الاثنين، 25 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الثامنة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الثامنة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

في سياق الحديث عن غزوة بدرٍ الكبرى، وعن يوم الفرقان، تحدثنا بالأمس كيف تزعَّمت قريشٌ الحرب ضد رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”، وضد الإسلام والمسلمين، امتداداً لنشاطها العدائي الذي استمر في كل المدة الزمنية التي أمضاها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله وسلم” في مكة، منذ البعثة وحتى الهجرة.

ما بعد ذلك اتجهت قريشٌ لأن تتزعم الحرب أيضاً على المستوى العسكري ضد رسول الله والإسلام والمسلمين، مستغلةً نفوذها، وتحالفاتها، وتأثيرها الكبير في مختلف القبائل العربية، من خلال موقعها في مكة، وفي إدارة شؤون الحج، وفي السيطرة على الكعبة، والرمزية التي حظيت بها في الوسط العربي آنذاك نتيجةً لذلك، فهم كانوا يقدِّمون أنفسهم أنهم في موقع الرمزية الدينية، فَيُظهِرون الاهتمام بالحجاج، وبالكعبة، وبإدارة شؤون الحج، ويتباهون بذلك، ويفتخرون بذلك، وقال الله عنهم في القرآن الكريم: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}[التوبة: الآية17]، قال عنهم عندما كانوا يستغلون سيطرتهم على مكة، وعلى الكعبة الحرام، ويقدِّمون أنفسهم بأنهم من لهم الولاية على مكة، ولهم الولاية على الكعبة، ولهم الولاية على إدارة شؤون الحج، قال عنهم: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}[الأنفال: من الآية34]، فهم كانوا يستغلون سيطرتهم تلك، ويقدِّمونها وكأنها وَلَاية، وكأنها وسيلة لتعزيز نفوذهم واستغلالهم، فكل سياساتهم وأساليبهم وطريقتهم في إدارة شؤون الحج، في أمور الكعبة، في أمور مكة، كلها محكومةٌ بالاستغلال، وتحت سقف الاستغلال، الاستغلال السياسي، الاستغلال للنفوذ في الوسط العربي آنذاك، فاتجهوا من خلال ذلك كله في حربهم ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وضد الإسلام والمسلمين.

كان تحرُّك النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وتحريكه معه للمستجيبين له من المسلمين، تحركاً نشطاً وفاعلاً، بقدر ما للمسألة من أهميتها الدينية، وبقدر أهميتها في الواقع، والله “سبحانه وتعالى” وجَّه الكثير في القرآن الكريم من التوجيهات التي تحث النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” للتحرك الفاعل، وبنشاطٍ كبير، فأتى في القرآن الكريم قوله “سبحانه وتعالى”: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}[الأنفال: من الآية5]، خرج النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بأمرٍ من الله “سبحانه وتعالى”، بتوجيهاتٍ من الله “جلَّ شأنه”، ولم يكن ذلك مجرد موقف شخصي، أو رأي شخصي، أو تقديرات للأمور بحسب النظرة الشخصية، المسألة هذه مسألةٌ إيمانية، فيها أوامر الله، فيها توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ولذلك انطلق- وهو بإيمانه العظيم- بكل جدية، بالرغم مما واجهه من التحديات المتنوعة:

فمن جهة كان الأعداء بإمكاناتهم العسكرية، والمادية، وعددهم، وعدتهم، وتأثيرهم في الساحة على المستوى العام.

ومن جهةٍ أخرى كانت حالة التخذيل والتثبيط، التي يقوم بها المنافقون والذين في قلوبهم مرض، في داخل المجتمع المسلم، في داخل الساحة الإسلامية، وهم يثبِّطون الناس عن أن يستجيبوا للرسول، وعن أن يتحرَّكوا معه في الجهاد، وهم يزرعون في قلوبهم اليأس، وهم يرجفون عليهم، ويعملون على إخافتهم، ويعملون على تشكيكهم في صحة الموقف، وحكى الله عنهم حتى فيما يتعلق بغزوة بدر، قال “جلَّ شأنه”: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: الآية49].

وفي المقابل أيضاً إضافةً إلى ذلك، إضافةً إلى ما لدى الأعداء من إمكانيات، وإلى حالة التثبيط والتخذيل، موقف البعض من المؤمنين، من الذين حتى استجابوا، ولكن استجابوا مع حالةٍ من القلق، والاضطراب، والتردد، والجدال، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}[الأنفال: من الآية5]، فالذين انطلقوا، لكن وهم كارهون، وهم غير مقتنعين بالتحرك، ليس لأنه ليس حقاً، هو حقٌ واضح، {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}[الأنفال: من الآية6]، لكنها المخاوف التي طغت على تفكيرهم، وعلى قراراتهم، وعلى رؤيتهم للموضوع؛ فأثَّرت فيهم تأثيراً سلبياً كبيراً.

تحرَّك رسول الله، واستمر، كانت غزوة بدر هي فاتحة الاشتباك الشامل، ما قبلها كان هناك عدة سرايا، ومنذ الشهر السابع في السنة الأولى للهجرة النبوية بدأت حركة السرايا المجاهدة، السرايا العسكرية التي كان يبعثها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، أول سريةٍ تحركت في الشهر السابع من السنة الأولى للهجرة النبوية: سرية حمزة بن عبد المطلب، واستمرت السرايا، واستمرت الغزوات، واستمر العمل الجاد في التصدي للأعداء، ومواجهة كل تلك الأخطار، بتحركٍ نشطٍ جداً من جانب النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، فلم يَخْلُ عامٌ من أعوام الهجرة النبوية من التحرك في السرايا العسكرية، والأنشطة العسكرية، والاهتمامات التي يتصدى بها لكل المخاطر التي كانت تحيط به في المجتمع العربي، ومن خارج المجتمع العربي أيضاً، فيما يتعلق بالروم وغيرهم.

ذلك التحرك النشط كان ترجمةً لتوجيهات الله “سبحانه وتعالى”، واستجابةً عمليةً لها، الله الذي يقول لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله”: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}[النساء: الآية84]، كانت تأتي له تلك التوجيهات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}[الأنفال: من الآية65]، فيستمر في نشاطه، استعداداته، تجهيزاته، ثم في بعث السرايا المجاهدة، ثم في الغزوات الكبرى الرئيسية، كنشاطٍ بارزٍ كان هو من أبرز اهتمامات النبي، ومن أبرز أنشطته العملية، وفي جدول أعماله، في أعماله، في اهتماماته، كان هو من أهم أعماله التي أعطاها الجهد، أعطاها الوقت، أعطاها الاهتمام، تابعها ليلاً ونهاراً، نشط في متابعتها بشكلٍ مكثف.

ولذلك خلال الفترة الوجيزة من السنة الأولى للهجرة، إلى السنة الثامنة، كانت النقلات والمتغيرات كبيرة، وكانت المواقف في التصدي لمختلف الأعداء:

الحروب التي كانت مباشرةً مع العرب.

الحروب التي كانت في التصدي للمشركين من العرب، ومن تحالفوا معه من اليهود.

المواجهات والمعارك والحروب التي كانت في إطار التصدي لليهود وشرهم ومكرهم.

ثم الحرب الكبرى مع الروم، في غزوة مؤتة، وكذلك التحرك الكبير للتصدي لهم في غزوة تبوك.

هكذا كان نشاطه الجهادي، أعماله وهو يجاهد في سبيل الله، وهو يَعُدُّ العدة، وهو يُحَرِّض، كانت عملاً بارزاً جداً في اهتماماته وفي أعماله، جزءاً أساسياً بارزاً واضحاً كبيراً في أعماله واهتماماته “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، فهو سيِّد المجاهدين، وما من أحدٍ كان بمستوى اهتمامه، وتحركه، ونشاطه، وجديته، وإسهامه، وتأثيره في ذلك أبداً، كما هو هو “صلوات الله عليه وعلى آله”، فهو الأبرز اهتماماً، متابعةً، حثاً، ترغيباً، سعياً، تحضيراً… إلى غير ذلك.

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، كان يقول الله له ذلك، والمساحة الواسعة في القرآن الكريم التي تتحدث عن الجهاد، كأبرز فريضةٍ تحدث القرآن عنها بذلك المستوى، فلم يتحدث عن أي فريضةٍ من فرائض الدين في القرآن كما تحدث عن الجهاد، بقدر ما نرى تلك المساحة الواسعة للجهاد في آيات القرآن، في موقعه بين فرائض الله، بقدر ما كانت هذه المساحة موجودةً، حاضرةً في نشاط النبي، في أعماله، في اهتماماته، فبقدر ما حضرت في القرآن، حضرت في واقعه العملي؛ لأنه كان يتحرك على أساس القرآن الكريم، كان يهتدي بالقرآن الكريم، ويهدي بالقرآن الكريم، كان يتَّبع ما في القرآن الكريم، كان يتحرك وفق ما أمره الله به “سبحانه وتعالى”.

وهذا يبين لنا كمسلمين، من خلال حركة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وجهوده العظيمة، والتي أثمرت، وتحققت بها المتغيرات الكبيرة، وصولاً إلى فتح مكة، وما تلاه من متغيرات كبيرة جداً، ومن خلال القرآن الكريم، والمساحة الكبيرة من التوجيهات، والحديث الواسع المتنوع الشامل عن الجهاد في سبيل الله، وعن أعداء الأمة، وعن كيفية التصدي لهم، وعن ميادين المواجهة معهم، وعن عدائيتهم وأنشطتهم السلبية لاستهداف الأمة، ذلك الحديث الواسع بكله، مع ما كان عليه رسول الله، هو كافٍ للأمة لإدراك أهمية فريضة الجهاد في سبيل الله، أولاً: من خلال الاقتداء برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، هو القدوة، هو الأسوة، الله قال لنا في آيات الجهاد نفسها في سورة الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: الآية21]، فكيف إذا افترض الإنسان حالةً من التدين، يلغي فيها هذا الموضوع من أساسه من كل اهتماماته، فلا حديث عنه، ولا استعداد له، ولا تحريض بشأنه، ولا حديث عنه كفريضة من فرائض الله، ولا حديث عن أهميته، ولا بأي شيءٍ يتصل به، كم هي الفجوة بين الإنسان وبين رسول الله في مقام الإتباع والاقتداء والاهتداء؟ وكم هي الفجوة الكبيرة بين الإنسان وبين القرآن عندما يتجه ذلك الاتجاه المنحرف، المتخاذل؟

القرآن الكريم في حديثه الواسع عن الجهاد في سبيل الله تحدث من جوانب كثيرة، وحديثاً شاملاً، وفي مقدِّمة ما تحدث به القرآن الكريم عن الجهاد: أنه ضرورةٌ واقعيةٌ، يلبي حاجةً، ويسد حاجةً يحتاجها الناس، ويحتاجها المؤمنون، لابدَّ منه لهم في واقعهم، الله “جلَّ شأنه” قال في القرآن الكريم: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة: من الآية251].

واقعنا كبشر لا نتوقع فيه أنه سيكون مستقراً، وهادئاً، وسليماً من الظلم، والفساد، والباطل، وواقعاً يسوده الاستقرار، فأتى الجهاد ليخرِّبه، من لديه هذه النظرة فهو إنسانٌ غبيٌ بكل ما تعنيه الكلمة، من يتصور أنَّ واقع الحياة سيكون في الأساس مستقراً، هادئاً، سليماً من الظلم، من الاضطهاد، من القهر، من الإذلال، ويسوده الهدوء، فإنما عندما يأتي الجهاد هو الذي يخرِّب هذا الوضع على الإنسان، ويضيف له مشاكل، ويدخله في مشاكل كان في غناً عنها، ليست المسألة كذلك أبداً.

ظروف حياة البشر، ظروف حياتهم، وجزءٌ أساسيٌ من واقع حياتهم، هو: حالة الصراع، فيها صراعٌ كبير في حياتهم، هناك من البشر من هم أشرار، من هم طغاة، من هم مجرمون، من هم متسلطون، إذا لم توجد حالة الردع، للحد من طغيانهم، من شرهم، من فسادهم، من منكرهم، من باطلهم؛ فكل شرهم، إجرامهم، طغيانهم، فسادهم، ظلمهم، منكرهم، يتجه إلى واقع الحياة، إلى البشر، إلى المجتمعات نفسها، وبدون رادعٍ يردعهم؛ سيتمكنون أكثر من أن يمارسوا الظلم، والإجرام، والشر، بحق الناس أنفسهم، فتفسد حياة الناس في كل شيء، ولا تستقيم الحياة على الأرض، تصبح حياة الناس مهدرة، لا قيمة لها، وكرامتهم مسحوقة، لا اعتبار لها، وحرماتهم مستباحة، فلا حرمة لها، ويصبح كل شيءٍ في الحياة فاسد، لا يستقيم شيءٌ، لا يبقى عدلٌ، لا يبقى خيرٌ، لا يبقى حقٌ، لا يبقى شيءٌ من الصلاح، لابدَّ من الجهاد هو؛ ليكون هو وسيلةً للحد من إجرامهم، من طغيانهم، من فسادهم، لابدَّ أن يكون هناك مسؤولية، يتحرك بها البعض من البشر، من لديهم التوجه المستقيم، الخيِّر، من يتجهون بضمائرهم الإنسانية، بإيمانهم بالله “سبحانه وتعالى”، بقيمهم، بقضاياهم العادلة، للتصدي للظلم والشر والفساد.

وهذه أول مسألة يجب أن نعيها جيداً: أنَّ واقع الحياة فيه صراع، وفيه أشرار، وفيه طغاة، وفيه مجرمون، وأنَّ الجهاد ليس هو الذي أضاف مشكلةً وصراعاً في واقع المجتمع البشري، بل على العكس، هو يأتي لأن دين الله “سبحانه وتعالى” هو نَظْمٌ لشؤون الحياة، وليس إضافةً لأعباء إلى واقع الحياة تمثل مشكلةً فيها؛ إنما هو نَظْمٌ لنفس شؤون الحياة، ففي شؤون حياتنا، في واقع حياتنا تحديات، وأخطار، وشر هناك، وفساد هناك، ومنكر هناك، يُنظِّم لنا القرآن الكريم كيف سنتعامل مع هذا الواقع، وكيف سنتحرك بشكلٍ صحيحٍ وإيجابي للتصدي لتلك المخاطر القائمة في واقع حياتنا، وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن المسلمين في كثيرٍ من مراحلهم التاريخية، ونتيجةً للسياسات السيئة لحكام الجور، وسلاطين الجور، ولعلماء السوء، كانوا قد أُزِيحُوا نهائياً عن مسألة الجهاد في سبيل الله، وعطِّلت هذه الفريضة، وغابت عن وعي الناس، وعن اهتماماتهم، وأصبحت النظرة إليها سلبية.

وفي هذا درسٌ كبيرٌ جداً لأمتنا اليوم: أنَّ المراحل التاريخية التي عَطَّلت فيها فريضة الجهاد في سبيل الله، ونسيتها، وتركتها، وأعرضت عنها، ونظرت إليها نظرةً سيئة، كانت هي أخطر المراحل، وأكبرها نكبات على هذه الأمة، ضعفت الأمة عندما عَطَّلت فريضة الجهاد، ضعفت، وتراجعت قوتها، وفقدت هيبتها، وفقدت حضورها الفاعل في الساحة العالمية، وتجرأ عليها أعداؤها، وطمع فيها أعداؤها، عندما أصبحوا يشاهدونها أمةً ضعيفةً، غابت عنها روح الجهاد، واهتمامات الجهاد، وما يتبع ذلك من إعداد القوة، من الجهوزية لمواجهة التحديات، ومواجهة الأعداء، ومواجهة الأخطار.

فأيُّ قارئٍ يقرأ تاريخ هذه الأمة، ويرى مثلاً عن المراحل التي عانت فيها الأمة من نكبات كبرى، هُوجِمَت فيها من أعدائها من الأمم الأخرى، سواءً من المغول، ومن الصليبيين، وكذلك من الأوروبيين في مراحل لاحقة، سواءً تحت العنوان الاستعماري، أو تحت العنوان الصليبي، وما عانته الأمة من خسائر فادحة، كم قُتِلَ من أبناء الأمة؟ الملايين قُتِلوا من أبناء الأمة بشكلٍ عبثيٍ، في حالة انهيارٍ واستسلامٍ تام، وليس في إطار مواقف صامدة وثابتة، وفي إطار مواقف تثمر نصراً وعزةً للأمة.

في تلك الحالات من حالات التنصل عن الجهاد في سبيل الله، من المراحل التي كانت هذه الفريضة قد ضاعت تماماً من واقع الأمة، ومن اهتمام الأمة، ومن وعي الأمة، ومن ثقافة الأمة، ومن اهتمامات الأمة، أتت تلك النكبات الكبرى، التي قُتِلَ فيها الملايين من أبناء الأمة، واحتُلَّت فيها الأوطان، وانتُهِكَت فيها الأعراض، كان الصليبيون يحملون آلاف النساء المسلمات بعد سبيهن، ويرحلون بهن إلى أوروبا، يأخذوهن سبايا، وكانوا يقتلون المسلمين قتلاً ذريعاً، وغيرهم كذلك، انتهكت الأعراض، واحتلت الأوطان، نهبت الممتلكات، والثروات، والمقدرات، امتلأت حياة المسلمين ظلماً وجوراً، ودخلوا في معاناة كبيرة جداً، في الأخير كانوا يقتنعون أنه: [لابدَّ من التحرك، لابدَّ من القتال، لابدَّ من الثورة، لابدَّ…]، لكن متى؟ بعد خسائر فادحة جداً، بعد أن يتمكَّن العدو، بعد أن يشملهم الذلة، والهوان، والقهر، والضيم، بعد أن يتكبَّدوا خسائر فادحة جداً جداً وهم في حالة الاستسلام.

الكوارث الكبيرة التي مرَّت بها أمتنا الإسلامية على مرِّ التاريخ؛ نتيجةً لتعطيل فريضة الجهاد، وإخراجها من حيِّز اهتمامات الأمة، ومن وعيها بالكامل، وصولاً إلى هذا العصر، الذي دخلت فيه الأمة في مواجهة تحديات كبيرة وواضحة، وأصبحت الأمة أمام التزامات، التزامات بكل الاعتبار: التزامات إنسانية، وأخلاقية، وإيمانية، وقومية، ودينية، تجاهها، مثلما هو الحال فيما يتعلق بفلسطين.

على كلٍّ فالأمة قد جرَّبت تعطيل هذه الفريضة، وجرَّبت النتائج، وجرَّبت أيام كانت تهتم بهذه الفريضة، وكيف كانت الثمرة أيضاً والنتائج، فهذه المسألة مسألة واقعية.

