحانه وتعالى" في توجيهاته هذه، والتوجه الصادق الذي يعلمه الله، وهو يتدخل، ويجبر القلوب، ويساعد الإنسان حتى في السيطرة على مشاعره؛ لأن البعض من الناس في طبيعته شديد التعقد، سريع الانفعال، بطيء الرضا، سريع الغضب، وبطيء الرضا، فالإسلام قام على هذا الأساس، فكان له أثره العظيم.

أضافةً إلى أنَّ منهجه التربوي يساعد ذلك، هو يزكي النفس، يصلحها من كثيرٍ من الشوائب التي تؤثر على الإنسان؛ لأن جذور السلوك، جذور سلوكيات الإنسان، وتصرفاته، ومواقفه، في أعماق نفسه، جذورها في أعماق النفس: الأنانية، كذلك- مثلاً- الهلع، الكبر... مواصفات معينة، أشياء وسلبيات معينة، إذا كانت متجذِّرةً في نفسية الإنسان، تؤثر عليه؛ فلا يرى في نفسه التقبل لمسألة الأخوّة الإيمانية، والاعتصام بحبل جميعاً، لا يطيق ذلك، هو كثير الاحتكاك، كثير العناد، كثير الإشكالات، لا يستطيع أن ينضبط وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، التي تعود إلى تعاملاته كيف تكون بما يفيد ذلك، بما يعزز من حالة الأخوة الإيمانية.

فالتربية الإيمانية هي تربية تزكي النفوس، تصلحها، تطهر مشاعر الإنسان، فتكون مشاعر صافية، نقية، سليمة، ليست مشحونة بالأنانيات، والعقد، والكبر، والغرور، والسلبيات الأخرى، التي تغيِّر سلوك الإنسان، أسلوبه في التعامل، طريقته في المعاملة مع الناس، تصوِّب اهتمامات الإنسان، فتكبر؛ لأنها تتجه نحو الأمور العظيمة، الأمور المهمة، الأمور المقدَّسة، الغايات لديه: رضوان الله، الجنة، السلامة من عذاب الله، تسيطر على مشاعره، على دوافعه، ثم على أسلوبه، على عمله، على طريقته، يصبح متقبلاً، متفهماً، مستجيباً، فلذلك المنهج التربوي هو يساعد على ذلك.

ثم مع ذلك، مع المبادئ، مع المنهج التربوي، مع ما يرتبط بالوعي في هذه المسألة، أرشد الله في القرآن الكريم إلى أسلوب التعامل، كيف يكون أيضاً على النحو الذي يساعد على الأخوّة الإيمانية، من ضمن ذلك قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: الآية53].

قلنا في بداية المحاضرة بالأمس: أن مبدأ الأخوّة الإيمانية، والتوحد، والاعتصام بحبل الله جميعاً، مما يلقى محاربةً شرسة من الشيطان وأوليائه، حربهم شديدة على هذا الموضوع، يركِّزون عليه تركيزاً كبيراً، يبذلون كل جهد، ويسعون بكل جد إلى إثارة الفرقة، إلى إثارة الخلاف، إلى تشتيت شمل المؤمنين، ولذلك أرشد الله في هذه الآية المباركة إلى ما يساعد على تعزيز الأخوّة الإيمانية، عندما قال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فيما يقولون، فيما يتخاطبون فيما بينهم، فيما يتحاورون فيه في إطار مسؤولياتهم، هذا موضوعٌ يحتاج الإنسان إليه في المعاملة بشكلٍ عام، وفي أداء الأعمال، وفي أداء المسؤوليات، أن يراعي هذا، أن يقول التي هي أحسن، وأن يترك الكلمات السيئة، المستفزة، الجارحة، التي لها آثار سلبية على مشاعر الآخرين؛ لأن البعض من الناس حاد اللسان، جريء اللسان، والبعض تصل جرأته إلى حد الوقاحة، وقد- أحياناً- قد يكون الإنسان من موقع أنه يرى نفسه مهماً، أو في موقع مسؤولية معينة، يرى لنفسه الحق في أن يقول أي شيء، وأن يتكلم بأي كلام مهما كان مسيئاً، هذا المعيار المهم في الآية المباركة: {يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، من المهم الالتزام به.

احداث اليمن, [٢٤‏/٤‏/٢٠٢٢ ١١:٥٨ م]
[نشره ⁨ابو الحسن⁩]
{يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء: من الآية53]، فالشيطان يستغل، عندما تكون طريقة التخاطب والكلام طريقة مستفزة، مستفزة بالفعل، البعض من الناس كل شيء يصبح عنده مستفزاً، حتى الكلام الطبيعي، حتى الكلام العادي، حتى الكلام المسؤول، ما الذي ينبغي أن يستفزك؟ مثلاً: التواصي بالحق، النصيحة، التنبيه على الخطأ بطريقة محترمة، لا ينبغي أن يستفزك، الكلمات التي هي بالفعل كلمات مسيئة، موبخة، جارحة، مهينة، البعض من الناس، إما لأنه حساسٌ جدًّا جدًّا، أو متكبر، أو مغرور، يجعل أي كلمة مهما كانت كلمة محترمة، يجعلها وكأنها جارحة جدًّا، وكأنها من أسوأ ما يمكن أن يقال، وعندما يسمعها الناس، أو تعرض عليهم، الكل يعرف أنها كلمة عادية، لا ينبغي أن يستفز منها إلى تلك الدرجة.

{يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}، فهو يستغل الموضوع، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: من الآية53]، ولذلك هو يجعل من أهم ما يسعى له: أن يثير الفتنة والمشاكل بين بني آدم، هذا بدافعه العدائي بالنسبة للشيطان.

تحدثنا بالأمس عن قوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، وكيف أن التراحم الذي يأتي إلى كل الواقع، إلى كل الظروف، إلى كل الحالات التي تستدعي الالتفاتة الإنسانية، أن له أهميته الكبيرة في ذلك، له أهميته الكبيرة في تعزيز الروابط والأخوّة، وفي تعزيز المشاعر الأخوية.

التواضع كذلك، في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[المائدة: من الآية54]، من أهم ما يفيد ويؤثر هو التواضع، والتواضع من الجميع، ممن هم في مقامات المسؤولية، ومواقع المسؤولية، بأي صفة، وبالأولى هم أن يكونوا أكثر تواضعاً، أو في مختلف الأعمال، أو بشكلٍ عام، التواضع من الجميع مطلوب، ومهمٌ جدًّا أن يكون سلوكاً قائماً.

الله قال حتى للنبي "صلوات الله عليه وعلى آله": {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الحجر: من الآية88]، خفض الجناح هو تعبير عن حالة التواضع، وحسن التعامل مع الآخرين، وهذه مسألة مهمة جدًّا، أسلوب التكبر، والتعالي، والاحتقار، أو الترفع على الآخرين، السلوك الذي يعبِّر عن ذلك عادةً ما يكون مستفزاً، ويصنع الفوارق؛ بينما التواضع يعزز من حالة الإخاء.

كظم الغيظ، كما مرَّ بنا بالأمس في قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}[آل عمران: من الآية134]؛ لأن الناس ليسوا بمعصومين، قد يصدر هفوة من هنا أو هناك، تأتي كلمة مستفزة من هنا أو هناك، أو تصرف مستفز، فالإنسان يكظم غيظه، ولا ينفجر، يتحول إلى قنبلة مشحونة بالعقد، أبسط كلمة مستفزة وانفجر بشكلٍ كامل، وإذا هو ذلك المملوء سخطاً، المملوء عقداً، المشحون عقداً، فيثور بالكلام السيء، أو التصرفات السيئة، أو يتهور بارتكاب جريمة عدائية، البعض يقتل، البعض يضرب، البعض يرتكب جريمة من الجرائم، يسيء إساءة بالغة تبطل عمله، تحبط أجره وثوابه حتى على جهاده وعمله، الإنسان يكظم غيظه، والقضايا التي تحتاج إلى معالجة، تعالج بروح عملية، بدلاً من ردة الفعل غير الواعية، ردة الفعل التي تتجاوز التقوى، تتجاوز الضوابط الأخلاقية، والإيمانية، والإنسانية حتى.

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، فكظم الغيظ هو مما يساعد على الحفاظ على الأخوّة، إذا لم يكن هناك كظم غيظ، وكان هناك على أبسط إشكالية، أو أبسط كلمة، أو أي استفزاز، أو أي شيء يغضب الإنسان، ردة فعل، ردة فعل، ردة فعل، تتحول الظروف العملية، وظروف الحياة، حتى على مستوى الأسرة الواحدة، أو القرية الواحدة، أو الحي الواحد، أو الحارة الواحدة، إلى ساحة مشحونة بالصراعات، والتوترات، والنزاعات، وبيئة مليئة بالقلق، مليئة بالتوتر، مليئة بالانزعاج، هذا لا ينبغي أبداً.

العفو {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[آل عمران: من الآية134]، صفة مستمرة؛ لأن كثيراً من الأمور لا ينبغي أن تبقى مشكلة، تحل، أو بعض الأمور قد يتجاوزها الإنسان وتنتهي، والتي قد لا يفيد حتى تجاوزها في أن تنتهي، يمكن معالجتها لتنتهي.

طبيعة البعض من الناس أن يجمع المشكلة عند المشكلة، والكلمة عند الكلمة، وتكون ذاكرته في ذلك ذاكرة نشطة، يحفظ ولا ينسى، طالما والمسألة مسألة عقد فهو لا ينسى، يمكن أن يذكرك بما قلت قبل سنوات طويلة، [أنك قلت في يوم كذا، في ساعة كذا، كلمة كذا]، وأنها لا زالت تَحُزُّ في نفسه، والكلمة عند الكلمة، حتى التي ليست في أصلها كما فهم؛ إنما بحسب سوء فهمه، سوء ظنه، سوء تقديره للأمور، جعل منها مشكلة، والبعض قد تكون إشكاليةً حقيقية، ولكنه ليس ممن يعفو، ليس ممن: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}[الشورى: من الآية37]، لا يغفر، ولا يعفو، ولا يسامح، ولا... وكثيرٌ من الأمور التي لا تستحق أصلاً أن تمثل إشكالية وعقدة، يحتفظ بها الإنسان ويراكمها، ويبني عليها ردود أفعاله.

احداث اليمن, [٢٤‏/٤‏/٢٠٢٢ ١١:٥٨ م]
[نشره ⁨ابو الحسن⁩]
والبعض من الناس إذا كان في إطار عمل، حتى في إطار العمل في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله، تؤثر عليه حتى في عمله في سبيل الله، وفي جهاده في سبيل الله، حتى في هذه المسألة: مسألة الاستجابة لله في الأخوّة الإيمانية، في الاعتصام بحبل الله جميعاً، هو لا يطيق أن يتوحد مع إخوته الآخرين، أن يوآخيهم؛ لأنه معقدٌ جدًّا على ذلك الذي قد قيل له عنه أنه قال كذا، ومعقدٌ جدًّا ومستاءٌ من ذلك الذي كان قد صدر بينه وبينه حدث سوء تفاهم... وهكذا.

فالعفو، المغفرة، {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}، هل أنت هكذا؟ قيِّم نفسك، هل أنت ممن يغفر، ممن يسامح، ممن يتجاوز عن كثير من الأمور، لله وفي سبيل الله، من أجل الأمور المهمة، لاهتماماتك الكبرى، لصالح القضايا الكبرى، أو لست ممن هم كذلك؟ هل أنت ممن يعفو؟ قيم نفسك أنت، قيم نفسك على أساس كتاب الله، آيات الله، وأصلح نفسك، ووجّه نفسك على هذا الأساس، والله وعد في القرآن بأن يعفو عن العافين، أنت عندما تعفو عمَّن بدرت منه زلةٌ إليك، يقابلها أن يعفو الله عنك في زلةٍ بدرت منك كانت ستحسب عليك ما بينك وبين الله، {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}[النور: من الآية22]، هكذا قال عن العفو في سورة النور، هذا مرغِّب بشكل كبير جدًّا.

