السبت، 16 أبريل 2022

نص المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

الاستقامة في مسيرة هذه الحياة على أساس العبودية لله “سبحانه وتعالى” (رَبُّنَا اللَّهُ)، ووفق هديه وأمره، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}[هود: من الآية112]، هي ما ينبغي السعي لتحقيقه والحرص عليه، وهي خيار المؤمنين الفائزين، المعبِّر عن الانتماء الإيماني الواعي والصادق، وهي نعمةٌ عظيمةٌ، إذا وفِّق الإنسان لذلك، فهو توفيقٌ كبير، ونعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله بها عليه؛ لأنها يترتب عليها الخير، والعزة، والشرف في الدنيا، والفوز العظيم في الآخرة.

كما أشرنا بالأمس: هي الطريق التي يحقق للإنسان كرامته الإنسانية، فيعيش متحرراً، كريماً، عزيزاً، ليس عبداً للشيطان، ليس عبداً للطاغوت، ليس عبداً لأولياء الشيطان، ليس عبداً لهوى النفس، الذي يُعَبِّدُ الإنسان للشيطان، ينطلق الإنسان في طريق الاستقامة وهو عبدٌ لله “سبحانه وتعالى”، ووفق هدي الله الرحيم، العظيم، الكريم، يحظى بصلةٍ إيمانيةٍ مع الله “سبحانه وتعالى”، يحبه الله، ويحيطه برعايته الواسعة، وتوفيقاته الكبيرة.

والله “سبحانه وتعالى” هو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وذو الفضل الواسع العظيم، يريد لكل عباده الخير، يبتدئهم بالنعمة، وَيَمُنُّ عليهم بالإرشاد إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة، إلى ما فيه نجاتهم، وفلاحهم، وصلاحهم، واستقامة حياتهم في الدنيا والآخرة، يعد الذين يستجيبون له بالحياة الطيِّبة، والفوز العظيم، وبرضوانه، وجنته، والسَّلامة من عذابه.

وهو “سبحانه وتعالى” كما يبتدئ عباده بالخير، والرحمة، والنعمة، والفضل، ويقدِّم لهم ما فيه الإرشاد لهم إلى نجاتهم، عندما يستجيبون له، هو يزيدهم هدايةً، يزيدهم نوراً، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال: من الآية29]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد: من الآية17].

وهو “سبحانه وتعالى” يزكي أنفسهم عندما يستجيبون له، فيمنُّ عليهم برعايته الواسعة، التي جزءٌ كبيرٌ منها يتعلق بزيادة الصلاح، والتقوى، والنور، والهداية، والسمو، والارتقاء الإيماني والإنساني والأخلاقي.

وهو “سبحانه وتعالى” يختبر عباده في هذه الحياة، لكنه يريد لهم الفوز، يريد لهم السعادة، يريد لهم أن تتحقق لهم النتائج العظيمة؛ لأنه غنيٌ عنهم، وغنيٌ عن أعمالهم، وعن عبادتهم، فهو “سبحانه وتعالى” لا يجعل اختباره وسيلةً من أجل إبعادهم وإقصائهم عن النتائج العظيمة لاستقامتهم، أو أنه يسعى لعرقلتهم؛ حتى لا يواصلوا المسير الذي يوصلهم إلى رضوانه، إلى جنته.

الاختبار يأتي في هذه الحياة كجزءٍ أساسيٍ من تكليف الإنسان، ومسؤولياته، وظروف حياته، والإنسان المستقيم يحظى بمعونةٍ من الله “سبحانه وتعالى”، ويستفيد من ارتقائه الإيماني والأخلاقي في مواجهة الاختبارات، فتكون النتيجة بالنسبة له نتيجةً إيجابية، يزداد نوراً، يزداد توفيقاً، يحظى برعايةٍ أكبر من الله “سبحانه وتعالى”.

أمَّا إذا كان مُعْوَجاً، ويتعاظم الخبث في نفسه، وهو يحتفظ به، لا ينطلق انطلاقة الاستقامة الصحيحة، السليمة، المبنية على الاستجابة، المبنية على الإنابة إلى الله “سبحانه وتعالى”، على مراجعة النفس، على تصحيح الخطأ، بل يستمر في حالةٍ من الاعوجاج، والاحتفاظ بما يسبب له خبث النفس، بما له تأثيرٌ سيئٌ عليه؛ فهو عند الاختبار يسقط، عند الاختبار يعوج، ويزيغ عن خط الاستقامة، وينحرف، وهذا هو ما يحصل للبعض من الناس، كما قلنا بالأمس: هو حالةٌ واقعيةٍ.

البعض حتى في صدر الإسلام، كانوا بعد إسلامهم على يد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، فيما بعد يرتدون عن الإسلام، البعض يرتدوا إلى الكفر، والبعض أيضاً لا يرتدون إلى الكفر، لكنهم يرتدون إلى النفاق، والبعض ينحرفون على المستوى السلوكي، والأخلاقي، والعملي، وهذه حالة معروفٌ تحدَّث عنها القرآن الكريم كثيراً، وهو يفرز المجتمع المسلم آنذاك، ويُبَيِّن الحالات المختلفة، وَيُبَيِّن الاختبار الذي يكشف الحالة القائمة، الحالة الواقعية، كما قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179].

فإذا كان الإنسان معرَّضاً لحالة الاعوجاج، للانحراف عن خط الاستقامة، فهو بحاجةٍ إلى أن يكون:

متنبهاً لهذه المسألة.
حريصاً على الأخذ بأسباب التوفيق.
حريصاً على الالتجاء إلى الله “سبحانه وتعالى” ليثبِّته.
والأخذ بالأسباب، التي تساعده على الثبات، على الاستمرارية، على أن يصل ما أمر الله به أن يوصل، على أن يستقيم، يستقيم على المنطلق الإيماني العظيم، القائم على قول: (رَبُّنَا اللَّهُ).
فهذه المسألة إذا كانت محط اهتمام لدى الإنسان، فهي مسألةٌ مهمةٌ جداً، هذا من أول المتطلبات اللازمة التي تساعد على الاستقامة: إدراك الإنسان لأهمية المسألة، ومحاذرته للانحراف، للزيغ، للاعوجاج عن خط الاستقامة.

طريق الاستقامة– كما قلنا- طريقٌ عظيم، فيه خير الدنيا والآخرة، فيه الشرف والكرامة، ولذلك يقول الله عنه في القرآن الكريم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ}[المائدة: من الآية54]، عندما يقدِّم المواصفات الإيمانية الراقية، التي يجب أن نتحلى بها، أن نلتزم بها، أن نسير في مسيرة حياتنا على أساسها، يقول في نهاية المطاف: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}[المائدة: من الآية54]، فضلٌ عظيم، شرفٌ كبير، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: من الآية7]، فهي نعمةٌ كبيرة، وهي شرفٌ كبير، ويحتاج الإنسان إلى أن يستشعر هذه المسألة؛ ليدرك قيمة أن يكون في طريق الحق، في موقف الحق، أن يكون منطلقاً وفق أمر الله، وفق هدي الله “سبحانه وتعالى”، ومستقيماً على أساس ذلك.

مثلما يمنح الله “سبحانه وتعالى” الهداية، والرعاية، والتوفيق، والسداد، ففي طريق الحق ما يساعد الإنسان على الاستقامة، من حيث الأثر التربوي، والعطاء التربوي، الذي يزيد الإنسان زكاءً، وطهراً، وصلاحاً، ورغبةً في طريق الحق، ومحبةً، وعشقاً لموقف الحق، ولصالح الأعمال، ولحميد الصفات، وهذه مسألةٌ مهمةٌ جداً، تساعد الإنسان على مواصلة السير، ومواجهة التحديات، والتحمل أيضاً والثبات تجاه المؤثرات، التي عادةً ما تكون مؤثراتٍ سلبية.

الله يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة: من الآية143]، الله “سبحانه وتعالى” يريد لكم الفوز، ولا يريد أن يضيع إيمانكم، أن يضيع جهادكم، أن يضيع عملكم الصالح، بل هو “سبحانه وتعالى” من يقدِّم لكم ما يحافظ على عملكم، على إيمانكم، عليكم في حالة الاستقامة والاستمرارية، وهو القائل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}؛ إنما هذا يتطلب منا أن ننطلق الانطلاقة السليمة، وأن نرجع إلى الله “سبحانه وتعالى” على الدوام.

في حالة الانحراف، وحالة الزيغ، وحالة الاعوجاج، لها أشكالٌ متعددة:
تبدأ- في الأعم الأغلب- بشكل اعوجاجٍ عملي، اعوجاج في العمل، إمَّا على المستوى السلوكي، أو على مستوى الموقف، تصرفات الإنسان التي يخالف بها أوامر الله، توجيهات الله “سبحانه وتعالى”:

إمَّا في إطار المعاصي المباشرة:
يعصي الله من المعاصي التي نهى عنها، من المعاصي والذنوب والجرائم، ويستمر على ذلك، لا يتوب إلى الله، لا ينيب إلى الله، لا يرجع إلى الله، يتحول ذلك إلى سلوكٍ يستمر عليه، تمثل هذه الحالة أثراً سيئاً على الإنسان، على نفسيته، على مشاعره، وتبعده عن التوفيق الإلهي، ويكون لها الآثار السيئة، التي تصل به- في نهاية المطاف- إلى الاعوجاج بشكل كامل، أو إلى الانحراف بشكلٍ كامل، قد يواجه حالة اختبارٍ كبير.

أو ما يتعلق بأداء الإنسان لمسؤولياته، إذا لم يؤدِّها وفق هدي الله، وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”:
وكان يشوب أداءه العملي الكثير من التصرفات المزاجية، والتي تخالف توجيهات الله، وتعليمات الله، فيدخل في العمل نفسه التصرفات السيئة، الإساءات، ما قد يكون ظلماً، ما قد يكون خطأً، ما قد يكون تفريطاً، تفريطاً في أداء المسؤولية… أشياء كثيرة يمكن أن تمثل تأثيراً سيئاً على عمله، وعلى قبول عمله، مبعثها مزاجه الشخصي، هوى نفسه، عدم اهتمامه وعدم حرصه على أن يؤدِّي عمله بشكلٍ صحيح، وبشكلٍ سليم.

أيضاً من حالات الاعوجاج: الاعوجاج العملي الذي يتطور فيما بعد إلى فكري:
الإنسان- مثلاً- قد ينحرف في إدائه العملي، قد يخطئ في أدائه العملي، ثم يتعمد الاستمرار على ذلك، وقد تأتي منه التصرفات السيئة في واقعه العملي، المخالفة لأمر الله، لهدي الله، التي لا تتطابق مع هدي الله “سبحانه وتعالى” وأمره، ثم يأتي فيما بعد ذلك إلى التبرير، إلى تبرير انحرافاته، إلى تبرير مخالفاته، وإلى التنظير لها فيما بعد؛ ليجعل لها إطارها ومستندها الفكري، ولكنه على أساس التحريف، على أساس ضلالٍ يقدِّمه، ليس على أساس حقٍ يدعم موقفه؛ إنما يستند في موقفه الباطل إلى باطل، في تصرفه الخاطئ يستند إلى تزييف للحقائق.

وهذا يحصل من الكثير من الناس، بالذات من يكونون مثقفين وينحرفون، ثم يريدون أن يبرروا انحرافاتهم، يأتي ليلفق لها تلفيقاً ثقافياً، وتنظيراً ثقافياً، فيراكم من سلبياته، يراكم من حالة الانحراف التي يجعلها حالةً عمليةً، وحالةً فكريةً يُنَظِّرُ لها، يبرر لها، وقد يصل إلى درجة الافتراء على الله “سبحانه وتعالى”، وهذه حالةٌ خطيرةٌ جداً.

من حالات أيضاً الاعوجاج والانحراف: الانحراف العملي الذي يتطور إلى مواقف سلبية:
الإنسان قد يخالف، قد يعاند، قد تصدر منه تصرفات سيئة في الواقع العملي، فيما يتعلق إمَّا- كما قلنا- بإدائه وطريقة أدائه لمسؤولياته، لا يؤديها وفق هدي الله، في أسلوبه، في سلوكه، في القيم التي وجَّه الله إليها في القرآن الكريم، التي يكون العمل بها صالحاً، ويحقق ثمرته المرجوة، وثمرته المطلوبة، أو غير ذلك، يترافق مع ذلك أعمال سيئة من الأعمال السيئة الواضحة المنحرفة.

ثم بعد ذلك، بعد أن يكون قد انحرف، أصرَّ على ذلك، سُلِبَ التوفيق، يتحول من حالة الاعوجاج عن خط الاستقامة، عن الطريق الصحيح، عن العمل الصحيح، عن الموقف الصحيح، إلى اتخاذ المواقف السلبية، فيتحرك في الساحة يصد عن سبيل الله “سبحانه وتعالى”، يتبنى المواقف السلبية من الحق بكله، من طريق الحق بكله، يتحول دوره إلى دور صاد عن سبيل الله “سبحانه وتعالى”، دور يخدم أعداء الحق، يخدم أعداء الإيمان، وأعداء التقوى، أعداء المنهج الحق، يسير فيما يسايرهم فيه، فيما يؤيِّد البعض من مواقفهم، أو كل مواقفهم.