ولذلك نلحظ مثلاً في واقع الغرب، في واقع الغرب هناك اهتمامٌ كبيرٌ جداً فيما يتعلق بهذه المسألة، وفي بقية أمم الأرض، ما يتعلق بأن يكونوا أمةً قويةً، لديها اهتمامات عسكرية، تمتلك كل عناصر القوة، تتمكن من حماية نفسها، وليس فقط عند هذا المستوى، اتجهوا في طموحات بعيدة: كيف يمتلكون القوة للسيطرة على الآخرين، للحد من أي تهديدٍ محتملٍ، ولو بنسبةٍ ضئيلةٍ يهددهم، فتقدَّموا كثيراً، بعيداً عن مسألة الجهاد، لم يحتاجوا حتى إلى عنوان الجهاد، وفريضة الجهاد، وأن تكون مسألةً من التزاماتهم الإيمانية والدينية، عندهم اهتمام تلقائي، بدافع الفطرة البشرية، وأكثر من ذلك: دخلت بالنسبة لهم الأطماع، والأهواء، والرغبات، والنزوة الاستعمارية؛ فاندفعوا بكل اهتمام، وعلى نحوٍ واسعٍ وكبير لكي يمتلكوا القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوة الإعلامية، والنفوذ السياسي، والتأثير الواسع، وأن يتجهوا بكل ذلك لتحقيق مصالحهم، وأطماعهم، وأهدافهم، وعلى حساب أمتنا، لسحق أمتنا التي يطمعون فيها، التي أصبحت أمةً يطمع فيها أعداؤها.

نجد المثال لذلك فيما يتعلق مثلاً بالأحداث الأخيرة في أوكرانيا، عندما تكون المعركة معركةً لصالح أمريكا، وأمريكا طرفٌ فيها، يكون مستوى الاستنفار لتلك المعركة على أكبر مستوى، الحرب النفسية الشرسة، الحملات الدعائية الهائلة، التحريض الكبير، النفير العام، التوظيف لكل القدرات، والطاقات، والإمكانات، في المواجهة، وكل تلك الأشياء التي يعظون بها المسلمين ليتركوا فلسطين، وليتنازلوا عن أوطانهم، وعن مقدساتهم، وعن حقوقهم، وعن استقلالهم، تحت عنوان السلام، والوَدَاعَة… وتلك العناوين، وأن يكون الإنسان حضارياً، لا يمتلك سلاحاً، ولا يمتلك قوةً، وكل الوسائل والسياسات التدجينية التي يتجهون بها إلى داخل أمتنا، تغيب تماماً عندما تكون المعركة من أجل أمريكا، ومصلحة أمريكا.

ففي أوروبا، وفي أوكرانيا، لم يأت كل هذا الطرح، الذي يعبِّر عن حالات التدجين، ويعظ بالسلام، والهدوء، والاستقرار، وضبط النفس، وترك السلاح… وكل تلك العناوين، التي لا يعظون بها إلَّا المسلمين، كل هذه العناوين ضاعت تماماً، الحرب العسكرية على أشدها، والتحشيد العسكري، والتحريض للكل أن يقاتلوا، حتى العجائز! حتى العجائز! يحرِّضون العجائز في أوكرانيا أن تقاتل ضد روسيا لمصلحة أمريكا؛ لأن المعركة معركة لمصلحة أمريكا، وغابت المسائل الأخرى التي يكلموننا بها كمسلمين، فلا مشكلة تجنيد الأطفال، ولا مشكلة تجنيد النساء، ولا مشكلة في أي شيء، بل أصبح هناك كل شيء مطلوباً في تفعيله في الصراع.

المقاطعة فُعِّلَت في كل شيء، حتى في الرياضة، فعَّلوا المقاطعة مثلاً ضد روسيا حتى في الرياضة، مقاطعة في كل الأمور، الأمور الاقتصادية، مقاطعة سياسية، مقاطعة حتى في الأمور الرياضية، حتى في الحركة الاقتصادية في كل تفاصيلها.

فعَّلوا الهجمة الإعلامية الدعائية والتحريضية، تحريضية بشكل واسع، وبشكل مستمر، وليلاً ونهاراً، وبشكل مكثف جداً، دعوا الناس للتطوع للقتال، وحرَّضوهم على ذلك من كل أوروبا، ومن أي بلدٍ آخر، لا مشكلة عندهم في ذلك، وتوجههم للمعركة وللحرب الشرسة في كل وسائلها وأساليبها إلى أشد مستوى.

كل تلك الأشياء التي يعظون بها المسلمين ليستسلموا، وليسلِّموا الأوطان والمقدَّسات، ويتنازلوا عن حقوقهم المشروعة… وما إلى ذلك، غابت تماماً هناك، لماذا؟ هذه مسألة عادية في الواقع، لكن علينا أن نأخذ العبرة نحن كمسلمين، كمسلمين.

حتى في واقعنا كمسلمين، لاحظوا الذين انضموا إلى صف أمريكا، من الموالين لها ولإسرائيل، كما هو حال النظام الإماراتي، ونظام آل خليفة في البحرين، والنظام السعودي، وتحت عنوان السلام طبَّعوا مع إسرائيل، أظهروا ما كانوا يخفونه من علاقتهم وروابطهم، وتعاونهم مع العدو الصهيوني الإسرائيلي، كل هذا تحت عنوان السلام، أنهم يريدون السلام، لا يريدون الحروب، لا يريدون المشاكل، يريدون الاستقرار والسلام في المنطقة، وفي واقع الحال كيف هم تجاه الآخرين، خارج ما هو محسوب لصالح أمريكا وإسرائيل، هل هم هكذا: قومٌ يريدون السلام، يحرصون على السلام؟! إلى درجة أنه لا مشكلة في أن يضحى بكل شيءٍ من أجل السلام: بالكرامة، والدين، والالتزامات الأخلاقية، والمقدسات، والأوطان… وكل شيء، هذا فقط إذا كان لإسرائيل ومن أجل أمريكا فقط.

أمَّا تجاه الآخرين، فيظهرون متوحشين، ليس عندهم أي اهتمامٍ بأمر السلام، يظهرون عدوانيين إلى أشد مستوى من العدوانية، يظهرون مجرمين، متسلطين، لا يريدون سلاماً، لا يريدون استقراراً، ولا يهمهم ذلك أبداً، يدعمون الحروب، وينشئون الحرب، ويشاركون في الحروب، ويتزعمون حروباً، يدفعون في كل ما من شأنه أن يثير الفتن، يموِّلون الفتن في أوساط الأمة، يحاولون أن يحرِّكوا الشر إلى أقصى حد، ويقدِّمون المال من أجل ذلك، والإعلام لدعم ذلك، والنفوذ السياسي لإسناد ذلك، يتحركون في كل الاتجاهات من أجل ذلك كله.

هكذا هم في اليمن، هكذا هم ظهروا عدوانيين تجاه كل من يعادي إسرائيل ويتصدى لخطر إسرائيل، من أبناء الإسلام والمسلمين، من المنطقة العربية، من شعوب أمتنا، ظهروا سيئين، وظهر إعلامهم سيئاً وعدائياً حتى تجاه المجاهدين في فلسطين، ووصَّفوهم بالإرهاب، وقاطعوهم، وحاصروهم، يحاربونهم بأشكال من المحاربة الإعلامية، والاقتصادية… وغيرها.

فظهروا عدوانيين جداً، وتوجههم العدائي نحو الحرب، نحو تمويل الفتن، نحو القتل، نحو ارتكاب أبشع الجرائم، كما عملوا في بلدنا، في مقابل أنهم يُظهِرون السلام السلام السلام السلام، لكن هذا كله فقط لإسرائيل، لأمريكا؛ أمَّا تجاه شعوب أمتهم، فالحاضر في سلوكهم، في إعلامهم، في مؤامراتهم، في مواقفهم، فيما يدفعونه من أموال: هو الشر، هو الجريمة، هو العدوان، هو الطغيان، وليسوا بأي شكلٍ من الأشكال في وارد السلام، ولا قيمة عندهم ولا أهمية لمسألة السلام؛ إنما جعلوا منه عنواناً للعمالة، ولأن يقفوا في صف أعداء الأمة، ولأن يتآمروا على هذه الأمة، وعلى أبناء هذه الأمة.

في ظل هذه التحديات المعاصرة، والتي نرى فيها الاستهداف لنا كشعوب، الاستهداف لنا كأمة، الاستهداف لمقدساتنا، في كل يوم هناك اقتحام للمسجد الأقصى، واعتداء على المصلين، ألَّا يبين هذا عدوانية العدو الإسرائيلي، وعداءه حتى للدين الإسلام، ولمقدسات الدين الإسلامي، ولشعائر الدين الإسلامي؟! اعتداء على المصلين في مقدسٍ من مقدسات المسلمين، وهو المسجد الأقصى، بشكلٍ يومي، ماذا يعنيه ذلك؟

أننا أمة في واقع الحال في حال صراع، في حالة مواجهة، وهناك أعداء يستهدفوننا في كل شيء: يستهدفوننا في ديننا، في مقدساتنا، في استقلالنا، في كرامتنا… في كل أمورنا، يخوضون الحرب ضدنا بشكل مؤامرات متنوعة، لها أشكالها في كل مجال، هذا يعني: أنَّ علينا أن نتحرك بروحيةٍ إيمانيةٍ، وأن نعي أنَّ الله جعل الجهاد في سبيله وسيلةً لحماية الناس، ولرعايتهم، هو جزءٌ من دينهم، الذي هو رعايةٌ لهم، نظمٌ لشؤون حياتهم، وسيلةٌ لدفع الشر عنهم، هكذا هو.

وهذه الثقافة الواعية، هي ثقافة الشهيد الصمَّاد “رحمة الله تغشاه”، ونحن اليوم في ذكراه، في ذكرى شهادته، هو حمل هذا الوعي، هذه الروح الإيمانية والجهادية: يعي أنَّ الدين هو لمصلحة الناس، لرعاية الناس، لدفع الشر عن الناس، يعي أنَّ خدمة شعبه، والدفاع عن شعبه، ودفع الشر عن شعبه، والتصدي للمعتدين الذين يعتدون على شعبه، والاهتمام بأمور شعبه، هو جزءٌ من التزاماته الإيمانية والدينية، يتقرَّب بذلك إلى الله “سبحانه وتعالى”؛ فحمل روح التضحية، وحمل الشعور بالمسؤولية، واتجه من موقعه في المسؤولية ليضحي، لا ليجهز لنفسه أرصدةً مالية، أو مكاسب شخصية، أو مغانم- كذلك- يستفيدها من موقعه في المسؤولية، جعل من كل جهده، ومن موقعه، نفسه منطلقاً للتضحية، والعطاء، والفداء، وبذل جهده بكل إخلاص لخدمة هذا الشعب، للدفاع عن كرامة هذا الشعب، لمواجهة أعداء هذا الشعب المعتدين عليه بغير حق، وكان ثابتاً، صامداً على ذلك، ووفياً لهذه المبادئ، لهذه القيم، فلقي الله شهيداً، سعيداً، نقياً، نزيهاً، لم يلوث نفسه في موقعه في المسؤولية، لا بمظالم، ولا بأطماع، ولا بفسادٍ مالي، ولا بمغانم ومكاسب على حساب هذا الشعب، ومن حق هذا الشعب، فكان نموذجاً متميزاً في ذلك كله.

عندما يحمل الإنسان هذه الثقافة الواعية، وهذه الروح الإيمانية؛ سينطلق بكل جد، وهو يرى في خدمة شعبه، في الدفاع عن أمته، عن مقدساته، عن كرامة شعبه، في مواجهة الأشرار، في التصدي للطغاة، لأعداء الأمة، يرى في ذلك قربةً إلى الله “سبحانه وتعالى”، وجزءً من التزامه الإيماني والديني، وينطلق وهو يعي أهمية هذه المسألة في واقع الحياة، أنها هي الطريقة الصحيحة، هي الطريقة السليمة، هي الطريقة التي توصلنا إلى نتيجة.

في فلسطين كم بقي العرب يفاوضون، يحاورون، يقدِّمون التنازلات، لم يصلوا إلى نتيجة، في غزة ما الذي حقق نتيجةً هناك؟ هو: الجهاد، في لبنان ما الذي حقق نتيجةً عظيمة ومميزة؟ هو الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” على نحوٍ واعٍ، والأعداء هم يعون هذه الحقيقة؛ ولذلك هم يبذلون كل جهد لاحتواء مسألة الجهاد، إمَّا بتشويهها، وإزاحتها من اهتمامات الكثير من أبناء الأمة، وإمَّا بتفعيلها واستغلالها لمصلحتهم؛ فيحرِّكون التكفيريين، هم دائماً (التكفيريين) من يتحركون تحت عنوان الجهاد لخدمة أمريكا وإسرائيل، وفي أي اتجاهٍ تريده أمريكا، في المعركة التي تريدها، يحرِّكون هذا العنوان، لتوظيفه لخدمة أمريكا وإسرائيل، فيأتون مثلاً بالعناوين الفتنوية بين أوساط الأمة، ليبنوا عليها مسألة التكفير، ثم عنوان الجهاد، والقصة في نهاية المطاف قتالٌ من أجل أمريكا وإسرائيل، تحت صف السعودي، أو الإماراتي، هو الغطاء والممول؛ أمَّا من وراءه، فهو الأمريكي، والبريطاني، والإسرائيلي، هذه حقائق واضحة.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛

المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ 2022 م
نشر في أبريل 17, 2022
 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

لا يزال الحديث على ضوء قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة: من الآية2].

تحدثنا بالأمس كيف أنَّ الإسلام دينٌ جامع، يبني الأمة، ويجمعها، ويَنظِم حركتها، ويؤسس حالة التعاون بين أبنائها، حالة التعاون التي لابدَّ منها في واقع المجتمع البشري؛ لتستقيم بها شؤون حياة البشر، فالإسلام كما حتى في الجانب الروحي والشعائر الدينية، نظَّم حالة الأداء الجماعي لها، كصلاة الجماعة، كفريضة الحج وشعائر الحج والعمرة… وغير ذلك من الشعائر التي يجمع الأمة عليها في زمنٍ واحد، كصيام شهر رمضان، وأداءٍ واحد، وأداءٍ تعاونيٍ، يساعد الجميع في أداء مسؤوليتهم، وبذلك تتظافر الجهود، تتكامل المواهب والقدرات، فيتبارك الجهد والعطاء والأثر، وتكون النتيجة نتيجةً مهمةً، وعظيمةً، وكبيرة.

كذلك في المسؤوليات، المسؤوليات الدينية، والالتزامات الدينية الجماعية، كالجهاد في سبيل الله، كفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالإنفاق في سبيل الله، مسؤوليات تعتمد بشكلٍ كبير على التعاون، على الأداء الجماعي، على التحرك من الجميع كأمةٍ واحدة، وهذا له أهميته الكبيرة في أثره العظيم على مستوى النفوس، على مستوى الواقع العام للمجتمع، عندما يصبح واقعاً يسوده التعاون، والألفة، والاجتماع على الخير، على البر، على التقوى، على ما فيه المصلحة الحقيقية للمجتمع، على ما يسهم في تزكية النفوس، وتقويم الأعمال، وتصحيح السلوك لدى المجتمع، فيكون لذلك الأثر المبارك في نفس الإنسان على المستوى الشخصي، نفس المجتمع على المستوى المجتمعي، ثم كذلك في واقع الحياة، ثم أكثر من ذلك: في المستقبل الأبدي العظيم في الآخرة.

في القرآن الكريم يأتي الحديث عن البر، عندما قال الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وأمَّا الحديث عن التقوى، فهو كذلك في مساحة واسعة من القرآن الكريم، في البر الذي يعني: أن يجمع الإنسان الخير، وأن يتسع فيه، وأن يتجاوز ذاته في عطائه، في اهتماماته العملية، في أعماله، وأن يتجه على نحوٍ متكامل، لا ينحصر في اهتماماته واتجاهاته على جوانب معينة، منبعها مزاج النفس، أهواء النفس، رغبات النفس، بل يتجه على نحوٍ واسع وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ساعياً نحو التكامل، نحو أن يجمع الخير، وأن يجمع الفعل الحسن، وأن يجمع كل ما فيه الإحسان والنفع والخير، فأن يتكامل في ذلك، وأن يتجه فيه على النحو الذي أراده الله “سبحانه وتعالى”، فيما وجَّه به، وأمر به، وأرشد إليه.

 

يقول الله “سبحانه وتعالى” في آيةٍ مهمةٍ في القرآن الكريم تتحدث لنا عن البر، وتقدم لنا التعريف المهم وفق عناوين جامعة، تدل على ما وراءها: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}[البقرة: من الآية177]، قبل أن يقدِّم العناوين المعبِّرة عن البر، ابتدأ لمعالجة مشكلة تطرأ لدى الكثير من الناس، وهي: أنهم يسعون إلى أن يحددوا هم لأنفسهم وفق رغباتهم، ووفق مزاجهم الشخصي، اهتماماتهم فيما يتعلق بجانب البر، والخير، والإحسان، والعمل الصالح، وأن يحددوا لأنفسهم الأولوية في ذلك، في نطاقٍ محدد، في اهتمامات بسيطة، على حسب المزاج الشخصي، وعلى حسب هوى النفس، وهذه سلبية خطيرة لدى الإنسان، فقد يتجه الإنسان في اهتمامه بهذه الأمور على نحوٍ شكلي، يقتصر على بعض الأمور، ويترك الأهم، ويترك ما لابدَّ منه في أن تكون من الأبرار، وفي أن تكون ممن يعملون البر، ممن يقدِّمون البر، ممن لديهم اهتمامات بالبر على المستوى الشخصي، ثم أيضاً على مستوى التعاون على ذلك، وهذا قد يجعل البعض لا يتفاعلون مع كثيرٍ من البر، من أهم موارد البر، من أهم مجالات البر، التي قد تكون كثيرٌ منها في حدود الواجب، واللازم، والذي لابدَّ منه في أن تتحقق لك هذه المواصفات المهمة والعظيمة؛ لكي تكون من أولياء الله، من الأبرار، من ذوي البر، فقد لا يتفاعلون مع الكثير من الأمور، وقد يتجهون- كما قلنا- وفق اهتمامات بسيطة فصلوها هم تفصيلاً وفق مزاجهم الشخصي، وليس على أساس إرشاد الله، هدي الله، تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، ما يدلنا عليه، ما يرغِّبنا فيه.