مما أرشد إليه الله في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال: من الآية1]، عندما يحدث سوء تفاهم، عندما يحصل إشكال في الواقع، ما بين هذا وذاك من المؤمنين، وأثَّر على العلاقة فيما بينهم، عليهم أن يسعوا لصلاحه، هذا من تقوى الله ومن الإيمان.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، أطيعوه واتقوه في صلاح ذات بينكم، هذا يدخل ضمنه السعي أصلاً للمحافظة على صلاح ذات البين، أن يسعى الإنسان ابتداءً كيف يحافظ على علاقته بإخوته المؤمنين أن تكون علاقة صالحة، وأن يسود ما بينه وبينهم الأخوّة الإيمانية، ويدخل ضمنه أيضاً: إصلاح ما فسد، إصلاح ما فسد من ذات البين، عندما يحصل سوء تفاهم، أو إشكالية معينة تؤثر سلباً، يسعى الإنسان قدر الاستطاعة لمعالجة ذلك؛ لأن البعض يحتفظ بفساد ذات البين، والعجيب أن البعض وكأنه يعجبه ذلك، كأنه يرتاح، مع أنه دائماً ليس في واقع الأمر في راحة، هو في تعب؛ لأن العقد متعبة، الشحناء، والبغضاء، والغيظ المستمر، والكراهية التي تتأجج في مشاعر الإنسان، كلها مشاعر سلبية، هي مشاعر سلبية، لها تأثيراتها السيئة على نفس الإنسان، متعبة، ليست مريحة، صفاء النفس هو الراحة، صفاء القلب والمشاعر ونقاؤها هو الراحة، هو السعادة.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}، فلا يجوز للإنسان أن يكون سريعاً إلى فساد ذات البين، عجَّال يفسد ذات البين، أو البعض لا يكفيه في واقعه هو أنه ليس ممن يتوجه هذا التوجه؛ إنما يحاول أن يشجع الآخرين على الإساءة، على فساد ذات البين، على خلخلة الصف الداخلي، على الفرقة، والذين يعملون هذا العمل هم في صف الشيطان، هم يعملون عمل الشيطان، هم تأبلسوا، عمل خطير، من أسوأ الأعمال مقتاً عند الله، من أسوئها مقتاً عند الله "سبحانه وتعالى"، ورد في الحديث النبوي الشريف: ((ولا يحلَّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام))، هجر القطيعة، ليست مجرد الغياب، أو الانشغال، هجر القطيعة، المباينة، الإساءة، الإعراض، عندما يطول الوقت، تتسع الفجوة، يكبر التباين حتى في أعماق النفوس، حتى الوصول إلى نتائج سيئة.

أيضاً من أهم ما يفيد في ذلك: استيعاب الإنسان للوعيد الإلهي: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، الآية تستحق من الإنسان أن يفكر كثيراً، أن يتأمل جيداً، أن يستوعب خطورة الأمر عليه؛ لأن الوعيد بالعذاب العظيم هو وعيدٌ من الله، فالمستهتر بهذا الأمر، والمتجه اتجاهاً سلبياً تجاه هذه المسألة هو موعود من الله بالعذاب العظيم.

نكتفي بهذا المقدار...

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛

المحاضرة الرمضانية الثانية والعشرون للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الـ22 للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ 23-04-2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من أهم المبادئ الإسلامية، والفرائض الدينية، والمتطلبات الضرورية لواقع الحياة، وطبيعة المسؤولية، هي: الاعتصام بحبل الله جميعاً، والتوحد، والأخوّة بين المؤمنين، يعتبر هذا المبدأ العظيم فريضةً من فرائض الله “سبحانه وتعالى” الإلزامية، التي لابدَّ منها في تحقيق التقوى والالتزام الإيماني، أي: لا يمكن أن يُحسَب الإنسان عند الله من عباده المؤمنين الصادقين، ومن عباد الله المتقين، إذا لم يكن عنده اهتمامٌ وسعيٌ للالتزام بذلك، اهتمامٌ بتنفيذ ذلك، بتحقيق ذلك، وسعيٌ وفق توجيهات الله وتعليماته “سبحانه وتعالى”.

وهي فريضةٌ ضروريةٌ للقيام بالمسؤوليات الجماعية الإيمانية، الله “سبحانه وتعالى” أمرنا بمسؤوليات، نتعاون فيها، نتحرك فيها بشكلٍ جماعي، على مبدأ الأمة الواحدة، ومنها: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة القسط… ومسؤولياتٌ أخرى، وكذلك التعاون على البر والتقوى، كل هذه المسؤوليات الجماعية التي لابدَّ من التحرك فيها على نحوٍ جماعي، وبجهدٍ جماعي منظَّم، لابدَّ فيها من أخوة المؤمنين فيما بينهم، لابدَّ فيها من أن تقوم على أساس مبدأ التوحد.

وكذلك المشروع الإلهي في أساسه هو مشروعٌ جماعي؛ لأن الواقع البشري هو واقعٌ مترابط، والناس يتحركون في إطارٍ جماعيٍ: إمَّا في صف الحق، أو في صف الباطل، وفي أي اتجاهٍ كانوا، المجتمعات البشرية على الأرض هي مجتمعات تتحرك بشكلٍ جماعي، ضمن تكتلات وأطر، منها دول، منها كيانات، منها…إلخ. هذا شيءٌ معروف في الواقع البشري، فالمشروع الإلهي هو في نفسه مشروعٌ جماعيٌ، يجمع ويرسم المسؤوليات الجماعية، التي يتحرك فيها المؤمنون، على أساس القيام بها، والنهوض بها، والتحرك لتنفيذها.

إضافةً إلى ذلك، هو عامل قوة، وهذه مسألةٌ معروفةٌ في الواقع البشري، أنَّ التوحد قوة، وأنَّ التفرق ضعف، والقوة في التوحد قوةٌ في مواجهة الأعداء، قوةٌ في أداء المهام الجماعية، قوةٌ في إنجاز المشاريع الكبرى، قوةٌ في كل ما تحتاج الأمة فيه إلى قوة، قوةٌ في مواجهة التحديات والأخطار، قوةٌ في تحقيق الأهداف العظيمة والكبيرة والمهمة…إلخ. وهذه أيضاً مسألةٌ معروفة.

إضافةً إلى أنَّ التوحد، والتآخي، والتعاون، والتفاهم، والألفة، من أهم عوامل الاستقرار الداخلي، كل أمة تتحرك في واقع الحياة ضمن مسؤولياتها وأهدافها، تحتاج إلى استقرارٍ داخلي يساعدها على النهوض بمسؤولياتها كما ينبغي؛ لتحقق التعاون المطلوب، المبني على الانسجام القائم، والتفاهم القائم.

ثم أيضاً لتتحرك بجهدٍ كبير، بجهدٍ جماعيٍ قوي، يحتاج ذلك كله إلى أن يكون هناك تفاهم، انسجام، تعاون، استقرار داخلي، إذا فقد الاستقرار الداخلي، انشغل الناس أصلاً بالمشاكل التي تتكاثر، فتزعجهم، تؤثر عليهم، انشغالهم بها انشغالٌ تام، على المستوى الذهني، والنفسي، والفكري، وعلى مستوى الاهتمامات العملية، فيؤثر ذلك بشكلٍ مباشر على اهتماماتهم الرئيسية، على أعمالهم المهمة؛ وبالتالي على أهدافهم الكبيرة، وهذه أيضاً من المسائل المعروفة: الاستقرار الداخلي، الذي يؤمنه التوحد، وتؤمنه وتوفره الأخوّة، هو عاملٌ مهمٌ جداً في النجاح، وفي أداء المهام الكبرى، وفي النهوض بالمسؤوليات مهما كان حجمها، وبتحقيق النتائج الكبيرة والعظيمة، وهذه مسألة سنتحدث عنها على نحوٍ من التفصيل بشكلٍ أكثر.

مع كل ذلك، مع اعتبار هذه المسألة فريضة إيمانية، ومبدأً إسلامياً عظيماً ومهماً، ولابدَّ منها في الالتزام الديني وتحقيق التقوى، لابدَّ منها في النهوض بالمسؤوليات الجماعية، ومواجهة التحديات والأخطار، لابدَّ منها في تعزيز وترسيخ الاستقرار الداخلي، أهميتها الكبيرة جداً فيما يترتب عليها من نتائج لأي مجتمع ينطلق على أساسها، مع كل هذا، هي من الفرائض التي لا تحظى بالاهتمام المطلوب على المستوى العملي في الواقع، وتلقى محاربةً شرسةً جداً من الشيطان، وأولياء الشيطان، وقلة اهتمام في واقع المسلمين، إمَّا بشكلٍ عام، أو حتى على المستوى الداخلي لدى المسلمين.

وهذه من المفارقات العجيبة، مسألة بهذه الأهمية في موقعها في القرآن الكريم والآيات الكثيرة، وفي ما تحدث به الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، لها هذه الأهمية، لها هذه الثمرة، لها هذه النتيجة، والإهمال لها، والتفريط بها، يترتب عليه خسائر كبيرة جداً، حالة الفرقة والاختلاف عليها وعيدٌ بعذاب الله العظيم، هو أمر رهيب جداً، كل إنسان مؤمن، صادق الإيمان، يسعى إلى نجاة نفسه من عذاب الله العظيم، يترتب عليها الخسائر الكبيرة، والفشل الكبير، على مستوى سعي الناس للقيام بمسؤولياتهم فلا يتمكنون من ذلك، يفشلون في أعمالهم، ينزعجون من بعضهم البعض، وينشغلون ببعضهم البعض، على حساب قضاياهم الكبيرة والعظيمة والمهمة، ومسؤولياتهم المقدسة، الآثار السلبية جداً شنيعة، وفظيعة، وخطيرة، يفتحون ثغرات للشيطان، فيعمل على توسيع الفجوة، على أن يبذر بذور الشقاق والفتنة، ويترتب على ذلك نتائج سيئة جداً من المعاصي والذنوب المتنوعة، والتي سنتحدث عنها- إن شاء الله- على نحوٍ من التفصيل.

أوامر الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم، التي تتعلق بهذا الموضوع كثيرة، وصريحة، وواضحة، ومؤكدة؛ إنما يبقى الاستجابة، الاستجابة من كل الذين يعتبرون أنفسهم منطلقين على أساس الاستجابة لله، الله يقول في القرآن الكريم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: من الآية103]، يرسم لنا الله في القرآن الكريم أرقى مستوى وأعظم نموذج من الوحدة، التي تفوق أي وحدة في واقع المجتمع البشري، هي: الوحدة الإيمانية، التي ننطلق فيها من منطلقاتٍ إيمانية، فنعتصم بحبل الله جميعاً، نلوذ به، تجتمع كلمتنا على أساس هدى الله “سبحانه وتعالى”، وتعليماته المباركة، الجامعة، المقدَّسة، العظيمة.

وهذه الوحدة الإيمانية يقدِّم الله لنا أساسها المتين، أساسها العظيم، أساسها القوي الذي تبنى عليه، فيكون بنيانها بنياناً شامخاً، متماسكاً، صلباً، قوياً؛ لأنه قام على أساسٍ وأرضيةٍ صلبةٍ، وثابةٍ، ومتينةٍ، وقويةٍ، ومحكمة.

من أكبر العوامل في الفرقة والاختلاف، هو: الاختلاف على المستوى الفكري، على المستوى الثقافي، على مستوى الرؤى، حتى عندما نأتي إلى الجانب العملي، فتتباين الرؤى المتعلقة بالجانب العملي، فيؤدِّي ذلك إلى التباين، وإلى الفرقة، وإلى الاختلاف، والقرآن الكريم يعالج أول ما يعالج هذه المسألة:

فيحدد لنا المنطلق والدافع، ليكون منطلقاً إيمانياً، ودافعاً إيمانياً مقدَّساً، فنحظى من الله “سبحانه وتعالى” بالمعونة، بالتوفيق على ذلك.

ثم يوحِّد لنا الرؤية؛ حتى نتحرك برؤيةٍ موحَّدةٍ، وتوجهٍ واحدٍ.

ثم مع ذلك يؤكِّد لنا في القرآن الكريم أنه لابدَّ مع التحرك الجماعي هذا، من الأخذ بأسباب الوحدة والألفة، والحذر من أسباب الفرقة والاختلاف، ويعدد لنا ذلك في القرآن الكريم.

هنا في هذا الأمر الإلهي: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}[آل عمران: من الآية103]، يأتي الأمر في: {وَاعْتَصِمُوا}، الذي يفيد أن يكون الاعتصام جماعياً من الأساس بـ(واو الجماعة)، ثم أيضاً يضيف إلى ذلك قوله: {جَمِيعًا}؛ ليؤكِّد على أنَّ هذا الاعتصام اعتصام جماعي، هو اعتصامٌ جماعي، ويأتي بعده بقوله: {وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: من الآية103]، فهو تأكيدٌ ثالث، هذا التأكيد الكبير والواضح يبين خطورة التفرق، وأنه يعتبر من المعاصي، من الذنوب، من الجرائم، من الجرائم الكبيرة، والخطيرة، والسيئة.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: من الآية10]، فالمؤمنون بانتمائهم الإيماني، ومسؤولياتهم الإيمانية، ومسيرتهم الإيمانية هم إخوة، عليهم أن يشعروا بهذه الأخوة الإيمانية، التي هي أسمى من روابط النسب، ومن كل الروابط.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال: من الآية1]، فيأمر بصلاح ذات البين؛ للحفاظ على الوحدة، على الأخوة، على التعاون.

يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف: الآية4].

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: من الآية13].

ويحذِّر أيضاً من الفرقة والاختلاف بتحذيرٍ شديد؛ باعتباره من الجرائم الكبيرة، من كبائر الذنوب، فيقول “سبحانه وتعالى”: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[آل عمران: من الآية105]؛ لأن البينات تجمع، هي كافية في أن يجتمع بها وعليها المؤمنون، في أن تحل أي حالاتٍ من الاختلاف، أو سوء التفاهم، في أن تقدِّم ما يعالج العوائق النفسية المؤثرة سلباً على مسألة التوحد والتعاون بين المؤمنين.