وهذه حالة تحصل للكثير من الناس، ينطلق، ولكنه في انطلاقته هناك الكثير من الشوائب، والسلبيات، والتصرفات السيئة، ثم في الأخير قد ينحرف، وبعد انحرافه واعوجاجه يتبنى المواقف السلبية، المواقف الصادة، المواقف المثبِّطة، المواقف المسيئة، المواقف المخذِّلة، فهو ذلك يترك اتجاهه في طريق الحق أصلاً، ثم يتجه الاتجاه السلبي، الاتجاه السيئة، الاتجاه المناوئ، إما في طريق النفاق مباشرةً، أو في طريق الذين في قلوبهم مرض، كما يسميهم القرآن الكريم، وهذا يحصل للكثير من الناس.

البعض تبقى الحالة لديه حالة انحراف، لكنها حالة خطيرة، تسلبه التوفيق، يبتعد بها عن الاتجاه العملي الصحيح، يعبِّد نفسه لهوى النفس، وفي الأخير يخسر، يخسر اتجاهه العملي الصحيح.

هذه بعضٌ من أشكال الاعوجاج والانحراف والزيغ، التي تحصل بعد أن يكون الإنسان قد انطلق أساساً، وتحرك أساساً في طريق الحق.

أمَّا فيما يتعلق بعوامل الانحراف، وعوامل الاعوجاج والزيغ، ففي أولها: هوى النفس:
هوى النفس عنوان يشمل الكثير من التفاصيل، وهو عنوانٌ مهمٌ جداً، القرآن ركَّز على هذا الموضوع، تحدث عن هوى النفس كثيراً، عن مخاطره، عن آثاره السيئة، والله “جلَّ شأنه” قال لنبيه داوود عليه السلام؛ ليكون ذلك ذكرى لكل إنسانٍ مؤمن: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: من الآية26]، الإنسان إذا اتَّبع هوى نفسه، مال به عن سبيل الله، عن طريق الحق، عن منهج الحق، وزاغ به عن ذلك، مسألةٌ خطيرةٌ جداً.

من التفاصيل التي تندرج في إطار هوى النفس، هي: الأطماع المعنوية:
هذا يأتي عند التمكين، عند التمكين، عند النصر تتحرك الأطماع المعنوية لدى البعض، فيصبح طامعاً في أن يحصل على المناصب الكبيرة، وأن يكون له سمعته الكبيرة، وأن يكون له نفوذه الكبير، وتأثيره الكبير، ومقامه الكبير في أوساط الناس، فيكون له صفة معينة، ومنصب معين، فيكون له أيضاً موقع مهم جداً، ونفوذ، وتأثير، وتصبح هذه المسألة بالنسبة له مسألةً أساسية، إلى درجة أنه لو لم يحصل عليها؛ فسيترك طريق الحق بكله، تدخل هي فتكون هي هدفه الرئيسي.

قد يكون انطلق في البداية بنيةٍ خالصةٍ من أجل الله “سبحانه وتعالى”، يبتغي مرضاة الله، عاشقاً لموقف الحق، لطريق الحق، ولكن يحصل الانحراف في داخل نفسه، على مستوى الهدف، على مستوى مبتغاه، وعلى مستوى وجهته التي يتحرك من أجلها، فبدلاً من أن يبقى الهدف هو: مرضاة الله “سبحانه وتعالى”، والمنزلة العالية عند الله “جلَّ شأنه”، والمقام الكبير عند الله “سبحانه وتعالى”، يتحول الموقع، والمنصب، والسمعة، والهالة، هي المسألة المهمة، وحتى اللقب، وحتى الصفة، تتحول هي المسألة المهمة، التي يبني عليها توجهه، موقفه، رضاه، إذا لم يحصل عليها، سيتحول إلى إنسانٍ ساخط، حاقد، متذمر، معقد، يتخذ موقفه من الحق وأهل الحق، يقعد، يقعد، ويتخاذل، ويتنصَّل عن المسؤولية؛ لأن الموضوع المهم الذي أصبح بالنسبة له هو الأساس في أن يواصل مسيره، في أن يتحرك، في أن ينطلق، هو ذلك المبتغى، هو ذلك الموقع، هو ذلك المنصب، هي تلك السمعة والهالة، هو ذلك اللقب حتى.

البعض على مستوى الرتبة، إذا كان لا يحصل على رتبة معينة، أو موقع معين، فهو سيتراجع عن طريق الحق، وسيتغير، ويغيِّر موقفه بشكلٍ تام، ويتنصَّل عن مسؤولياته، ثم لا يرغب في طريق الحق أصلاً، اختزل كل آماله، كل اهتماماته في ذلك، وانفصل في آماله عن الله “سبحانه وتعالى”، وعمَّا عند الله، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[القصص: من الآية60].

أيضاً في حالات التمكين تبرز الأطماع المادية:
البعض قد تبرز لديه الأطماع بكلها: المعنوية، والمادية، يريد المنصب، يريد السمعة، يريد اللقب، يريد الموقع، يريد النفوذ، يريد المال، فإذا اجتمعت، اجتمعت الآفات معها، الآفات النفسية، وابتعد كثيراً عن روحيته الإيمانية، عن إخلاصه لله “سبحانه وتعالى”، عن توجهه الصادق، وبات المحرِّك له، المؤثِّر حتى على أدائه، على أعماله، على اهتماماته، هو تلك الأطماع، وتلك الأهواء، وتلك الرغبات.

وهذه حالةٌ خطيرةٌ جداً، وتحصل للكثير من الناس، ينطلق في بداية الأمر انطلاقةً نظيفة، صافية، حتى البعض ينطلق في ظروف صعبة جداً، ظروف الغالب فيها المخاوف أكثر من الأطماع، لا وجود فيها- أصلاً- للأطماع، في بعض المراحل ليس هناك ما تطمع فيه، هناك ما يخاف الكثير منه، هناك المخاوف، هناك الأخطار، هناك التحديات، وقد يتجاوز البعض هذه الحالة، وتلك المراحل، يتجاوزها بنجاح، ولكنه عندما يصل إلى مرحلة التمكين، فتأتي السمعة، تأتي المناصب، تأتي المواقع، يأتي النفوذ، تأتي الألقاب، يسقط أمام هذا الامتحان، ولا يتحمل، ولا يتماسك، تتغير نفسيته، وأهدافه، وتوجهاته، واهتماماته، لتتحول بكلها نحو ذلك؛ فيصبح صنمه الكبير هو المنصب، هو السمعة، هو الموقع، هو النفوذ، هو اللقب، هو الصفة تلك، الصفة التي يوصف بها في موقعه ومنصبه، هذه حالة خطيرة جداً، على الإنسان أن يتنبَّه منها.

الأطماع المادية خطيرةٌ على الإنسان، إذا أصبح الإنسان يحمل التوجه المادي، منشداً إلى الإمكانات المادية، يريد الكثير من الأموال، يريد الحياة المرفهة بأي ثمن، بأي ثمن، فهو سيندفع من وراء ذلك ليجعل كل اهتمامه، كل آماله، كل انطلاقته مبنيةً على الحصول على ذلك، فإذا حصل على ذلك؛ كان راضياً، ومتفاعلاً، وإيجابياً، ومنطلقاً، وإذا لم يحصل على ذلك؛ تغيَّرت نفسيته، إلى إنسانٍ متذمر، وحاقد، وساخط، وغاضب، ومنفعل، ومستاء جداً، ثم يتبنَّى المواقف السلبية، ثم يبحث عن كل العناوين التي يجعل منها ذريعةً للإساءة، ذريعةً لإطلاق المواقف السلبية، للصد عن سبيل الله “سبحانه وتعالى”، للتخريب، للتثبيط، لخلخلة الصف من الداخل، والموضوع الرئيسي هو في واقع الحال، مهما كثرة العناوين التي يطلقها، والكلمات، والأشياء التي يجعل منها ذريعةً لإساءاته، ومواقفه الساخطة، يكون الموضوع في أساسه هو الدافع المادي، هو الطمع، هو الهوى.

كما يدفع البعض أيضاً للخيانة، للخيانة في المال، في الحق العام، في المال الذي ليس خاصاً به، يتعلق بمسؤولياته، أو إلى الظلم في أن يحصل على أموال محرَّمة عن طريقٍ فيها ظلمٌ لعباد الله، فيها أخذٌ للحرام، لحقوق الناس، فتمثل حالة اعوجاجٍ خطيرٍ جداً عن خط الاستقامة، يسبب للإنسان سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، ويحبط الإنسان كل ما قد سبق منه من الأعمال الصالحة، ثم لا يوفق فيما بقي، والذي سيخسره هو الكثير؛ لأن الإنسان لو حاز الدنيا بحذافيرها، لو ملك الأرض بكل ما فيها، أو كان له ما يعادل الأرض ذهباً لافتدى به يوم القيامة من سوء العذاب، من عذاب الله الشديد، لو أن لهم ما في الأرض ومثله معه لافتدوا به.

الذي ستحصل عليه وأنت ستعوج عن طريق الحق، وأنت ستخالف قيمك، ومبادئك، واتجاهك الصحيح، شيءٌ تافه، شيءٌ لا يساوي شيئاً أبداً في مقابل ما خسرته، خسرت الجنة، خسرت السعادة الأبدية خسرت سمو نفسك، كرامة نفسك، قيم إيمانك، شرفك في موقف الحق؛ لأن الطمع دناءة، الطمع انحطاط، هو يحط من مرتبة الإنسان، من كرامته، خطيرٌ على النفس، وهو خطيرٌ جداً على شرف الإنسان، وعلى كرامته.

فالحالة حالة الأطماع المادية هي من ضمن هوى النفس، والإنسان عندما ينطلق فيها ينطلق أحياناً بنظرة الاستحقاق، يعتبر نفسه مستحقاً لأن تُلَبِّى كل طلباته المادية، وأن تتوفر له كل رغباته المادية؛ لأنه قد وقف موقف الحق، فيريد ثمنه من الناس، أو من حقوق الناس، أو من الحق العام، فتفتتح شهية الطمع والجشع إلى أقصى حد، ويحمل معها هذه النظرة (نظرة الاستحقاق)، أنه أصبح يحق له أن يحصل على كذا وكذا وكذا، وأصبح يتمنن، يتمنن بموقفه، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}[الحجرات: من الآية17]، يصبح الإنسان كثير التمنن: [أنا وقفت في موقف كذا، وأنا فعلت كذا، فلماذا لا تعطوني كذا؟!]، يصبح أمامه هناك قائمة طويلة من المطالب الشخصية، والرغبات الشخصية، التي يرى لزاماً على الآخرين أن يوفِّروها له، وأن يؤدوها إليه وفق ما يرغب به، وبأسرع وقت، وألَّا يتأخروا عن ذلك، حالة خطيرة جداً حالة الطمع.

من العوامل المؤثرة جداً بشكلٍ سلبيٍ فظيع على توجه الإنسان وعلى استقامته، هي: حالة الغرور، والعجب، والتمحور حول الذات:
البعض مثلاً ينطلق، وقد يكون حتى في مراحل السبق، ينطلق من مراحل مبكرة، هذا بتوفيق الله عليه، ونعمةٌ كبيرةٌ من الله عليه، ويُقّدِّم الأعمال، ويتحرك، سيحظى من خلال ذلك بتوفيقٍ من الله “سبحانه وتعالى”، وبشرف التوجه في طريق الحق، الإنسان يحصل على ذلك عادةً.

في مراحل معينة تأتيه حالة الغرور؛ نتيجة الغفلة عن الله، لم يعد يحسب ما يوفَّق له أنه مِنَّةٌ من الله، يعتبره توفيقاً من الله، ونعمةً من الله، أصبح يعتبر ذلك عائداً إلى عبقريته الشخصية، إلى أنه- في نظر نفسه- إنسانٌ مهمٌ جداً، موهوبٌ وعبقريٌ، وأنَّ كل نجاح يحققه يعود إلى ذاته، إلى عبقريته الشخصية، وينسى الله، وينسى الفضل لله، وينسى المنَّة لله “سبحانه وتعالى”؛ فتعظم نفسه عنده، تعظم شيئاً فشيئاً فشيئاً، حتى يرى نفسه عظيماً جداً، ويرى نفسه إنساناً عبقرياً، بعيداً عن التقصير، بعيداً عن القصور، ويرى لنفسه منزلةً عاليةً جداً، وشأناً عظيماً، يفترض من خلاله من الناس أن يتعاملوا معه وفق ذلك: أن يُعَظِّموه دائماً، أن يُقَدِّسوه دائماً، أن يخضعوا له في كل ما يشاء ويريد ويبتغي، أن يلبوا له كل طلب، أن يتعاملوا معه بخضوع وخشوع، يتناسب مع المقام الذي افترضه لنفسه.

ويصحب ذلك- عادةً- سوء تعامل من جانبه مع الناس، يفقد التواضع، لم يعد يتعامل مع الناس بتواضع، تكثر جرأته في الإساءة إلى الناس؛ لأنه يرى نفسه شيئاً عظيماً، ويرى الناس لا شيء من حوله، فهو جريءٌ بالإساءة إليهم، وفي نفس الوقت يفترض منهم غاية الاحترام له، منتهى الاحترام له، ويفترض من جانبه أن ليس عليه أن يعاملهم أصلاً بأي احترام، ولا بأي تقدير.