فالله “سبحانه وتعالى” يعالج لدينا هذه المشكلة، والتي هي حالة قائمة لدى الكثير من الناس، تراهم يظهرون بمظهر المتدين، الصالح، العابد، ولكن عندما تأتي إلى اهتماماته، تجدها منحصرةً مثلاً في الجانب العبادي، على ما يقولون في التعبير العامي [من بيتك إلى مسجدك، وما لك حاجة]، تقتصر اهتماماته على مثلاً الحضور للصلاة في المسجد، والمسبحة في يده، ويعود إلى منزله، ذهاباً وإياباً للفرائض، ثم هو ذلك الذي يتنصل عن كل الالتزامات، وعن العطاء في مقام العطاء الذي أمر الله به، عن الاهتمام بالمسؤوليات الإيمانية والدينية، لا يتفاعل مهما كان حجم المستجدات والأحداث، مهما كانت الظروف والمتغيرات، مهما كانت الوقائع، والمحن، والظروف، التي تستوجب من كل إنسان، بل وتُحَرِّك ضمير كل إنسانٍ لا يزال ضميره حياً، فيتفاعل، ويتأثر، ويبادر؛ لأنه يجد نفسه حتى على مستوى مشاعره مندفعاً لفعل الخير، للتفاعل، لتقديم ما ينبغي أن يقدِّم، للإسهام بما ينبغي أن يسهم فيه.

فهذه الحالة التي يركِّز الإنسان فيها على جوانب شكلية في دين الله، في اهتماماته العملية، يقتصر عليها، يتجه اهتمامه نحوها، هي الحالة التي يوجِّه الله “سبحانه وتعالى” بالحذر منها، وأنها ليست عنواناً للبر كما هو، في حقيقته، في مفهومه الواسع، مفهومه الكامل، مفهومه الصحيح، بل هي حالة اجتزاء فُصِّلَت وفق هوى النفس.

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}[البقرة: من الآية177]، فيتجه كل اهتمامكم نحو القبلة، نحو الصلاة، بتلك الشكلية، بتلك الطريقة التي تجعل من الموضوع قد أخذ كل الاهتمام، تجعل منه الموضوع الرئيسي، الذي ينحصر نحوه الاهتمام، لا في هذا ولا في غيره، لا في هذا ولا في غيره، هذا نموذج يقدمه القرآن، عادةً ما يقدم نموذجاً معيناً، وهو- في نفس الوقت- يفيدنا تجاه غيره من بقية الأمور والمسائل، التي هي على نفس النسق، على نفس الطريقة، على نفس الاتجاه، الذي ليس اتجاهاً صحيحاً يرضي الله “سبحانه وتعالى”.

فالأسلوب المتحايل، أحياناً يكون بطريقة التحايل، البعض يتصور أنه قد أحكم الخطة حتى ما بينه وبين الله، سيرضي الله ذلك الشيء المعين، الذي قد اقتصر على الاهتمام به، وسيجعله على حساب بقية الأشياء، فيبرر عدم اهتمامه ببقية الأشياء، باهتمامه بذلك الشيء، مع أنَّ الدين لا يتعارض فيما بينه، يمكنك أن تعتني بصلاتك، وأن تقيمها، وأن تهتم بها، وأن تهتم بالمسجد، ولكن لا يعني ذلك أن تتنصَّل عن بقية التزاماتك واهتماماتك العملية الأخرى، أو أن تجعل شيئاً على حساب شيءٍ آخر، وبديلاً عن شيءٍ آخر، وكأن الدين يتناقض فيما بينه، وكأن الالتزامات الإيمانية متناقضة فيما بينها، تؤدي هذا، فتجعل أداءه مبرراً لترك ذلك، هذا غير مقبول في دين الله “سبحانه وتعالى”.

فالأسلوب المتحايل والقاصر في تحديد البر، في تحديد أولوياته، مثلاً: البعض قد يركِّز على أن يعتمر في شهر رمضان في كل موسم، ويجمع ماله كله لذلك، ويترك- في نفس الوقت- التزامات ذات أهمية كبيرة جدًّا، كثيرٌ منها تدخل ضمن الالتزامات الأساسية الإيمانية، فالإنسان يركز في مستوى الأولويات على الالتزامات الإيمانية الأهم، وما لحقه بعد ذلك فجيد، فطيب، فخيرٌ وبر، وما لم يصل إليه من بقية الأمور، بعضهم يركِّز على مستحبات، على مندوبات، على مسنونات، ويترك ما هو أهم، وأقدم، وألزم، وأعظم، وأكبر، تحدث عنه القرآن كثيراً، أمر الله به كثيراً، فيتجاهله؛ لأنه يرى في الذي قد اتجه باهتمامه إليه بديلاً عن ذلك بكله، وبديلاً مريحاً، أعجبه، ناسبه، وفق رغبته الشخصية، هذه خطيرة على الإنسان.

{وَلَكِنَّ الْبِرَّ}، بعد أن يقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}، فالعنوان الأول للبر هو الإيمان، هو الإيمان؛ لأنه المبدأ والأساس الذي يمثل المنطلق والدافع، الذي تنطلق في واقع الحياة فيما تعمل، وفيما تقدِّم، وفيما تفعل، وفيما تؤتي، على أساسه، انطلاقةً إيمانية، الدافع فيها دافعٌ إيمانيٌ؛ لأن البعض مثلاً قد يندفع بدوافع أخرى، فَيُقَدِّم ما يقدم تحت عنوان البر والإحسان والخير، لكن يقدمه مثلاً بدافع الرياء، أو بدافعٍ ماديٍ، بدافع السمعة، أو بدافع المكاسب المادية، أو بدافع ليغطي على أشياء سلبية أخرى، أو ليحقق مطالب أو أهداف سياسية، أو مكاسب شخصية أخرى.

حتى البعض مثلاً ممن يتاجرون في المحرمات، يأتي أحياناً ليقدم شيئاً من الأموال، ويظهر نفسه أمام محيطه المجتمعي وكأنه كريم، كأنه معطاء؛ ليكتسب عاطفتهم، وليكتسب مودتهم ومحبتهم، وليوفر له- وقت الحاجة- التعاطف الاجتماعي، عندما يواجه مشكلةً معينة، نتيجةً لاتجاهه في الإتجار بالمحرمات وما شاكل، يواجه مشكلةً من هنا، ومشكلةً من هناك، فإذا به يحظى بالتعاطف المجتمعي؛ لأنه كان- في ظاهر الحال- محسناً إليهم، كريماً، يقدِّم لهم البر، يحسن إليهم، فيحظى بالتعاطف، هو أراد ذلك منذ البداية، وهم يتجهون- فعلاً- بتعاطف معه.

والبعض في إطار المكاسب السياسية، والبعض في إطار الأهداف التي هي أهداف شيطانية، كمثل عمل المنظمات، لديها أهداف شيطانية من وراء ما تقدم، لا تقدم على أساس فعل خيرٍ، وبرٍ، وقربةٍ إلى الله، بدافعٍ خيِّر، بدافعٍ إيماني.

ولذلك فالقرآن الكريم في مسألة البر يرسم لنا في العنوان الأول، ما يكون هو المنطلق لفعل البر، لعمل البر، فيمثل الدافع النظيف، الدافع السليم، البر لابدَّ أن يكون له- في بادئ الأمر وفي واقع الحال- داخل النفس منطلقاً سليماً، منطلقاً صالحاً، منطلقاً يمثل براً، إذا كان ما وراء ما يقدمه الإنسان دوافع سيئة، دوافع غير مشروعة، لا ترضي الله “سبحانه وتعالى”، دوافع سلبية، دوافع معينة غير إيمانية، ولا بارة، ولا صالحة، فلنيته، لمقصده، لدوافعه، تأثيرٌ سيئ تجاه ما يقدِّم، فالبر يجب أن يكون بدايةً في نفسك، في مشاعرك، في دوافعك، في اتجاهك وأنت ترسم لنفسك أهدافاً معينة، ما الذي تريده من وراء ما تقدم، من وراء ما تعمل، من وراء ما تساهم به؟

الإنسان إذا كان يساهم، ويقدِّم، ويتعاون في البر، ولكن ليس من منطلقٍ إيماني، سيرتب على ذلك استحقاقات، مطالب، أهداف، ثم تمثل هي- بحد ذاتها- مشكلةً في أسلوبه فيما بعد؛ لأنه يرى فيها وسيلةً لأهداف شخصية، لمصالح شخصية، يريد في مقابلها المقابل من الناس، المقابل من الناس، وقد يكون المقابل الذي يريده من الناس سيئاً، أو سلبياً، تأثيراته سيئة، أو استغلالياً، على حساب ما هو حق، ما هو خير، لمصلحة شخصية فحسب؛ فلذلك فالإنسان في اتجاهاته العملية، يجب أن يكون منطلقه منطلقاً إيمانياً، أن يكون مبدؤه وتكون دوافعه إيمانية، ينطلق من منطلقٍ إيماني، بدوافع إيمانية.

الإيمان بنفسه يجب أن يكون دائرةً مكتملة، الإيمان بالله “سبحانه وتعالى” بما له من أثرٍ في نفسك، في رجائك نحو الله “سبحانه وتعالى”، ترجو الله، ما تبتغيه من وراء ما تعمل، وما تريده، وما ترجوه، وما تأمله، ترجوه من الله “سبحانه وتعالى”، تأمله من الله، وجهتك فيما تعمل: الله، ورضوانه “سبحانه وتعالى”.

خوفك من التقصير، خوفك من المعاصي فيما عليها من عقوبة، هو جانبٌ أساسيٌ من إيمانك بالله “سبحانه وتعالى”، فأنت تخشى الله إن فرَّطت، إن عصيت، إن قصَّرت، إن ارتكبت الحرام، فيمثل هذا دافعاً في فعل ما يقيك من عذاب الله، وفي تجنب ما يسبب لك سخط الله “سبحانه وتعالى”، فله أثره ابتداءً في أن تبادر لفعل البر، وأن يكون ما تفعله من البر، وما تقدِّمه من البر، بنيةٍ صالحة، بدافعٍ نظيف، بدافعٍ سليم، بدافعٍ عظيم، بدافعٍ خيِّر، الخير في نفسك، البر في نفسك، فكان عطاؤك وفعلك امتداداً له، ونتاجاً له، وثمرةً عنه.

الإيمان بالله “سبحانه وتعالى” الذي يرسِّخ فينا المحبة لله، فننطلق فيما نعمل، وفيما نقدِّم، وفيما نعطي، فيما نسهم فيه، وفيما نفعله على المستوى الشخصي، وعلى المستوى التعاوني، نفعله، ونقدِّمه، ونؤتيه، نعطيه برغبة، برغبة المحب، والعظيم حبه لله، الشديد حبه لله “سبحانه وتعالى”.

عندما يكون الإنسان عظيم المحبة لله، قوي المحبة لله، شديد المحبة لله؛ سيتوفر لديه الدافع الكبير، الذي يجعله يقدِّم ما يقدِّم برغبة، وليس عن طريق القسر للنفس، وبصعوبة، وبتضجر، وكأنه يزهق روحه ويخرجها من بدنه.

{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}[البقرة: من الآية177]، اليوم الآخر فيما يتعلق بإيمانك بالحساب، والجزاء، ووعد الله ووعيده “سبحانه وتعالى”، له أهميةٌ كبيرةٌ جدًّا كدافعٍ مهم، دافعٍ قوي.

ما الذي يعالج حالة البرودة، والتكاسل، والتثاقل لدى البعض، وعدم التفاعل لدى البعض في فعل البر، في تقديم البر، في الإسهام في البر، في التعاون على البر والتقوى، عندما يأتي الحث لهم، عندما يُعرَض عليهم شيءٌ من البر والتقوى، فلا يتفاعلون، تجدهم يتكاسلون، يتهرَّبون؟! هو ضعف الإيمان، ضعف الإيمان بالله، وضعف الإيمان باليوم الآخر، ضعف الإيمان بوعد الله ووعيده، ضعف الإيمان بالجزاء، وإلَّا فالجزاء فيما نقدِّم، هو بالشكل الذي يرغِّبنا جدًّا؛ لأنك تقدِّم ما تقدِّم ولا تعتبره مغرماً، ولا خسارةً، ولا نقصاً، أنت تدرك أنك تقدِّم لنفسك لتحظى بما هو أفضل، بما هو أعظم، بما هو أكثر، بما هو أدوم، بما هو أبقى، بما هو أحسن، فلا يمثِّل بالنسبة لك لا نقصاً ولا خسارة.

فما الذي يجعل الإنسان لو كان فعلاً يؤمن بذلك، يثق بوعد الله له في أنه سيخلف له ما أنفق، لو كان يؤمن بقول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}[الحديد: من الآية11]، لو كان يؤمن بقول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: من الآية39]، لو كان يؤمن بالآيات الأخرى الكثيرة والكثيرة جدًّا، التي تضمَّنت وعداً قاطعاً مؤكَّداً من الله “سبحانه وتعالى”، الذي لا يخلف وعده، ولا أوفى منه بعهده، لو كان يؤمن أليس سيبادر؟ سيستجيب؟ لأن الذي جعله يتكاسل، هو: اعتبار ما يقدِّمه نقصاً عليه وخسارةً، هذا هو ما في ذات نفسه، في أعماق نفسه، فيؤثِّر عليه، ويثبِّطه، ويؤخِّره عن العطاء وعن البر.

فالإيمان بالجزاء، وأنك أيضاً ستعاقب عندما تفرِّط بالتزاماتك الإيمانية فيما عليك أن تقدِّم، ستعاقب، وستخسر الخسارة الحقيقية، أليس ذلك سيمثل دافعاً، ودافعاً نظيفاً في نفس الوقت، نظيفاً، دافعاً إيمانياً صالحاً؟

{وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ}[البقرة: من الآية177]، الإيمان بالملائكة وفق ما ذكره الله عنهم في كتابه الكريم، وفق أدوارهم ومسؤولياتهم ومهامهم التي ذكرها الله في القرآن الكريم، وهي واسعة، فيما له صلة بشؤون الإنسان: بحفظ الإنسان، برصد أعمال الإنسان، بالوقوف مع المؤمنين في تثبيت المؤمنين، في رفع معنويات المؤمنين، فيما له علاقة بالجوانب الأخرى، وفق ما ذكره الله في القرآن الكريم في ولايتهم ما بينهم وبين المؤمنين: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}[فصلت: من الآية31]، في رفقتهم مع عباد الله المؤمنين، وأثرهم الطيِّب المعنوي المساند للإنسان المؤمن، وهو يتجه وفق توجيهات الله، وتعليمات الله، وينهض بمسؤولياته والتزاماته الإيمانية ابتغاء مرضاة الله، له أهمية، له أهمية في مجالات ذات أهمية كبيرة: تساعد الإنسان على الثبات، تساعد الإنسان على الاطمئنان، تساعد الإنسان على الشعور بأنه ليس وحده في ميدان العمل.

{وَالْكِتَابِ}[البقرة: من الآية177]، الإيمان بكل كتب الله، الإيمان بامتداد هدى الله، الإيمان بأنَّ الله لم يهمل عباده، وأنَّ مسيرة الهداية الإلهية امتدت منذ آدم “عليه السلام”، وتستمر في الواقع البشري وفق سنَّة الله في هداية عباده بكتبه وأنبيائه.

الإيمان بكل كتب الله، وليس ببعضٍ منها، كما يفعله اليهود، مع أنهم حتى البعض الذي يزعمون أنهم آمنوا به، هم حرَّفوه، وكفروا بالكثير منه، وأضاعوا الكثير منه، وانقلبوا على ما بقي منه، كما هو حال النصارى أيضاً في الانقلاب على التعليمات الإلهية، وفيما تورَّطوا فيه من التحريف والضياع.

إيمان الإنسان بكتب الله بكلها، والقرآن العظيم، الذي هو خلاصتها، والمهيمن عليها، والمصدِّق لها، وإيمانك به يجب أن يكون أيضاً إيماناً بها بكلها، ثم هو ما يعبِّر عنها، وهو خلاصتها، وأنت عندما ترجع إلى القرآن الكريم، أنت تصل إلى الهداية الإلهية التي أتت بها كتب الله، وختم الله بها القرآن الكريم الأوسع، والأشمل، والمصدِّق، والمهيمن، كما ذكره عنه في القرآن الكريم.

عندما تعود إلى القرآن، أليس سيدفع بك إلى العمل، إلى البر؟ يعطيك أولاً ما يفيدك في تصحيح نواياك ودوافعك، ثم يرشدك على مستوى الأداء العملي على النحو الصحيح، يهديك للعمل، يرغِّبك فيه، ينبِّهك على أهميته لك، على فوائده لك، نتائجه لك… إلى غير ذلك، ما ينتج وما يترتب على تفريطك، على عدم اهتمامك، على تقصيرك، على تهرُّبك مما فيه الخير لك، وهكذا يمثل سنداً عظيماً، ونوراً مرشداً، يقدِّم لك البصيرة الكافية، والدافع العظيم في نفس الوقت.

{وَالنَّبِيِّينَ}[البقرة: من الآية177]، الإيمان بأنبياء الله بكلهم، بكل أنبياء الله، الإيمان الإجمالي، والإيمان بمن ذكر الله لنا أسماءهم في القرآن الكريم، والإيمان الإجمالي بكل أنبياء الله ورسله، وهو إيمانٌ بوحدة المسيرة الإيمانية والدينية، أنها ممتدة، تصلك بأنبياء الله كلهم، تصلك بالله تعالى عن طريق كل أنبيائه، طريقٌ واحدٌ ممتد، وأنَّ هداية الله استمرت في واقع البشرية، أتت في مختلف الأزمان والعصور، وأنَّ الله لم يقصِّر في عباده فيما يتعلق بذلك، فامتدت هدايته لهم.

إيمانك بالأنبياء، تأثرك بما ذكره الله عنهم، إيمانك بخاتم الأنبياء وسيِّد الرسل محمد “صلوات الله عليه وعلى آله”، له أهميته الكبيرة في الدافع، وأيضاً فيما يقدِّم لك من إرشاد، وتعليمات، وتوجيهات، وبصيرة كافية عن البر، ومجالاته، وأهميته، ونتائجه، وما تستفيده من ذلك في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الجماعي: الأمة، المجتمع الذي يستجيب على أساس ذلك.

فيمثل هذا الجانب: الإيمان، المبدأ الذي يمثل المنطلق، والدافع، ويرسم الأهداف، ويهيِّئ البيئة والظروف الصالحة للعمل، ولأداء العمل على نحوٍ سليم، على نحوٍ صحيح، فيتكامل البر من مبدئه ودوافعه، إلى مجاله، إلى طريقة أدائه، تكاملاً رائعاً، تكاملاً متلائماً، يرضي الله “سبحانه وتعالى”، وتتجسد فيه القيم والأخلاق والمبادئ العظيمة، الفطرية الدينية، والإيمانية، والإنسانية.

ثم يقول تعالى بعد ذلك، بعد أن يحدد العنوان الأول، الذي يقوم عليه البر: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}[البقرة: من الآية177]، {وَآتَى الْمَالَ}، جانب العطاء هو على مستوى العمل من أبرز العناوين التي توصف بالبر، ويعبَّر عنها بالبر، العطاء بالمال، المال الذي يبخل به الكثير، المال الذي يدخل الكثير في الحرام من أجل الحصول عليه بأي وسيلة، بأي طريقة، حتى لو كانت طريقةً محرَّمة، أو من مصدرٍ محرَّم، فيتحملون الآثام.