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، وهذا شيءٌ مخيف جداً، هو وعيدٌ صريح، ووعيدٌ لا يمكن أن يختلف، وهذا الذنب- بحد ذاته- كفيلٌ أن يدخلك إلى جهنم، أن يوصلك إلى العذاب العظيم، حتى لو كنت تتظاهر بالاهتمام بصلاتك، وبصيامك، وببعض الأعمال الأخرى، ولكنك ممن يتفرَّقون، ممن يسعون للفرقة، ممن لا يسعى للأخوّة الإيمانية، ممن يتجه اتجاه الفرقة والشتات، وينأى، ويبتعد، ويسعى للخروج عن الصف الإيماني والأخوّة الإيمانية، فهذا الذنب- بحد ذاته- كافٍ في أن يوصلك إلى جهنم، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وهو في الواقع جرمٌ عظيم، تداعياته وآثاره السلبية خطيرةٌ جداً، وبالذات تجاه المسؤوليات الجماعية العظيمة والكبرى والمهمة في واقع الأمة.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[الأنعام: الآية159]، قوله تعالى مخاطباً لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله”: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، عبارة مهمة جداً جداً، تبين ألَّا علاقة لهم برسول الله، ولا بما عليه رسول الله؛ وبالتالي لا علاقة لهم بالدين، أمر رهيب جداً، وأمر خطير جداً.

في الحديث النبوي الشريف عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام))، الهجر بالقطيعة، بالمباينة، بالانفعال والجفاء، فالقطيعة التي هي مبنيةٌ على جفاء، قطيعةٌ متعمدة، هي لا تحل، إذا حصلت يجب التخلص منها قبل أن تطول، ((ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)).

يقول أيضاً “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا))، الإيمان له أهميته حتى على المستوى التربوي، بمثل ما أهميته على المستوى المبدئي، أنه يرسي المبادئ الجامعة، هو أيضاً على المستوى التربوي يزكي النفوس، ويصيغها لتكون قابلةً لأن تأتلف، لأن تتعاون، لأن تتفاهم، لأن تتظافر جهودها في طاعة الله “سبحانه وتعالى”، تعالج من الإنسان كل الترسبات والشوائب الخبيثة والسيئة، التي تمثل عائقاً عن الإخوّة الإيمانية، وعن التعاون على البر والتقوى، وعن التعاون في النهوض بالمسؤوليات الجماعية، ((ألَا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السَّلام بينكم، وتواصلوا، وتبادلوا)).

النصوص التي تتعلق بالوحدة وأهميتها بين المؤمنين، والأخوّة فيما بينهم، هي كثيرةٌ جداً، ومؤكدةٌ، وواضحةٌ، وجعلت من المسألة مسألة أساسية، والنصوص التي تحذِّر من الفرقة، هي كثيرةٌ وصريحةٌ، واقترنت بالوعيد الصريح، ومع هذا من الواضح في واقع المسلمين أنَّ من أكبر مشاكلهم أنهم فرَّطوا، فرَّطوا في هذا المبدأ العظيم، فرَّطوا في هذه الفريضة المقدَّسة، بكل ما لها من أهمية، وما يترتب عليها من نتائج عظيمة، ودفعوا الثمن الباهظ، والمكلف، والكبير، نتيجةً لذلك.

فعلى مستوى واقع الأمة الإسلامية، وعلى مدى التاريخ، وفي المرحلة الراهنة، تضرر المسلمون جداً من فرقتهم، فهم أمةٌ كبيرة، لديها الإمكانات الهائلة، ولكن لأنها أمةٌ مشتتة، مفرقة، واتجه أعداؤها للتوحد ضدها، أصبحت أمةً مضطهدة، فانتماء الإنسان المسلم إلى أمةٍ كبيرة بحجم المسلمين، إلى أكثر من مليار مسلم، لا يجعله يشعر بأنه فعلاً يستند إلى أمة كبيرة، إلى دعم كبير، إلى سند عظيم، هو أمته التي ينتسب إليها؛ لأنه يدرك أنه قد يكون- وهو هناك، أو هناك، في بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي- مهما واجه من تحديات، ومن أخطار، أو من ظلم واضطهاد، أو من إذلال وإهانة، فليس هناك اهتمام بواقعه، ليس هناك ذلك التآخي، التعاون فيما بين هذه الأمة، التكاتف فيما بين هذه الأمة، لتكون إلى جانب بعضها البعض، لا في مواجهة التحديات، والأعداء، والأخطار، ولا في تحقيق المصالح المشتركة الكبيرة والعظيمة، التي تنهض بالأمة في كل مجالات حياتها، ولا في أشكال التعاون على البر والتقوى.

ولذلك تجرَّأ أعداء هذه الأمة عليها، ويضطهدون المسلمين في مختلف بقاع الأرض، يلقى المسلمون في كثيرٍ من بلدانهم، في كثيرٍ من المناطق، وحتى على مستوى القارات، الاضطهاد على المستوى الديني المباشر، في شؤون دينهم، يُمنَعون، أو يعذَّبون، أو يضطهدون، أو تحصل إبادات جماعية، أو تهجير واسع… أو أي شيء من ذلك، يمنعون من أشياء حتى من أشياء سلوكية، أشياء تعبِّر عن هويتهم الإيمانية، كالحجاب مثلاً، أشياء كثيرة جداً، تصدر الإساءات إلى القرآن الكريم، والعمل لحرقه، وتصدر الإساءات إلى رسول الإسلام “صلوات الله عليه وعلى آله”، إلى مقدسات المسلمين، وبكل جرأة من جانب الأعداء؛ لأنهم يدركون أنَّ هذه الأمة وإن كانت كبيرةً في حجمها، كأمة من حيث العدد، والرقعة الجغرافية، والإمكانات، لكنها ليست قوية، ليست قوتها بحجمها؛ لأنها مشتتة، مفرَّقة، مبعثرة، غرق كل بلدٍ من بلدانها في همومه، ومشاكله، وجزئياته، وقضاياه، وتخلت عن مسؤولياتها الجماعية، التي هي المفتاح لتعزيز الأواصر فيما بينها، والروابط فيما بينها.

دخلت الفرقة بكل أشكالها ما بين العالم الإسلامي والأمة الإسلامية، الفرقة بكل أشكالها: الفرقة والاختلاف على المستوى الفكري والثقافي، وعلى المستوى السياسي، واشتغل الأعداء من جانبهم أيضاً على المستوى الجغرافي، فقطَّعوا أوصال هذه الأمة إلى بلدان، وقسَّموها، وجزَّؤها، ورسموا بينها حدودها السياسية، ثم اشتغلوا بشكلٍ مستمر، ويعملون بشكلٍ مستمرٍ ودؤوب على توسيع الفجوة بين أبناء الأمة، يستنسخون بشكلٍ مستمر المزيد من كل عوامل الفرقة، مما يشتت المسلمين على المستوى الثقافي، وعلى المستوى المذهبي، وعلى المستوى الفكري، وعلى المستوى السياسي، وعلى… على كل المستويات، حتى على المستوى العرقي، أصبحوا يشتغلون لبعثرة المسلمين من خلال ذلك.

فأوصلوا المسلمين إلى ما وصلوا إليه من الفرقة والشتات الكبير، الذي لا مثيل له عند غيرهم، فيما الأعداء يتجهون إلى تحالفات، وتكتلات، ويجتمعون على مواقف موحَّدة ضد أمتنا الإسلامية، يصبح اجتماع الأمة الإسلامية على أي موقف أمراً صعباً جداً، وأحياناً يكون الاجتماع محدوداً جداً، وعلى مستوى شيءٍ شكليٍ، إصدار بيان، أو نحوه، ثم في الأخير حتى بهذا القدر لم يعد متوفراً.

دخل الأعداء بالفتنة التكفيرية ليوسِّعوا أكثر وأكثر، ويعمِّقوا جراح هذه الأمة أكثر وأكثر، ودخلوا بالعناوين الأخرى: العناوين السياسية، ودخلوا عبر الأنظمة العميلة لهم من المنافقين، الذين يمثِّلون معاول الهدم في يد أعداء الأمة؛ لـ- كذلك- يوسِّعوا الفجوة من الداخل أكثر فأكثر، وليثيروا الفتن في داخل هذه الأمة أكثر فأكثر.

مع كل ما وصلت إليه الأمة من شتات وفرقة، وما يعمله الأعداء، فلو توفرت لدى الأحرار والأخيار، والذين يتجهون الاتجاه الإيجابي والسليم من أبناء الأمة، توفرت عندهم الإرادة القوية والصادقة على معالجة هذه المشكلة بالتحرك الجاد، من خلال تعزيز الانتماء الإسلامي الجامع، والالتقاء على القرآن الكريم، والقواسم المشتركة، وتوحيد الموقف من القضايا الرئيسية، هذا- بحد ذاته- سيكون مقدمةً فيما يتعلق بالواقع الإسلامي العام، مقدمةً مهمةً جداً، تساعد الأمة الإسلامية؛ لأن الحديث عن توحُّد المسلمين جميعاً دفعةً واحدةً حتى على مستوى الموقف الواحد، يكاد يكون من المستحيل بالنظر لما وصلوا إليه، ولطبيعة التوجهات التي أصبحت سائدة لدى الكثير من أبناء الأمة، الذين غابت من اهتماماتهم مثل هذه المسائل، وأصبحت عندهم العقد الكثيرة، والعوائق الكثيرة، والسلبيات التي تبعدهم عن مثل هذه الأمور إلى حدٍ كبير.

ولكن على المستوى الإجمالي، فيما لو تحرَّك الأخيار، الناس الناصحون، الحريصون من أبناء الأمة، على أساس الالتقاء تحت العناوين الجامعة: العنوان الإسلامي، الذي يتجاوز الأطر المذهبية، والأطر الجغرافية، والعودة إلى القرآن الكريم، والتحرك في إطار المواقف الجامعة، في القضايا التي هي قضايا تهم الأمة كل الأمة، لها علاقةٌ بالأمة بشكلٍ عام، فالتوجه على هذا النحو، وإن شاء الله مؤشراته وبشائره فيما يتعلق بتحرك الأحرار من أبناء الأمة، والمجاهدين من أبناء الأمة في قضية فلسطين، والقضايا الجامعة، مبشراته- إن شاء الله- جيدة.

على مستوى مجتمعٍ معين، كبلدنا اليمن، الذي لنا فيه الهوية الجامعة، الهوية الإيمانية، الانتماء الإيماني الجامع، ونعيش كبلدٍ واحدٍ، يجمعنا الروابط الكثيرة جداً، ترسيخ هذا الانتماء الإيماني، هذه الهوية الجامعة الإيمانية، وهي هوية مباركة، هوية عظيمة، والتحرك على أساس القرآن الكريم، هو من أهم وأعظم وأقدس ما هو كفيلٌ بأن يجمع، وأن يؤلِّف الله القلوب عليه، وفي مواجهة التحديات والأخطار الكبيرة التي نواجهها.

وهناك فعلاً عوامل هدمٍ تشتغل للتفرقة بين أبناء شعبنا، وفي مقدمتها: التكفيريون والمنافقون، التكفيريون هم منافقون، ولكن لهم سمة معينة، يشتغلون تحت العناوين الدينية، ويرسِّخون ويجذِّرون حالة الفرقة، ويوسِّعون الفجوة بين أبناء الشعب اليمني، ويكفِّرون بقية أبناء الشعب، من لا يتجهون بتوجههم، ومن لهم منهم موقف، ويشتغلون كأداة في يد أعداء الإسلام والمسلمين.

على المستوى العام، كلما رُسِّخت الهوية الإيمانية الجامعة، وكلما رُسِّخ الارتباط بالقرآن الكريم، والاهتداء به، والتحرك ضمن المسؤوليات الجماعية، التي هي جهادٌ في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وإقامةٌ للقسط، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر، نعمل من خلالها على أن نحقق لبلدنا الاستقلال عن التبعية لأعدائه، الخلاص من التبعية لأعدائه، العمل على إبعاد سيطرة المنافقين عن شعبنا؛ لأنه شعبٌ عظيم، شعبٌ مسلم، شعبٌ هويته إيمانية، لا يليق ولا يجوز أبداً أن يسيطر عليه المنافقون، التابعون لأعداء الأمة، الموالون لأعداء الأمة، الذين يعملون بكل وسعهم على تنفيذ أجندة ومؤامرات أعداء الأمة في الواقع الداخلي.

لكن عندما نأتي إلى واقعنا كذلك في إطار هذا التحرك الإيماني، ما الذي يساعدنا أكثر على ترسيخ وتعزيز هذه الأخوّة الإيمانية؟

كما قلنا الله: “سبحانه وتعالى” جعل لها الأساس الذي تبنى عليه، وهي: الرؤية الواحدة، عندما نتحرك وفق هدى الله “سبحانه وتعالى”، الذي هو النور، هو البصيرة، ولا نتحرك وفق أهوائنا، وفق آرائنا التي قد تكون البعض منها آراء سخيفة، بعيدة عن الحكمة، بعيدة عن الصواب، ونعود إلى القرآن الكريم، فهذه هي الأرضية الصلبة، التي يبنى عليها بنيان الأخوّة على أرقى مستوى.