فتنعكس حالة الغرور في معاملته مع الناس، في أسلوبه في التعامل، وفي أدائه للمسؤولية، لم يعد يؤدي المسؤولية بأخلاقها، بقيمها، بتواضع، باهتمام، بحرص، بإخلاص، بصدق، بجد، ينطلق من منطلقٍ شخصيٍ في كل الأمور، بمعنى: المحور عنده هو ذاته، المعيار عنده هو نفسه وشخصه، يتعامل مع الناس بناءً على ذلك، كيف هم تجاهه، حتى في أدائه للمسؤولية، هو يؤدِّي المسؤولية مثلاً الأعمال التي قد يتصور أنها ذات شهرة يعمل على أساسها، الأعمال التي قد لا تكون ذات شهرة مهما كانت مهمة لا يرغب فيها، الناس الذين يتملقون له، ويبالغون في الثناء عليه؛ يحبهم جداً، يرتاح لهم جداً، يعتبرهم الناس الجيدين، ويكره الآخرين حتى بمجرد أن ينصحوه، إذا نُصح من جانبهم بنصيحة، أو نبهوه على جوانب قصور، أو خطأ، ولو كان بشكلٍ أخويٍ، وبشكلٍ مؤدب، وبشكلٍ محترم، فالنصيحة تستفزه غاية الاستفزاز، يتعقد من ذلك جداً.

ثم التمحور حول الذات يجعل الإنسان يشخصن كل شيء، يشخصن كل ما يأتي من الناس إليه، يعتبر الموضوع موضوعاً شخصياً، موقفاً شخصياً، عقدةً شخصية، وينظر إلى الأمور في الواقع العملي من هذا المنظور، وهذه حالةٌ خطيرة؛ لأنها تبعد الإنسان عن الله، تجعله يتنكر لنعم الله عليه، وفي نهاية المطاف لها آثارها السيئة، التي تجعل الإنسان يخسر العمل الصالح، يخسر حتى ما يمكن أن يعطيه الله من مودةٍ في قلوب المؤمنين، من منزلةٍ في قلوب عباد الله، ولا يصل إلى آماله؛ إنما يُعَذِّب نفسه بالعقد النفسية التي تتراكم، ويتعبه كل شيء، كل شيء يمثل إشكاليةً معه، كلمة نصح، تقوم القيامة بسببها، ملاحظة، يقوم ولا يقعد تجاهها، إشكاليات في الواقع العملي، يشخصن كل شيء ويفسر كل شيء بتفسير شخصي، ويبقى دائماً منشغلاً بذاته، بشخصه، يخوض المعارك الكثيرة على المستوى الكلامي وعلى المستوى العملي على هذا الأساس، وهذه حالة خطيرة جداً، والتربية الإيمانية هي تجعل الإنسان بعيداً عن ذلك، وسنأتي إلى التنبيه عن هذه المسألة.

من عوامل الانحراف التي هي تابعةٌ لهوى النفس، متفرعةٌ عن هوى النفس: الطغيان:
الطغيان وتأتي في مرحلة التمكين، البعض مثلاً في المراحل الصعبة، في الظروف والتحديات الكبيرة، كان يتحرك في سبيل الله وفي طريق الحق، لكن عندما تأتي مرحلة التمكين يطغى، يطغى، يتجاوز الحد، يظلم، يتكبر على عباد الله، لا يبقى ملتزماً وفق هدي الله، وفق أمر الله، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا}[هود: من الآية112]، قد يظلم إذا غضب، إذا انفعل، إذا ساءه شيء، يتعامل مع ما يسوؤه، أو مع ما يغضبه، بطريقة فيها تجاوز للحق، تجاوز للعدل، وهذه حالةٌ خطيرةٌ جداً على الإنسان، وهي- كما قلنا- تأتي في حالة التمكين، البعض يطغى إذا تمكَّن، ولهذا عندما قال الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا}؛ لأن الطغيان حالةٌ خطيرة، حالةٌ خطيرة.

عندما يصبح الإنسان متمكناً، وبمجرد أن يغضب من شيء، أو يسوؤه شيء، أو ينفعل من شيء، تأتي ردة الفعل منه وهي زائدةٌ، يتجاوز بها الحق، يتجاوز بها العدل، هي ليست وفق الحق، ولا وفق العدل؛ وإنما هي وفق ما يلبي رغبته، ما يرضي نفسه، ما يُبَرِّد به غضبه، ما ينسجم مع مستوى انفعاله، يقيس الأمور بمستوى غضبه، بمستوى انفعاله.

ومن أخطر من يتعرضوا لهذه المسألة من هم في موقع المسؤولية، عندما تكون مسؤول في أي موقع من مواقع المسؤولية، مسؤول أمني، مسؤول لك نفوذ، لك تأثير، أو لك وجاهة، أو لديك إمكانية، في أي مستوى من المستويات، من مستوى تأثير على مستوى مجموعة، إلى مستوى مسؤول أمني، أو مسؤول عسكري، أو مسؤول في أي موقع من مواقع المسؤولية، بأي صفة من صفات المسؤولية، عندما يكون الإنسان في موقع المسؤولية، في موقع نفوذ، في موقع تمكُّن، عليه أن يحذر من أن يتعامل مع الأمور من منطلق غضبه، من مستوى انفعاله، بمستوى مشاعره الساخطة، الغاضبة، المنفعلة، المستاءة، إذا قاس الأمور بمستوى استيائه، بمستوى غضبه، بمستوى انفعاله؛ يطغى، يظلم، يسيء، يكون سلوكه سلوك المتكبرين، وقد يصل إلى أن يظلم ظلماً خطيراً جداً، سواءً الظلم بالكلام، أو الظلم بالمواقف، أو الظلم بالإجراءات، سواءً في محيطك العملي، أو خارج محيطك العملي، وهذه حالة تُخرِج الإنسان عن خط الاستقامة، وتسبب له سخط الله “سبحانه وتعالى”.

والحالة خطيرة جداً عند الغضب، عند الانفعال، البعض إذا غضب، إذا انفعل وهو في موقع مسؤولية، بسرعة تصبح عباراته عبارات المتكبرين، سلوكه سلوك المتكبرين، أسلوبه أسلوب المتكبرين؛ لأنه ينظر إلى الأمور من موقع صفته وموقعه، والمكانة الوهمية التي ينظر إلى نفسه من خلالها، ولا يتعامل مع الأمور وفق العدل، وفق الحق، كما هي، ويحرص على ذلك، ويتحرى ذلك، هذه مسألة خطيرة جداً.

{وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}[هود: 112-113]، لا تميلوا إليهم ولو الميل اليسير؛ لأن ذلك أيضاً يطغيكم، البعض يتعلم من الذين ظلموا، يتعلم منهم أسلوب إدارة الدولة، أسلوب التعامل مع الناس، بدلاً من أن يعود إلى منهج الله الحق، ليلتزم به، يقول لك: [أحنا دولة، هكذا يجب أن نتعامل، أن نقول، أن نفعل]، فيطغى، هذه حالة خطيرة جداً.

مما يتفرع عن هوى النفس، من عوامل الانحراف والاعوجاج عن خط الاستقامة والزيغ عنه: الفساد الأخلاقي، والفساد المالي:
الفساد الأخلاقي هو: رذيلة، وهو- في نفس الوقت- جريمة، ومعصية، وهو من أخطر الأشياء آثاراً سيئةً على نفسية الإنسان، تخبث به النفس، الفساد الأخلاقي تخبث به النفس بكل أشكاله، الفساد الأخلاقي بكل أشكاله تخبث به النفس، تنحط به النفس؛ وبالتالي تتغير نفسية الإنسان، فتتحول إلى نفسية خبيثة، لم تعد تنسجم مع القيم الإيمانية، مع الاتجاه الحق، مع العمل الصالح كما كانت سابقاً، وتصبح ميالةً إلى الأشياء السيئة؛ فيخبث الإنسان، ويخبث كلامه، يخبث لسانه، تخبث تعبيراته، يخبث ويسوء سلوكه، وتتغير اهتماماته، ويفرِّط في مسؤولياته، فهي مسألة خطيرة جداً على الإنسان ويجب الحذر منها.

الفساد المالي- كذلك- هو: خيانة، وهو معصية، وهو رذيلة، وهو إساءة، وله تأثيراته السيئة، وهو ظلم، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال: الآية27]، هذه مسألة خطيرة جداً على الإنسان، يجب الحذر منها، وهي تعود أيضاً إلى هوى النفس.

من العوامل المؤثرة على البعض أيضاً: المشاكل والخلافات:
في إطار انطلاقة الإنسان في موقف الحق، وفي طريق الاستقامة على أساس أمر الله وهدي الله، قد يواجه الإنسان المصاعب، المشاكل، التحديات، الخلافات أحياناً، في إطار أداء المسؤولية، في الأداء الجماعي، الناس ينطلقون في الأداء الجماعي ليؤدوا مسؤولياتهم الجماعية، أحياناً يحصل تباين في وجهات النظر، أو اختلاف في وجهات النظر، أو إشكالات في الواقع العملي، مثل هذه الحالة يجب معالجته بروحٍ عملية، مع التزام التقوى؛ لأنها تحصل في كل واقع عمل، وفي كل ميدان عمل، قد يحصل أحياناً إما تباين في وجهات النظر، أو اختلاف في الآراء، أو إشكالات في الأداء العملي، أو جوانب قصور أحياناً في الأداء العملي، لا يجوز أن تتحول إلى حالة نزاع، ثم عقد شخصية، ثم مواقف شخصية، الحالة هذه حالة خطيرة جداً.

البعض من الناس مثلاً قد يشخصن أي إشكال عملي، أو نقاش عملي، وكأنه موقفٌ منه شخصياً، مجرد مثلاً عدم تقبل لرأيه، يعتبر المسألة موقفاً منه، وقد يكون الموضوع عائداً إلى أن رأيه ليس صواباً، أو على الأقل لم يفهم، أو لم يقتنع به على أنه الصواب، يعني: تبقى المسألة موقفاً من رأيه ذلك مثلاً.

أو إشكالات في الواقع العملي، يحصل في الواقع العملي أن يحصل إشكالات معينة، أو عراقيل معينة، أو تأخر أمور معينة، أو انعدام أمور معينة، إذا تحولت المسألة إلى عقد شخصية لدى الإنسان، تتراكم لدى البعض، فتتحول- في نهاية المطاف- إلى عائقٍ نفسيٍ عن الاستمرار في العمل؛ فيتنصل الإنسان عن مسؤولياته، ويتغير تماماً، البعض قد يتحول إلى حالة سلبية، إلى حالة سلبية، يصد عن سبيل الله، يثبط، يُخَذِّل، يُخلخل الصف من الداخل، يحاول أن يعمم إشكاليته على نطاقٍ واسع، في نشر حالة العقد، حالة السخط، حالة التذمر، ثم يُكَبِّرها، ثم يُعَظِّمها، ثم يحولها هي الإسلام، وهي الحق، وهي الجهاد، وهي كل شيء، على حساب كل شيء، على حساب المسؤوليات الأساسية، المواقف المهمة، التحديات الكبيرة، الظروف القائمة، الأعمال العظيمة، كل شيءٍ يُنسَى، يستغرق كل ذهنه، كل تفكيره، كل اهتمامه، كل كلامه في إطار مشكلته تلك، يبقى دائماً يتحدث عنها، يتذمر بشأنها، يبني عليها المواقف، والتوصيفات، يطلق من خلالها الاتهامات، يبقى ناقماً، لا شغل له إلا إشكاليته تلك، التي استغرق فيها بتفكيره، واستغرق فيها بكلامه، باهتمامه، بأسلوبه، الذي وظَّف فيه كل جهده من أجلها، هذه حالة خطيرة جداً، ينبغي أن يحذر الإنسان منها؛ لأنه أي شيءٍ يمكن أن يؤثر عليك في أن تواصل مسيرتك على أساس عبوديتك لله، طاعتك لله، انطلاقتك في موقفك الحق، فهو خطير، ليس هناك شيءٌ يستحق أن يتحول إلى عائقٍ يعيقك عن أن تصل ما أمر الله به أن يوصل.

هذه هي بعضٌ من العوائق، من الإشكالات، من العوامل التي تسبب للإنسان الاعوجاج، الانحراف، قد يواجه اختباراً معيناً فيخرج بشكلٍ تام عن طريق الحق.

أمَّا العوامل التي تساعد على الاستقامة:
ففي مقدمتها: الالتجاء إلى الله “سبحانه وتعالى”:
هذه مسألة مهمة جداً، على الإنسان أن يكون من أهم ما يطلبه من الله: أن يوفِّقه، أن يثبِّته.

من أهم الأدعية في القرآن الكريم: دعاء الراسخين في العلم، لاحظوا، وصفهم الله بالراسخين في العلم، الذين لديهم الوعي، البصيرة، المعرفة الراسخة، المعرفة العميقة، المعرفة بالحق، المعرفة بالهدى إلى درجة عالية وراسخة ومتمكِّنة، ليسوا هامشيين في معلوماتهم وبصيرتهم، على درجة راسخة، متمكِّنة، ثابتة، من الوعي والبصيرة، مع ذلك هم لا يغترون بأنفسهم، ولا يتكِّلون في ذلك على أنفسهم، لا يزال لديهم حالة الخوف من الزيغ، ولذلك علَّمنا الله دعاءهم في القرآن الكريم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران: الآية8]، هذا من أهم الأدعية، وإذا دعوت به، فادعُ الله به من واقع الشعور بالحاجة، من واقع الادراك لأهمية هذه المسألة، من واقع الحذر من هذا الخطر، خطر الزيغ؛ لأنه يحصل للكثير من الناس، يحصل لهم أن يزيغوا، فحتى لا تزيغ كما زاغوا التجئ إلى الله.