الروحية الإيمانية تجعل الإنسان بعيداً عن ذلك، بعيداً عن حالة الجشع والطمع، الذي يجعل الإنسان يتورَّط في المحرمات، الروحية الإيمانية يتربى فيها الإنسان على العطاء، على البذل، على أن يقدِّم، وأن يبادر.

عبارة: {وَآتَى الْمَالَ}، تفيد أنه يؤتي المال، يبادر بايتائه، بتقديمه، لا يحتاج مثلاً إلى مراجعات ومساعي لإقناعه، وجهود مكثفه لإقناعه بأن يخرج، فإذا أخرج بعد ذلك أخرج شيئاً يسيراً، كما هي عادة البعض من الناس، يريد أن يأتي من يزوره، أن يأتي من يتحدث إليه، أن يحاول فيه، أن يبتكر مختلف الأساليب المؤثرة المقنعة؛ حتى يصل به إلى أن يتفاعل شيئاً ما.

البعض من الناس ضمائرهم ميتة، مشاعرهم متبلِّدة، إحساسهم الإنساني قد ضعف كثيراً، إن لم يكن قد انعدم، وإلَّا ففي واقع الحال ما يجعل الإنسان المؤمن، الحي الضمير، الذي ضميره حي، وإحساسه حي، يتفاعل تلقائياً بفطرته الإنسانية مع كثيرٍ من الأمور المؤلمة الإنسانية: عندما يرى الإنسان المحتاج، الفقير، المعاني، الذي لا يجد طعامه.

عندما يجد المريض الفقير المعاني الذي لا يجد ما يتداوى به، وهو يعاني من الآلام والأوجاع.

عندما يرى أسرةً من أهل الإسلام معانيةً، لا تمتلك قوتها الضروري، بائسةً… كثيرٌ من هذه الأمور كافية.

عندما يرى التحديات والأخطار التي تستوجب التصدي للأعداء، ودفع شرهم الكبير عن مجتمعه ونفسه وأمته، ودفع باطلهم، ومنكرهم، وفسادهم، وظلمهم، وإجرامهم، بكل ما يمثله ذلك من خطورة رهيبة على الناس في دينهم ودنياهم، فلا يتفاعل مع ذلك.

قد يتفاعل مع أشياء أخرى هناك: إمَّا مما تدخل في نطاق المنكر، والفساد، والشر، أو العبث، أو العبث، {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد: الآية6]، في الأشياء العبثية، لكن لا يتفاعل مع الأشياء الخيِّرة.

{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، يعني: حتى في الظروف الصعبة، وحتى مما يحب، وليس فقط ممن إذا أحرج في مجال العطاء، أصبح محرجاً، يجامل ويحاول في سياق مجاملته أن يخرج الشيء الرديء، الذي لم يعد راغباً به، أو لا يرى أنه أصبح بحاجةٍ إليه، لم يعد محتاجاً إليه، فيعتبر هذا شيئاً طارفاً، لا بأس سيخرجه مجاملةً.

الإنسان المؤمن بدافعه الإيماني القوي، برغبته في العطاء، بإدراكه لأهمية ذلك له في الدنيا والآخرة، هو يقدِّم الشيء مما يحب، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران: من الآية92]، وفي نفس الوقت حتى في الظروف الصعبة، وليس فقط من أولئك الذين سيحسنون، ويعطون، ويقدِّمون، إن كانوا فقط في حالة اليسر والسعة، بل وقد يكون لديهم سقف معين لحالة اليسر والسعة، إذا توفرت أموال يرى أنها قد أصبحت كثيرةً لا بأس، ومن العجيب أنَّ الكثير ممن يشحون بالإنفاق، هم من الميسورين، فيكونون هم من يكفرون نعم الله عليهم.

الإنسان المؤمن حتى في الظروف الصعبة لا يفقد روحيته الخيِّرة، دافعه الإيماني بالعطاء والبر، يتعاون على البر، ويقدِّم حتى في الظروف الصعبة، من حاله، بقدر حاله، وهذه مسألة مهمة جدًّا؛ لأن الذين يعانون من الظروف الصعبة هم فئة واسعة من أبناء المجتمع، عندما يتفعَّل مبدأ التعاون؛ يجتمع من هذا، ومن هذا، ومن هذا، ومن هذا… في نهاية المطاف يتبارك، ويبارك الله فيه، وتتوفر مثلاً مبالغ جيدة، يمكن أن يكون لها أثر، أثرٌ مهم في أعمال خيِّرة، في أعمال البر، سواءً فيما كان منها في الإنفاق في سبيل الله، أو الإنفاق للفقراء، أو لمصالح عامة، أو لخدمة الفقراء والمساكين… كل أعمال البر، التعاون هو يحل مشكلة ضيق ذات اليد والفقر، والشيء المحدود، التعاون يحله.

فلذلك كانت المسألة هذه مسألة مهمة؛ لدرجة أنَّ الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم عندما كان البعض في عصر النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” يسخرون من المؤمنين الفقراء المنفقين، الذين يقدِّمون القليل، القليل بحسب ظروفهم، البعض كان يذهب وقد قدم ملء كفيه (المُد)، ملء كفيه من القمح، أو من التمر، يساهم به؛ لأنه فقير، هو بالنسبة لما يمتلكه شيءٌ كثير؛ لأنه لا يمتلك إلا الشيء القليل، فكانوا يسخرون منهم: [ماذا سيفيد الإسلام]، وقد أتى (بمُدٍ)، بملء كفيه من الذرة، أو من القمح، أو من التمر، أو نحو ذلك، فيسخرون منهم، فنزل قول الله “سبحانه وتعالى”: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة: الآية79]، فكان سخط الله عليهم كبيراً؛ لأنهم يحاولون أن يجرحوا كرامة أولئك المنفقين، وأن يحرجوهم عندما يلمزونهم، عندما يطعنون فيهم، عندما يتكلمون عليهم، عندما يسخرون منهم، [ماذا ستفيد بإسلامك أنت ستقدم هذا الشيء القليل].

حالة التعاون هي تجعل القليل يكثر، قليلٌ من هنا، وقليلٌ من هنا، وقليلٌ من هنا… فيجتمع الكثير في نهاية المطاف، فيكون له أهميته الكبيرة، أهميته الكبيرة في واقع الحال، سواءً ما كان يقدم في إطار الإنفاق في سبيل الله، أو للفقراء… أو في أي مجالٍ من مجالات البر.

{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}، في هذه الدائرة من مجالات البر:

{ذَوِي الْقُرْبَى}: ابتداءً من محيطك القريب، أن تحسن إليه، لا تترك قريبك الفقير، البائس، المعاني، من دون بر، من دون إحسان، من دون صلة، وصلة الرحم كذلك تأتي في إطار هذا العنوان أيضاً.

{وَالْيَتَامَى}: وهم من الفئة التي ينبغي أن يلتفت إليها الناس، أن يهتموا بها، أن يحسنوا إليها، من أهم مجالات البر: الإحسان إلى اليتامى، اليتامى كثر، بالذات في مراحل الحروب والأحداث الكبيرة،

{وَالْمَسَاكِينَ}: كذلك المساكين ذوي الفقر والحاجة الشديدة، المسكين حاجته حاجة شديدة، ظروفه ظروف صعبة جدًّا.

{وَابْنَ السَّبِيلِ}: المنقطع عن منطقته، والمحتاج إلى المساعدة.

{وَالسَّائِلِينَ}: كذلك من الفقراء الذين يسألون لظروفهم الصعبة.

{وَفِي الرِّقَابِ}: كذلك في مجال عتق الرقبة.

كل هذه المجالات في العطاء، مجالات ذات أهمية، والبر فيها من البر المقبول، المأمور به في كتاب الله “سبحانه وتعالى”؛ لأن البعض من الناس مثلاً ينحصر اهتمامه في جانب معين، وقد يكون لمرة واحدة، في السنة حسنة، إذا أنفق مرة، يريدها أن تكون مرة العمر، لا يريد أن يكون مستمراً بحسب ظروفه، الله يقول: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، تفيد الاستمرارية، فالإنسان عندما يحمل الروح الخيِّرة، بره يتسع، إحسانه يتسع، عطاؤه واسهاماته هنا وهنا وهنا واسعة.

{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ}، من البر إقامة الصلاة، الصلاة القيمة، التي لها أثرها الكبير، الذي يشدك نحو الله، تذكر الله بصلاتك، وتتذكره في صلاتك، وأذكار الصلاة، من تكبيرٍ، وتسبيحٍ، وتهليلٍ، وتحميدٍ، وقراءةٍ للقرآن، وطلبٍ للهداية في سورة الفاتحة، كلها تُرَسِّخ معانيها ومضمونها المهم في نفسك، فيزداد بذلك إيمانك، تزداد شعوراً بالقرب من الله “سبحانه وتعالى”، يزداد أثر ذلك في طهارة نفسك، في رغبتك في فعل الخير، في رغبتك في الإحسان، في أن تحمل الروح الخيِّرة المعطاءة، وأن تتعالج من حالة الشُح، والجشع، والبخل، والأنانية، والطمع الشديد.

{وَآتَى الزَّكَاةَ}، {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، وأيضاً مع ذلك يؤتي زكاته، ليس من ذلك النوع الذي مثلاً قد لا يؤتي إلَّا زكاته، والبعض حتى لا يخرجها كاملةً، الكثير من الناس لا يخرج زكاته كاملة، يورِّط نفسه ويهلك نفسه في أن يبخل بشيءٍ منها، أو بنسبةٍ منها، أو بجزءٍ منها، وهي حالة خطيرة، إضافةً إلى اهتماماتك الواسعة والتزاماتك الأخرى، المتعلقة بالمال؛ لأن المال ترتبط به مسؤوليات، هو عطاءٌ من الله تقترن به مسؤولية، كل عطاءات الله لك في هذه الدنيا تقترن بها مسؤوليات، ما أعطاك الله، عليك فيه مسؤولية، هو في إطار مسؤولية أنت مكلفٌ بها.

فالله “سبحانه وتعالى” عندما يقول: {وَآتَى الزَّكَاةَ}، بعد أن سبق قوله: {وَآتَى الْمَالَ}، فهي في هذا السياق: في سياق الالتزامات المتعددة المتنوعة، المتعلقة بمالك، فعليك المبادرة بإيتاء الزكاة، بإخراجها، لا تحتاج إلى ملاحقة وضغط، وإحراج، وإلحاح، وإزعاج، ومشاكل، والبعض حتى قد يحتاج إلى السجن، أو يحتاج إلى ضغوط كبيرة، ولوم، وتوبيخ، وعتاب… وغير ذلك، أن يبادر بإخراجها حسب توجيهات الله فيها.

{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}، أهل الوفاء في التزاماتهم المؤكدة، في مواقفهم، في علاقاتهم، في أعمالهم، في حربهم، في سلمهم، هم أهل الوفاء تجاه التزاماتهم، ليسوا بأهل غدر ولا خيانة.

{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}، الصبر من أهم المواصفات لأهل البر والتقوى، ومن أهم ما لابدَّ منه في البر، وفي فعل البر، وفي العطاء البر، أن يكون الإنسان من الصابرين، الصبر في كل الأحوال، في الحالات الثلاثة، وما يتصل بها.

{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ}: في حالات البؤس، والظروف الصعبة، وظروف الفقر، وظروف الحاجة، وظروف المعاناة المعيشية، يصبرون في تلك الحال، فلا تؤثر عليهم لأن يسعوا للحصول على المال بأي طريقةٍ محرَّمة؛ من أجل السعة في معيشتهم، كما أنها لا تؤثر عليهم في التقصير في التزاماتهم الإيمانية وعطائهم بقدر حالهم، بقدر ظروفهم، بحسب أحوالهم.

{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}: الصابرين في حالات الضر، في حالات المرض، في حالات الحزن، في حالات الغم النفسي، والهم، تجاه الأضرار النفسية والبدنية، في حالات الجراحة في سبيل الله، في حالات الإعاقة في سبيل الله، هي حالات تحتاج إلى الصبر، وإلَّا قد يؤثر عدم الصبر على الإنسان فيها في إيمانه، في نفسيته، فيترك أثراً عليه، البعض قد يصل به إلى حد الإساءة إلى الله “سبحانه وتعالى”، عندما انعدم صبره تجاه ما يعانيه.

فالإنسان المؤمن يصبر في حالات الضراء، على المستوى النفسي، على المستوى البدني، ولا يؤثر عليه ذلك أيضاً في التزاماته بحسب ظروفه؛ لأن الله رحيم، يُقَدِّرُ أحوال الإنسان وظروفه، ويعلم بها.

{وَحِينَ الْبَأْسِ}: في مواطن الجهاد في سبيل الله، في مواطن القتال في سبيل الله، في مواطن المواجهة والتصدي لأعداء الله، هو ذلك الذي يصبر على المتاعب، على الآلام، على المخاطر، واستمراره نتاج صبره، استمراره، ومواصلته نتاجٌ لصبره في ذلك.

فنجد هذه الحالة من التكامل الذي يعبر عن البر، ويُعَبَّر عنه بالبر، من خلال هذا التكامل في هذه المواصفات الإيمانية، فيختمها الله بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}، هؤلاء من يحملون هذه المواصفات، من يسيرون نحو هذا التكامل، هم الذين صدقوا، صدقوا في إيمانهم، صدقوا في فهمهم لدينهم، صدقوا في انتمائهم للبر، وللإيمان، وللتقوى، صدقوا في التزاماتهم وأدائها كما ينبغي، كما أمرهم الله “سبحانه وتعالى”، فالصدق عنوانهم.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، (أُولَئِكَ) أصحاب هذه المواصفات المتكاملة، الذين يسيرون نحو هذا التكامل، هم المتقون الذين يحققون التقوى في واقعهم.

فنجد كيف هي أهمية هذه المواصفات التي تقدِّم لنا وضوحاً عن البر، ومجالات البر، الذي نتعاون فيه، والتعاون فيه له ثمرة واسعة جدًّا، والتقوى عنوانٌ واسعٌ جدًّا، تشمل كل أمور الخير، التي يقوى بها المجتمع في سياق مواجهة أعداء الله، في النهوض بمسؤولياته الكبرى، يدخل فيها- كما أشرنا بالأمس- دائرة واسعة من التعاون فيما فيه الخير للأمة، فيما تقوى به الأمة، فيما يصلح به واقع الأمة، فالتعاون على البر والتقوى هو ضرورة، هو جزءٌ من التزاماتنا الإيمانية، هو حلٌ وهو حكمةٌ أيضاً تعالج الكثير من الإشكاليات التي يعاني منها مجتمعنا في واقعه الضعيف، الناتج عن التفرق، عن البعثرة، عن شتات الجهود.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، أن يوفِّقنا وإيَّاكم للتعاون على البر والتقوى، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

 

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

الثلاثاء، 19 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

كان من الأحداث التاريخية البارزة والمهمة في تاريخ المسلمين:

غزوة بدرٍ الكبرى، والتي وقعت في شهر رمضان المبارك، آنذاك في السنة الثانية للهجرة النبوية، وأتت في السابع عشر من شهر رمضان المبارك.

وكان فيه أيضاً فيما بعد ذلك، في السنة الثامنة للهجرة: فتح مكة.

وغزوة بدرٍ الكبرى وفتح مكة من أهم الأحداث التي وقعت في التاريخ الإسلامي، وكان لها تأثيرها الكبير جداً، فمثَّلت نقلةً كبيرةً في واقع الأمة الإسلامية، وهيَّأ الله من خلالها المتغيرات الكبيرة، والتحولات العظيمة.

الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم سمَّى يوم غزوة بدر بيوم الفرقان، وهذه التسمية- بحد ذاتها- تقدِّم لها فكرةً متكاملةً عن أهمية ما حدث، وعن تأثيره الكبير جداً، حيث مثَّل بالفعل نقلةً كبيرةً جداً، فكان يوماً فارقاً في تاريخ الأمة الإسلامية، وفي التاريخ البشري بشكلٍ عام.

رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بعثه الله بالرسالة في مكة، وبقي فيها لفترة طويلة، ومدةٍ زمنية طويلة، البعض يقول عنها أنها: لعشر سنوات، والبعض يقول: لثلاث عشرة سنة، بقي فيها يبلِّغ رسالات الله “سبحانه وتعالى”، ويتلو آيات الله، ويدعو عباد الله إلى الله، هو رسول الله الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، تحرَّك يدعو إلى الله بإذنٍ من الله، وأمرٍ من الله “سبحانه وتعالى”.

فكان الموقف لأغلب قريش- الذين هم قوم النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في مكة- موقفاً معادياً، واتجه الكثير من أكابرهم، وقاداتهم، وزعمائهم، للصد عن الإسلام، والتثبيط عنه، والمحاربة له بكل أشكال المحاربة، بدءاً بالحرب الدعائية، والتكذيب، والصد، والتضييق على المسلمين، الذين يسلمون ممن هم من المستضعفين في مكة، وبذلوا كل جهدهم ألَّا يقوم للإسلام كيانه القوي في داخل مكة، وألَّا يسمحوا بذلك، وكان الاتجاه العام لأغلب الأهالي هو معهم، مع أبو جهل، مع أبو سفيان، مع أبو لهب، مع أولئك الزعماء المشركين، الكافرين، الذين صدوا عن سبيل الله، وحاربوا الإسلام.

في نهاية المطاف، بعد تلك الفترة الطويلة، بعد اكتمال الحجة، بعد اكتمال مرحلةٍ أراد الله أن تكون مكة فيها هي المنطلق، هي الأرضية المهيأة لانتشار صدى صوت الإسلام، وصوت الرسالة، وانطلاقته الأولى، هيَّأ الله لرسوله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ولمن معه من المسلمين في مكة، الذين لم يتمكنوا من بناء كيانٍ مستقرٍ، وإقامة الدين الإسلامي في مكة، بحيث تكون هي موطنه الأول، لم يتهيَّأ ذلك، فهيَّأ الله بديلاً عن مكة، قوماً غير قريش، هم الأنصار في يثرب (الأوس، والخزرج)، ومنطقةً أخرى لتكون هي حاضنةً للدين الإسلامي، وللمنتمين لهذا الدين الإسلامي، ولتكون هي الموطن الذي تؤسس فيه الأمة الجديدة، والكيان الجديد، والدولة الجديدة للإسلام والمسلمين.

بعد انتقال النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وهجرته إلى المدينة، ومستقره في المدينة، بدأ في تأسيس الأمة الإسلامية، والدولة الإسلامية، وكيان الأمة الإسلامية الجديد، في ظل ظروفٍ صعبة، أصبح هناك الأمل الذي يحدو المسلمين لأن تتهيأ الظروف على نحوٍ مختلفٍ عمَّا كان عليه الحال في مكة، لكن التحديات كانت لا تزال قائمة.