ثم التحرك في إطار المسؤولية الجامعة، الله “جلَّ شأنه” يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: الآية71]، فمن ضمن مواصفاتهم الإيمانية، والتزاماتهم الإيمانية، وما يدخل في إطار التزامهم الإيماني، واستقامتهم الإيمانية، قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، فهم يتجهون كأمةٍ واحدة، متآخية، متعاونة، متفاهمة، تتظافر جهودها للنهوض بهذه المسؤولية الجماعية: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}… إلى آخر الآية المباركة، {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

يقول أيضاً: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}[الصف: من الآية4]، صف واحد، يجمعهم التوجه الواحد، الموقف الواحد، التعاون فيما بينهم، تظافر جهودهم فيما بينهم، {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف: من الآية4]، في مستوى تعاونهم، تآخيهم، تماسكهم، صلابتهم، قوتهم، كالبنيان المرصوص.

في القرآن الكريم هدايةٌ واسعة إلى العوامل التي تساعد على الأخوّة الإيمانية، التي تساعد على الحفاظ على وحدة الكلمة، وعلى اجتماع الكلمة من كل الجوانب، كما هو على المستوى الفكري، والثقافي، والرؤية العملية الواحدة، هو أيضاً على مستوى المسؤولية الجامعة، المسؤولية الواحدة التي يتحركون فيها، ويؤلف الله بين قلوبهم، بتوجههم الصادق، بإخلاصهم في ذلك لله “سبحانه وتعالى”، بتوجههم لتنفيذ ذلك من أجل الله “سبحانه وتعالى”.

هناك ما تبنى عليه هذه الوحدة، وهناك ما يحافظ عليها، ويساعد عليها، على المستوى النفسي، على المستوى التربوي، القرآن الكريم يقدِّم ما يزكي النفوس، ما يُخَلِّصَها من الشوائب الخطيرة التي تعيق مسألة الأخوّة والتعاون، يُخَلِّص النفس البشرية من الأنانية، من الحسد، من الكبر، من الطمع، من الجشع، يساعد الإنسان على أن تزكو نفسه، وزكاء النفس يجعل نفسية الإنسان قابلةً للألفة، سليمةً من العقد، قريبةً من الأخوّة، ليس فيها ما يصنع الحواجز والعقد من السلبيات الخطيرة.

ثم على مستوى حسن التعامل، وبذل المعروف، والإحسان، والسعي لصلاح ذات البين، والتحلي بالقيم المساعدة على ذلك، فتأتي المواصفات المهمة، التي تبيِّن ما هم عليه فيما بينهم، من مثل قوله “سبحانه وتعالى”: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، إذا ترسَّخت هذه المواصفات العظيمة، إذا كانت الرحمة هي السائدة فيما بينهم، في تعاملهم مع بعضهم البعض، في اهتمامهم ببعضهم البعض، في أسلوبهم في التعامل مع بعضهم البعض، في الاهتمام بشؤون بعضهم البعض، إذا كانت الرحمة هي السائدة، أَلَا ينتج عنها الألفة؟ أَلَا ينتج عنها الأخوّة؟ أَلَا ينتج عنها التعاون؟ بلى، وحالة مستمرة، {رُحَمَاءُ}، تصبح من المواصفات الرئيسية التي يستمرون عليها، ويبنى عليها سلوكهم، وتعاملاتهم فيما بينهم، ونظرتهم تجاه بعضهم البعض، وبذلهم المعروف لبعضهم البعض، ومستوى التعاطف فيما بينهم لكل ما يستدعي حالة الرحمة.

يقول أيضاً عنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[المائدة: من الآية54]، وهذا كذلك قدَّمه كمواصفة من المواصفات الأساسية المهمة، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، فهم فيما بينهم، في معاملاتهم، في تصرفاتهم تجاه بعضهم البعض، يتعاملون بمنتهى التواضع، ليس فيهم الجرأة على الإساءة إلى بعضهم البعض، القسوة على بعضهم البعض، الغلظة على بعضهم البعض، الجرأة بارتكاب الجريمة في الاعتداء على بعضهم البعض، هم بعيدون عن كل ذلك، هم في منتهى التواضع فيما بينهم، ليس عنده الجرأة لا في الإساءة، ولا في الاعتداء، ولا في الظلم، ولا في أي تصرفٍ سيء يصدر من جانبه عمداً تجاه أخيه المؤمن، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

يقول عنهم أيضاً: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[آل عمران: من الآية134]، أيضاً يتحلون بصفة كظم الغيظ، حتى إذا بَدَر من أخيه المؤمن ما قد يزعجه، أو ينفعل منه، فهو لا يبادر فوراً إلى الإساءة، وإلى الرد حتى بأكثر من ذلك، وإلى أن يُخرِج كل ما في قلبه بشكل إساءات، واتهامات، وكلام جارح، إذا اغتاظ، والغيظ هو أشد حالة من حالات الانفعال والغضب، وهي الحالة الخطيرة على الكثير من الناس، الذين إذا عانوا من هذه الحالة، لم يعودوا ينضبطون بأي ضوابط، سيقولون أي كلام، مهما كان جارحاً، مهما كان مسيئاً، مهما كان فيه أيضاً أحياناً افتراءات، وإساءات، واتهامات باطلة، وكلام جارح، فيتحمل الإنسان الوزر الكبير، ويصنع الفجوة التي تزداد يوماً بعد يوم.

فهم قال الله عنهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، بما يفيد أنها صفة يستمرون عليها، ليس بمجرد أي حالة انفعال يبدأ يتكلم، ويسيء، وتحصل من جانبه ردة فعل، وكثيراً ما تكون ردود الأفعال مبالغاً فيها، أكثر ما تكون مبالغاً فيها، فيها اتهامات أكثر، فيها إساءات أكثر، فيها جرح أكثر، القليل من الناس الذين قد ينضبط حتى في مستوى ردة الفعل، عندما يصدر ما يزعجه، أو ما يجرح مشاعره، أكثر ما يحصل هو: الرد المبالغ فيه، الذي يتحمل الإنسان فيه الوزر، وهو يريد أن يشفي غيظه، أو كما يقولون: [أن يبرد غليله]، أن يتكلم، يتكلم، ويسيء، ويجرح، ويقول ما يرى أنه ارتاح بكل ما قد قال، ولكن هذا لا يليق، لا يليق أخلاقياً، ولا إنسانياً، ولا إيمانياً، وهو- في نفس الوقت- مما يورِّط الإنسان في أن يحمِّل نفسه الوزر والإثم، وهذا يحصل للكثير، يحصل للكثير في ردود أفعالهم الظالمة، المشحونة بالافتراءات، والإساءات، والكلام الجارح، والاتهامات الباطلة، والبعض أيضاً قد يضيف إليها أيمان، ويقسم على ذلك، وهذه أمور شنيعة، وأمر رهيب جداً عندما يحلف الإنسان أيضاً اليمين الفاجرة، يضيف إلى ذلك ذنباً على ذنب.

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قد حتى يعفو؛ لأنه يحمل اهتمامات كبيرة، مسؤولية عظيمة، حريص جداً على ما هو أهم، على القضية الكبرى، على مواجهة التحديات الخطيرة، يمتلك الوعي الكافي عن مخاطر الفرقة، وعمَّا تسببه من ضعف، وشتات، وفشل، وتمكين للأعداء، وما ينتج عن ذلك من مخاطر كبيرة جداً على الناس في دينهم ودنياهم.

يقول عنهم، عن المؤمنين: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}[الشورى: من الآية37]، في واقعهم الداخلي تجاه ما قد يبدر مما يستفزهم، مما يغضبهم من كلمةٍ من هناك، أو تصرفٍ من هناك، هم لا يبادرون بكل سرعة، بكل جرأة، بكل شدة، على ردة الفعل المسيئة، أو الجارحة، أو المؤلمة، أو الانتقامية، لا يعيشون حالة العقدة، عقدة الحقد، وعقدة الانتقام تجاه كل شيء، كل شيء، أبسط كلمة، أبسط استفزاز، أبسط مشكلة، ثم تأتي ردة الفعل المبالغ فيها، الانتقامية، الحنقة، التي تعبَّر عن أنَّ الإنسان يحمل في داخله حقداً، كراهيةً، عقداً، ليست نفسيته سليمة في ذلك؛ أمَّا هم فيقول عنهم: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}، ويأتي هذا في سياق نقاء أنفسهم، صفاء أنفسهم، اهتماماتهم الكبيرة بالأمور العظيمة، بالمسؤوليات الكبيرة، وعيهم بخطر الأعداء، وخطر التفريط في مواجهتهم، وعيهم بحجم القضايا، لا يجعلون من الحبة قبة، يساوي أي إشكالية، أي قضية، أي سوء تفاهم، بأكبر مشكلة، البعض من الناس يعني أبسط قضية عنده أكبر من المشكلة الفلسطينية، أكبر من العدوان الجاري على البلد، أكبر من أي قضية أخرى، انفعاله من ذلك الأمر الذي استفزه، غضبه، توتره الشديد، انزعاجه الشديد، ردة فعله، اهتمامه الكبير، يفوق كل أمرٍ آخر، هذا يدل على حالة نفسية غير سليمة، حالة نفسية صغيرة، لا تحمل الاهتمامات الكبيرة، المشاعر الإيمانية، لا تعطي قيمة للتوجيهات الإلهية، وهذا ما سنتحدث عنه أكثر- إن شاء الله- لاحقاً.

الكلام حول هذا الموضوع له تفاصيله الكثيرة، نتحدث عنها لاحقاً إن شاء الله.

ونكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛

المحاضرة الرمضانية الحادية والعشرون للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الحادية والعشرون للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م 
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

شهر رمضان بكله شهرٌ مبارك، وهو فرصةٌ مهمةٌ وعظيمةٌ في اكتساب الأجر والثواب، وفي الارتقاء التربوي، والروحي، والأخلاقي، والإيماني بشكلٍ عام، وفي التزود بالتقوى، وفرصةٌ عظيمةٌ للدعاء، ولذكر الله “سبحانه وتعالى”، وفرصةٌ عظيمةٌ ومهمةٌ لتقوية الروابط مع القرآن الكريم، وتعزيز العلاقة معه؛ لاكتساب الهداية، واكتساب الوعي، في مرحلةٍ نحن فيها في أمسِّ الحاجة إلى الوعي، وإلى الهداية.

وفي شهر رمضان تأتي العشر الأواخر، لها أهميةٌ أكثر، وبركاتها أكثر، وفيها تُلتَمس ليلة القدر، ورسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” كان مع تذكيره بفضل شهر رمضان، وأهمية شهر رمضان، وما جعل الله فيه من البركات، يلفت النظر وينبِّه على فضل ليلة القدر، وأهمية ليلة القدر، وأهمية اغتنام فرصة ليلة القدر.

والقرآن الكريم أيضاً تحدث عن ليلة القدر، عن عظمتها، وفضلها، وبركاتها، وحديثه عنها حديثٌ عظيمٌ ومهمٌ جدًّا، عمَّا يتعلق فيها بالإنسان فيما يُكتَب له، فيما يقدَّر له، أو عليه.

ولذلك ومع أنَّ البعض عادةً ما يكون قد أصابه الفتور، بعد مرور ثلثي شهر رمضان المبارك، وبقاء الثلث الأخير من الشهر، وهو العشر الأواخر، عادةً ما يكون البعض قد أصابهم الفتور، وأصبحوا ينشغلون من وقتٍ مبكر بالعيد، وما بعد العيد، وهذه حالة غفلة، وقصور في إدراك أهمية وعظمة الفرصة التي أتاحها الله خلال هذا الشهر المبارك، وتجاه العشر الأواخر منه.

عندما نتأمل في واقعنا، نجد أننا في أمسِّ الحاجة إلى الله تعالى، نحن الفقراء إلى الله، قال “جلَّ شأنه”: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر: الآية15]، نحن الفقراء إلى الله “سبحانه وتعالى”، نحتاج إلى كل شيء، ما يواجهنا وما نعانيه من المخاطر، من التحديات، من الصعوبات، من المشاكل، من الهموم، وما نحن فيه في إطار مسؤوليتنا في هذه الحياة، وما يترتب عليها في الدنيا، وما يترتب عليها في مستقبلنا الأبدي الدائم الكبير في الآخرة، كله يدعونا، ويدفع بنا، إلى أن ندرك قيمة هذه الفرصة، وأن نستغلها.