من ضمن الأدعية أيضاً: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}[البقرة: من الآية286]، ربِّ لا تحملنا حتى في الاختبارات العملية، حتى في المواقف التي نواجهها، ما لا طاقة لنا به، فيكون لذلك تأثير علينا في التزامنا، في عملنا، في اهتمامنا.

دعاء بحسن الخاتمة أيضاً والتوفيق وحسن الخاتمة، وألَّا يكلك الله إلى نفسك: ((اللهم لا تكلني إلى نفسي، ولا إلى غيرك طرفة عينٍ أبداً))، من الأدعية المأثورة عن النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” أنه كان يدعو الله ألَّا يكله إلى نفسه، أنت هنا تطلب من الله أن يمنحك هو الرعاية الدائمة، أن يحفظ لك إيمانك، ثباتك على موقف الحق؛ حتى لا تتغير بأي بشيءٍ من المؤثرات التي تغيِّر الآخرين.

من أهم الأمور التي يجب أن تكون محط اهتمام الإنسان:
ترسيخ حالة العبودية لله تعالى: تُرَسِّخ دائماً في نفسك أنك عبدٌ لله، أن ترسخ دائماً في نفسك ما يعنيه قولك: (رَبُّنَا اللَّهُ)؛ لأن الإنسان إذا لم يُرَسِّخ هذه الحالة بشكلٍ مستمر، ينسى أنه عبد، عبد لله “سبحانه وتعالى”، فيتحول إلى طاغية، إلى طاغية، هذه حالة خطيرة جداً.

والتسليم لأمر الله: هذا مقتضى العبودية لله، أن تكون مُسَلِّماً لأمره، حتى في الأشياء التي لا تطابق هوى نفسك، لا تنسجم مع رغباتك، لا تكون رغباتك وأهواء نفسك هي معيارك في التعامل مع الأمور.

وأن تسعى دائماً لابتغاء مرضاة الله: يكون هدفك الرئيسي، ليس المنصب، ليس المقام، ليست السمعة، ليس المال، ليست الأهواء، هي ما تبتغيه، وتقدم ما تعمله في سبيل الله من أجله؛ لأنه لم يعد في سبيل الله، أصبح في سبيل النفس، من أجل هوى النفس، فابتغ مرضاة الله على الدوام.

وأن تعتبر المنة لله عليك في كل نجاح: أن تنظر إلى نفسك أنه لولا توفيق الله لك، لولا مِنَّة الله عليك، لما تمكنت من أي نجاح، في أي عملٍ تنجح في أدائه، أو في أي موقفٍ تتوفق لأن تقفه من مواقف الحق، تذكر هذه نعمةٌ من الله عليك.

الله “سبحانه وتعالى” وصف فيما وصف به عباده المؤمنين، المتقين، المجاهدين، المستقيمين، بقوله تعالى: {الْحَامِدُونَ}، {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ}[التوبة: من الآية112]، هم يحمدون الله على الدوام، ويعتقدون أن الفضل لله، والمنة لله، والحمد لله، هو الذي يثنى عليه، عند كل نجاح، تجاه كل نجاح، تجاه كل ما منَّ به عليهم، كل ما منَّ به عليهم يعتبرون الفضل فيه له، وهذه مسألة مهمة جداً.

من أهم ما تحتاج إليه من عوامل الاستقامة والثبات: الصلة الوثيقة بهدى الله “سبحانه وتعالى”، مع الأخذ بأسباب الهداية:
هذه مسألة مهمة جداً؛ لأن البعض أيضاً يتأثرون بالدعايات، بالشبهات، بالتشكيكات، بالحملات الدعائية، بالحملات التضليلية، مع قصورٍ في وعيهم، مع عدم استيعابهم لما يفنِّد تلك الشبهات؛ فبالتالي يتأثرون من ذلك، ويكون سبباً لاعوجاجهم.

وأيضاً في هدى الله “سبحانه وتعالى” ما يزودنا الوعي، والبصيرة، والمعرفة، والفهم الصحيح من جانب؛ فلا نتأثر بأي دعايات، ولا بأي حملات تضليلية، ولا بأي شبهات، وفيه ما له الأثر النفسي التربوي، وفيه ما فيه البصيرة في العمل، فله أهميته كعاملٍ رئيسيٍ من العوامل الأساسية في الثبات على الحق، حتى في العشق للحق، في القناعة بالحق، في الاطمئنان إلى الحق الذي أنت عليه؛ وبالتالي في قوة الموقف وقوة الثبات، ومع الأخذ بأسباب الهداية الله يزيد من هدايته، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد: من الآية17].

أيضاً في مسألة الروح المعطاءة:
عندما تحمل روحيةً معطاءة، فأنت تعطي، أنت تفكر بما تقدم، وما تعمل، وما تعطي، وما تنفق، وتتخلص من الروح الجشعة الطامعة، هذا أيضاً مما يساعد على الاستقامة، ولهذا قال الله في مسألة الإنفاق: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[البقرة: من الآية265]؛ لأن له أثره العظيم في مسألة الثبات، والتثبيت للنفس على الحق.

مما ينبغي أيضاً العناية به من العوامل المساعدة على الاستقامة: الحفاظ على الإخلاص لله:
الإنسان قد ينطلق في مراحل معينة بإخلاص لله، همه رضوان الله، وهمه أن يتقبل الله منه عمله، إلى مراحل معينة، ثم يتأثر إخلاصه، كما أشرنا سابقاً في الآفات والعوامل السلبية، التي تنحرف بالإنسان، يتجه إلى اهتمامات أخرى، رغبات، أو تمحور حول الذات، أو أياً من ذلك.

ولذلك يحتاج الإخلاص لله إلى حماية، إلى محافظة، إلى استمرارية، أن يبقى دائماً في كل المراحل همك هو مرضاة الله تعالى، أن يرضى عنك، أن يتقبل منك عملك، ما تريده، تريده منه، تريد الخير، تريده منه، تريد العزة، تريدها منه هو “سبحانه وتعالى”، هو الذي يعطي العزة، بيده الخير كله، فلا تتوجه آمالك ورغباتك إلى الناس من خلال ما تعمل، هذا له تأثيره السيئ جداً.

الحفاظ على الإخلاص لله، والذوبان في طاعته، والحذر من تغير الوجهة، تبقى وجهتك نحو الله، (رَبُّنَا اللَّهُ)، اتجاهي إليه، إذا تغيَّرت الوجهة، أصبحت منصباً، مطمعاً، مكانةً، رغبات معينة، مواقع معينة… بأي عنوان، فهذه حالةٌ خطيرة قد تنحرف بك.

من أهم ما يفيد هو: السعي للارتقاء الإيماني، وتزكية النفس، ومحاسبتها، وتقييم النفس والعمل:
هذه مسألة مهمة جداً، أن يسعى الإنسان بشكلٍ مستمر للارتقاء لأن يزداد إيماناً، أن يزداد وعياً، أن يزداد زكاءً، لا يجمد عند مستوى معين، الجمود عند مستوى معين ترى فيه أنك لم تعد بحاجة إلى المزيد من الوعي، ولا إلى المزيد من الهدى، أصبحت في نظرك واعياً بما فيه الكفاية، وإذا أراد الآخرون أن يُذَكِّروك، فهذا بالنسبة لك أمرٌ لا حاجة له، وإنما هو مزيدٌ من الإزعاج، فتعتبر هذا إزعاجاً لك؛ لأنك لست بحاجةً إلى ذلك، لا تتفاعل، لا تبادر، لا تحرص أنت على أن تسمع المزيد من هدى الله، من الذكرى، أن تستفيد أكثر، أن تتجه إلى واقعك العملي والسلوكي لتصلحه أكثر.

فالإنسان إذا لم يتجه نحو الارتقاء، وجَمَد عند مستوى معين، تبدأ حالة الجمود هذه بالتأثير السلبي عليه، ثم يزداد التأثير السيئ عليه شيئاً فشيئاً حتى يتغير؛ لأنه ينحدر، يتجه نحو الأسفل، بدلاً من الصعود، نحو الهبوط، في مستوى وعيه، في مستوى إيمانه، في مستوى التزامه، في مستوى تفاعله… في غير ذلك، وهي حالة خطيرة جداً.

أيضاً العناية بمحاسبة النفس، هذه مسألة مهمة أن الإنسان ينظر إلى واقع نفسه، يقيِّم عمله، يحاول أن يكتشف جوانب القصور لديه، ويحاول أن يقيِّم ما يعمل، بروحٍ نصوحةٍ، روحيةٍ متجهةٍ بكل رغبة إلى أن يكتشف كل جوانب القصور لديه ليعالجها، هذه مسألة مهمة، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: من الآية18]، هذا هو مستقبلك، عملك يترتب عليه مصيرك، يترتب عليه علاقتك بالله “سبحانه وتعالى”، فلتكن حريصاً على ذلك أنت.

من أهم ما ينبغي في العوامل المساعدة على الاستقامة، من أهم ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، هو: الحذر من خطوات الشيطان:
أن يكون الإنسان حذراً من الشيطان، ومن خطوات الشيطان؛ لأن التكتيك والأسلوب الذي يعتمد عليه الشيطان هو الخطوات، الذي يستدرجك نحوها شيئاً فشيئاً، حتى يوقعك في العظائم، في الكبائر، في المزالق الخطرة جداً، فالإنسان إذا عرف أن ذلك من أساليب الشيطان، فلا يسهِّل لنفسه، لا يستهتر ويتهاون شيئاً فشيئاً، فهذه مسألة خطيرة جداً.

والشيطان (إبليس) نفسه هو أول مثالٍ للانحراف عن خط الاستقامة، أول من انحرف عن خط الاستقامة، كان في صفوف الملائكة، وكان يعبد الله “سبحانه وتعالى”، ولكنه كان يحمل غِشاً في نفسه، يحتفظ بغشٍ في نفسه، كانت تتعاظم عنده نفسه مع كل ما يعمل، كلما عمل أكثر؛ عظمت نفسه في نفسه، ولم يعظم الله في نفسه، لم ير التوفيق لله في ذلك، تعاظمه في نفسه جعله متكبراً، وحين أتاه الاختبار؛ سقط في الاختبار سقوطاً رهيباً جداً، وخطيراً جداً، فالشيطان يستخدم أسلوب الاستدراج للإنسان من خلال خطوات.

أيضاً من المسائل المهمة: أن يفهم الإنسان مسألة الاختبار والفتنة:
أنك في هذه الحياة، وفي ميدان العمل، في ميدان اختبار، تختبر في مدى انتمائك، مصداقيتك، ثباتك، فالمسألة مسألة مهمة، أنت ستختبر مثلاً تجاه كل الأمور، كيف أنت في حال الرضا، كيف أنت في حال السخط، كيف أنت تجاه الرغبات، كيف أنت تجاه الأهواء، تأتي اختبارات، الإنسان إذا كان ملتجئاً إلى الله، ومتنبهاً، ومستعيناً بالله، يجتاز تلك الاختبارات بنجاح، وبتوفيق عظيم من الله “سبحانه وتعالى”.

من أهم الأمور التي يحتاج إليها الإنسان ومن أساسياتها: الصبر:
الصبر شيءٌ أساسيٌ جداً للاستقامة، لمواصلة المشوار، لمواصلة الطريق، للالتزام المستمر، يحتاج الإنسان إلى الصبر في كل الحالات، الصبر في حالات الغضب، الصبر في حالات الرضا، في حالات… أمام الشهوات والرغبات والإغراءات، والصبر أيضاً أمام المخاوف والتحديات والأخطار وضغوطها، في كل الأحوال يحتاج الإنسان إلى الصبر، ولهذا يأتي في القرآن الحث المتكرر على الصبر: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: من الآية46]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: من الآية146]، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: من الآية10]، الصبر شيءٌ أساسيٌ لابدَّ منه، ويستعين الإنسان بالله في ذلك، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}[الأعراف: من الآية126].

من أهم الأمور التي يجب أن يستشعرها الإنسان بشكلٍ مستمر، هي: قصوره وتقصيره:
أن يستشعر على الدوام أنه مهما عمل، مهما قدَّم، لا يزال مقصِّراً بجانب حق الله عليه، وبجانب الواقع نفسه، مستوى أداء المسؤولية، لا يزال الإنسان قاصراً مهما بلغ، مهما أدَّى، مهما عمل، وأنَّ الفضل لله عليه في ذلك؛ وبالتالي إذا وفِّق، يعتبر الفضل لله “سبحانه وتعالى” فيما وفَّقه إليه، ويعتبر نفسه مقصِّراً، يرجو من الله أن يغفر له تجاه تقصيره.

هنا درسٌ عظيمٌ جداً، درسٌ كبير فيما وجَّه الله به نبيه، وسيِّد رسله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، رسول الله محمد أمره الله بالاستغفار كثيراً، وتكرر ذلك في القرآن الكريم، ومن ضمن ذلك قوله له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 1-3]، في ذروة الإنجاز، في قمة الإنجاز: النصر، والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجا، قال له: سبِّح بحمد ربك واستغفره، سبح بحمده، لا تسبح بحمد نفسك.