قريش واصلوا نشاطهم العدائي ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وواصلوا نشاطهم في مراسلاتهم، وفي طريقتهم في التخاطب مع القبائل، في التأثير عليها في مختلف المناطق؛ لكي يشكِّلوا تحالفاً يتعاون فيه العرب واليهود في الحرب ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وفي العمل على منع قيام الكيان الإسلامي، والأمة الإسلامية، والدولة الإسلامية في المدينة، فوسَّعوا من تحالفاتهم، وكان لهم تأثيرهم في الساحة العربية؛ استناداً إلى موقعهم المتمثل بمكة، وسيطرتهم على شعائر الحج، وعلى المقدسات في الحج، وفي المقدِّمة: الكعبة وبيت الله الحرام.

كانت الكعبة وبيت الله الحرام لا تزال مقدَّساً عظيماً لدى العرب حتى في الزمن الجاهلي، حتى في مراحل الشرك، كانوا يقدِّسون الكعبة، ويعظِّمونها، وكانوا يحجون إلى بيت الله الحرام، وكانوا يؤدون شعائر الحج في مكة، ويفيضون أيضاً، يعني: في كل شعائر الحج، ليس فقط الطواف بالبيت الحرام، يتجهون إلى عرفات، ويفيضون إلى المزدلفة ومنى، وهكذا يؤدون شعائر الحج.

فكانت قريشٌ تُقَدِّم لنفسها أنها التي تُعَبِّر عن الدين، وعن المركز الديني، ولها ثقلها بهذا الاعتبار في الوسط العربي، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر تهيأت لها نتيجةً لذلك- نتيجةً للبيت الحرام، وحرمته، وقدسيته لدى العرب، وحجهم إليه- تهيأت لقريش ظروفٌ ملائمة، تساعدهم على الوفرة الاقتصادية، وعلى تحسن الوضع الاقتصادي، وعلى امتلاك الإمكانات المادية، إضافةً إلى ما جعله الله “سبحانه وتعالى” أساساً للبيت، ولحرمة البيت، ولتهيئة الظروف في محيطه (البيت الحرام) من تيسر الرزق، وتوفر الثمرات، فامتلكوا الإمكانات المادية من جانب، وكان وضعهم ميسوراً، متميزاً على الكثير من القبائل العربية، والمناطق العربية الأخرى، وحظوا بالنفوذ السياسي والاجتماعي، والتأثير، والقابلية في الساحة العربية؛ باعتبارهم في المركز الديني المقدس، الذي هو بيت الله الحرام، ويديرون شعائر الحج، ويسيطرون على مكة، ويقدمون أنفسهم بصفة أنهم المتولون على البيت الحرام، وعلى شعائر الحج، يعني: يقدِّم أبو جهل نفسه ومن معه بأنهم الذين يخدمون البيت الحرام، ويديرون شعائر الحج، وأنهم الذين يمثلون الامتداد الديني لإبراهيم خليل الله.

فاستغلوا كل هذا النفوذ، وكل هذا التأثير، وكل هذه الإمكانيات، في حربهم ضد رسول الله، في عدائهم للإسلام والمسلمين، وتزعموا المواجهة للنبي، والمواجهة للإسلام، وأداروا هذه المواجهة بتحالفات ومساندة مع قبائل مختلفة، وتنسيقات مستمرة مع اليهود.

في بقاء النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وحركته في بداية الأمر في المدينة المنورة، أدرك خطورة ما يحصل، وطبيعة المؤامرات التي تحدث، والنشاط الذي يقوم به قريش، حتى في اتفاقاتهم مع القبائل العربية الأخرى:

أن يحاصروا المسلمين اقتصادياً.

وأن يمنعوهم من أسواقهم.

وأن يمنعوهم من الحركة في مناطقهم، لأي حركة تجارية، أو نشاط تجاري.

وبدأوا التحضير عملياً لحملةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ، يريدون بها أن تكون قاضيةً على النبي والمسلمين، ومنهيةً للإسلام، قبل أن يتمكَّن أكثر، وقبل أن يتقوَّى في المنطقة الجديدة، والحاضنة الجديدة، التي هي المدينة بشكلٍ أكبر، وأرسلوا قافلةً تجاريةً ضخمة، أرادوا أن يعتمدوا عليها في تمويل هذه العملية العسكرية، والحملة العسكرية، التي يحضِّرون لها، للهجوم على النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”.

في ظل استمرارية تحركهم العدائي، حتى ما بعد هجرة النبي إلى المدينة، وإصرارهم على مواصلة الحرب على الإسلام والمسلمين، وضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، أتى الأمر من الله “سبحانه وتعالى” والإذن للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بالتحرك للتصدي لنشاطهم العدائي، وعملهم العدواني، الذي يستهدفون به الإسلام والمسلمين ورسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، فنزل قول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج: 39-40]، فأتى الإذن من الله للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وللمسلمين بالتحرك لمواجهة ذلك الاستهداف، ذلك التحرك العدائي من جانب الأعداء؛ لأن الحكمة والموقف الصحيح، لم تكن هي أن يستسلموا، أو أن يخنعوا، أو أن يجمدوا، ويتركوا المجال للعدو ليتحرك إلى اللحظة الأخيرة، التي يقضي فيها عليهم، ثم بعد ذلك يفكرون في أن يتحركوا، كان لابدَّ من المبادرة للتحرك.

فاتجه النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وتحرك وانطلق من المدينة المنورة، وتحرك معه البعض من المسلمين، لم يتحرك الجميع، المرحلة تلك كانت لا تزال فيها حالة القلق لدى البعض، وحالة المخاوف المؤثرة على البعض، دافعةً لهم إلى التخاذل، إلى الجمود، إلى التردد في أن يتحركوا مع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”.

وهنا يتبين لنا أيضاً الفارق الكبير في الوضع ما قبل غزوة بدرٍ الكبرى، وما بعدها:

الحالة التي قبلها كان المسلمون: البعض منهم واثقٌ، مؤمنٌ، متيقنٌ بانتصار الإسلام، ومقتنعٌ بالتحرك في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وأن يثبت في نصرة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، مهما كانت التحديات، مهما كانت الأخطار، فهم على يقينٍ، وعلى بصيرةٍ من أمرهم.

وهناك البعض ممن هم يترددون، فيلحظون طبيعة التحديات والمخاطر:

أنَّ هذا الدين بدأ يتحرك في بيئةٍ عالميةٍ وإقليميةٍ ومحليةٍ كلها معادية، الامبراطوريات الكبرى آنذاك على الأرض، والدول الكبرى كانت واضحةً في أنها لن تقبل بهذا الإسلام، وأنها ستحاربه، وستحارب رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” والمسلمين، ولن تقبل بهم كأمةٍ جديدة ظهرت في الساحة العالمية.

وأيضاً على المستوى الإقليمي، وعلى المستوى المحلي، في الوسط العربي نفسه، على مستوى أقوامهم في محيطهم المباشر، مثلما حصل في مكة، وبين أوساط قريش، بيئة معادية، ومحيط معادٍ بأشد العداء.

 

 يقابله أنَّ رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” تحرك وهو لا يمتلك في تحركه الإمكانات المادية الضخمة والمغرية، ولم يعتمد على ذلك، تحرك من واقعٍ طبيعي على المستوى المادي، والإمكانات المادية، ليس له كنوز، وليس له ثروات هائلة، وليس لديه أموال كثيرة، لا ليمول بها نشاط المسلمين، ولا ليغري بها الآخرين، لِيُقْبِلوا إلى الإسلام طمعاً فيما عنده؛ لأن الله أراد لهذا الإسلام: أن يأتي، وأن ينتصر، وأن يكون الإقبال إليه في بداية الأمر إقبالاً مبنياً على الإيمان، على القناعة، وليس على الإغراء المادي، وليس على الأطماع والأهواء.

ومن جانبٍ آخر ليس له جيوش ضخمة، وقدرات وإمكانات عسكرية، تقابل ذلك الوسط المعادي، والبيئة المعادية، والمحيط الدولي المعادي.

فكان البعض من المسلمين، والكثير من العرب أيضاً، ينظر إلى قيام الدين، إلى قيام الإسلام، إلى انتصار الرسول، إلى استمرارية الإسلام، وكأنها أمرٌ مستبعدٌ جداً، بل يعتبره البعض مستحيلاً، البعض كان يعتبر أنه من المستحيل أن يستمر الإسلام، وأن ينتصر الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، وأن تتوسع دائرة الإسلام لتشمل مناطق كثيرة، وتشمل الكثير من الناس، والدخول في الإسلام كان على مستوى محدود، كان الإقبال إقبالاً محدوداً، يعني: سنوات اتجه فيها القليل من الناس إلى الإسلام، قلةٌ قليلة:

على مستوى القبائل: كانت أكثر القبائل آنذاك غير قابلة بالإسلام.

على مستوى الكيانات الكبرى، والكيانات الأخرى: كان موقفها واضحاً في رفضها للإسلام، وعدائها له.

ففي تلك الظروف كان البعض يتوقع أن لو واجه النبي والمسلمون مواجهةً عسكرية، هي لم تحصل بعد مواجهة عسكرية مهمة، أو كبيرة، قبل وقعة بدر، فستكون القاضية على الإسلام والمسلمين، لو واجهوا تهديداً عسكرياً، واستهدافاً عسكرياً، فذلك سوف يقضي عليهم.

ولذلك عندما خرج النبي “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”، وتحرَّك من المدينة بأمرٍ من الله “سبحانه وتعالى”، كما قال “جلَّ شأنه”: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}[الأنفال: من الآية5]، بأمرٍ من الله، وفي موقف الحق، وفي القضية العادلة، لم يتحرك معه البعض من المسلمين، وتحرَّك البعض منهم فحسب، وكان هناك احتمالان:

إما أن يظفروا بالقافلة التي تتبع قريشاً، وهي قافلة تمويلية، للتحضير للحرب التي يحضِّرون لها ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وكان أمل البعض ممن خرجوا مع الرسول “صلوات الله عليه على آله”- إن لم يكن أمل الجميع ممن خرجوا معه- أن يسيطروا على تلك القافلة؛ لأنهم يرون فيها ضربةً جيدة لقريش، وفي نفس الوقت مغنم للمسلمين، الذين اضطهدوا، وأخرجوا من مكة، وصودرت ممتلكاتهم وإمكاناتهم، وفي نفس الوقت تمويل لحركة المسلمين للاستعداد أكثر، فكان الأمل لدى أكثرهم هو الظفر بالقافلة.

وكان الاحتمال لأن تكون المواجهة العسكرية هي التي تحصل بدلاً عن الظفر بالقافلة كان احتمالاً وارداً منذ البداية، احتمال المواجهة العسكرية كان وارداً منذ البداية، ولذلك كان البعض ممن خرجوا مع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” من المسلمين متخوِّفين، وكارهين للخروج، ومتوجِّسين مما سيحدث، إن حصل حرب، ووقعت معركة، وقلقين للغاية؛ ولذلك قال الله في القرآن الكريم: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6].

فبعضهم حاول أن يقنع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بالتراجع، وألَّا يذهب في هذه الغزوة، وفي هذا الموقف، وأن يكف عن ذلك، وأنَّ ذلك مغامرة خطيرة، قد تكون نتائجها كارثية، قد تسبب في استئصال النبي ومن معه من المسلمين، وكانوا يجادلون، جادلوا رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}.

كانت مخاوفهم هي الدافع الرئيسي في جدالهم، في محاولاتهم لإثناء النبي عن التحرك، ولم يكن هناك التباس في أنَّ الحق بكل الاعتبارات هو في التحرك، هو في الخروج، هو في الامتثال لأمر الله تبارك وتعالى، وهو أحكم الحاكمين، وهو العليم الحكيم، وهو المدبر الحكيم “سبحانه وتعالى”، وهو خير الناصرين، لكن هكذا تفعل المخاوف بالبعض: تؤثر عليهم تجاه الموقف الحق، وتجاه التحرك الحق، وتجاه النهوض بالمسؤولية اللازمة، تجاه ما لابدَّ منه باعتبار الحق، وباعتبار الحكمة، وباعتبار المصلحة الحقيقية، حالة المخاوف هي تشكِّل ضغطاً خطيراً على البعض، يفقده صوابية التفكير، صوابية الموقف، يفقده توجهه واندفاعه أن يكون على أساسٍ صحيح.

فتحرك النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وكان تدبير الله “سبحانه وتعالى” أن يظفر المسلمون بالجيش الذي خرج من مكة، في معركةٍ تاريخيةٍ فاصلةٍ استثنائيةٍ مصيرية، بدلاً من الظفر بالقافلة؛ ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 7-8]، كانت إرادة الله في إحقاق الحق، ألَّا يبقى الحق مجرد عنوانٍ ودعوةٍ تتردد في الأسماع، بل أن يتحول إلى واقعٍ قائمٍ، إلى حالةٍ سائدة، أن يتجذَّر في الواقع منهجاً، تقوم على أساسه أمة (أمة الإسلام)، فأراد الله “سبحانه وتعالى” بهذه المعركة الفاصلة إحقاق الحق، وهذا يعبِّر عن جذور المشكلة، والقضية التي كان الصراع من أجلها.

كانت مساعي الكافرين والمشركين، ومنهم قريش ومن وقف معهم، ومن تحالف معهم، ومن نسَّق معهم، ومن شجعهم وحرَّضهم، كما هو حال اليهود، كانوا يسعون إلى ألَّا يكون هناك وجود للدين الإسلامي في هذه الحياة، لماذا؟ هل لأن الدين الإسلامي كان مجرد طقوس معينة، وشعائر دينية معينة، ليس لها أي تأثيرٍ في واقع الحياة، أم لأنه منهجية الله، التي ستبنى على أساسها مسيرة الحياة؟ وهذا هو ما أزعجهم.

 

كان الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” بحركته في تبليغ رسالة الله، وإقامة دين الله، يحدث تغييراً في الواقع، ويبني مسيرة الحياة على أساس الاستقلال عن التبعية للطاغوت، والتحرر عن العبودية لما سوى الله “سبحانه وتعالى”، وإخضاع الناس وتعبيدهم لله ربِّ العالمين فحسب، وهذا ما يقلق الطغاة، والمجرمون، والمتكبرون، الذين يريدون أن تبقى لهم سيطرتهم التامة على الناس، وأن يستعبدوهم، وأن تكون كل شؤون الناس بما يعزز نفوذهم، تدار، تدبَّر، يفرض فيها ما يعزز نفوذهم، ويمكِّنهم من السيطرة أكثر وأكثر، في حالةٍ هي حالة استعبادٍ للناس، يفرضون فيها على الناس ما يشاؤون هم، وفق أهواء أنفسهم، وما يريدون هم، وفق مصالحهم ورغباتهم، في حالةٍ من الاستعباد والاستغلال.

أمَّا ما يقوم عليه واقع الأمة على أساسٍ من الدين الإسلامي، فهو التخلص من ذلك، تُبنَى مسيرة الحياة على أساس تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، وتوجيهاته، والعبودية له، والخضوع له، والتحرر من كل عبوديةٍ لغيره “سبحانه وتعالى”.

فلذلك بعد أن بذلوا جهداً كبيراً فيما مضى للسعي لإقناع النبي في مهادنتهم ومداهنتهم، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم: الآية9]، وأن تكون مسيرة الإسلام على نحوٍ يتكيَّف، كما تكيَّف اليهود مع الواقع، وكما تكيَّف النصارى مع الواقع، فتركوا من شرائعهم، ومن عقائدهم، ما يتعارض مع ذلك الواقع، وأصبحوا على تماهٍ واندماجٍ كليٍ مع كل قوى الطاغوت المستكبرة في الأرض، المستغلة للعباد، المستعبدة للناس، فكانوا يرغبون أن يتحول واقع النبي في مساومات واتفاقيات يضحي بها بكثيرٍ من عقائد الإسلام، ومبادئ الإسلام، وتعليمات الله في الإسلام، وفق ما فعله البعض الآخر- كما قلنا- ممن كانوا ينتسبون للرسالة الإلهية، في رسالة نبي الله موسى، أو نبي الله عيسى “عليهما السلام”، فلم يقبل النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وما كان ليقبل، هو رسول الله الذي اصطفاه الله، وأناط به هذا الدور العظيم، والمسؤولية العظيمة، والمهمة الكبرى لإنقاذ البشرية، لمَّا كان الإسلام كما قدَّمه الرسول، وبلَّغه، وتحرَّك به، رسالةً إنقاذية، تنقذ البشر، تخلِّصهم، تصلح واقعهم، تطهر الأرض من الفساد، تتصدى للشر، تقف في وجه الظلم، كان هذا مزعجاً للطغاة والمجرمين؛ فتوجهوا بكل جهدهم، بكل إمكاناتهم، لمحاربة الرسالة الإلهية.

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: الآية8]، عندما وصل النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ومعه المسلمون في ظل إمكانات بسيطة، في قلةٍ من العدد، ونقصٍ من العدة:

عدد جيش المشركين كان مثل عدد المسلمين لثلاث مرات، أو أكثر، والإمكانات لم يكن هناك أي مقارنة، فالمسلمون كان لديهم- كما في بعض الأخبار- فرسٌ واحد، وكان لديهم- في بعض السِّيَّر والأخبار- ستة أدرع، بالنسبة للدروع.

أمَّا الحال بالنسبة للمشركين فكان مختلفاً: عددٌ كبيرٌ من الفرسان، والإمكانات، والعدة، والتجهيزات، وعدد كبير من المقاتلين المتمرسين، وخرجوا بطراً، وكبراً، ورئاء الناس، كان الشيطان حفَّزهم، وزيَّن لهم، ووسوس لهم، أنهم سيخوضون معركةً حاسمة، يقضون بها على رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وعلى المسلمين، وينتهي أمر الإسلام بشكلٍ نهائي، فلذلك كانت وقعة بدر مصيرية بكل ما تعنيه الكلمة، كان ما سيحدث فيها سيؤثر حتماً، ويكون له نتائجه المهمة، لو تمكَّن المشركون، لكانت كارثةً كبيرة، وعندما فشلوا كان انتصاراً عظيماً ومهماً، بقي له أثره الممتد إلى قيام الساعة.

عندما وصل المسلمون في تلك الظروف الصعبة، وأدركوا طبيعة الظروف على المستوى العسكري في واقعهم، في نقص عددهم، في نقص عدتهم، وما يقابله في واقع عدوهم، من العدد، والعدة، والإمكانات… وغير ذلك، توجَّهوا إلى الله “سبحانه وتعالى” واستغاثوا الله، كما قال الله “جلَّ شأنه”: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: 9-10]، فالله “سبحانه وتعالى” أغاثهم.