الله “سبحانه وتعالى” هو الرحيم، هو الكريم، هو العظيم، من مظاهر رحمته، من تجليات رحمته، أن يهيِّئ لنا الفرص الكثيرة، البعض منها على مستوى الزمن: كما هو حال شهر رمضان، كما هو حال العشر الأواخر منه، كما هو حال ليلة القدر فيه، فرص عظيمة جدًّا، يمكن أن تستفيد منها إذا اتجهت أنت، إذا اهتممت أنت، كان لديك اهتمامٌ بذلك، فيمكن أن تحقق لك في واقع حياتك نقلات كبيرة، وقفزات عظيمة، ونجاحات مهمة جدًّا، وبالذات فيما يتعلق بالدار الآخرة، ومستقبلك الأبدي والدائم، وهو الأهم، والأكبر، والأعظم، مع ما يَمُنُّ الله به عليك في عاجل الدنيا، فيما يفرِّجه عنك، فيما يكتبه لك، فيما يحققه لك في نفسك، أو في مسيرة حياتك.

احتياجات الإنسان هي كثيرة، وكبيرة، ومتنوعة، وواسعة: منها ما يحتاجه في نفسه، ومنها ما يحتاجه فيما يتعلق بعلاقته بالله “سبحانه وتعالى”، فأن يهيِّئ الله له الفرص العظيمة، التي يستفيد منها الاستفادة الواسعة من جوانب كثيرة، مثلما هو حال ليلة القدر.

في حديث القرآن الكريم عن ليلة القدر، قال عنها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}[الدخان: الآية3]، فهي ليلة نزول القرآن، القرآن الكريم، بعظمته، بفضله، بما له من أهميةٍ عظيمة، نزل في ليلة القدر، وهذا لأنه من الرحمة الإلهية، هو من أعظم تجليات رحمة الله “سبحانه وتعالى”، هو نوره، له قدسيته العظيمة، له شأنه العظيم، وبركاته العظيمة، هو كتابٌ مبارك، فلقدسية القرآن الكريم، لبركته العظيمة، لأنه رحمة، لأنه نور، لأنه هدى، اختار الله أن ينزله في ليلةٍ مباركةٍ وعظيمةٍ؛ لعلو شأنه وقدسيته، ولعظمته وأهميته، هذا أول ما في ليلة القدر أنها ليلة نزول القرآن الكريم.

ثم يقول عنها: {مُبَارَكَةٍ}، {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[الدخان: من الآية3]، بركاتها واسعة، وبركاتها تشمل أشياء كثيرة، فيما جعل الله فيها من مضاعفة الأجر والثواب، إلى حدٍ عجيبٍ جدًّا، مضاعفة الأجر فيها هي عشرات آلاف الأضعاف، عشرات آلاف الأضعاف، إذا كان شهر رمضان في بقية أيامه تضاعف فيه الأجور إلى سبعين ضعفاً، فالأجور تضاعف في ليلة القدر، تجاه ما يعمله الإنسان فيها، إن كان عمله مقبولاً، تتضاعف عشرات آلاف الأضعاف، فيما قد يساوي عمراً بأكمله، فتعتبر فرصةً عظيمةً جدًّا، العمل فيها تجارةٌ رابحةٌ بين العبد وربه “سبحانه وتعالى”.

على مستوى ما فيها من البركات الأخرى، فيما يكتبه الله للعباد في حياتهم، في شؤون حياتهم، فيما يَمُنُّ به عليهم، بركات واسعة ومتنوعة وشاملة.

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، من بركاتها: نزول القرآن الكريم فيها، {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، من أهم ما في ليلة القدر: أنها ليلة تقديرٍ وتدبيرٍ لأمور البشر، لأمور الناس على مدى العام بكله، في مختلف شؤون حياتهم: في أرزاقهم، في آجالهم، في شؤونهم المختلفة، فيما يتعلق بتدبير أمورهم، في جوانبها التفصيلية، فلذلك قال: {فِيهَا يُفْرَقُ}، ضمن التدبير العام يأتي ما يتعلق بالتدبير التفصيلي لشؤون الإنسان على مستوى عامه القادم، وهذه مسألة تهم كلاً منا.

كُلٌّ منا يهمه ما يُكتَب له، أو ما يُكتَب عليه، خلال عامه القادم، أليس كُلٌّ منا يرجو الخير لنفسه، ويرجو أن يصرف الله عنه خلال عامه القادم الشر، ويرجو لنفسه في إطار الخير أن يوفقه الله “سبحانه وتعالى”، أن ييسر أموره؟ فليلةٌ لها علاقةٌ بك أنت، فيما يُكتَب لك في حياتك، في شؤونك، في أمورك، أو فيما قد يكتب عليك، ألا تهمك؟! يمكن أن يصل الإنسان في حالة الغفلة، الغفلة عن الله، الغفلة عن كل شيء، إلى مستوى نسيان النفس، نسيان ما يهمه، ما له علاقةٌ به، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}[الحشر: من الآية19]، لكن من يذكر الله؛ هو يتذكر بالتالي، ويذكِّره الله بنفسه، بشؤونه، بأموره الهامة، التي يجب أن تكون هي محط اهتمام لديه، هذا على المستوى الشخصي.

لكن هناك أيضاً على المستوى الجماعي، المجتمع الذي لديه توجهٌ معين، والأمة التي لديها توجهٌ معينٌ قد يجمعها، إذا كان توجهاً صحيحاً، وفق توجيهات الله، وتعليمات الله، تبتغي به رضوان الله “سبحانه وتعالى”، فهذه الليلة أيضاً تهم الجميع كأمة واحدة، وكمجتمعٍ لديه توجهٌ واحد.

فهي هامةٌ على المستوى الشخصي، فيما يهمك كشخصٍ، فيما يتعلق بظروفك، وشؤون حياتك الخاصة، وهمومك، ومشاكلك؛ لأن كلاً منا لديه ظروفه الخاصة، لديه مشاكله الشخصية، لديه همومه الشخصية، جانبٌ من حياته، ثم على المستوى الجماعي، فيما يربطك بمجتمعك وأمتك الواحدة، التي تتحرك ضمنها، وتنتمي إليها، هناك أيضاً ما يكتب على المستوى العام.

يهمنا أن يكتب الله لنا الخير، ما يكتب لنا، أو علينا، يتعلق بواقعنا، باهتماماتنا، بتوجهاتنا، بأعمالنا إلى حدٍ كبير، من الجوانب المؤثرة، من الجوانب المتعلقة بما يكتب لنا، أو علينا، هي: توجهاتنا، وأعمالنا، ومواقفنا، وتصرفاتنا، وسلوكياتنا.

ولذلك يجب أن نلتفت إلى هذا الجانب، فعندما نعود إلى الله “سبحانه وتعالى”، ونرجع إلى الله “جلَّ شأنه”، بقدر ما نتوجه بالدعاء، بالتضرع، بالذكر، نحرص أيضاً على أن نتوجه بالعزم والإرادة على الاستقامة على نهجه، على التحرك وفق توجيهاته، على النهوض بمسؤولياتنا التي أمرنا الله بها، والاستمرار فيها، أن يعلم الله منا صدق التوجه في إرادتنا، في عزمنا، في نياتنا، أن نتحرك وفق تعليماته، وفق أوامره، أن نصحح وضعيتنا وفق توجيهاته، أن نتوب إليه من تقصيرنا، من ذنوبنا، من أخطائنا، من خطيئاتنا، وأن نرجع إليه.

ولذلك إلى جانب اهتمامنا بالدعاء، وما نطلبه من الله، وما نرجوه من الله، فلنحرص على أن نتوجه إلى الله بالتوجه الذي يرضيه عنا؛ لأن تدبير الله “سبحانه وتعالى” عندما يكون برضاً عنا، وهو راضٍ عنا، يكتب لنا الخير، يكتب لنا الرحمة، يكتب لنا مما يكتبه من واسع فضله “سبحانه وتعالى” الشيء الكثير في الدنيا وفي الآخرة، وفي الآخرة وهو الأهم، وهو الأبقى، الذي نحرص عليه أكثر، هذا جانبٌ مهمٌ مما ينبغي أن نحرص عليه، وأن نتنبه له؛ لأن من خصوصيات ليلة القدر: أنها ليلةٌ لتقدير أمور الناس، للتدبير الإلهي فيما يكتبه الله للناس وعليهم، وفق حكمته “سبحانه وتعالى”، ورحمته، وتدبيره لشؤون عباده.

مما ذكره الله “سبحانه وتعالى” عن ليلة القدر: سورة بأكملها هي سورة القدر، قال فيها “سبحانه وتعالى”: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية1]، (إِنَّا) الله “سبحانه وتعالى” عظيم الشأن، يؤكِّد لنا بهذا التعبير: (إِنَّا)، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، يعبِّر لنا- مع إشعارنا بعظمته “سبحانه وتعالى” وجلاله- أنه أنزل كتابه المبارك العظيم، المجيد، الكريم، في ليلة القدر، فهي ليلةٌ عظيمة الشأن، ليلة نزول البركات، نزول الرحمة، نزول الخير.

ثم يقول عنها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر: الآية2]، وهذا يعبِّر عن عظيم شأنها وفضلها، (وَمَا أَدْرَاكَ): مستوى عظمة هذه الليلة، وأهمية هذه الليلة، وقدسية هذه الليلة، وبركات هذه الليلة، يفوق إدراكك، يفوق تقديرك، يفوق تصورك، يفوق تخيلك، أعلى من ذلك، لا يدرك الإنسان مستوى عظمة تلك الليلة، مستوى فضل تلك الليلة، شأنها أكبر وأعظم وأعلى مما يدركه الإنسان، أو يستوعبه، أو يتخيله.

{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: الآية3]، لَيْلَةُ الْقَدْرِ في بركاتها، وفي فضلها، وفي خيرها، تفوق ألف شهر، وفي مضاعفة الأجر على العمل فيها، تفوق ألف شهرٍ من الزمان، ما يعادل عمراً بأكمله، عمراً مديداً، فهي ليلةٌ عظيمةٌ جدًّا، وبركاتها كبيرةٌ جدًّا.

{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر: الآية4]، وفيها نزول ملائكة الله على نحوٍ واسعٍ وكبيرٍ إلى الأرض، في إطار التدبير الإلهي لشؤون البشر، وكأنَّ هناك أمور كثيرة، يبتدئ العمل من جانب الملائكة في تهيئتها، وفق التدبير الإلهي الواسع، ووفق المهام التي تتعلق بهم، والتي يقومون فيها بأمر الله “سبحانه وتعالى”، وينفِّذون فيها تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، في تهيئة المقادير والمكتوب للبشر… وغير ذلك مما لا نعلمه.

نزول الملائكة في تلك الليلة المتصل بشؤون الناس، وتدبير أمورهم، هو أيضاً يعبِّر عن أهمية، ويدل على أهمية تلك الليلة، وفضلها، وقدسيتها.

{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر: الآية5]، من مميزات ليلة القدر، من بركاتها العجيبة، أنها: سَلَامٌ، لا ينزل فيها عذابٌ من الله “سبحانه وتعالى”، ولا نقمةٌ من الله “سبحانه وتعالى”، من أولها إلى آخرها، {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، هذا من بركاتها العجيبة، ومن خصوصياتها العجيبة جدًّا.

فهذه الفضائل، والمزايا، والخصوصيات، لليلة القدر، تشجع وتدل- في نفس الوقت- على أهميتها الكبيرة، فبركاتها وبركات الأعمال فيها يفوق ألف شهرٍ بأكمله.

يبقى أن يغتنم الإنسان الفرصة، أن يحرص خلال هذه العشر الأواخر، في كل ليلةٍ منها، وفي الليالي أيضاً المتوقعة أكثر فيها، أن يُقبِل أكثر، ألَّا يضيِّع هذه الفرصة التي لا مثيل لها، على المستوى الزمني لا مثيل لها أبداً، قد يكون هذا الموسم (رمضان هذا) هو آخر شهرٍ للبعض منا، قد لا يدرك في العام القادم شهر رمضان القادم، وقد تكون هذه الليلة المباركة إذا اغتنمها، قد تكون هي ما يحدد له فيها مستقبله السعيد للأبد، ومن الغبن، ومن الحرمان أن يفوِّت الإنسان فرصةً كهذه.

خلال عشر ليال أَلَا يمكن للإنسان أن يقبل إلى الله أكثر، أن يكثِّف جهده، أن يعتني أكثر، أن يقلل من انشغالاته غير المهمة والعبثية، التي يهدر فيها وقته، وأن يكثر من ذكر الله “سبحانه وتعالى”، أن يرجع إلى الله، أن يدعو الله، وأن يكون في سلَّم اهتماماته، وفي مقدِّمة اهتماماته التي يدعو الله فيها: أن يطلب من الله المغفرة، هذا من أهم ما يحتاج إليه الإنسان؛ لأن الله الرحيم، الكريم، العظيم، يريد لنا الخير.