الإنسان عند أن ينجز عملاً معيناً، أو يحقق نتائج معينة، أكثر الناس في مثل تلك الحالة يسبحون بحمد أنفسهم، على مستوى الاستغراق في التفكير، يجلس يفكر عن نفسه، أنه إنسان ناجح، أنه إنسان عظيم، أنه إنسان مهم، أنه… معجب بنفسه، هواجسه، تفكيره حول ذلك، مشاعره حول ذلك، ويفكر كيف الآخرون؟ هل سيثنون عليه الثناءات الكبيرة؟ هل سيطبلون له، ويمجِّدونه، ويعظِّمونه على ذلك، أم أنهم مقصِّرون في ذلك، أو غير مهتمين بذلك، فهذا يعود إلى حسدهم، أو حقدهم… أو غير ذلك؟!

الإنسان عند كل إنجاز ليحذر من الاستغراق- وعند كل نجاح، وعند كل موقفٍ عظيمٍ يقفه- من الاستغراق في التسبيح بحمد بنفسه، بل يتجه إلى الله، يعتبر الفضل لله عليه، المنَّة لله عليه، أنَّ صاحب التوفيق الحقيقي هو الله، هو الذي وفَّقه، لولا توفيقه، لكان لا شيء، لما نجح بشيء، لما أنجز شيئاً؛ وبالتالي يتوجه نحو الله، يستغرق على مستوى التفكير في ذلك، وعلى مستوى الذكر، يسبح الله ويحمده، ويطلب من الله المغفرة على ما لا يزال لديه من جوانب والقصور والتقصير.

هذه المشاعر الإيمانية الراقية العظيمة، تحمي الإنسان من الغرور، تحميه من العجب، تحميه من الكبر، تحميه من التمحور حول الذات، وهي من أهم الأمور، من أهم الأمور التي يحتاج إليها الإنسان، ومسألة مهمة يغفل عنها الكثير من الناس، هذا فيما يتعلق بالإنسان على المستوى الشخصي.

على المستوى الجماعي: أمة معينة تنطلق على أساس الاستقامة في العبودية لله، ووفق هديه وأمره، كما أمر، لابدَّ أن يسود فيما بينها التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، هذه مسألة مهمة جداً، مما يساعد على الاستقامة، وأن يتعوَّد الناس فيما بينهم على التواصي بالحق، وعلى عدم الغضب منه.

للأسف الشديد، للأسف الشديد، الكثير من الناس يُغضِبُه أن يُوصَى بالحق، أن ينصح بالحق، حتى مع التزام الآداب، حتى مع التزام الكلام الطبيعي، حتى بدون استفزاز، بمجرد أن ينصح، أو يُوصَى بالحق، وبالذات من هم في مواقع مسؤولية، من أصبحوا تطلق عليهم ألقاب وأسماء في مواقع مسؤولية معينة، يصبحون هم الأكثر غضباً، انفعالاً، استياءً، عقداً ممن يوصيهم بالحق، أو ينصحهم بالحق، مهما كان أدبه، مهما كان احترامه، مهما كانت عباراته عبارات فيها التذكير بالله “سبحانه وتعالى”، ليست جارحة، لكنها ناصحة، فالكثير يغضبون من ذلك.

يجب يجب ويجب– لو نقولها مائة مرة لكان قليلاً- أن يتخلَّص الإنسان من مثل هذه العقدة: عقدة الغضب، الانفعال، الاستياء ممن يوصيه بالحق، ممن ينصحه بالحق، ممن ينبهه على جوانب معينة من القصور، ومن هم في مواقع المسؤولية، مهما بلغت مراتبهم، مسمياتهم، مواقعهم، فهم أكثر حاجةً إلى أن يُوصَوا بالحق، وأن يقبلوا بالتواصي بالحق، وأن يبتعدوا عن الأنفة والكبر تجاه ذلك، هذه حالة سيئة جداً، استياء الإنسان وغضبه الشديد عندما يُوصَى بالحق، نفسية سيئة جداً، لا يجوز أن تبقى لدى الإنسان نهائياً.

التناصح كذلك مسألة مهمة جداً، التناصح وفق آدابه، بالتذكير الأخوي، بتجنب الكلام الجارح، والكلام المسيء، والأسلوب الاستفزازي؛ لأن الأسلوب الاستفزازي يُفهَم منه التوبيخ، الإهانة، أكثر مما يُفهَم منه النصيحة، أكثر مما يُفهَم منه التواصي بالحق.

أيضاً من أهم الأمور: التعاون على البر والتقوى:
على المستوى الجماعي مما يفيد ويساعد الناس على التزام الاستقامة في طريق الحق، وفق هدي الله “سبحانه وتعالى”، ووفق أمره، هو: أن يتعاونوا، يتعاونوا على البر، على ما فيه بر وهو بر، وعلى ما هو تقوى، هذا يساعدهم، التعاون فيه بركة، وثمرته عظيمة.

نكتفي بهذا المقدار…

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن بنصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛

المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا إنك، أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

يقول الله "سبحانه وتعالى" في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت: 30-32].

ويقول "سبحانه وتعالى": {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف: 13-14].

الاستقامة عنوانٌ أساسيٌ من أهم العناوين، والجميع مأمورٌ بها في القرآن الكريم، يتوجه الأمر للجميع بأن يستقيموا: الأنبياء، والمؤمنون، والمجتمع البشري بكله، ويترتب عليها ما وعد الله به عباده المؤمنين في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة، ولذلك أتى في القرآن الكريم الأمر من الله "سبحانه وتعالى" لخاتم أنبيائه وسيِّد رسله محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" بالاستقامة، في قول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[هود: 112-113].

أيضاً ورد في القرآن الكريم فيما أخبر الله به من أمره لنبيه موسى "عليه السلام"، ولأخيه نبي الله هارون "عليهما السلام"، بعدما دَعَوا الله على فرعون وقوم فرعون، قال تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[يونس: الآية89].

ثم أيضاً يأتي الأمر للمجتمع البشري، للناس جميعاً بأن يستقيموا، في قول الله "سبحانه وتعالى" مخاطباً لنبيه "صلوات الله عليه وعلى آله"، فيما يعلِّمه أن يبلِّغه وأن يخاطب به الجميع: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}[فصلت: الآية6].

الاستقامة لابدَّ أن تقوم على الأساس العظيم والأساس المهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، وفي قوله تعالى مخاطباً لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}، هذا أساسها الذي تقوم عليه.

في الآيات المباركة التي بدأنا الحديث بها: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وهم يعون بما تدل عليه، وما تفيده مقولتهم هذه.

{قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، (رَبُّنَا اللَّهُ) الذي نعبده، الذي نتولاه، الذي نعبِّد أنفسنا له، فنضبط مسيرة حياتنا ضمن وعلى أساس توجيهاته وتعليماته، وضمن ما يأتينا من خلال هديه "سبحانه وتعالى".

(رَبُّنَا اللَّهُ) الذي نعبده، فنمتثل أوامره، ونطيعه فيما يأمرنا به، وننتهي عما نهانا عنه.

(رَبُّنَا اللَّهُ) الذي نثق به، نعتمد عليه، نتوكل عليه، نخشاه ولا نخشى غيره، نخاف من عقابه، نرغب فيما وعدنا به.

(رَبُّنَا اللَّهُ) "سبحانه وتعالى" الذي نسير في حياتنا على أساس هديه، ووفق أمره، هذه المقولة لها هذا المعنى، لها هذا المدلول، لا تعني فقط مجرد الإقرار بأننا عبيدٌ لله "سبحانه وتعالى"، ثم لا نسير في حياتنا بناءً على ذلك، لا نلتزم في مسيرة حياتنا، في أعمالنا، في مواقفنا، في تصرفاتنا، في ولاءاتنا، في عدائنا، بناءً على ذلك.

إذا جئنا لتصنيف الواقع البشري تجاه هذه المسألة، فسنجد الناس على أصناف:

صنفٌ منهم ممن يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، وهم كثير، ولكنهم يتجهون في واقع حياتهم بعيداً عن ذلك، لا يستقيمون وفق ما يعنيه قولهم (رَبُّنَا اللَّهُ)، لا يستقيمون على هذا الأساس، (رَبُّنَا اللَّهُ) فنطيعه، فنتولاه، فنكون من حزبه، من أوليائه، من جنوده، (رَبُّنَا اللَّهُ) فنتقبل هديه، نستجيب له فيما يأمرنا به، فيما يدعونا إليه، فهم لا يستقيمون فيما يعنيه قولهم (رَبُّنَا اللَّهُ)، لا يستقيمون وفق ذلك، لا يسيرون في حياتهم على أساس ذلك.

يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، ثم يتجهون في واقع حياتهم، في أعمالهم، في مواقفهم، في تصرفاتهم، في ولاءاتهم، في عداواتهم، بعيداً عن هدي الله، بعيداً عن أمر الله، بعيداً عن تعليمات الله، ولا يهمهم مسألة حلالٍ من حرام، ولا حقٍ من باطل، والذي يحكمهم ويؤثِّر عليهم في مسيرة حياتهم، في اهتماماتهم، في أعمالهم، في مواقفهم، في تصرفاتهم، في ولاءاتهم... وغير ذلك، الذي يحكمهم ويؤثِّر عليهم هو هوى أنفسهم، أهواؤهم، أو أيضاً أهواء غيرهم، يتجهون مع الآخرين فيما يهواه الآخرون، على غير بيِّنةٍ من أمرهم، ولا هدىً من ربهم، والكثير من الناس هم هكذا: يتحركون بعيداً عمَّا يعنيه قولهم (رَبُّنَا اللَّهُ)، فالكثير يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، لكنهم لا يستقيمون وفق ما يعنيه ذلك، وهذه مسألة واضحة في شأن الكثير، وفي واقع الكثير من الناس.

هناك من الناس أيضاً من يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، وينطلقون عملياً على أساس هذه المقولة، على أساس قولهم هذا، وقد تكون انطلاقتهم يشوبها الكثير، ليست استقامةً خالصةً متكاملةً وفق هدي الله، وفق أمر الله، وفق تعليمات الله، وفق هدي الله وكتابه، تشوب انطلاقتهم الكثير من الشوائب المؤثرة سلباً، وقد تكبر هذه الشوائب في مرحلة من المراحل، عندما يواجهون اختباراً معيناً، فينحرفون، فهم يستقيمون لبعض الوقت، إلى بعض المراحل، وقد يتجاوزون مراحل معينة، ولكن لمَّا كانت استقامتهم فيها البعض من الاعوجاج، فيها البعض من المؤثرات السلبية، ولم تتكامل بمعالجة تلك الشوائب وتنقيتها، كان لها تأثيرها عليهم في مرحلةٍ من المراحل، يأتي فيها الاختبار من الله "سبحانه وتعالى" الذي يفرز الإنسان، يفرز الناس، ويكون له أهميته الكبيرة، في أن يتبين من هو الذي ينطلق الانطلاقة المتكاملة، ويستجيب لله "سبحانه وتعالى" الاستجابة التامة، التي يتنقى بها، يتطهر بها من تلك الشوائب، والترسبات الخطيرة السلبية، التي تؤثر على نفسية الإنسان، فلا يستقيم إلى نهاية المطاف، إلى نهاية المشوار، وهذه حالة واقعية، وكثيرةٌ أيضاً.

كثيرٌ من الناس، ممن ينطلقون، ويتفاعلون، ويستجيبون، إلى مرحلةٍ معينة، ثم يتغيرون وينحرفون، ويخرجون عن خط الاستقامة، فيتغيرون بشكلٍ تام، ويتجهون اتجاهاً آخر، حصلت هذه على مرِّ التاريخ، ولها نماذجها الكثيرة على مرِّ التاريخ، وتحصل في كل زمن، وتحصل في كل مرحلة، في كل مسيرةٍ للحق، يحصل أنَّ البعض لا يستقيمون، وأنَّ البعض ينحرفون في نهاية المطاف، ويخرجون عن خط الاستقامة، سنتحدث- إن شاء الله- عن هذا على نحوٍ من التفصيل.

والبعض يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، يعون ما تفيده هذه العبارة المهمة، ما تفيده مقولتهم هذه، فهم يقولونها عن وعي، وبإيمانٍ راسخ، ثم ينطلقون على أساسها في مسيرة حياتهم، فيستقيمون على الصراط المستقيم، يستجيبون لله "سبحانه وتعالى"، يتجهون بوعي، بصدق، باهتمام، باستجابةٍ متكاملة وفق هدي الله "سبحانه وتعالى"، فيأخذون بأسباب التوفيق من الله "سبحانه وتعالى"، ويستمرون مهما واجهوه في طريقهم من المخاوف، والتحديات، والأخطار، فهي لا تثنيهم، ففي قولهم: (رَبُّنَا اللَّهُ)، في قولهم هذا ما يُثَبِّتَهُم:

ما يُثَبِّتَهُم عند كل المخاوف، أمام كل الأخطار، أمام كل التحديات.
وأيضاً عند الرغبات، عند الأهواء، في مواجهة الأهواء، في مواجهة الشهوات، سواءً على المستوى المعنوي، أو على المستوى المادي، ما يواجهه الإنسان من طموحات، من رغبات، من أهواء، تتعلق بالجانب المعنوي، أو تتعلق بالجانب المادي.
حتى في مراحل التمكين عندما يُمَكِّنهم الله، يُمَكِّن لهم في أرضه، في مراحل النصر والتأييد لا تتغير نفسياتهم، ولا تتغير اهتماماتهم، ولا تتغير توجهاتهم، هم على ما هم عليه من قبل ذلك في إقبالهم إلى الله "سبحانه وتعالى"، في ثبات توجهاتهم الصحيحة والسليمة، واهتماماتهم الصحيحة والسليمة، لا يتغيرون.
ولا يتغيرون أيضاً تجاه المشاكل والتعقيدات التي قد يواجهونها وهم في الطريق، وهم يواصلون العمل، كم يواجه الإنسان من التعقيدات، من المشاكل، من العوائق، لكن ذلك لا يؤثر عليهم.
انطلاقتهم الصادقة الواعية على أساس قولهم: (رَبُّنَا اللَّهُ)، التي استشعروا منها بشكلٍ تام عبوديتهم المطلقة لله "سبحانه وتعالى"؛ وبالتالي إذعانهم التام لأمر الله، استجابتهم الكاملة لتوجيهات الله، ولتعليمات الله "سبحانه وتعالى"، ولذلك فهم يواصلون، لا يتغيرون، لا يخرجون عن خط الاستقامة، ولا يتغيرون عن نهج الاستقامة مهما كانت المؤثرات، مهما تنوعت المؤثرات السلبية، التي تصرف الكثير من غيرهم.