توجههم إلى الله في تلك اللحظة الحرجة، والصعبة، والحساسة، والخطيرة، هو بتوجيهٍ من النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وإدارةٍ لكل المجريات، لكل المواقف من جانبه “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهكذا هي التربية الإيمانية، التي تعلِّم الإنسان أن ينطلق متوكلاً على الله، معتمداً على الله، راجياً لله “سبحانه وتعالى”، مهما كانت إمكانات الأعداء، مهما كانت عدتهم، ومهما كان عددهم.

فرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” ربَّى المسلمين، وتحرَّك بهم، وأدار تلك التفاصيل والأحداث على هذا النحو: في التوجه إلى الله “سبحانه وتعالى”، الاستغاثة التي استجاب الله لهم فيها؛ فأمدهم- وبشَّرهم بذلك- بملائكته، وكان للملائكة الدور المهم جداً في التأثير المعنوي، من أهم متطلبات المعركة والموقف هو التأثير المعنوي الإيجابي بالنسبة للمؤمنين، الإيجابي والمهم جداً، فهم استبشروا، بعد أن بُشِّروا بذلك، وارتفعت معنوياتهم كثيراً، إضافة إلى أنَّ حضور الملائكة في ظل مجريات المعركة والأحداث، كان له أثره وفق الطريقة التي يهيئها الله “سبحانه وتعالى”، في التأثير النفسي والمعنوي الإيجابي والكبير.

أيضاً كان مما أمدهم الله به في سياق الحالة المعنوية، معالجة الحالة المعنوية التي تؤهلهم لأداءٍ أفضل، ولاستبسالٍ أكثر: ما ذكره الله في القرآن: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}[الأنفال: الآية11]، أمدهم الله بالشعور بالأَمَنَة والنعاس، فأتاهم ليلاً، ما قبل صباح المعركة، هذا الشعور من الاطمئنان والسكينة، إلى درجة أن يأتيهم النعاس، النوم الخفيف؛ لأنه ليس المطلوب أن يغطوا في نومهم، وأن يستغرقوا فيه، في ظل ذلك الخطر والتهديد، ولكن أن يأتيهم النعاس، مع الأمَنَة، مع الشعور بالاطمئنان، فكان له أهميته على المستوى النفسي والعصبي والمعنوي، ثم على مستوى الأداء في الميدان.

كذلك نزول الماء (المطر)، أغاثهم الله “سبحانه وتعالى” ليتطهروا به، وليطمئنوا بتوفر الماء؛ لأن من الهواجس التي أقلقتهم مع سيطرة المشركين على آبار المياه في بدر، أن يعانوا من العطش، أن يحاصروا بالظمأ، وأن يقتلهم الأعداء بالظمأ، فتوفر الماء بشكلٍ كبير، واطمأنوا بذلك.

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}[الأنفال: من الآية12]، وقام الملائكة بدورهم هذا على أكمل وجه، وكان له أثره الكبير جداً في معنويات المؤمنين، وفي إقدامهم، وفي استبسالهم.

وعندما تصاف الطرفان للمواجهة، بدأت المواجهة بخروج ثلاثة مقاتلين من صف المشركين، ونادوا بالتحدي للمسلمين، فأمر النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ثلاثةً من المسلمين، هم: عمه حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب “عليه السلام”، وكذلك عبيدة “رضوان الله عليهم جميعاً” عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فخرج الثلاثة، وبدأت المعركة بين هؤلاء الثلاثة من صف المسلمين، والثلاثة المقاتلين الذين خرجوا من صف المشركين، وهم من أبطالهم، ومن قاداتهم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد، فكان النصر في تلك المبارزة لصالح المقاتلين المسلمين، وكانت فاتحةً مهمةً للمعركة، لها تأثيرها في بقية المعركة.

قُتِلَ الثلاثة المقاتلون الذين خرجوا من صف المشركين، واستشهد من المقاتلين المسلمين الثلاثة أحدهم، هو: عبيدة بن الحارث، ثم التحم الطرفان، واحتدمت المعركة على أشدها، واستمر القتال لبعضٍ من الوقت، جزءٍ من النهار يقدر بساعتين، وكان قتالاً على أشده، فأتى فيه التأييد الإلهي من الله، والمعونة الكبيرة للمؤمنين، وقُتِلَ من الأعداء العدد المهم، قُتِلَ منهم سبعون قتيلاً، من فرسانهم، وقادتهم، وأبطالهم، والشخصيات البارزة والمهمة فيهم، كان لذلك تأثيره الكبير عليهم، عندما رمى النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بالحصى إليهم، وقال: ((شاهت الوجوه))، انهزموا على الفور، ونزل قول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}[الأنفال: من الآية17]، وأُسِرَ سبعون، وانهزم الباقون، وفروا باتجاه مكة، وعاد المسلمون بنصرٍ عظيمٍ تاريخيٍ مفصليٍ وكبير، وتغيَّر الواقع تماماً.

بعد مواجهة هذا التحدي بانتصارٍ كبير، زاحت حالة التردد عند البعض، وحلَّ محلها اليقين، أصبح عند الكثير من الناس- بالذات المسلمين- الأمل في أنهم سينتصرون، وتعزز الرجاء في نصر الله “سبحانه وتعالى”، ومعونته، وتأييده، وأصبح الاطمئنان على مستقبل هذا الدين وهذه الأمة هو الذي يملأ قلوب الكثير منهم، وكان للانتصار أيضاً صداه الكبير وتأثيره الكبير على أعداء هذا الدين من الكافرين والمنافقين، الذين أصيبوا بخيبة أملٍ كبيرة جداً، وأصبحت نظرتهم التي كانوا يستضعفون بها المسلمين، ويحتقرونهم، ويؤمِّلون في التغلب عليهم بكل بساطة، نظرةً مهزوزة، وأصبح عندهم احتمال كبير أنَّ مستقبل هذه الأمة ومستقبل هذا الدين هو الانتصار، وهو الثبات، وأنه يستحيل القضاء عليهم.

فتغيرت الأوضاع ما قبل ذلك اليوم وما بعده، وبدأت مرحلةٌ جديدةٌ في تاريخ الإسلام والمسلمين، قائمةٌ على الأمل، على الثقة، على الاطمئنان، على المعنويات المرتفعة، حتى أنَّ البعض ممن لم يخرجوا مع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في وقعة بدر تحسَّروا، وأسفوا، وكانوا يتمنون أنهم خرجوا، عندما أتت الغنائم، وأتى النصر، وشرف الانتصار الكبير، وما حدث كان له صداه الكبير، وتأثيره العظيم.

استمرت ما بعد ذلك مسيرة الجهاد، كانت وقعة بدر هي فاتحةٌ مهمةٌ وعظيمةٌ لمسيرة الجهاد في سبيل الله، الذي كان له أهميته، وكان لابدَّ منه:

في تثبيت دعائم الإسلام.

في استمرارية الإسلام.

في الدفاع عن المسلمين.

في الحفاظ على المسلمين، في الحفاظ على أمتهم، على كيانهم، على أوطانهم، على أعراضهم.

في دفع الشر عنهم.

في دفع الخطر عنهم.

في التصدي للشر والطغيان والفساد.

لو كان بالإمكان تحقيق مثل هذه الأهداف، والتجاوز لكل هذه الصعاب، والتصدي لكل هذه المخاطر بدون جهادٍ في سبيل الله، بدون تضحية، لكان النبي أولى من غيره أن يكون له ذلك، وأن يتم له ذلك، وأن يتحقق له ذلك، وألَّا يعاني ما يحدث في الجهاد، وما يحصل من تضحيات، ومن معاناة، ومن مواجهة للأخطار… إلى غير ذلك.

امتدت الآثار المباركة لانتصار يوم بدر إلى فتح مكة، ودخول النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” إلى مكة فاتحاً في السنة الثامنة من الهجرة، بعض الأخبار تقول: أن يوم الفتح نفسه، ويوم وصل النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” إلى الكعبة المشرفة، كان أيضاً في السابع عشر من شهر رمضان، البعض يقولون: في السابع عشر، البعض يقولون: في الثامن عشر، البعض يقولون: في التاسع عشر، تتردد الأخبار والأقوال بين الثلاثة الأيام، فيكون أيضاً متقارباً في التاريخ والمناسبة مع غزوة بدرٍ الكبرى، وكان أيضاً له أثره الكبير جداً في الانتصار.

 

الحديث عن هذا قد يطول كثيراً، لكننا نكتفي بهذا المقدار؛ لنؤكد على الحقائق المهمة، التي نستفيدها كدروس وعبر، ومنها:

حتمية الصراع:

لابدَّ من الصراع، لابدَّ من التصدي للأعداء، لابدَّ من التحرك في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله هو فريضة من الفرائض الإسلامية، والالتزامات الدينية والإيمانية، التي هي أيضاً ضرورةٌ واقعية، الصراع جزءٌ قائمٌ في واقع البشر، جزءٌ من حياتهم، جزءٌ من واقعهم، والمسلمون لو لم يتحركوا، تحرك أعداؤهم، واستهدفوهم، واضطهدوهم، وأذلوهم، وقهروهم، لهم أعداء، هم أمة لها أعداؤها.

لابدَّ أيضاً من الأخذ بأسباب النصر:

في ظل التحديات التي تواجهها الأمة في هذا العصر، وما أكثرها! التحدي من كل الأعداء، المخاطر التي تحيط بالأمة، نحن كمسلمين، في كل أقطار الأرض، أمةٌ مستهدفة، لها أعداؤها الذين يسعون باستمرار للسيطرة عليها بشكلٍ تام، لإذلالها، لقهرها، لاستعبادها، لمنع استقلالها على أساسٍ من انتمائها الإيماني والديني الإسلامي، وهذا أمرٌ واضح.

ما يسعى له الأمريكيون، وما يقوم به الإسرائيليون، هو حربٌ حقيقيةٌ على أمتنا، بأشكال كثيرة، بوسائل كثيرة، تطورت أساليب الحرب في هذا الزمن، دخلت فيها: الحرب السياسية، الحرب الاقتصادية، الحرب الإعلامية، الحرب النفسية، الحرب الدعائية، تفاصيل كثيرة في إطار الحرب: الإعلامية، والتضليلية، والفكرية، والثقافية، وسعيهم الواضح للسيطرة على هذه الأمة، السيطرة على ثروتها البشرية، وثروتها المادية، والاستغلال لها، والاستعباد لها، والإذلال لها، لا يمكن أن يُخَلِّص الأمة من ذلك، إلَّا أن تتحرك لتبني نفسها لتكون أمةً مجاهدةً.

بالجهاد يمكن أن يحرر فلسطين، أن تستعيد الأمة مقدساتها، أن تواجه كل التحديات من جانب كل الأعداء، بكل أشكالهم، وبكل فئاتهم.

الجهاد هو الذي يمكن أن يمثل عامل نهضةٍ للأمة، فتستعيد قوتها، وتبني نفسها في كل المجالات، ومنها: المجال الاقتصادي، والمجال العسكري، حتى تحقق لنفسها الاستقلال، وتنهض بمسؤولياتها، وتتحرك في إطار دورها الذي أراده الله لها على المستوى العالمي، لتكون الأمة التي تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتطهر ساحتها الداخلية من المنكر، والفساد، والطغيان.

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه

الأحد، 17 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الخامسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

المحاضرة الرمضانية الخامسة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ
[17/ابريل/2022]

صنعاء - سبأ:

نص المحاضرة الرمضانية الخامسة عشرة لقائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ 2022م:

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

يقول الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة: من الآية2]، صدق الله العلي العظيم.

تضمَّن قوله "سبحانه وتعالى": {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، مخاطباً للذين آمنوا، مخاطباً لنا نحن المسلمين كافة، مبدأً إسلامياً عظيماً ومهماً، تحتاج إليه الأمة لدينها، ولصلاح دنياها.

الإسلام هو دينٌ جامع، يبني الأمة، ويجمعها على أعظم وأقدس وأسمى المبادئ والقيم والأخلاقي والأهداف، ويرسم للأمة مسؤولياتها الجماعية التي تتعاون فيها جميعاً، ويَنظِم لها حركتها في مسيرة حياتها بما ينسجم مع انتمائها الإيماني، ويحفظ لها كرامتها الإنسانية، ويثمر- في نهاية المطاف- الثمرة الطيِّبة، الثمرة العظيمة التي هي البر والتقوى، وبذلك صلاح حياة الأمة.

عندما نأتي إلى عنوان التعاون بشكلٍ عام، فهو يعني: تجميع الجهد على نحوٍ جماعي لإنجاز هدفٍ معين، أو للقيام بعملٍ معين، أو لتنفيذ مسؤوليةٍ معينة، ومن المعلوم لدى البشر قاطبةً: أنَّ الجهد الجماعي هو من حيث مستوى الإنجاز، ومستوى التكامل، ومستوى تخفيف الكلفة عن الشخص، عن الفرد، ومستوى القدرة والإمكانيات، هو أعظم بكثير، وهو ضروريٌ أساساً لإنجاز أكثر المهمات والمسؤوليات والأعمال الكبرى، التي لابدَّ فيها من الجهد الجماعي.

الجهد الفردي يبقى بحدود إمكانيات وقدرات الفرد نفسه، على مستوى الشخص الواحد، وتتفاوت هذه القدرات، سواءً على المستوى المعرفي والمادي، وعلى مستوى التفكير، على مستوى الفعل، على مستوى الإمكانيات والوسائل، تختلف من شخصٍ إلى آخر، ويبقى في كل حال مستوى الجهد الفردي محدوداً، باستطاعة الإنسان أن ينجز فيه أعمالاً إلى مستوى معين، أو أن يقوم أيضاً بمهام وأعمال إلى مستوى معين، ولكن هناك في الواقع البشري؛ لأن الحياة حياة المجتمع البشري هي حياةٌ مترابطة، وهناك فيها مصالح عامة، مصالح مشتركة، وهناك أيضاً مسؤوليات عامة، مسؤوليات مشتركة، وأهداف كبيرة، لا يمكن أن تنجز بجهدٍ فردي، يستحيل في بعضها أن تنجز بجهدٍ فردي، ولابدَّ فيها من التعاون، وهذه مسألة واقعية وقائمة في حياة المجتمعات البشرية.

المجتمعات البشرية منظَّمة ومؤطرة بشكل دول، كيانات، مجتمعات تحت عناوين معينة، أو بشكل قبلي... أو غير ذلك، ويجمعها على مستوى كل كيانٍ معين، أو إطارٍ معين، تجمعها أهداف مشتركة، حياةٌ مشتركة، مصالح مشتركة، جهود جماعية، اهتمامات جماعية، تنسِّق حتى الجهد الفردي، فيكون في إطار سياسة جماعية، توجه جماعي، وهكذا هي الحالة القائمة في الواقع البشري، وتختلف في مستوى تفعيل هذا الأمر، ومستوى الاستفادة منه من مجتمعٍ إلى آخر.

فالمجتمعات أكثر نجاحاً، والأكثر قوةً، والأكثر إنجازاً، هي المجتمعات التي تمكَّنت من رفع مستوى التعاون، وتوجيه حالة التعاون داخلها على مستوى أفضل، وعلى مستوى أقوى، وعلى مستوى أكبر، ووفق رؤيةٍ صحيحة، كلما كانت هناك رؤية صحيحة في جانب معين، وظِّفت فيها الجهود الجماعية، ونسِّقت فيها الأنشطة العامة لتخدم هدفاً مشتركاً، في نهاية المطاف تتحقق نتائج كبيرة، وهذه مسألة معروفة في الواقع البشري، وقائمة- كما قلنا- في عصرنا وفي كل زمنٍ مضى.

الحالة السلبية هي في واقع مجتمعنا المسلم، الأقل تعاوناً في كل شيء، على مستوى ما يفيده لدنياه، وما ينسجم مع دينه، وما يحقق له أيضاً المصالح الكبيرة في كل المجالات، حالة البعثرة للأمة، والتجزئة للأمة، والتفريق للأمة، وترسيخ التوجه الفردي والأنانية، والسعي لإبعاد الأمة عن روابطها الجماعية، وعن مشاعرها وتوجهاتها ومواقفها الجماعية، ومسؤولياتها الجماعية، وهمها الجماعي، ساعد إلى حدٍ كبير أن تتعزز النظرة الفردية والتوجه الفردي لدى الكثير من أبناء الأمة، وهذا ما أضعف المسلمين في عصرٍ كان بالإمكان أن يكونوا من أقوى الأمم، إن لم يكونوا أقوى الأمم؛ لأن لديهم من الإمكانات، والقدرات، والثروات، والعدد الكبير، ولديهم أيضاً نور الله وهديه، الذي هو خير ما يمكن أن تجتمع عليه أمة، وأحكم، وأرقى، وأسمى، وأهدى، ما يمكن أن تجتمع عليه أمة، فتحقق لنفسها الخير في الدنيا والآخرة، ويكون لها دورها البناء، والمثمر، والإيجابي، والصالح، في قيادة المجتمعات البشرية الأخرى، وفي التأثير فيها.

المجتمعات الغربية على سبيل المثال في أوروبا، وفي أمريكا، والمجتمعات في بعض المناطق الأخرى، في بعض القارات الأخرى، مثل بعض المجتمعات الأسيوية، كالصين مثلاً، ترسخ عندها مفهوم: التعاون، والهم الواحد، والتوجه الواحد، والموقف الواحد، والمصالح المشتركة، مع أنهم في الغرب هم توجههم رأس مالي، مبنيٌ في أصل المسألة على الفرد، ومصلحة الفرد، وينطلق من مصلحة الفرد، مع ذلك ولديهم هذه العقيدة، وهذا المبدأ: المبدأ الرأسمالي الذي يركز بشكلٍ كبير على الفرد، وينطلق من الفرد في مصالحه، ولا يرعى المصالح العامة، إلا كتبع لمصالح الفرد، لكنهم أدركوا أنه حتى بحساب المصلحة الشخصية، والمصلحة الفردية، وما يعود من فوائد على الفرد الواحد، أنه من خلال التوجه الجماعي، الاهتمام الجماعي، التعاون الجماعي، سيتحقق للفرد من المكاسب، من المصالح، من المنافع، ما لا يمكن أن يحققه في توجهٍ منعزل ومنفصل عن التوجه الجماعي، وأدركوا ترابط المصالح لكل المجتمعات، المصالح بكل أشكالها، يعني: الاقتصادية، السياسية، الأمنية، الاجتماعية، أنها مترابطة في الواقع البشري، ولذلك من الواضح أنه يمكن تنسيق مسألة التعاون، وتنظيم الجهد الجماعي بما لا يلغي الخصوصية الفردية، وبما لا يلغي أيضاً الاعتبارات عندنا مثلاً في التوجه الإسلامي الأسرية، {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.