مشكلتنا دائماً هي في ذنوبنا، هي في خطايانا، هي في معاصينا، هي التي تؤثِّر سلباً علينا، هي التي لها آثارها السيئة علينا في الدنيا، وفي مستقبلنا الأبدي في الآخرة، أن نطلب من الله أن يغفر لنا، أن يعفو عنا، وأن نطلب منه أيضاً أن يعتق رقابنا من النار، هذا من أهم ما يطلبه الإنسان من الله، ومن أهم ما يدعو به، أن يطلب من الله ما يتعلق بشؤونه الشخصية، وهمومه، وظروف حياته، وما يتعلق بالواقع العام لأمته ولمجتمعه المسلم، أن يطلب الله له التوفيق، والنصر، والعون، والهداية… وغير ذلك من الخير العام.

ويمكن للإنسان أن يستفيد من الأدعية القرآنية، هي أدعيةٌ عظيمةٌ وجامعة:

من ضمن الأدعية القرآنية المباركة: الدعاء الجامع، الذي نطلب فيه من الله خير الدنيا والآخرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية201]، دعاءٌ جامع يحفظه العامي والمتعلِّم، ويفيد للإنسان المنشغل وغير المنشغل، دعاءٌ عظيم، ودعاءٌ مبارك.

وكذلك دعاء الربَّانيين المجاهدين، من أعظم الأدعية، ومن أهم الأدعية: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية147]، ومن المهم للإخوة المجاهدين أن يكثروا من هذا الدعاء في هذه الليالي المباركة.

من أهم الأدعية: دعاء الراسخين في العلم، الذي ذكره الله “سبحانه وتعالى” في سورة آل عمران، وهو من أعظم وأهم الأدعية التي يحتاج إليها الإنسان، الذي يحرص على التوفيق الإلهي، وعلى حسن العاقبة، ويتخوَّف ويخاف على نفسه من الزيغ، ومن الخذلان، ومن الضلال: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران: الآية8].

وهكذا هناك أدعية مأثورة عن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، أدعية مأثورة من الصحيفة السجادية، من غيرها من الأدعية المأثورة والمباركة المناسبة، التي تتضمن الاعتماد على ذكر الله بأسمائه الحسنى، يمكن للإنسان أن يستفيد منها، مع الأهمية مع الإكثار من ذكر الله “سبحانه وتعالى”، من الاستغفار، والتسبيح… وغير ذلك، مع الاهتمام بالأعمال الصالحة، مع تقوى الله، والحذر من المفسدات للأعمال، والمحبطات للأعمال، مما يتنافى مع التقوى.

من أهم مواطن الدعاء، التي هي من أقرب الأماكن استجابةً، ومن أقرب الأحوال استجابةً للدعاء، هي: أحوال المرابطين في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، في ميادين الجهاد، هم في مواطن المرابطة والجهاد، وفي تلك الحالة التي يعيشون فيها أداء مسؤولياتهم المقدَّسة والعظيمة، وهم يرابطون في سبيل الله، من أهم المواطن، ومن أحسن الأحوال لاستجابة الدعاء، يجب اغتنام الفرصة فيها، والإقبال إلى الله “سبحانه وتعالى” بالدعاء، والإكثار من الدعاء، ومن ذكر الله “سبحانه وتعالى”، إضافةً إلى العناية بأعمال الخير والبر، من إخراج الصدقات وغير ذلك، من أعمال البر والخير، مع الاهتمام أيضاً بشكلٍ مستمر خلال ما بقي من شهر رمضان بالقرآن الكريم، بهدى الله “سبحانه وتعالى”.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يوفِّقنا لاغتنام ليلة القدر، وأن يكتب لنا فيها من خير ما يكتبه لعباده، من رضوانه، ومغفرته، وعفوه، والعتق من عذابه، وأن ينصرنا بنصره، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المحاضرة الرمضانية العشرون للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية العشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ 21-04-2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

كان من أبرز الأحداث وأكبر المآسي في تاريخ الأمة، التي وقعت في شهر رمضان، وكانت في شهر رمضان لسنة أربعين من الهجرة النبوية، في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان آنذاك، أن استهدف أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وسيِّد الوصيين علي بن أبي طالبٍ "عليه السلام"، وهو خارجٌ في مسجده لأداء صلاة الفجر في جامع الكوفة، وهو يتقدَّم لصلاة الفجر، فأصيب في عمليةٍ استهدافيةٍ غادرة، استهدفه فيها أشقى الأشقياء: ابن ملجم لعنه الله.

وفي الليلة الثالثة للضربة تلك، ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان آنذاك، التحق أمير المؤمنين "عليه السلام" بالرفيق الأعلى شهيداً فائزاً سعيداً، في اللحظة التي أصيب فيها بالسيف على رأسه الشريف، قال كلمته الشهيرة التي سجلها التاريخ: ((فزت وربِّ الكعبة)).

ذلك الاستهداف كان من أكبر المآسي في تاريخ الأمة، التي امتدت تأثيراتها السيئة على الأمة جيلاً بعد جيل، وما حدث لم يكن مجرد واقعةٍ عاديةٍ، استهدفت شخصاً يحكم الدولة الإسلامية، فأتى بديلاً عنه شخصٌ آخر، الأمر يختلف كلياً، الذي استهدف بتلك الضربة الغادرة هو: أمير المؤمنين، سيِّد الوصيين، إمام المتقين، هو من قال عنه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم" مبيِّناً منزلته، مقامه العظيم عند الله، دوره في الإسلام وحركة الإسلام، علاقته بالأمة: ((أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلَّا أنه لا نبي بعدي)).

فالذي أصيب في ذلك الاستهداف الغادر، هو من له هذه المنزلة، من له هذه المرتبة، التي هي المرتبة الثانية بعد رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم"، في مقامه الإيماني العظيم، وكماله الإيماني العظيم، في منزلته عند الله "سبحانه وتعالى"، في دوره العظيم في نصرة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، ومؤازرته، وفي العمل على إقامة الإسلام، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي التصدي لكل أعداء الإسلام الذين حاربوه في عصر الرسالة الأول، في كل ما يتعلق بمسيرة الإسلام، وأيضاً في طبيعة دوره في الأمة، فيما بعد وفاة رسول "صلى الله عليه وعلى آله"، وامتداد المسيرة الإسلامية وفق أصالتها.

فها هو أمير المؤمنين "عليه السلام" في ذلك المقام العظيم، والمنزلة العالية، يُستَهدف بسيفٍ محسوبٍ على أنه من الأمة، منتسبٌ إلى الأمة، وإن لم يكن في واقع الحال يمكن أن يكون منها من يرتكب جرماً فظيعاً عظيماً مهولاً بذلك المستوى، ولكن كان هناك أيضاً تخطيطٌ لهذه العملية، ولم تكن مجرد تصرفٍ شخصيٍ، نابعٍ من قرارٍ شخصي، كان وراء ذلك تدبيرٌ وسعيٌ من حركة النفاق في هذه الأمة، التي تزعَّمها وحمل لواءها الطغيان الأموي في تلك المرحلة.

أمير المؤمنين "عليه السلام" بمقامه العظيم عند الله، ومنزلته العالية عند الله "سبحانه وتعالى"، يتبين لنا من خلال هذا الاعتبار أن ننظر إلى فظاعة ما حدث، إلى هول الجريمة، إلى شناعة تلك الجريمة، وهي تطال ولياً من أولياء الله، من صفوة أولياء الله "سبحانه وتعالى".

في القرآن الكريم يخبرنا الله "سبحانه وتعالى" عن فظاعة جريمة استهداف أي إنسانٍ مؤمن، في قوله "سبحانه وتعالى": {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: الآية93]، على مستوى مؤمنٍ واحدٍ، من أي المؤمنين، من سائر المؤمنين، لا يُشترط أن يكون قد بلغ أعلى مراتب الإيمان، هذا الغضب من الله "سبحانه وتعالى" إلى هذه الدرجة: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، من أكبر الوعيد الذي أتى في القرآن الكريم، وهو وعيدٌ على جريمةٍ محددة، هناك في القرآن الكريم يتكرر الوعيد على جرائم محددة، ولكن يبرز هذا الوعيد الشديد، الذي يبين غضب الله الشديد، والعذاب العظيم؛ وبالتالي يبين شناعة تلك الجريمة، فما بالك عندما يكون المستهدف هو مولى المؤمنين، هو أكمل المؤمنين إيماناً، هو أعلاهم مرتبةً في إيمانه، وأسبق الأمة في إيمانها برسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، وعلى مستوى عظيم، إيمانٌ متميزٌ بالكمال والسبق بما لا مثيل له في هذه الأمة.

الله "سبحانه وتعالى" قال أيضاً في حديثٍ قدسيٍ مرويٍ: ((من عادى لي ولياً، فقد بارزني بالمحاربة))، من يعادي ولياً من أولياء الله، فعلى ماذا يعاديه؟ إلَّا على ما يحمله من الإيمان، ما يتحرك به في إطار الحق، يعاديه من أجل موقفه الحق، من أجل ما يقوم به ويتحرك به مما يجسِّد إيمانه بالله "سبحانه وتعالى"، وامتثاله لأمر الله "جلَّ شأنه.

فالعداء مثلاً لأمير المؤمنين "عليه السلام" لم يكن مجرد عداءٍ لشخصه، أو لاسمه؛ إنما لما كان يحمله علي، لما كان يمثله علي، لدور عليٍّ "عليه السلام" في هذه الأمة، ودوره كله مرتبطٌ بحركة الرسالة الإلهية، يجاهد من أجل إقامتها، من أجل الدفاع عنها، من أجل إرساء دعائمها في أوساط الأمة، فهو الذي كان دائماً في واقعه، فيما يحمله، في ثقافته، في وعيه، في علمه، فيما يقدِّمه، فيما يعمله، في مواقفه، مقترناً بالقرآن الكريم، لا ينفك عنه، هو الذي قال عنه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم": ((عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع علي))، هذا التلازم الذي لم يفارق عليًّا "عليه السلام" للحظةٍ واحدة، هذا التلازم الذي كان حاضراً في كل حياة عليٍّ "عليه السلام"، في كل مواقف عليٍّ "عليه السلام"، في كل حركة عليٍّ "عليه السلام"، فكان قرآناً ناطقاً، جسَّد تعاليم القرآن، وقف مواقف القرآن، ما يقدمه للأمة يقدمه من نور القرآن، تلازمٌ مستمرٌ منذ يومه الأول في الإسلام، وإلى أن التحق بالرفيق الأعلى شهيداً سعيداً فائزاً، بعد أن قال كلمته الشهيرة: ((فُزتُ وَربِّ الكعبة)).

عليٌّ "عليه السلام" الذي كان يُجَسِّدُ الحق في كل تعاليمه، في كل مواقفه، في كل حكمه، في كل حركته، وكان هذا التلازم أيضاً لا ينفك عنه للحظةٍ واحدة، كان كما قال عنه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم": ((عليٌّ مع الحق، والحق مع علي))، فكان دائماً يقف موقف الحق، وكان دائماً يتحرك بالحق، يُقدِّم الحق، يربط الأمة بالحق، الحق هو العنوان الرئيسي لكل حركته، لكل مواقفه، لكل أعماله.

في مقامه العظيم عند الله، وهو الذي يقول الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" في حديث الغدير بشأنه: ((اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه))، فمن يعاديه، فهو عدوٌ لله، عدوٌ للإسلام، عدوٌ للرسول "صلى الله عليه وعلى آله وسلم"؛ وبالتالي نعرف ما هو مصيره من هو كذلك.

الإمام عليٌّ "عليه السلام" بتلك المنزلة العظيمة عند الله، وفيما يعنيه لنا كمسلمين، من توجهت إلينا كلمات الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله"، وهو يعرِّفنا عن مقام علي، عن دور علي، عمَّا يعنيه لنا علي، أنَّ حبه إيمان، فإذا كنا مؤمنين، ومن يريد أن يكون مؤمناً لابدَّ له أن يكون محباً لعليٍّ "عليه السلام"، وأنَّ بغضه نفاق، فمن يبغض عليًّا، ويكره عليًّا، وينزعج من علي، ويستاء من عليٍّ "عليه السلام"؛ فهو منافق، ولم يدفعه إلى ذلك إلَّا نفاقه، لم يجعله على ذلك المستوى من البغض للحق، والإيمان في صورته الناصعة، والكمال الإنساني في أرقى صوره وأشكاله، إلَّا تلك الحالة غير السوية، التي هي حالة نفاق.

لا يتعب الإنسان حتى يكون محباً لعلي، لا يحتاج ذلك إلى عناء، بمجرد أن تتعرف عليه، فترى كماله الإنساني الذي عبَّرت عنه سورة الإنسان، وترى كماله الإيماني، وهو أرقى نموذجٍ في الأمة، من أتباع رسول الله، من المؤمنين برسول الله، الذي تجسَّدت فيه كل المواصفات الإيمانية على أرقى مستوى، كما وردت في القرآن الكريم، بكل جمالها، وجلالها، وروعتها، وجاذبيتها.

على مستوى الفطرة، الإنسان ينشد إلى أصحاب الكمال الإنساني، أصحاب الكمال الأخلاقي، أصحاب الكمال الإيماني، يحبهم، هي الفطرة البشرية، فإذا كان الإنسان على حالةٍ مغايرة، فهو شاذٌ عن الفطرة، وهي حالة النفاق التي تجعل الإنسان يشذ عن فطرته، فلا يبقى إنساناً سوياً حتى في مشاعره.