المخاوف، والتحديات، والأخطار، والصعوبات، تصرف البعض؛ الإغراءات، والأطماع، والأهواء، تصرف البعض الآخر، البعض من الناس قد يتجاوزون مرحلة الصعوبات والمخاوف والتحديات والأخطار، ولكنهم يسقطون في امتحان الأهواء، في امتحان التمكين، في امتحان الرغبات، عندما تصبح المسألة هناك ذات أهمية بالنسبة لذوي الهوى (هوى النفس)، فيما يتهيَّأ لهم من المناصب، من المقامات، من الإمكانات المادية... من غير ذلك، البعض يسقط، لا يتحمل تجاه ذلك، يصبح المنصب بالنسبة له أهم من كل شيء، يصبح هو المسألة الرئيسية الأساسية التي سيبني عليها حتى مسألة أن يواصل وأن يستمر، أو أن يتوقف.

فالذين يواصلون على أساس ما تعنيه العقيدة المهمة والمبدأ العظيم: (رَبُّنَا اللَّهُ)، ينطلقون فلا يتغيرون مهما كانت المؤثرات، هم الذين يصلون- في نهاية المطاف- لتحقيق ما وعد الله به، والفوز بما وعد الله به "سبحانه وتعالى" في الدنيا وفي الآخرة، وفي الآخرة: الفوز العظيم، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}.

طريق الاستقامة وفق هدي الله وفق تعليمات الله، وفق توجيهات الله، هي طريقٌ عظيمةٌ، وجذَّابةٌ، وهي الخيار الصحيح الذي يتحرك الإنسان في مسيرة حياته على أساسه، فيها كل ما ينشدّ إليه الإنسان بفطرته: الحياة الطيِّبة، الحياة الكريمة، الحياة بعزةٍ وشرف، الحياة التي تحظى من خلالها بكرامتك الإنسانية الحقيقية، الحياة التي تستثمر فيها كل جهدك، وكل طاقاتك، وكل قدراتك فيما فيه الخير الحقيقي لك، وتؤمِّن به مستقبلك الأبدي عند الله "سبحانه وتعالى" في الآخرة.

وفيها أيضاً ما يساعد الإنسان على أن يواصل، على أن يثبت، على أن يستقيم، على ألَّا ينحرف... فيها الكثير والكثير مما يساعد على ذلك:

أول ما في هذه الطريق، هو: الصلة الوثيقة بالله "سبحانه وتعالى"، فأنت عندما تؤمن وتعي بمدلول قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، فتقول: (رَبُّنَا اللَّهُ) مؤمناً بذلك، مستوعباً لما يعنيه ذلك، ومرسِّخاً لما يعنيه ذلك في وجدانك، في نفسك، كعقيدةٍ، ومبدأ، وشعورٍ إيمانيٍ راسخٍ، وتنطلق على هذا الأساس، وفق هديه "سبحانه وتعالى"، وفق توجيهاته، وفق تعليماته.

فقولك (رَبُّنَا اللَّهُ)، الذي يجعلك متَّجهاً إلى الله تعالى، تعتمد عليه، تخشاه وترجوه، وترغب فيما عنده، تثق به كل الثقة، وتتحرك على أساس وعيك وإيمانك وشعورك بعبوديتك المطلقة له "سبحانه وتعالى"، فهذه الصلة بالله "سبحانه وتعالى" (الصلة الإيمانية) لها أثرها الكبير عليك في مواجهة كل المؤثرات السلبية، في مواجهة المخاوف، والرغبات، والإشكالات، والتعقيدات، فلا يصرفك شيءٌ منها عن الاستمرار في مواصلة السير على هذا الطريق، على الصراط المستقيم، الموصل إلى الغاية العظيمة.

مبادئها عظيمة، ومكاسبها كبيرة، مكاسبها الفوز العظيم، ومنهجها التربوي يزكي النفوس، فيزكي نفسك من الشوائب، التي تؤثر على البعض؛ لأن البعض يحتفظ ببعضٍ من الشوائب السلبية التي تؤثر على النفس، يحتفظ بشيءٍ من الغرور، أو الكبر، أو الطمع، أو الإيثار لهوى النفس... أو أيٍّ من العوامل السلبية التي تبقى حالةً من الاعوجاج في نفسه، يكبر هذا الاعوجاج في مرحلةٍ من المراحل، فينحرف به عن الصراط المستقيم، ويؤثِّر عليه.

الطريق (طريق الاستقامة) التي فيها ما يساعد الإنسان على الثبات، وعلى الاستمرارية، من أهم ما يساعده على ذلك، هو: إدراكه ووعيه وإيمانه بأن الله أنعم عليه بعظيم النعمة عندما وفَّقه لذلك، عندما وفَّقه أن يسير على الصراط المستقيم، أن تكون مسيرة حياته وفق تعليمات الله، ووفق هدي الله "سبحانه وتعالى"، أنها النعمة العظيمة، التي قدَّمها القرآن الكريم على أنها أعظم نعمةٍ أنعم الله بها على الإنسان، حتى صارت هي العنوان العظيم لنعمة الله "سبحانه وتعالى"، في حديثه عمَّا أنعم به على صفوة عباده من الأنبياء والمرسلين، والصالحين من عباد الله، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: من الآية7]، {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}[النساء: من الآية69].

أن تكون في مسيرة حياتك في طريق الحق، في موقف الحق، متحرراً من العبودية لغير الله "سبحانه وتعالى"، لا تعبِّد نفسك إلَّا لله، تسير وفق هديه، وفق تعليماته، وفق توجيهاته "جلَّ شأنه"، هي نعمةٌ عظيمةٌ جدًّا.

أن تقف دائماً موقف الحق، يوم يقف الآخرون موقف الباطل، المواقف التي تخزيهم، المواقف السيئة التي فيها الخزي لهم في الدنيا والآخرة، وتبعاتها عليهم كبيرٌ في الدنيا وفي الآخرة، في الآخرة إلى حدٍ رهيب جهنم والعياذ بالله، فأن تتوفق لأن تقف موقف الحق هي نعمةٌ عظيمةٌ جدًّا، كما قال الله "سبحانه وتعالى"، يذكر عن نبيه موسى "عليه السلام"، الذي استشعر أهمية هذه النعمة: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}[القصص: من الآية17]، نعمةٌ عظيمة.

وعي الإنسان بأنه عندما يسير في طريق الاستقامة، وينطلق في مسيرة حياته على أساس عبوديته لله "سبحانه وتعالى"، فيتقبَّل هدي الله، ويتحرك على أساس ذلك في أعماله، في مواقفه، في مسيرة حياته، أنها نعمةٌ عظيمة، نعمةٌ عظيمةٌ، عليه أن يشكر الله عليها، وأن ينظر إليها على الدوام على أنها نعمة، أن يستشعر هذا على طول الطريق، فلا ينظر إليها وكأنها حملٌ ينوء به، يثقله، يحاول التخلص منه، فينحرف عنها بكل بساطة، وبكل سهولة.

ثمرات هذا الطريق فيما وعد الله به "سبحانه وتعالى" عباده المؤمنين، المتقين، الذين استقاموا، ما وعدهم الله به من النصر، ما وعدهم الله به من العزة، ما وعدهم الله به من التمكين، ما وعدهم الله به من الخير الواسع في الدنيا وفي الآخرة، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجن: الآية16]، حتى في هذا الجانب: في جانب السعة في الرزق، في الفرج، فيما يعانيه الناس من الجدب، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}.

الاستقامة التي هي متكاملة، في أعمال الإنسان، في تصرفاته، في مواقفه، هي الاستقامة المطلوبة، التي لها هذه الثمرة العظيمة، يصل الإنسان من خلالها إلى ما وعد الله به، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}، تتنزل عليهم الملائكة في أهم موقف، في أهم موطن يحتاج الإنسان فيه إلى من يطمئنه، إلى ما يُبَشِّره في مقام يوم القيامة، الذي هو من أهم المواطن، من أهم المواقف، من أهم المواقف، فتأتيه الملائكة في ذلك المقام، الذي تبلغ الحالة بالنسبة لبعض البشر من الفزع، والهلع، والخوف، إلى مستوى رهيب جدًّا، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر: من الآية18]، تطلع قلوبهم تصل إلى حناجرهم من شدة الفزع والخوف.

أمَّا الذين استقاموا، ففي تلك الحالة تتنزل عليهم الملائكة وتطمئنهم وتُبَشِّرهم، وتكون إلى جانبهم، وتتحدث إليهم بما يطمئنهم، وما فيه البشارة لهم، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا}، لا تخافوا من أهوال هذا اليوم، اطمئنوا، فأنتم سينجيكم الله "سبحانه وتعالى" من أهوال هذا اليوم.

{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت: الآية30]، البشارة العظيمة، يقولون: أنتم الآن على مقربةٍ من تحقق هذا الوعد الإلهي، الجنة التي وعدكم الله بها في الدنيا، الآن ستصلون إليها، ها هو يوم القيامة، والذي ستنتقلون فيه إليها.

{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[فصلت: 30-31]، في الحياة الدنيا كنا إلى جانبكم، كنا نعينكم بمقدار ما يأمر الله به، بمقدار ما يُوَجِّه الله به، كنا إلى جانبكم في المواقف الصعبة، في التحديات الكبيرة، نثبتكم عند أمر الله "سبحانه وتعالى" حينما يأمرنا بأن نثبتكم، بما نستطيع أن نمنحكم إياه من الشعور المعنوي، والطمأنينة... وغير ذلك، غير ذلك ضمن المساحة التي يهيئ الله فيها من جانبهم ما يعين به الإنسان، ما يسدد به الإنسان، ما يلهم به الإنسان، ما يوفِّق به الإنسان، وهي دائرة واسعة قد نجهل الكثير منها.

{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، وفي الآخرة ها هم يتواجدون إلى جانبهم، من ضمن ذلك هذه البشارة، هذه الطمأنة، هذا الحضور، هذه المرافقة لهم في مواطن يوم القيامة، والطمأنة المستمرة لهم، حتى يصلون إلى جنة الله "سبحانه وتعالى".

{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت: 31-32]، فيقدمون لهم هذه العناوين التي فيها البشارة الكبيرة لهم، أنهم سيصلون إلى الجنة، الجنة بنعيمها العظيم، بنعيمها الواسع جدًّا، {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}، كل ما يشتهيه الإنسان، ويرغب به مما يمثل حاجةً له ورغبةً له، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، ما تريدونه يأتيكم، ما تطلبونه يوفَّر لكم، كل شيء، أرقى نعيم، أرقى نعيم، وأرقى حياة، وأطيب حياة، فلا ينقص عليكم شيءٌ مما ترغبون به.

تأتي البشارات أيضاً في وعد الله الحق، عندما قال "سبحانه وتعالى" أيضاً: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف: 13-14]، فالله "سبحانه وتعالى" يقدِّم ما يطمئنهم، ما يطمئنهم، ما يبشِّرهم بالفوز العظيم، فلا خوفٌ عليهم، ليس هناك ما تخافه عليهم من أهوال يوم القيامة، ولا من أخطارها، وحتى في الدنيا هم في مواقف الفوز، في المواقف التي هي لمصلحتهم دائماً، لخيرهم في الدنيا، ولعواقبهم العظيمة، عواقبهم الطيبة في الآخرة، عاقبتهم الحسنة في الآخرة، فهم الفائزون في كل الأحوال.

طريق الاستقامة لها عواملها التي تساعد على مواصلة الطريق فيها، لكن سنترك الحديث عن ذلك، والحديث أيضاً عن الجانب الآخر: عن أسباب عدم الاستقامة، والانحراف عن خط الاستقامة، للمحاضرة القادمة.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

الخميس، 14 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م
نشر في أبريل 14, 2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

في سياق الحديث عن التقوى، وعمَّا هو من لوازم التقوى والإيمان، يأتي الحديث في القرآن الكريم عن الزكاة، وعن الإنفاق، وكما أشرنا في المحاضرة السابقة: كثيراً ما يقترن ذلك بالصلاة، فعندما يأتي الأمر بالصلاة في القرآن الكريم، يقرن الصلاة بالأمر أيضاً بالزكاة، أو بالإنفاق، تكرر هذا في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة.