هم أدركوا ذلك، واستفادوا كثيراً من ذلك، قامة كياناتهم العملاقة، وتجمعت قدراتهم وطاقاتهم؛ فأنتجت على نحوٍ كبير، ولديهم دائماً الكثير من الشركات والمؤسسات في كل المجالات، حتى على المستوى البحثي، مؤسسات تتظافر فيها الجهود، جهود المفكرين، جهود المنظرين، النشاط الاقتصادي، كذلك مؤسسات، شركات، الأنشطة في مختلف شؤون الحياة كثيرٌ منها تعتمد على مؤسسات، على شركات، على هكذا تجمعات تجمع فيها الإمكانات والقدرات والمواهب، وتتكامل فيها القدرات، فيكون لذلك النتيجة الأكبر والأفضل.

على العكس منا في واقعنا في المجتمع الإسلامي، بعثرة، وتوجه فردي إلى أبعد الحدود، فقدنا الهم الواحد، القضية الواحدة كهمٍ يتجه عليه الجميع، يرتبط به الجميع، المسؤولية التي ندرك أنها تقع على عاتقنا جميعاً، فنتحرك فيها كما ينبغي.

الآن في المجتمع الغربي حتى على مستوى المشاريع العملاقة، تتعاون فيها الدول، لاحظ مثلاً: الأنشطة المتعلقة بالفضاء، والمحطة الدولية، كم دول تعاونت فيها؛ لأجل موضوع الفضاء، والأقمار الصناعية، ورصد الواقع، والأنشطة، والمتغيرات الجغرافية في الأرض، والبيئية... وما شاكل، أشياء كثيرة يتعاونون عليها، بالرغم من إمكانات كل دولةٍ منهم، أصبحت لديها إمكانات ضخمة، لكنها ترغب في كثيرٍ من الأمور المكلفة أن تتعاون مع دول أخرى مثلاً، ولهذا أهميته الكبيرة: في أن تخفف الكلفة، لا تكون مرهقة على دولة معينة؛ فتؤثر على بقية مصالحها واهتماماتها.

فعلى كل حال نجحت بقية الدول، بقية المجتمعات، بقية الكيانات في العالم نجحت بالاستفادة من مبدأ التعاون فيما بينها، في مصالح دنياها، وحتى في مؤامراتها على أمتنا، وحتى في تعاونها على الإثم والعدوان، نجحت في ذلك إلى حدٍ كبير، وبما لا يقارن مع ما عليه أمتنا من عدم التعاون على البر والتقوى، على الخير لها في دينها ودنياها، وهذا مؤسف مؤسف! وراءه أشياء كثيرة جداً أضرَّت بالأمة، وأوصلتها إلى ما وصلت إليه، من التفكك، والتبعثر، والضياع، والتشتت، والفوارق والحواجز والعوائق، التي عززت حالة الفصل لأبناء الأمة عن بعضهم البعض، ولجهودهم، وما إلى ذلك، فالكافرين استفادوا- كما قلنا- في كل شيء.

أمَّا في واقعنا كأمةٍ مسلمة، نحن الذين يخاطبنا الله، ويقول لنا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة: من الآية2]، نحن الذين هيأ الله لنا أعظم المبادئ، وقدَّم لنا أعظم المبادئ التي هي خير ما تجتمع عليه أمة، خير ما يجتمع عليه البشر، المبادئ العظيمة، الأهداف المقدسة، القيم والأخلاق الكريمة والعظيمة، أيضاً قدَّم لنا ما يساعدنا تربوياً على تحقيق حالة التآخي، والتعاون، والانسجام، والتفاهم، والتقارب، ويحقق لنا بالتالي التعاون على أرقى مستوى، الأمة التي قال لها الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: من الآية103]، الأمة التي لديها هذه المسؤولية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية104]، مسؤوليات جماعية، لم ينفع فينا هذا، مبادئ جامعة، لم ينفع فينا ذلك، وهكذا، توجيهات كثيرة تبين لنا ثمرة هذا الجهد الجماعي، هذا التعاون، وما ينتج عنه، وما يفيدنا به ويعود به علينا من الخير في الدنيا والآخرة.

لكن لعمل المفرقين بكل الوسائل، بكل العناوين: على المستوى الفكري، على المستوى الثقافي، على المستوى السياسي... على كافة المستويات، عمل كبير جداً، وترك أثره البالغ في واقع الأمة، حتى أصبح مجتمعنا الإسلامي يختلف عن بقية المجتمعات في ذلك، لم يستفد من مسألة التعاون في أي شيء، أمة ضخمة، المسلمون أكثر من مليار مسلم، قدراتهم، إمكاناتهم، ثرواتهم هائلة، ليسوا أمةً لم يجعل الله في أرضها ثروات ولا خيرات، وتركها بدون شيء، أمة تركها الله صفراً، فلم يعطها شيئاً، ولم يمدها بشيء، شملها عطاء الله، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء: الآية20]، شملها عطاء الله، بل أعطاها الله الخير الكثير، لديها الإمكانات الكثيرة، لديها الثروة البشرية والمادية، ولديها ما لو عادت إليها الرؤية الصحيحة، نور الله وهديه العظيم والمبارك، الذي كان يمكن أن يرتقي بالأمة إلى أرقى المستويات.

نجد مدى خسارة الأمة الإسلامية لتضييعها هذا المبدأ، وإزاحتها هذا المبدأ من واقعها:

على المستوى العسكري: بدت الأمة الإسلامية ضعيفة عسكرياً أمام أعدائها، حتى في معالجة القضية الفلسطينية، كلنا يعلم أنه لو تظافرت جهود المسلمين، وإمكاناتهم، بنيةٍ صادقة، وتوجهٍ جاد، واعتمادٍ على الله "سبحانه وتعالى"؛ لما كانت فلسطين مغتصبة، لما كان الأعداء يدنِّسون المسجد الأقصى المبارك، الذي هو من مقدَّسات المسلمين، لما كان الشعب الفلسطيني الذي هو جزءٌ من المسلمين، جزءٌ من الأمة، جزءٌ من العرب، يعاني الاضطهاد، والظلم، والقهر، ويعاني مما يمارس بحقه من الإجراءات الظالمة، والتعسفات من جانبه أعدائه وأعداء الأمة كل يوم، معاناة يومية، اضطهاد يومي بكل أشكاله: من القتل، والجرح، والسجن، والتدمير، والانتهاك للأعراض، واقتلاع أشجار الزيتون والمزارع.... إلى غير ذلك، واغتصاب الأرض، ونهب الممتلكات، والتعدي بالضرب... كل أشكال الاضطهاد موجودة وتمارس بحق شعب فلسطين منذ عقودٍ من الزمن.

والأمة تقف وكأنها عاجزة، كأنها أمة لا تقدر على أن تنهي هذا الظلم، تنقذ ذلك الشعب، تستعيد جزءاً منها، جزءاً من مقدساتها، جزءاً من أرضها ووطنها، وتنقذ جزءاً منها، من كيانها، من شعبها، من أبنائها، ما الذي حصل في مقابل تعاون كبير مع العدو الإسرائيلي، التعاون الغربي برز مع العدو الإسرائيلي أكثر بكثير على كافة المستويات من تعاون المسلمين فيما بينهم، هذا كمثال واحد، أمام بقية التحديات والأخطار، كلنا يعلم لو تظافرت جهود المسلمين، وتعاونوا لدفع الخطر عنهم جميعاً؛ لكانوا اليوم قوةً كبرى في الساحة العالمية، لما كان حالهم على ما هو عليه.

على المستوى الاقتصادي: ليس لدى المسلمين عملة موحَّدة، الأوروبيون عملوا لهم عملةً موحَّدة (اليورو)، فأصبحت عملة ذات وزن كبير، وقيمة كبيرة، وأهمية عالمية، المجتمع الغربي إلى حدٍ كبير اعتمد على الدولار، فأتى العرب وأتت الدول العربية المنتجة للنفط لتعتمد على الدولار، فجعلته عملةً عالمية، حوَّلوا اللغة الإنجليزية إلى لغة عالمية، حوَّلوا سياساتهم وتوجهاتهم إلى توجهات عالمية، بفعل ما عليه المسلمون من التفرق، من توجه بعض الأنظمة معهم، مع أعداء الأمة في كل شيء، دخلت فيما هم عليه، تتعاون معهم، بدلاً من أن تتعاون مع أمتها.

لمتها مع ن شيء دخلت فيما عليه ري وا يوجد للمسلمين سوقاً مشتركة، ليس لهم سوق مشتركة، الوضع الاقتصادي فيما بينهم في العلاقات الاقتصادية، والتبادل التجاري، تحت سقف ما تريده أمريكا، ويستجيب تماماً لأي توجهات أمريكية، أو عقوبات أمريكية، أو حصار أمريكي على شعبٍ من شعوب الأمة الإسلامية، فخسر المسلمون الكثير، ما يمكن أن يحصلوا عليه لو تعاونوا، لو تفاهموا على المستوى الاقتصادي، على المستوى العسكري، على المستوى السياسي، أمة ليس لها نفوذ سياسي بحجمها، بحجم إمكاناتها، بحجم قدراتها، على كل المستويات، على المستوى الخيري، لما انتشر البؤس في أي بلدٍ من بلدان هذه الأمة، لو بقي التعاون فيما بينهم على المستوى الخيري... وهكذا في كل مجالٍ من المجالات، كانت خسارة المسلمين كبيرةً؛ لأنهم أضاعوا هذا المبدأ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.

بدلاً عن ذلك، اتجهت أنظمةٌ منهم، دولٌ منهم، كياناتٌ منهم، لتتعاون مع أعدائهم، ولتسخِّر طاقاتها، إمكاناتها، ثرواتها مع مواقفها وتوجهاتها لخدمة أعداء الأمة، وهذا أمرٌ واضح فيما عليه بعض الأنظمة، في ذوبانهم التام مع أمريكا، وخدمة أمريكا، وخدمة الغرب، وفي الأخير مع الإسرائيلي، مع العدو الإسرائيلي، دخلوا في علاقات معلنة، وما يسمونه بالتطبيع في علاقات ألغوا فيها الكثير من القيود التي يتخذونها ضد بقية شعوبهم الإسلامية، وبلدانهم العربية، وفتحوا مجال لتجنيس الإسرائيليين، وإلغاء الجمارك في التعامل معهم، وفتح الأبواب للدخول والخروج والحركة إلى بلدانهم بدون أي قيود، وبكل التسهيلات، وكل التسهيلات للأنشطة التجارية... وغير ذلك، واتجهوا للنشاط الاستثماري لدعمهم... وهكذا، ففعلوا معهم ما لا يفعلونه أبداً مع شعوب أمتهم، مع بلدان العالم الإسلامي، هذه حالة واضحة من الانحراف الكبير، وبات الحديث اليوم مثلاً عن مسألة تعاون المسلمين جميعاً، أو تعليق شيءٍ من الأمور عليه، تعليقٌ بما هو أشبه بالمستحيل، يعني: لم يعد من المؤمل فيما عليه المسلمون اليوم من إشكالات، من عوائق، من فرقة، من شتات، من توسيعٍ للفجوة، من بعثرة وتجزئة، من عوائق وحواجز بفعل الأنظمة والحكومات، التي تؤدِّي هذا الدور بشكلٍ كبير، ومن معها من المضلين والمفسدين، الذين يتشغلون في هذا الاتجاه السلبي لضرب الأمة من الداخل، لم يعد ينبغي أن يعلِّق الإنسان أي عملٍ عظيم، أو مهم، أو موقفٍ مهم، ويرهنه إلى مسألة اجتماع المسلمين جميعاً، أو توحِّدهم جميعاً، أو اتفاقهم جميعاً؛ لأن هذا صار أشبه شيءٍ بالمستحيل.

الذي يعوَّل عليه، ويمكنه أن يثمر، هو: ما يقوم به الأحرار، الواعون من أبناء الأمة، والمسألة تتطلب في بداية الأمر نشر هذا الوعي بين أوساط الأمة، ترسيخ الانتماء الإسلامي للمسلمين، وأنَّ هذا جامعٌ لهم كأمةٍ واحدة، لديها مسؤولياتها الجماعية، مصيرها الواحد، همها الواحد، ثم ما يجري من التعاون والتنسيق والتفاهم على أبرز القضايا، على أبرز العناوين، وأي مستوى يمكن أن يتحقق من التعاون في ذلك، في ظل الظروف الراهنة، فهو مستوى مهم، فهو مطلوب، فهو مطلوبٌ على كل حال، على مستوى الأخيار الذين يحسون بمسؤوليتهم من أبناء الأمة، الصالحين من أبناء الأمة، على مستوى الواعين من أبناء الأمة، الذين يحملون همّ الأمة، واقع الأمة، معاناة الأمة، مصير هذه الأمة، مستقبل هذه الأمة، ولديهم ثقة بالله "سبحانه وتعالى"، وإدراك وإيمان بعظمة المبادئ الإسلامية والقرآنية، فما تحقق بينهم من التعاون في كل المجالات، في إطار القضايا الكبرى للأمة، والمسؤوليات الجماعية للأمة، فهو مطلوب، وهو مناسب، وهو قائمٌ الآن بعد أن أصبحت حالة الفرز، الفرز والتمييز من الله بين أبناء الأمة، بين المنافقين وبين الصالحين من أبناء الأمة، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179]، في ظل ما يجري مؤخراً في موضوع التطبيع مع العدو الإسرائيلي وغير ذلك.

على كلٍّ على مستوى الواعين من أبناء الأمة، يمكن أن تعزز حالة التعاون، على مستوى الأخيار، على مستوى الدول، على مستوى الجهات الفاعلة من أبناء الأمة، التي لديها هذا التوجه الواعي، المبدئي، الأخلاقي، الإنساني، الذي هو توجهٌ راشد، توجهٌ صحيح، توجهٌ سليم، هو التوجه الطبيعي الذي ينبغي أن يتوجه به أبناء الأمة.

ثم على المستوى الداخلي، على مستوى كل شعب، فمثلاً في واقعنا في شعبنا اليمني، نحن مجتمعٌ مسلم، هويتنا إيمانية، (الإيمان يمان، والحكمة يمانية)، مجتمعنا- بحمد الله- لا يزال محافظاً على مبادئه، وقيمه، وأخلاقه إلى حد جيد، يتفاعل مع هدى الله "سبحانه وتعالى"، يعي عظمة توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، وعلى مستوى متفاوتٍ فيما بين الناس، ليسوا سواءً في إدراكهم لهذه الأمور، في تفاعلهم معها.

ونحن اليوم ضمن توجهنا المبدئي والأخلاقي والقيمي، القائم على الاستقلال، على عدم التبعية لأعداء الأمة، عدم التبعية للكافرين، ومن معهم من المنافقين، توجهنا القائم على الاستقلال، على إدراك أننا أمة لها مبادئها، لها قيمها، لها أخلاقها، لها مشروعها الحضاري، الذي ينبغي أن تتحرك على أساسه، يجب أن ندرك جيداً، ونحن رأينا وعشنا ثمرة التعاون في مواجهة التحديات، التحدي الكبير الذي هو العدوان، عدوان تحالف الإثم والعدوان، التحالف الأمريكي السعودي في العدوان على بلدنا، تحالف دولي إقليمي، التحق به المنافقون والخونة من أبناء شعبنا، وقام بحملته وعدوانه الكبير على بلدنا، بأهداف واضحة، يريد أن يحتل كل بلدنا، وأن يسيطر عليه بشكلٍ تام، وأن يسيطر على كل شعبنا، واستخدم في عدوانه على بلدنا كل وسائل التدمير، وحرص على أن يكسر إرادة هذا الشعب، من خلال ارتكابه لأبشع الجرائم بحق هذا الشعب، ومن خلال الحصار الخانق والشديد ضد هذا الشعب، مع ذلك ما الذي أسهم بعد الاعتماد على الله "سبحانه وتعالى"، والتوكل على الله "سبحانه وتعالى"، ما الذي أسهم في صمود وتماسك شعبنا إلى اليوم؟ سبع سنوات وصل فيها تحالف العدوان إلى اليأس، وصل فيها إلى العجز، إلى الإخفاق، إلى الفشل المعترف به، الفشل الذي تحدثت عنه الدول بمختلفها، والكيانات حتى الراعية لهذا العدوان، وأصبح شيئاً معروفاً، أنهم قد فشلوا في عدوانهم، في تحقيق أهدافهم، ثمرة التعاون بين أبناء هذا الشعب، عندما تعاونوا في النهوض بمسؤوليتهم الجماعية في الجهاد في سبيل الله والتصدي لهذا العدوان،

على المستوى العسكري: ثمرة هذا العدوان عندما كان هناك تحركٌ واسع من أحرار وأبطال شعبنا من مختلف المحافظات، من مختلف القبائل، وانطلقوا إلى الميدان، ونهضوا بمسؤوليتهم، فكان لهذا التعاون ثمرته العظيمة.

عندما تعاونوا على مستوى الأنشطة الخيرية، كان لهذا التعاون ثمرته الكبيرة، عندما كان هناك تعاون في حلِّ المشاكل الاجتماعية، كان هناك ثمرة طيِّبة، في كل المجالات التي حصل فيها تعاون، كان هناك ثمرة إيجابية، وثمرة طيِّبة.

الإسلام هو يدفع نحو التعاون إلى حد أن يرسم مسؤولياتٍ جماعية، قائمة على التعاون، الجهاد في سبيل الله مسؤولية تعتمد على التعاون، وهي مسؤولية جماعية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية جماعية، تعتمد على التعاون، فعل الخير فيه مسؤوليات أساسية جماعية، تعتمد على التعاون، فالتعاون هو مثمر، ثمرته عظيمة، فكيف إذا كان التعاون على مستوى أكبر، على مستوى أوسع، وشمل كل المجالات، بالإضافة إلى ما هو ضمن مسؤولياتنا الجماعية: كالجهاد في سبيل الله، الذي يعتمد على التعاون، والذي كلما تحقق مبدأ التعاون داخله على نحوٍ أفضل؛ كانت الثمرة أكبر، وهذا شيءٌ مهم يجب أن نعيه، أن نستوعبه، البركة هي في الجهد الجماعي، في التعاون، كلما كان التعاون على مستوى أعمق، أكبر، أوسع؛ كلما كانت ثمرته أعظم.

ولذلك علينا في شعبنا العزيز- مع ما ننصح به في واقع أمتنا بشكلٍ عام- أن نلحظ أهمية هذا المبدأ: التعاون على البر والتقوى، فإذا جئنا إلى مستوى النهوض بمسؤولياتنا الجماعية، فلندرك أنها قائمة على التعاون، ولنسع في تحقيق ذلك.