عليٌّ "عليه السلام" في دوره الكبير فيما يتعلق بالرسالة الإلهية، وهو: وزير رسول الله، ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى))، هو المؤازر، ((إلَّا أنه لا نبي بعدي))، ليس بنبي، هو وصي، وصي رسول الله، هو إمام المتقين، وسيد الوصيين، وأمير المؤمنين، هو ولي المؤمنين: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: من الآية55]، في هذا الدور المهم الذي يمثل امتداد الرسالة الإلهية بكل أصالتها، ونقائها، وصفائها، ومن دون الشوائب، التي سعت حركة النفاق إلى أن تلوثها بها؛ حتى تشوّه الإسلام، وتحرِّف معالمه، ندرك من خلال ذلك كله فظاعة ما حدث، شناعة ذلك الاستهداف، آثاره السيئة، وما يمثله من جريمةٍ كبيرةٍ جدًّا.

هو في واقع الحال عندما حصل من ساحة الأمة، من الداخل، كان شاهداً واضحاً على طبيعة الانحراف، وعلى حقيقة المشكلة التي وقعت في تاريخ الأمة، وطبيعة الدور الذي كان يقوم به أمير المؤمنين عليٌّ "عليه السلام" في تصديه لتلك المشاكل.

أمير المؤمنين "عليه السلام" بمثل ما كان له الدور العظيم في حركة الإسلام، منذ بداية حركة الإسلام، وهو أول المسلمين إسلاماً، وأعظمهم إيماناً، وأعظمهم إسهاماً في نصرة الإسلام، في مؤازرة النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، في العمل على إحقاق الحق، في التصدي للأعداء، والتصدي لكل الأخطار التي كانت تحيط بالمسلمين وبالإسلام، في كل المرحلة التي يمكن أن نسميها بمرحلة التنزيل، مرحلة نزول القرآن الكريم، وحركة النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" بالرسالة في تبليغها؛ لإخراج الأمة من حالة الشرك والكفر، إلى نور الإسلام.

في تلك المرحلة كان دور عليٍّ "عليه السلام" دوراً متميزاً وبارزاً، فكان هو الرجل الاستثنائي، في كل المحطات الاستثنائية، وفي كل المراحل والتحديات الاستثنائية والخطيرة:

كان هو في معركة بدر وغزوة بدرٍ الكبرى الأعظم إسهاماً، والأكبر أثراً في عطائه، في تضحيته، في استبساله، في تفانيه، فيما حققه الله على يديه من ضرباتٍ منكِّلةٍ بالأعداء، وبرز في غزوة بدرٍ دوره الكبير والمتميز، وإسهامه العظيم في المعركة، بما هيَّأه الله على يديه.

وفي أحد كان له الدور المحوري والمتميز جدًّا، وبالذات مع الانتكاسة التي حصلت للمسلمين، وما كان إثرها من تهديد لحياة النبي "صلوات الله عليه وعلى آله"، فثبت أمير المؤمنين "عليه السلام" مع القلة القليلة ممن ثبتوا، وكان في تفانيه، واستبساله، وأدائه العظيم، وما حظي فيه من معونة الله، وتوفيقه، وتأييده، ونصره، إلى الدرجة التي أثارت إعجاب جبرائيل "عليه السلام"، وهو حاضرٌ عند رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، فقال كلمته التي نقلها المحدِّثون والمؤرِّخون: ((إنَّ هذه لهي المواساة))، قال عن ذلك المستوى من التفاني، من الاستبسال، من التضحية، من الأداء العظيم الذي ينطلق من منطلقٍ إيمانيٍ عظيم، قال عنه: ((إنَّ هذه لهي المواساة))، فقال النبي "صلوات الله عليه وعلى آله": ((إنه منِّي، وأنا منه))، فقال جبرائيل "عليه السلام": ((وأنا منكما))، فيما يعبِّر عنه من علو المنزلة، وعظيم المقام الإيماني، وعند الله "سبحانه وتعالى".

في مقام الخندق، في تلك المرحلة الحرجة جدًّا، كان موقف عليٍّ "عليه السلام" هو الموقف الاستثنائي والعظيم، والذي عبَّر عنه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم" بتلك العبارة الشهيرة العظيمة، التي لها مدلولها الكبير جدًّا: ((برز الإيمان كله، إلى الشرك كله))، فكان عليٌّ "عليه السلام" في ذلك الموقف يجسِّد الإيمان، يعبِّر عن الإيمان، وكانت واقعةً حسَّاسةً جدًّا، لها تأثيراتها الممكنة في هذا الاتجاه، أو في ذلك الاتجاه، فانتصر الإيمان بانتصار عليٍّ "عليه السلام".

في كذلك وقعة خيبر وغزوة خيبر، كان هو فاتح خيبر، بعد أن قال رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" كلمته العظيمة: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار، يفتح الله على يديه))، وهو يتحدث لنا عن مشاعر عليٍّ الإيمانية، عن أعظم ما يحمله الإنسان المؤمن، وهو: محبته لله، ومحبته لرسوله "صلوات الله عليه وعلى آله"، وفي نفس الوقت يذكر مقام عليٍّ عند الله، وعند رسوله، ((ويحبه الله ورسوله))، ليبين لنا كيف هي المنطلقات التي ميَّزت عليًّا في استبساله وتفانيه في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، أنها كانت قبل أن تكون فطريةً، هي كذلك كانت إيمانيةً، فاجتمعت الفطرة بالإيمان، وتنامت، وعظمت؛ حتى ميَّزت ذلك الرجل العظيم، في دوره العظيم، وإسهامه الكبير، في رفع راية الإسلام، وفي التصدي لأعداء الإسلام... وهكذا في كل المواطن، في كل المقامات.

في فتح مكة كان هو حامل راية رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله".

في كل المقامات، في كل المواقف كان أمير المؤمنين "عليه السلام" الحاضر كرجلٍ أول في أنصار رسول الله، وأعوان رسول الله، والمجاهدين في سبيل الله، بإسهامه الأول، فكان دائماً الذي يتجسَّد في أدائه السبق والتميز على أرقى مستوى.

إضافةً إلى ذلك، كان تكامله الإيماني، الذي جمع فيه بين الاستبسال في سبيل الله، والجهاد العظيم في سبيل الله، والشجاعة الخارقة في نصرة الإسلام، مع كماله في بقية المواصفات الإيمانية: رحمته بالمستضعفين، تواضعه للمؤمنين، فيما يتعلق بالجانب الإنساني في رحمته بالناس، فيما يتعلق بكماله العلمي، فيما يتعلق بحكمته، بتدبيره، كان يجسِّد الشخصية المسلمة المتكاملة، من كل الجوانب والأبعاد، بكل المواصفات اللازمة؛ ولذلك هو بقدر ما كان يحمله من استبسالٍ وتفانٍ في سبيل الله، وتحركٍ جادٍ، يحمل البصيرة، يحمل أعلى مستويات الوعي، هو الأُذُنُ الواعية، هو باب مدينة العلم، وكذلك هو باب دار الحكمة، هو الذي كان يحمل الحكمة، يحمل العلم، كان مستنيراً بنور الله "سبحانه وتعالى"، كان على بصيرةٍ عظيمةٍ وعالية، هو القائل في شعره يوم برز لعمرو بن عبد ود، قال عن نفسه: ((ذو نيةٍ وبصيرة)).

ذو نيةٍ وبصيرة

      والصدق منجي كلَّ فائز

هو يحمل الوعي في حركته، يحمل المعرفة، يحمل العلم، يحمل النور، رجلاً عظيماً مستنيراً بنور الله، وهو الأُذُنُ الواعية، التي استوعبت هدى الله "سبحانه وتعالى"، وعظمة ذلك الهدى.

ومع ذلك بكله، في كل ما يمثله من أهمية، ارتقت به إلى أن يكون الشاهد، الذي يمثِّل النموذج المتكامل الذي يشهد على عظمة الإسلام، عظمة الرسالة، الذي تجلَّى فيه أثر رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" في تربيته، في حكمته، وهو الذي ربَّاه منذ طفولته، أثر تربية رسول الله، أثر تعليمه، أثر تأثيره في صياغة الشخصية الإسلامية، أثر الإسلام، وأثر القرآن؛ فقدَّم الشهادة من كل واقعه بتكامله ذلك على عظمة الإسلام، عظمة الرسول، عظمة الرسالة، فكان شاهداً لرسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، من حيث تقديمه النموذج الراقي، والعظيم، والمتميز، المتكامل عن الإسلام وأثره، وقيمه، وأخلاقه، عن أثره في بناء الشخصية الإسلامية.

لكن مع ذلك له دوره المهم فيما يتعلق بالأمة: في امتداد الإسلام بأصالته ما بعد وفاة النبي "صلوات الله عليه وعلى آله"، وفي التصدي للخطر الكبير الداخلي، الذي تمثله حركة النفاق في داخل الأمة.

كان للمنافقين حركتهم ونشاطهم، الذي كشفه القرآن، وتحدث عنه كثيراً في عصر رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وكان رسول الله يتصدى لهم مدعوماً ومؤيَّداً بالقرآن الكريم، بتعاليم الله "سبحانه وتعالى"، بما ينزِّله الله في القرآن الكريم مما يفضحهم، مما يكشفهم، مما يبيِّن طبيعة مؤامراتهم، وأتى الأمر من الله للنبي "صلوات الله عليه وعلى آله" في قوله "سبحانه وتعالى": {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: من الآية73].

فكان رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" يجاهد الكفار، ويحاربهم على المستوى العسكري وعلى كل المستويات، وكان أيضاً يجاهد المنافقين، ويتصدى لهم في داخل الساحة الإسلامية، من خلال الحركة الكبيرة التي تُحَصِّن المجتمع من تأثيرهم، والتصدي لهم بأشكال كثيرة، كان من بينها: التهديد، والوعيد، والضغط، والنفي لبعضهم، وكذلك السعي لإبطال تأثيرهم، وتقليص نفوذهم، والوصول بهم إلى مستوى التلاشي في فاعليتهم وتأثيرهم في الساحة الإسلامية، وكان يبذل الجهد الكبير في ذلك، ويشفع ذلك بتحذيره الشديد، الذي يأتي وفق آياتٍ قرآنية ينزِّلها الله "سبحانه وتعالى" عليه، منها: الوعيد بالقتل، الوعيد بالنفي... وغير ذلك، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}[الأحزاب: 60-61]، فكان رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" يتحرك بكل جدية، للتصدي لهم في داخل الساحة الإسلامية، وكانوا يظهرون- في ظاهر أمرهم- الإسلام، الشهادة بالشهادتين، التظاهر بالإسلام، بل منهم من بلغوا إلى حالةٍ خطيرةٍ جدًّا في أسلوبهم النفاقي، إلى درجة أن قال الله عنهم: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}[التوبة: من الآية101].

كان من الطبيعي ومن المتوقع جدًّا أن يكون تأثير المنافقين ما بعد وفاة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" في داخل الأمة أكثر خطورةً مما كان في عصر رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، وأن يكون خطرهم أيضاً يتجه إلى جوانب كثيرة، تتجه إلى الجوانب الفكرية، والأخلاقية، وإلى التأثير والنفوذ في حركة الأمة... من جوانب كثيرة، وهذه مسألة واقعية، فهم لم ينتهوا مثلاً بوفاة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، والنبي حذَّر منهم، وأكَّد على أنهم سيتواجدون في واقع هذه الأمة في كل جيل، وفي كل عصر، ونبَّه إلى خطورتهم.

أمَّا القرآن الكريم فحديثه عنهم حديثٌ واسعٌ جدًّا، وتحدَّث عنهم في بعض العبارات ليبيِّن أنهم أسوأ خطورةً، وأكثر خطورةً على الأمة، من أعدائها الآخرين؛ لطبيعة دورهم التخريبي في داخل الأمة، إلى أن قال في السورة التي هي باسمهم (سورة المنافقين)، قال عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون: من الآية4]، {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}.

تحدَّث في الوعيد لهم بأنَّ موقعهم في جهنم هو أشد موقع، وأنهم إلى أشد عذاب، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: الآية145]، نعوذ بالله، حالة رهيبة جدًّا في عذابهم، تبيِّن سوء فعلهم، وسلبية دورهم في تاريخ الأمة، وفي واقع الأمة.

ولذلك من بعد وفاة رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" نشطوا في ساحة الأمة، في واقع الأمة، وتحرَّكوا أكثر فأكثر، والنبي "صلوات الله عليه وعلى آله" عندما قال في الحديث المروي عند المسلمين جميعاً، قال لعليٍّ "عليه السلام": ((لا يحبك إلَّا مؤمن، ولا يبغضك إلَّا منافق))، بيَّن أنَّ علياً "عليه السلام" يمثِّل علامةً فارقة في ساحة الأمة، في واقعها الداخلي بين المؤمنين والمنافقين؛ لما يمثله من نموذجٍ أصيلٍ يعبِّر عن الإسلام بشكلٍ صحيحٍ وتام، ولطبيعة دوره في حركته لامتداد الرسالة، لامتداد الإسلام، لامتداد الحق، سليماً من الشوائب.