مما هو معروفٌ أنَّ الزكاة هي أيضاً ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ عظيمةٌ ومهمةٌ وأساسيةٌ من أهم فرائض الله “عزَّ وجلَّ”، وهي أيضاً- كما قلنا- من مواصفات المتقين، ومن لوازم التقوى والإيمان، يترتب عليها في إخراجها، في العناية بها: النتائج والآثار الطيِّبة والمهمة، كما هو شأن الأعمال الصالحة والفرائض المهمة، التي فرضها الله، وشرعها الله، ويترتب أيضاً على الإخلال بها، أو الجحود لها، أو التنكُّر لها والتهرب منها: الآثار السيئة جدًّا على الإنسان في نفسه، في دينه، في دنياه، في أموره، في علاقته ما بينه وبين الله “سبحانه وتعالى”.

في القرآن الكريم تكرر كثيراً قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، أمرٌ من الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم، يأمرنا بإقامة الصلاة، ويقرن مع إقامة الصلاة الأمر بإيتاء الزكاة.

{وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وإيتاء الزكاة يعني: المبادرة من الإنسان بإخراجها، عندما يتعين عليك الحق في الزكاة، أصبح لديك نصاب من الأنصبة التي تجب فيها الزكاة من أموالك، فعليك أن تبادر أنت برغبةٍ منك، باهتمامٍ منك، لإخراج زكاتك، لا أن تنتظر حتى يأتي من يخرجها قسراً وإرغاماً، وبدون طِيْبَةٍ من نفسك، مع محاولتك قبل ذلك التهرب والتمنع، هذه حالة ليست إيمانية بالمطلق.

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، مثلما هو الأمر بالنسبة للصلاة أن نحرص على العناية بها، وأن نؤديها قيِّمةً، كذلك فيما يتعلق بالزكاة، أن نسعى للمبادرة بإخراجها.

ومما ورد أيضاً في القرآن الكريم في هذا السياق الذي يقول فيه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}[المزمل: من الآية20]، ليشمل ذلك الإنفاق في سبيل الله، الإنفاق فيما وجَّه الله “سبحانه وتعالى” وحث على الإنفاق فيه، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل: من الآية20].

ينبِّهنا في هذه الآيات المباركة أنما نقدِّمه بالصلاة القيِّمة، بإيتائنا للزكاة، بإنفاقنا، بأعمالنا الصالحة، إنما نقدِّمه لأنفسنا؛ لأن الله غنيٌ عنا، غنيٌ عن أعمالنا، غنيٌ عن صلاتنا، غنيٌ عن إنفاقنا، غنيٌ عن زكاتنا، لا يحتاج إلينا، ولا إلى شيءٍ منا، هو الغني الحميد؛ ولذلك فنحن نحن من نستفيد فيما نقدِّم بما نعمل، بما ننفق، بصلاتنا وزكاتنا، كل ذلك لنا نحن، في آثاره التربوية التي نحتاج إليها، نحتاج إليها في واقعنا النفسي، في مسيرة حياتنا، في واقع حياتنا، نحتاج إلى ذلك، كله لمصلحتنا، وكله يفيدنا في ما هو حاجةٌ لنا، على المستوى النفسي، وعلى المستوى العملي، وعلى مستوى واقع الحياة، وظروف الحياة، وعلى مستوى الآخرة، الآخرة فيما يأتي في الحياة الآخرة الأبدية.

{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ}، فأنت تقدِّم لنفسك، إذا كان الشح والطمع والبخل قد يؤثِّر على الإنسان، ويسبب له أن يمتنع؛ لأنه يعتبر نفسه يقدِّم شيئاً للآخرين، ويخرجه من نفسه، يعني: يعتبر نفسه يخسر، يعتبر ما يقدِّمه مغرماً، غرماً وخسارةً، وأنه شيءٌ قد فات عليه، ولم يستفد منه شخصياً؛ لأنه أعطاه هنا، أو هنا، حيث أمر الله، وحيث وجَّه الله “سبحانه وتعالى”، فهي نظرة خاطئة، إذا نظر الإنسان من هذا المنظور نظرة خاطئة.

عليك أن تتيقن أنَّ ما تقدِّمه، سواءً في زكاتك، في صدقاتك، في إنفاقك في سبيل الله، أنت تقدِّمه لنفسك أنت، وحُسِبَ لك، والذي تكسبه منه هو المهم على نحوٍ عظيم، وبدون أي مقارنة، في مقابل ما كنت ستصرفه فيه على نفسك، إذا كنت ستصرفه مثلاً لتوفير أشياء مادية، أو أغراض معينة لنفسك، فأنت ستحصل في المقابل عندما أخرجت هذا زكاةً، أو أخرجته صدقةً، أو إنفاقاً في سبيل الله، أنت ستحصل على ما هو أهم بكثير، أنت تؤمِّن لك رصيدك فيما ستكسب به النتائج العظيمة في الدنيا، والخير العظيم العظيم العظيم في الآخرة، في الآخرة، قد تكون في بعض الظروف والأوقات الحسَّاسة قيمة الإنفاق بأن يكون ما أنفقته تكسب به قصراً في الجنة، تكسب به في جنة الخلد الشيء العظيم، والشيء المهم، والشيء الكبير، تؤمِّن مستقبلك الأبدي فيما تضيفه من أعمال صالحة، من إنفاق إلى إنفاق، يجتمع ذلك كله فيكتب لك به السعادة الأبدية، والحياة العظيمة، إضافةً إلى فوائده العاجلة في الدنيا كما يتضح لنا من خلال ما سنتحدث عنه.

أيضاً في القرآن الكريم إضافةً إلى الأمر المباشر: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، الذي تكرر كثيراً، يأتي أيضاً في المواصفات الإيمانية للمؤمنين المتقين، الذي أيضاً يقترن بالصلاة، ويبيِّن أنَّ ذلك من لوازم التقوى والإيمان، في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}[النمل: من الآية3]، فتتكرر أيضاً في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، ويأتي إلى جانبها، يقرن بها قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[النمل: الآية3]، هذه من صفات المؤمنين المتقين، ومن لوازم التقوى والإيمان.

وتفيد هذه العبارة في: {وَيُؤْتُونَ}، هذه الصيغة (صيغة المضارع) في: {وَيُؤْتُونَ}، الاستمرارية، ليسوا ممن قد يترجح له في بعض الأحيان بعد أن يسمع الكثير من المواعظ، ويأتيه الكثير من الإلحاح، والتأكيد، والحث، والأمر، والنهي، والملاحقة، فيخرج الزكاة، لكن فيما لو غُفِلَ عنه، فيما لو لم تحصل تلك الملاحقة، والأخذ، والرد، والضغط، والإحراجات، والضجة، والتوبيخ، فسيستغنم الفرصة لأن يتهرب من ذلك، وشيء مؤسف، شيء مؤسف على الكثير من الناس تجاه ركنٍ عظيمٍ من أركان الإسلام، من أهم فرائض الله “سبحانه وتعالى”، مما لا نجاة لهم إلَّا بأدائه، مما يتسبب تهربهم من أدائه، وتقصيرهم فيه، ومغالطتهم فيه، إلى ألَّا تقبل منهم صلاتهم، وألَّا يقبل منهم صيامهم، وألَّا تقبل منهم أعمالهم، التي هي أعمال صالحة، لا تقبل؛ لأن هذا بعيداً عن التقوى، لأن هذا خروج عن حالة التزام التقوى.

وتجد الكثير من الناس على هذا النحو، يعني نسبة الذين يؤتون الزكاة من المصلين، وأكيد بأنهم لا يقيمون الصلاة، يصلون، لكنها ليست صلاةً قيِّمة، لم تترك أثرها في أنفسهم، فالأغلبية هم ممن: إما يحاول أن يخرج بعضاً من زكاته، وأن يبخل ببعضٍ آخر، لا يخرج زكاته كاملة، وهذا غير مقبول، عند الله “سبحانه وتعالى” يبقى عليك الإثم والوزر، وتجلب لنفسك سخط الله “سبحانه وتعالى”، وهو تصرفٌ غير مبررٍ من جانبك، أن تحتفظ بجزءٍ من الزكاة، وألَّا تخرج إلَّا جزءاً منها، ثم تستهلك الجزء الآخر، فلربما القليل القليل من المؤمنين المتقين، الذين يبادرون برغبةٍ من أنفسهم، باستشعارٍ للمسؤولية، بإقبالٍ إلى الله “سبحانه وتعالى”، بوعيٍ بأهمية إخراج الزكاة، وما يترتب على ذلك من الخير والبركات، ثم يخرجونها أيضاً كاملة، ويحرصون على ألَّا يبقوا ولا مثقال ذرة، ولا شيئاً يسيراً منها يستهلكونه، يدركون أهمية أن يخرجوها كاملة، وألَّا يسوِّفوا، وألَّا يؤجِّلوا، أن يبادروا بذلك.

 

فيما يتعلق مثلاً فيما أنبتت الأرض، فيما يتعلق بزكاته، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام: من الآية141]، المبادرة، المسارعة، كذلك فيما يتعلق بالحول، بالعام، باكتمال العام من أموال التجارة ونحوها، المبادرة في ذلك، دون تسويف، دون تهرب، التهرب هو حالة مذمومة، غير مبررة، إلَّا أنها تعبِّر- فعلاً- عن نقصٍ في الإيمان، وعن بُعْدٍ عن تقوى الله “سبحانه وتعالى”، وعن سوء فهم، وعن تأثرٍ بوساوس الشيطان، الذي قال الله عنه: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}[البقرة: من الآية268]، وساوس الشيطان التي يصوِّر للبعض من خلالها وكأنه إذا أخرج الزكاة أفلس، وكأنه تورَّط وخسر كل شيء، والمسألة ليست كذلك أبداً.

فيما تلوناه في المحاضرة عن الصلاة وإقام الصلاة، فيما يتعلق بالأنبياء “عليهم السلام”، قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}[الأنبياء: من الآية73]، {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}، فقرنها بالصلاة، كما يقرنها في كثيرٍ من المواطن، وكما يقرنها في كثيرٍ من التوجيهات، وبنفس صيغة التأكيد والاستمرارية: {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}؛ لأهمية المسألة تفرد بالذكر، تخص، ويأتي التأكيد عليها، والتأكيد على أهميتها، فهي قربة عظيمة تقرِّب الإنسان من الله “سبحانه وتعالى” إذا أدَّاها وفق ما ينبغي، وهي من الأشياء الثابتة في شرع الله، المستمرة على مرِّ الرسالات والتاريخ مع الأنبياء “عليهم الصلاة والسلام”، مسألة ذات قيمة إيمانية عالية جدًّا، وأثر إيجابي، وقربة عظيمة إلى الله “سبحانه وتعالى”.

من أهم ما فيها أيضاً، هو: أثرها التربوي، والإنسان بحاجة إلى ما يساعده لتزكية نفسه، لإصلاح نفسه، يحتاج الإنسان إلى هذا، النفس البشرية إذا تدنَّست، إذا خبثت، إذا تقذَّرت؛ تغيَّرت، وأصبح الإنسان يحس بصعوبة تجاه فعل الخيرات، وأصبح ميَّالاً إلى حد الهيجان نحو الشهوات، والخبائث، والسيئات، والعياذ بالله.

فالإنسان بحاجة إلى أن يعمل ما يساعده ويفيده في تزكية نفسه، في تربية نفسه، في إصلاح نفسه، في تنمية مشاعر الخير في نفسه، وهذا متاح، أتاحه الله “سبحانه وتعالى”، هو يأمرنا، ويدُّلنا، ويرشدنا على ما يساعدنا على تطهير أنفسنا، على تزكية أنفسنا، على تنمية المشاعر الطيِّبة والإيجابية في أنفسنا، وهذا يساعدنا في أن ننطلق في الأعمال الصالحة بكل رغبة، وأن نبتعد عن الأعمال السيئة، وأن نمقتها، أن نكرهها، أن نبغضها، أن نبتعد عن الميل إليها، وهذا شيءٌ عظيم، وشيء مهم، من جانب هو سموٌ للإنسان، وشرفٌ كبيرٌ له، ومن جانب هو على المستوى العملي مفيدٌ جدًّا للإنسان؛ لأنه ينطلق تلقائياً بكل رغبة، وبكل اعتزاز، وبكل راحة، في الأعمال الصالحة، في الأعمال العظيمة، نفسه بزكائها تسمو، وبعودتها إلى فطرتها، وتنقية الفطرة من الشوائب والترسبات الخبيثة والسيئة، فهو يتجه برغبة كبيرة، نتيجةً لهذا الطهر، لهذا الصلاح، لهذا الزكاء، في الأعمال الصالحة.

ولذلك قال الله “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بأمر الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}[التوبة: من الآية103]، فالزكاة لها هذه القيمة التربوية، هذا الأثر الطيِّب على مستوى تربية النفوس، وتخليصها من الشوائب التي تمثل عائقاً أمام الإنسان تجاه الكثير من الأعمال.

البعض من الناس- مثلاً- يجد في نفسه تغيراً سيئاً، تغيراً غير طبيعي تجاه البعض من الأعمال الصالحة، باتت نفسه، أصبحت نفسه تنفر منها، وهي أعمال عظيمة، أعمال صالحة، وتتثاقلها، وأحياناً يجد في نفسه كذلك استصعاباً لكثيرٍ من الأمور، التي ليست في أصلها صعبة؛ إنما كانت الصعوبة في نفسه، هذه شوائب، ترسُّبات، دنَّست نفسه، أثَّرت على نفسه، يحتاج إلى تطهير هذه النفس.