إذا جئنا إلى مختلف المجالات: إلى المجال الاقتصادي، المجال الاقتصادي أصبح ميداناً من ميادين الصراع، من ميادين المواجهة، وأصبح التحرك فيه بنيةٍ صادقةٍ، بنيةٍ واعية، بتوجهٍ صالحٍ، وواعٍ، وإيمانيٍ، يصبح التحرك فيه من الجهاد في سبيل الله؛ لأن الأعداء يشنون حربهم الشاملة على شعبنا وعلى أمتنا بشكلٍ عام، والجانب الاقتصادي من الميادين والمجالات الأساسية التي يشنون حربهم فيها، عن طريق الحصار، وأكثر ما يفيدهم في الحصار، هو: اعتماد الناس على الاستيراد من الخارج، فيواجهون المشكلة ابتداءً في مسألة العملة في الحصول على الدولار، مما يضرب العملة المحلية، مما يضعف قيمتها، مما يتسبب برفع الأسعار، وأيضاً في إيصال المواد التي تأتي من الخارج، إضافة ما يترتب على اضطراب الوضع الدولي والإقليمي ومشاكله من ارتفاع إضافي في الأسعار، فتكبر المعاناة، ما الذي يمكن أن نقوِّي به وضعنا الاقتصادي في بلدنا؟ ما الذي يمكن أن ننهض به اقتصادياً في بلدنا؟ اعتمادنا على الله، ثقتنا بالله "سبحانه وتعالى"، وتعاوننا؛ لأن الجهد الفردي ضعيف، على مستوى رؤوس الأموال، أكثر أبناء شعبنا من الفقراء، وكثيرٌ من أبناء شعبنا من ذوي الدخل المحدود، ما يمتلكه من أموال قد لا يفي بالاحتياجات الضرورية لأسرته، فكيف يتحرك به في نشاط تجاري أو استثماري يعالج به مشكلته الاقتصادية، ما الذي يمكن أن يساعد على معالجة هذه المشكلة؟ هو تجميع رؤوس أموال، عن طريق التعاون، النشاط التعاوني في المجال الاقتصادي من أهم ما يمكن أن يفيد على مستوى النهضة الاقتصادية، وعلى مستوى مواجهة المشكلة المعيشية، التي هي همّ، همّ وغم لدى الكثير من الأسر، لدى الكثير من الذين يعولون أسرهم، يفكر كيف يجلب احتياجات أسرته، كيف يعمل عملاً يدرُّ له الدخل الذي يغطي به الاحتياجات الضرورية لأسرته.

في العالم ماذا يفعل الناس؟ ينشئون مؤسسات تجارية استثمارية اقتصادية، شركات قائمة على المساهمات، يمكن جمع رأس مال مثلاً من مليون مواطن، أو من خمسمائة ألف مواطن، من خمسين ألف مواطن، من... على أي مستوى كان، فيصبح رأس مال ضخم، لنشاط استثماري فاعل، يساعد على معالجة الوضع الاقتصادي من جهة، على تقوية الإنتاج الداخلي، على معالجة مشكلة البطالة، وتشغيل اليد العاملة.

في بعض عمليات النصب في بلدنا، في بعض عمليات النصب والاحتيال، تمكَّن بعضهم من جمع مليارات، في واحدةٍ من حالات النصب قيل لنا أن المجموع بلغ أكثر أربعين مليار ريال، جمعت تحت عنوان نشاط استثماري وتجاري، ولكن بطريقة فيها نصب واحتيال ومخادعة، جمعت من ذوي الدخل المحدود، هذا ساهم، وهذا ساهم، البعض من خمسة آلاف ريال، وهكذا جمعت مبالغ ضخمة جداً.

لكن عندما نأتي إلى النشاط الاستثماري الذي يقوم على إنشاء شركات، ومؤسسات، وأنشطة استثمارية، يجب أن يكون على أساسٍ صحيح، وأن يكون أيضاً برعاية رسمية، أو مبادرات من جهات معروفة، مأمونة، موثوقة من أبناء الشعب؛ حتى لا يكون الإنسان ضحيةً لذوي النصب والاحتيال، لا يستجيب لأي شخص قد يكون شخصاً مغموراً مجهولاً، أو غير معروف، نصاباً ومحتالاً، ينادي بنشاط استثماري ونشاط تعاوني تساهمي.

النشاط التعاوني التساهمي يمكن أن يعالج لنا مشكلة الفقر في بلدنا إلى حدٍ كبير، وأن ينهض بوضعنا الاقتصادي، وأن يقوي عملية الإنتاج في الداخل، وتجتمع رؤوس أموال كثيرة حتى بالنسبة لذوي الدخل المحدود، هذه طريقة ميسَّرة لهم، وهم يفعلون في الخارج كذلك.

هناك أيضاً في بعض المجالات إمكانية أن تتعاون الدولة من جانبها، والتجار من جانبهم، وبقية المساهمين من المواطنين، تبقى مساحة ضخمة لمساهمة المواطنين في مجالات استثمارية ذات دخل كبير في واقع الشعب، وتنشيط الحركة التجارية من خلالها، هذا ما ينبغي أن يتشغل عليه الجانب الرسمي، وخارج الجانب الرسمي، ليبادر، هناك الكثير من الناس الذين فيهم خير، لديهم همة عالية، لديهم اهتمام كبير، لديهم وعي بأهمية هذه الأمور، وبأننا لابدَّ لنا من العمل، لابدَّ لنا من التحرك، أنَّ الذي يضرُّ بالناس هو تكاسلهم، شعوبنا مهما كانت لديها من الخيرات تصيح دائماً من الفقر، وكأنها لا تمتلك أي خيرات، لاحظ الوضع عندنا في اليمن، لاحظ الوضع مثلاً في السودان، من أحسن البلدان فيما يتعلق بالثروة الزراعية، وإمكانية الإنتاج الزراعي، وبالإمكان أن يتصدر كل الشعوب العربية في الإنتاج الزراعي، يعاني من أشد المعاناة، ليس هناك من يرعى نظام صالح، يرعى مصالح ذلك الشعب ضمن مصالح وأنشطة صحيحة.

عندنا أتى العدوان ليمثل عامل ضغط كبير جداً، ولكن أصبح الميدان الاقتصادي من ميادين الصراع، لابدَّ فيه من التحرك، مع الاعتماد على الله، مع اللجوء إلى الله "سبحانه وتعالى" ليمُنّ بالغيث، مع الاستقامة وفق توجيهاته وأمره، وهذا ما يمكن أن يهيئ للناس الحصول على البركات من الله "سبحانه وتعالى"، والرعاية من الله.

كذلك على مستوى التوجهات والسياسيات، مثلاً: من أهم ما نحتاج إليه فيما يتعلق بالإنتاج الداخلي، هو: السعي لتقليل الكلفة، وتحسين الجودة، المزارع بحاجة أن يعي ذلك، الشركات والمؤسسات الإنتاجية التي يمكن أن تنشأ، لتحرص على ذلك: كيف تسعى لتكون الكلفة أقل، والجودة تكون على مستوى جيد، لتنافس المنتج الخارجي.

ثم أيضاً السياسيات التي يلزم بها التجار في أن يتجهوا إلى العناية بالمنتج الداخلي وتسويقه، وألَّا يضربوه بالمنتج الخارجي، فتصبح حالة التعاون، المدعومة بالسياسات، والتوجهات، والإجراءات، على المستوى الرسمي، وعلى المستوى الشعبي، تصبح مثمرة، مجدية، لها بركتها، تعالج الكثير من المشاكل على المستوى الاقتصادي، تعالج حالة البؤس والحرمان، تحد من مستوى البطالة، وتعالج حتى ظاهرة التسول، مع الاهتمام بالزكاة، مع الاهتمام بالصدقات، مع الاهتمام بالإنفاق، كل ذلك يحتاج إلى عمل، يحتاج إلى إنتاج، يحتاج إلى تحرك اقتصادي استثماري، فالجانب الاقتصادي إذا فُعِّلَ فيه مبدأ التعاون وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، سيكون لذلك ثمرة عظيمة، ونتيجة كبيرة جداً.

على مستوى الجانب الخدمي، وعلى مستوى المشاريع الخدمية، من أهم ما نحتاج إليه هو التعاون، والتعاون سيحل مشكلة كبيرة جداً في هذا الجانب، كم من القرى التي هي بحاجة إلى الطرق، ليس لها طرق إليها؟ في بعض المناطق كيف حُلَّت هذه المشكلة؟ بالمبادرات الاجتماعية، المبادرات الاجتماعية التي يتعاون فيها الأهالي، فيشتغلون معاً، يتعاونون معاً، يتحركون معاً، على مستوى التمويل يعاونون ويساهمون بقدر ما يستطيعون، ثم يأتي من يعينهم رسمياً، أو خيرياً، ثم تنجح مشاريع مهمة جداً، ويحقق الناس معالجات مهمة جداً، لمشاكل حقيقية على المستوى الخدمي، يمكن تنشيط هذا الجانب، وتقوية التعاون فيه، ليكون مثلاً في بعض المناطق على مستوى أوسع من القرية، على مستوى القبيلة، على مستوى المديرية، في بعض الأمور على مستوى المحافظة، في بعض الأمور كذلك على مستوى أوسع مثلاً من تعاون التجار الخيرين والصالحين مع الجهات الرسمية، تعاون يخفف الكلفة، ويرفع مستوى الإنتاج، ويحقق النتائج الكبيرة، والنتائج العظيمة، والنتائج المهمة.

المبادرات الاجتماعية هي طريقة ناجحة، يجب أن تتعزز، وأن تتقوى، وأن تتوسع، وأن تنظم بشكلٍ أفضل، وأن تدعم بشكلٍ أقوى، وأن يلتفت الجميع على ضوء مبدأ التعاون؛ لأهميته الكبيرة، ونتيجته المهمة.

على مستوى الجانب الاجتماعي في المشاكل الاجتماعية، التعاون لابدَّ منه، التعاون مثمر في حل المشاكل الاجتماعية، التعاون أيضاً على تقوى الله "سبحانه وتعالى" في الحد من الظواهر السلبية، والسلوكيات التي قد تكون أحياناً بهدف إفساد المجتمع، عندما يكون هناك وعي مجتمعي لنبذها، لمحاربتها، لمنعها، للحد منها، بتعاون من أبناء المجتمع، بتفاهم من أبناء المجتمع، هذا تحصين للمجتمع من الاختراق المعادي.

مجتمعنا المسلم في هذا العصر مستهدف، في أخلاقه، في قيمه، في عفته، في طهارته، في صلاحه، مستهدف بشكلٍ كبير، والاستهداف عبر مختلف الوسائل، بما فيها الإنترنت، بما فيها مواقع التواصل، بما فيها وسائل كثيرة جداً، فإذا كان المجتمع نفسه مجتمعاً يتعاون على البر والتقوى، فهو سيحد بتعاونه وتفاهمه من الفساد، ومن الظواهر السلبية، وَسَيُحَصِّن نفسه بهذه الطريقة.

أيضاً بالحفاظ على القيم الأصيلة في المجتمع، والعادات الحسنة في المجتمع، ولدى مجتمعنا- بحمد الله- موروث عظيم من القيم الأصيلة، التي هي قيم قبلية إسلامية فطرية، إذا حافظ عليها المجتمع تصونه، تحصنه، تحميه من الاختراق، تحافظ على هويته، على قوته، على تماسكه، على انتمائه الإيماني.

أيضاً فيما يتعلق أيضاً بتيسير هو من التعاون على البر والتقوى، يحتاج إلى تعاون، التزام بسقف معين لا يتم تجاوزه في هذا الجانب، وإعانة الفقراء المتزوجين، التعاون على المستوى القبلي هو عادة راسخة في مجتمعنا اليمني، وهناك قواعد لكل قبيلة تلزمها بالتعاون والغرم الواحد، ويحل مشاكل كثيرة، وله إيجابيات مهمة، وكثيرٌ منه يجب الحفاظ عليه؛ لانسجامه مع التعليمات الإسلامية، وتعديل ما لا ينسجم مع شرع الله، ومنهج الله، وتعاليم الله "سبحانه وتعالى".

التعاون يعبِّر عن قيم عظيمة، مثل: الرحمة، مثل: إرادة الخير للآخرين، مثل: خلاص الإنسان من الأنانية، والتعاون يعبِّر عن وعي؛ لأنه فعلاً الإنسان الذي يعي أهمية التعاون، يدرك جيداً أنه بكل الاعتبارات هو ربح للمجتمع، حتى الذي يفكر تفكيراً شخصياً، حتى الأناني، الذي لا يهمه إلا نفسه، ليدرك أن التعاون سيفيده لنفسه، سيفيده لمصلحته، والتعاون أصلاً لا يلغي خصوصية الفرد، ولا يلغي ملكية الفرد لأملاكه الشخصية، التعاون ليس مثل الاشتراكية الشيوعية التي كانت زمان قائمة تلغي ملكية الفرد، التعاون هو لمصلحة الفرد، ولمصلحة المجتمع، التعاون منه ما هو إسهام مباشر، وما هو تنسيق للجهود، لتصب في مصبٍ واحد، فالتعاون له ثمرته، وأهميته، وقيمته في كل شيء، في كل شيء، التعاون على البر والتقوى.

أيضاً قال الله تعالى بعد ذلك: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: من الآية2]، بقدر ما للتعاون على البر والتقوى من أهمية، من قيمة إنسانية وأخلاقية، ومن أثرٍ إيجابيٍ عظيم، من ثمرةٍ طيبة، من نتائج عظيمة ومباركة، بقدر ما له من تأثيرٍ إيجابي لصالح المجتمع في دينه ودنياه، هناك في المقابل خطورة كبيرة، وسلبية كبيرة، ونتائج سيئة جداً للتعاون على الإثم والعدوان.

الإثم: مختلف أنواع المعاصي والذنوب.

والعدوان: العدوان على العباد بغير حق.

حالة التعاون على الإثم، لنشر جريمة معينة، أو منكر معين، أو فساد معين، بأي أسلوب، بأي طريقة: مادياً، أو إعلامياً، أو بالممارسة والنشاط المباشر بأي شكل، يضاعف من الجرم، يضاعف من الإثم، يضاعف من الوزر، وفي نفس الوقت يمثل خطورةً أكبر، قد تكون هناك مثلاً أحياناً ممارسات فردية، محاربتها والحد منها أيسر، لكن ما الذي يعمم الفساد؟ ما الذي يعمم المنكر؟ ما الذي ينشره أكثر؟ هو التعاون عليه، الترويج له، الإسهام فيه بنشاط جماعي، وجهد جماعي، وتنسيق جماعي، فلذلك يعتبر فظيعاً وشنيعاً وخطيراً جداً.

العدوان كذلك نرى دولاً بأكملها تتعاون على العدوان في واقع أمتنا، في واقع شعبنا، دول وكيانات تعاونت في العدوان على شعبنا، فكان الجرم عظيماً، والظلم كبيراً؛ فكان لذلك آثار كبيرة بالغة الضرر، وفظيعة في مستوى الإجرام، كذلك نرى دولاً كثيرة من الكافرين والمنافقين وكيانات كثيرة تتعاون في ظلم الشعب الفلسطيني، والكثير من الأنظمة العربية هي تساهم في الظلم للشعب الفلسطيني بشكلٍ أو بآخر، أمَّا الذين دخلوا في التطبيع فأصبحوا يتعاونون بشكلٍ مباشر في العدوان على الشعب الفلسطيني، وبالإضرار بالشعب الفلسطيني.

التعاون في الإثم والعدوان على أي مستوى: مستوى دول، كيانات، مجتمعات، وإلى أي مستوى يصل: على مستوى قبيلة معينة، مجتمع معين، محرمٌ شرعاً، ولا يجوز أبداً، لا بدافع عصبية، ولا بدافع أطماع وأهواء، ولا بدافع روابط بأي شكلٍ من الأشكال، التعاون على الإثم وزره كبير وضرره كبير، والتعاون على العدوان وزره كبير وضرره كبير.

على الناس أن يتعاونوا على تقوى الله، للالتزام بتوجيهات الله، لتنفيذ تعليمات الله "سبحانه وتعالى"، في أي أمة، في أي مستوى، في أي كيان، في أي مجال، في أي عمل، يكون هذا المبدأ هو المبدأ الأساسي الذي يضبط جهدك مع الآخرين، تعاونك مع الآخرين، علاقتك مع الآخرين، أن تكون في إطار البر والتقوى.

وألَّا تتعاون معهم أياً كانوا، أصحابك، حزبك، جماعتك، قبيلتك، أمتك، بأي مستوى كان، أصدقاؤك، أن يضبط تعاونك معهم هذا الضابط: على البر والتقوى، وألَّا تتعاون معهم على الإثم والعدوان، وأياً كان الذي تتعاون معه، بأي اسم، بأي صفة، لا تتعاون مع أحد على الإثم والعدوان، اتسعت حالة التعاون أو قصرت، هي خطيرة عندما تكون على الإثم والعدوان.

هي مهمة، ومثمرة، ومباركة، وإيجابية، وأجرها عظيم، وفضلها كبير، ونتائجها عظيمة، ويد الله مع الجماعة، عندما تكون في البر وعلى البر والتقوى؛ لأن الجرم كبير في التعاون على الإثم والعدوان.

ختمت الآية المباركة بقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة: من الآية2]، الله شديد العقاب، إذا كان التعاون على الإثم والعدوان يجعل من يتعاونون عليه أشداء في جبروتهم، في بطشهم، ويجعل التعاون على الإثم فاعلاً أكثر، منتشراً أكثر، فشدة العقاب من الله "سبحانه وتعالى" هي الجزاء، هي الجزاء، ولذلك يجب علينا أن نتنبه لخطورة التعاون على الإثم والعدوان في كل شيء، في كل المجالات.

حتى في مواقع التواصل، ما أكثر ما يحصل التعاون فيها على الإثم وعلى العدوان، يأتي من يغرد ليهاجم شخصاً معيناً، قد يفتري عليه، قد يفرط في موقفه منه، فتأتي تباعاً لذلك الكثير من التغريدات المؤيدة، أو كذلك في إثم معين، فيأتي من يؤيد، ويشترك ويساهم، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي من أكثر ما يحصل فيه التعاون على الإثم والعدوان، ويتحمل الكثير من خلال ذلك من الأوزار والذنوب، التي تبطل أعمالهم، وتحبط أعمالهم الصالحة، قد يحبط الإنسان حتى صلاته، وصيامه، وأعماله الصالحة، وأصبحت أيضاً من الميادين التي لابدَّ فيها من التعاون على البر والتقوى، وتنسيق هذا التعاون؛ حتى يكون الحضور فيه حضوراً أقوى، وحضوراً فاعلاً، وإيجابياً، ومؤثراً، ونافعاً.

الحديث عن تطبيقات ما يتعلق بالتعاون على البر والتقوى واسعٌ جداً، واسعٌ جداً بسعة حياتنا ومجالات أعمالنا، والحديث عن سلبيات ومخاطر وتطبيقات التعاون على الإثم والعدوان واسعٌ جداً، يدخل في كل مجال، يصل إلى كل تفصيل، هذه إشارات، هذه تنبيهات، هذا هو لفت نظر إلى أهمية الموضوع.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...