من أخطر الأدوار التي ينشط فيها المنافقون، هي: حالة التحريف لمفاهيم الإسلام، هم حركة زيفٍ في داخل الأمة، النفاق يعتمد على الزيف، يعتمد على التحريف للمفاهيم، للوقائع، للحقائق، هم حركة زيغ، تسعى إلى الزيغ بالأمة عن المسار الصحيح، عن الاتجاه الصحيح، الذي يمثِّل امتداداً صحيحاً كاملاً سليماً للإسلام في كل شيء: في عقيدته، وشرعه، وموقفه، ومشروعه الحضاري في الحياة.

فتعاظمت حركة النفاق في داخل الأمة، وسعت للسيطرة على مقاليد أمر الأمة، والانحراف بالأمة بشكلٍ كامل، كان من حمل لواء النفاق في داخل الأمة، وتحرَّك بحركة النفاق، ليصل إلى موقع القرار في الأمة، وليتمكَّن من السيطرة على الأمة، هم: بنو أميَّة، سعى الطغيان الأموي للسيطرة على الأمة بشكلٍ تام، والانحراف بها من موقع السلطة، من موقع القرار، والتحكم بالأمة من موقع القرار، وموقع الإدارة، وهذه من أخطر الأمور على الأمة.

كان عليٌّ "عليه السلام" يمثِّل الحصن الحصين، والسد المنيع، الذي تصدى للطغيان الأموي، وخاض معركته في التصدي للطغيان الأموي في كل الاتجاهات، وعمل على أن يربي الأمة التربية الإيمانية المتكاملة، وأن يتحرَّك بالإسلام وهو يقدِّمه، وهو يتحرَّك فيه أيضاً من موقع الإدارة، من موقع القرار، في الاتجاه الصحيح، وفق تعاليم الإسلام، فيما يمثل اقتداءً صحيحاً برسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، ويمثل تجسيداً حقيقياً للقرآن الكريم، فهو كان مع القرآن، والقرآن معه، مع الحق، والحق معه.

وواجه صراعاً مريراً وهو يحمي الأمة من حركة النفاق، ومن تأثيرها، وواجه المعاناة الكبيرة؛ نتيجةً للاختلال الذي كان قد تغلغل في أوساط الأمة في جوانب كثيرة، أفرزت ظواهر سلبية، كان من ضمنها: ظاهرة الخوارج التكفيريين، والذين يتطابق حال التكفيريين مثلاً في عصرنا هذا يتطابق معهم تماماً، ظاهرةٌ مُتَديِّنةٌ عمياء، تحركها أدوات النفاق، وتستغلها أدوات النفاق بكل وسائلها وأساليبها، تلك الظاهرة العمياء، التي تتدين بغير بصيرة، الدين في واقعها هو انطلاقة، هو حركة، هو اندفاع، لكنه ليس على بصيرة، ليس على بيِّنة، ليس وفق الاتجاهات الصحيحة، ليس مستنيراً بنور الله "سبحانه وتعالى"؛ إنما هو عقدة، عقدة، وضغينة وحقد، تدفع الإنسان لموقفٍ عدائيٍ معين على غير بصيرةٍ من أمره.

فاستطاعت حركة النفاق الأموي أن تستفيد من ظاهرة الخوارج، وأن توظِّفها ضد أمير المؤمنين عليٍّ "عليه السلام"، وصولاً إلى تلك المؤامرة الرهيبة في اغتيال عليٍّ "عليه السلام"، واستهدافه، عن طريق أحد المنتمين لتلك الظاهرة التكفيرية، وهو: ابن مُلجم لعنه الله، أشقى الأشقياء، الذي وصفه بهذا الوصف هو رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، قال عن قاتل أمير المؤمنين "عليه السلام" بأنه أشقى الأشقياء، وشبهه بعاقر ناقة ثمود؛ لأنه جلب الشقاء على الأمة، فكانت جنايته فظيعةً جدًّا، وهي جنايةٌ لحركة النفاق الأموي، هي وراء ذلك، هي من دبرت ذلك، هي من خططت لذلك، وكان من مخاطر ذلك إضافة إلى ما يمثله أمير المؤمنين "عليه السلام" من مقامٍ عظيم، وهو ولي الله، وهو إمام التقوى، وهو إمام وسيد المؤمنين، إضافةً إلى منزلته العظيمة عند الله "سبحانه وتعالى"، وما يمثله من امتدادٍ أصيلٍ للإسلام، فقد استفادوا من استهدافه "عليه السلام" ليتمكنوا أكثر.

وفعلاً كان من أكبر المخاطر والكوارث التي حدثت على الأمة بعد استشهاد أمير المؤمنين عليٍّ "عليه السلام": تمكن حركة النفاق الأموي من السيطرة التامة على الأمة الإسلامية، ومن ثم اتجهوا في مشروعهم النفاقي الخاص بهم، الذي وصَّفه رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" بكلماته الجامعة، والمعبِّرة والمهمة: ((فاتخذوا دين الله دَغَلاً، وعباده خَوَلَا، وماله دُوَلَا))، حوّلوا الأمة الإسلامية بكل ما تملك، بكل إمكاناتها، بكل مقدراتها، إلى مشروعٍ استغلالي للسلطة، والثروة، والنفوذ، والمكاسب الشخصية، والأهواء، والرغبات، واتجهوا إلى كل ما يرون فيه من مفاهيم الإسلام، من شعائر الإسلام، من تعاليم الإسلام، عائقاً أمامهم، إلى استنساخ بدائل عنه، تخدمهم، تنسجم معهم، تعزز من نفوذهم، ويكون محسوباً على الإسلام، فقدَّموا صورةً أخرى، غير تلك الصورة التي كان يقدِّمها أمير المؤمنين، التي كانت تمثل حقيقة الإسلام، جوهر الإسلام، امتداده الأصيل، فقدَّموا صورةً مزيفة، فيها الكثير من الزيف، فيها الكثير من التحريف، وما بقي من شعائر الإسلام وظفوه، بعد أن جرَّدوه من دوره الحقيقي، من أثره الصحيح، فأزاحوا الإسلام كمشروعٍ للأمة، أزاحوا الإسلام كمشروعٍ للأمة، يربي الأمة، ينهض بالأمة، تتحرك الأمة من خلاله في دورٍ عظيمٍ متميز، واستغلوا إمكانات ومقدرات الأمة الإسلامية لصالح أطماعهم، وأهوائهم، ونزواتهم، ورغباتهم، وظلموا الأمة، استهدفوا أخيارها، انتهكوا حرماتها، استهدفوا مقدساتها، دمروا وأحرقوا كعبتها، أساءوا إلى الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله"، لعبوا دوراً تخريبياً شنيعاً امتدت آثاره ونتائجه فيما بعدهم، واستمرت إلى اليوم، وآثارها إلى اليوم تتمثل بكثيرٍ من المفاهيم الظلامية، والمرويات المكذوبة، والعقائد الفاسدة، إضافةً إلى تأثيرهم السيء عندما انحرفوا بالأمة عن المسار الصحيح، فبدلاً من أن يكون مسار الأمة مساراً تصاعدياً مع الزمن، تزداد به قوةً، ووعياً، وفهماً، وارتقاءً، كان مساراً هبوطياً نحو الأسفل، فإذا بنا في هذا الزمن نرى واقع أمتنا الإسلامية واقعاً هابطاً، مقارنةً ببقية الأمم، واقعاً تمكَّن اليهود الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة أن يكونوا طرفاً مناوئاً- وهم حثالة- لأمةٍ قوامها أكثر من مليار مسلم، ولديها الإمكانيات الهائلة، ولكنها أصبحت غثاءً كغثاء السيل.

لماذا، ما الذي أوصل الأمة إلى ما وصلت إليه؟ ليس وليد اللحظة، ليس نتاجاً لزمنٍ محدود، أو لمتغيراتٍ محدودة، هو امتدادٌ طويل، كان له تأثيراته في واقع الأمة، فأوصلها إلى ما وصلت إليه.

بقي للحق امتداده، بقي للحق صوته، بقي للحق نقاوته التي استمرت في واقع الأمة، وإن كان محارباً، وإن كانت التوجهات المنافقة تتصدى له من موقع السلطة، من موقع السيطرة، من موقع القرار، لكنه بقي حاضراً، بقي لجهود أمير المؤمنين "عليه السلام"، وتضحياته، ومساعيه المباركة، أثرها الكبير، وحضور هذا الصوت، هذا الحق، هذا الهدى في الأمة، الذي امتد إلى عصرنا وزمننا نعمةٌ عظيمةٌ من الله "سبحانه وتعالى" علينا.

وبالتالي عندما نتطلع ونحن في هذا الزمن المتأخر، بعد كل ما قد مضى من الأحداث، والمتغيرات، والأحداث الرهيبة جدًّا في تاريخ أمتنا الإسلامية، والمتغيرات الكبيرة في تاريخ أمتنا الإسلامية، لكن بقي لنا المعالم واضحة، بقيت لنا كل معالم الأصالة التي تعبِّر عن أصالة الإسلام قائمة، بقي لنا القرآن الكريم، وبقي لنا ما يمثل امتداداً للقرآن الكريم، في معالم الحركة به في تاريخ أمتنا، وأرقى من كان يمثله، وأعلاه شأناً، وأعظمه مقاماً من بعد وفاة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" وإلى اليوم، هو: أمير المؤمنين عليٌّ "عليه السلام"، فبقي أمير المؤمنين مدرسةً كاملة، عندما نتطلع إلى سيرته، عندما ندرس سيرته، نقرأ عنه، نرى كل ما يفيدنا، كل الذي يجسِّد بالفعل ما ورد في القرآن الكريم، نرى المعالم الواضحة التي نستفيد منها.

يبقى لنا أيضاً، إضافةً إلى ما يمكن أن نستفيده بشكلٍ كبير من أمير المؤمنين "عليه السلام" في دراسة سيرته، في قراءة تاريخه، وهو ما ينبغي أن نحرص عليه جميعاً، يبقى لنا أن نلحظ من ضمن ذلك، ومن أهم ذلك: أن نستفيد منه فيما يتعلق بالانطلاقة الإيمانية الجادة، الصابرة، المستبصرة في مواجهة التحديات مهما كانت، هذا من أهم الدروس التي نتلقاها من أمير المؤمنين عليٍّ "عليه السلام".

وهو الذي عندما أخبره رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" بما سيواجهه، وأخبره بشهادته، وقال له: ((فكيف صبرك إذاً؟ قال: يا رسول الله إنها ليست من مواطن الصبر، إنها من مواطن البشرى والشكر))، هكذا كانت نظرته إلى الشهادة، وبهذه النظرة، بهذه الروحية العظيمة، كان ينطلق متفانياً في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، ومستبشراً، فكان يواجه التحديات مهما كانت، مهما كان حجمها؛ لأنه يحمل هذه الروحية، التي ترى في الشهادة في سبيل الله تعالى أنها نعمة عظيمة، وتوفيقاً إلهياً كبيراً نشكر الله عليه، نرجوه من الله "سبحانه وتعالى"، نطلبه من الله "سبحانه وتعالى".

عندما أخبره الرسول أيضاً عن استشهاده، وعمَّا سيحدث له، قال أيضاً كلمته الشهيرة والعظيمة والمهمة: ((أفي سلامةٍ من ديني يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: إذاً لا أبالي))، هكذا كان وعيه، هكذا كان إيمانه، هكذا يعِّلمنا أنَّ سلامة الدين هي أهم من كل شيء، وأن الإنسان المؤمن حقاً سيحرص قبل كل شيء، وفي مقدمة كل شيء على سلامة دينه، سيكون هو المعيار، مهما كانت التضحيات، مهما كان ما يقدمه الإنسان، أو مهما كان ما يفوت على الإنسان، المهم هو سلامة الدين.

وهكذا عندما نحب عليًّا المحبة الصادقة، نقتدي به، نتأثر به، نستفيد منه، يكون لمحبته تلك الأثر الكبير في أنفسنا، ونحن نتأثر بما كان عليه، بما جسَّده من أخلاق وقيم الإسلام والقرآن، ((أفي سلامةٍ من ديني؟)).

ثم عندما أصيب أيضاً قال كلمته الشهيرة: ((فُزتُ وربِّ الكعبة))؛ لأنه يرى المنهجية التي سار عليها في حياته منهجيةً يفوز من يسير عليها.

فنحن في ظل التحديات التي نواجهها عندما نقتبس من روحية علي، من إيمان علي، من وعي علي، من بصيرة علي، من نور علي؛ سنكون أقدر وأعلى في مواجهة كل التحديات، ونصل إلى الفوز العظيم؛ لأنها منهجيةٌ يفوز من يسير عليها.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...