من فوائد الزكاة (الصدقة الزكاة)، والصدقة بشكلٍ عام، والإنفاق بشكلٍ عام: أنه يساعد في تطهير نفسية الإنسان المؤمن، مع الصلاة، مع الأمور الأخرى التي أرشد الله إليها، فهنا يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، فلها هذا الأثر المهم جدًّا: التطهير والتزكية، التطهير للنفس، والتزكية للنفس، وهذه مسألة مهمة جدًّا، كم هي الشوائب والترسُّبات التي تدنِّس نفسية الإنسان؛ وبالتالي ينتج عنها تنامي المعاني السيئة في وجدانه: من أطماع، من أهواء، من رغبات وميول خبيثة، من توجهات مادية… من أشياء سيئة تؤثر على الإنسان وعلى أعماله بشكلٍ كبير.

أيضاً فيما يتعلق بالوعيد على ترك الزكاة، وعلى الإخلال بها، والإخلال بها يعتبر من كبائر الذنوب، من كبائر الذنوب، التي تسبب أن يحبط عمل الإنسان فيما قد عمل من أعمال، ثم أيضاً لا يقبل منه أي عملٍ يقدِّمه من الأعمال الصالحة، حتى صلاته، حتى صيامه، كل ذلك لا يقبل منه.

 

أضف إلى ذلك أنها كفيلةٌ بأن يدخل نار جهنم والعياذ بالله، تسبب للإنسان سخط الله، غضب الله “جلَّ شأنه”، أمر رهيب ومخيف.

ولذلك يأتي الوعيد في القرآن الكريم من ضمن ذلك، طبعاً هناك الوعيد الشامل للعصاة الذي يتكرر في القرآن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}[الجن: من الآية23]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ}… تتكرر هذه العبارة في القرآن: الوعيد للعصاة، والإنسان الذي لا يخرج زكاته، أو لا يخرج إلَّا جزءاً منها، ويستهلك الجزء الآخر، ويبخل به، يدخل ضمن الوعيد من العصاة، أصبح عاصياً، عاصياً لله “سبحانه وتعالى”.

ويأتي أيضاً قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}[فصلت: 6-7]، {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، الويل لهم، والويل عندما يقول الله: (وَيْلٌ)، هو يعبِّر عن عذابه الشديد، عما أعده من شديد العذاب لهم، فهذا أمر رهيب على كل الذين لا يؤتون الزكاة، أو لا يؤتون إلَّا جزءاً منها، ويستهلكون البعض الآخر، أن يخافوا من الله، أن يتقوا الله، وأن يخافوا من عذاب الله، من الويل، {وَوَيْلٌ}، عندما يقولها الله، ماذا تعني من شديد العذاب، ماذا وراءها من العقاب الشديد! {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[آل عمران: من الآية11].

فيما يتعلق بالأسباب الرئيسية لدخول النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}[المدثر: الآية42]، سؤال لأهل جهنم، يسألهم أهل الجنة: [ما الذي ورَّطكم هذه الورطة الرهيبة، المخيفة، التي تمثل خسراناً أبدياً؟!]، {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر: 43-44]، أيضاً من أهم ما في الزكاة، هو: العناية بالفقراء والمساكين، حصةٌ رئيسيةٌ لهم في الزكاة، عندما يبخل بها الناس، هم يبخلون بهذا الحق الذي يتضرر أهله، فمن مثل هذه النتيجة: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}.

يأتي الحديث عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” ليؤكِّد اقتران الزكاة بالصلاة، حتى في قبول العمل، حتى في قبول الصلاة، فعن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: ((لا تتم صلاةٌ إلَّا بزكاة))، الذين عليهم حق الزكاة ثم لا يخرجونه؛ لم تتم صلاتهم، ولم تقبل صلاتهم، وفي روايةٍ أخرى: ((لا تقبل صلاةٌ إلَّا بزكاة، ولا تقبل صدقةٌ من غلول))، مما ورد عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((مانع الزكاة وآكل الربا حرباي في الدنيا والآخرة)).

فنجد هذا التأكيد الكبير جدًّا على مسألة الزكاة وأهميتها، وأيضاً ما يترتب عليها من البركات والخيرات في الأموال، في الغيث، من أهم ومن أكبر الأسباب التي تسبب للناس الجدب، وانعدام الأمطار، وانعدام البركات، وغوران المياه: بخلهم بالزكاة، بخلهم بالزكاة، أمر خطير عليهم، يسبب لهم أن يخسروا.

ولذلك نحن نقول: الذي قد يبخل بالزكاة نتيجة طمعه المادي، وجشعه الهائل، وبخله الشديد، وحرصه على المال إلى حدٍ جنوني، حتى بالحسابات المادية، حتى بحساب المصالح المادية، إذا أردتم الخيرات، إذا أردتم البركات، فاتقوا الله في إخراج الزكاة، لا تبخلوا بالزكاة، عندما تصبح ظاهرة لدى الكثير من المزارعين أن يبخلوا بالزكاة، أن يعتبروها مغرماً يتهربون منه، فهي حالةٌ خطيرة، تسبب- إلى حدٍ كبير- انتزاع البركات، فيخسرون بركات السماء، الأمطار التي هم بحاجةٍ إليها، الكل بحاجةٍ إليها، يسبب هذا المعاناة الكبيرة للناس.

نحن في هذه المرحلة، ونحن في بلدنا نعاني من الجدب الشديد، مما لا شك فيه أنَّ من ضمن الأسباب الرئيسية، هو: التقصير في إخراج الزكاة، من ضمن الأسباب الرئيسية، ومن التوبة إلى الله، ومن الرجوع إلى الله “سبحانه وتعالى”: العناية بإخراجها، العناية بإخراجها، ومن الغريب جدًّا أن تصبح المسألة بالنسبة لدى البعض مشكلة، كيف يقال لهم: [أَنْ أخرجوا زكاتكم]، كأنه يقال لهم: [أخرجوا أنفسكم من أجسادكم]، يعني: مشكلة عليه كبيرة.

في مسألة الزكاة أيضاً الإنفاق يقترن بالصلاة، ويقترن أيضاً بها من حيث الأهمية، كقربة عظيمة إلى الله “سبحانه وتعالى”، لها شأنٌ عظيم في الأجر، والفضل، والمنزلة عند الله “جلَّ شأنه”، ولها أيضاً الأثر التربوي، الزكاة هي ترتبط بالنصاب، النصاب فيما أنبتت الأرض، النصاب في أموال التجارة، والحول في أموال التجارة، وما أشبه ذلك من التفاصيل، النصاب أيضاً في الثروة الحيوانية، وفق أرقام معينة معروفة، على الإنسان الذي أصبح مكلفاً بالزكاة أن يعرف، وأن أيضاً يتجاوب مع الجهات المعنية التي تبين له، والتي تتابعه، والتي تعينه في إخراج زكاته.

وفي نفس الوقت الإنفاق دائرةٌ أوسع، أوسع من مسألة الزكاة، الإنفاق جزءٌ منه يتعلق بالإنفاق في سبيل الله تعالى، وأتى الحث عليه في القرآن الكريم كثيراً، من مثل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: الآية195]، {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، أمر من الله “سبحانه وتعالى” بالإنفاق في سبيله، يشمل ذلك الجهاد في سبيل الله، وما يتصل به، ما يرتبط بالجهاد في سبيل الله، وهو جانبٌ أساسيٌ يدخل أيضاً ضمن الجهاد بالمال، أليس في القرآن الكريم يتكرر الأمر كثيراً، الأمر لنا من الله: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]؟ فهو ضمن أيضاً المسؤوليات، الإنفاق في سبيل الله هو ضمن مسؤولياتنا والتزاماتنا الإيمانية والدينية، وهو لا يقترن بنصاب معين، لا يرتبط بنصابٍ معين، بحسب حالة الإنسان، بحسب ظروفه، بحسب إمكاناته، الإنسان الذي ظروفه متوسطة بحسب حاله، ظروفه ميسوره بحسب حاله، بل يبادر حتى الإنسان الذي إمكاناته بسيطة وبحسب حاله، جُعِلت مسألة مرتبطةً بمستوى ظروف الإنسان، بحسب حاله، ولكنها أيضاً من المسؤوليات، من الالتزامات الإيمانية، من الالتزامات الدينية؛ لأن علينا أن نجاهد في سبيل الله، وجهادنا في سبيل الله هو بالمال- كما أكَّد عليه القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات- والنفس، فالتزامنا المتعلق بالمال- كما قلنا- بحسب حال أي إنسانٍ منا، بحسب ظروفه.

والأمة في هذه المرحلة، وشعبنا العزيز في هذه المرحلة في مرحلة تحديات، مرحلة من أهم المراحل للجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، والبخل- فعلاً- يسبب للأمة الهلاك؛ لأن الأمة إذا بخلت، فستضعف، ستضعف حركتها في الجهاد في سبيل الله، إذا نقص التمويل، لم يتوفر التمويل لذلك، معنى ذلك: تتوقف الحركة في ذلك، معنى ذلك: يتغلب عليها أعداؤها، يسيطر عليها أعداؤها، فتكون هي ببخلها، وتنصلها عن مسؤولياتها، وشحها عن العطاء فيما أمرها الله به؛ تسبب لنفسها الهلاك، وسيطرة أعدائها عليها، مع الهلاك في دينها، يضاف إليه الهلاك في دنياها أيضاً، هذه مسألة خطيرة جدًّا.

يتكرر اقتران الإنفاق بالصلاة، وأكثر من ذلك في بعض الأحيان اقترانه بالإيمان نفسه، يعني: حتى بما هو أكثر وأعم وأكبر من مسألة الصلاة، والصلاة شأنها عظيم، هذا لا يقلل من أهميتها وشأنها، لكنَّ عنوان الإيمان هو العنوان الرئيسي قبل كل ذلك، فيأتي الإنفاق أحياناً مقترناً بعنوان الإيمان؛ لأهمية المسألة.

يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً فيما يتعلق بالإنفاق: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الأنفال: الآية3]، فنجد هنا كيف قرن الإنفاق بالصلاة، وأيضاً بصيغةٍ تفيد الاستمرارية: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، فهم يستمرون على ذلك؛ لأنه يرتبط بمسؤولية مستمرة، هي الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: من الآية7]، فيقرن الإنفاق ليرفع من مستوى أهميته، إلى مستوى الإيمان، فيقترن بالإيمان، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، فالمال الذي أعطاكم الله هو نعمةٌ من الله، وأنتم وما بأيديكم ملكٌ لله “سبحانه وتعالى”، هو المالك الحقيقي، لكم، ولأموالكم، وللسماوات والأرض، وهو استخلفكم فيما أعطاكم؛ لكي تعملوا فيه وفق مسؤولياتكم، هذا جزءٌ من مسؤولياتكم.

{فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[الحديد: من الآية7]، هم من يستفيدون، الأجر على ذلك هو أجرٌ عظيمٌ كبيرٌ جدًّا، منه ما يأتي في الدنيا، من البركات، يخلف الله لهم، يعوضهم الكثير، يُقَدِّم لهم الرعاية الواسعة في جوانب كثيرة، ومنه ما يتعلق بمستقبلهم الأبدي والعظيم والمهم في الآخرة.

يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد: الآية11]، هذه الآية تجعل الإنسان يخجل من الله، يستحي من الله، معناها عميق، ودلالتها كبيرة، الله “سبحانه وتعالى” يعلم بشح الكثير من الناس، ببخلهم، بطمعهم، بقبض أيديهم في مسألة المال، بصعوبة الإنفاق عليهم؛ فيقدم ضمانةً على أن يعوضهم، على أن يخلف لهم، على أن يَمُنَّ عليهم بالأجر الكبير، وأن يعطيهم أكثر مما أنفقوا كثيراً وكثيراً، إضافةً إلى الأجر الكريم، كريم في مستواه الكثير الكثير جدًّا، وكريم في كيفيته، يقدَّم لك بكرامة وبتكريم، ما الذي نريده من الله بعد ذلك؟! إلى درجة أن يسمي لنا إنفاقنا قرضاً، وأن يقدم له هذا العنوان؛ لكي نطمئن أنه سيبدل لنا الكثير والكثير والأفضل والأحسن، وأن ما نستفيده هو أكثر وأعظم مما قدمناه.

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}: يقدمه وفق تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، برغبةٍ إيمانية، من المال الحلال، بطريقة فيها إخلاص، وفيها احترام، وفيها تقرب إلى الله “سبحانه وتعالى”، سليمة من المفسدات، سليمة من المن، سليمة من الأذى والمحبطات، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}: سيعطيه الله “سبحانه وتعالى” ما هو أكثر منه بكثير، {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.

كذلك يقول في مسألة الصدقات، وطبعاً ليس فقط صدقة الزكاة، هناك صدقات غير صدقة الزكاة، الصدقات التي تقدم أيضاً للفقراء والمحتاجين: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد: الآية18]، بنفس العبارة: (المضاعفة، والأجر الكريم)، فما الذي تريده أكثر من ذلك، إذا كنت ستحصل على الأجر العظيم من الله “سبحانه وتعالى”، والكريم، كريم في كثرته، وكريم في أن يقدم إليك ويصل إليك بتكريمٍ لك أيضاً؟!

هذا يبين لنا أهمية الإنفاق، واقترانه بالصلاة في آيات، واقترانه بالإيمان في آياتٍ أخرى، والإنفاق له علاقة بالإيمان من جوانب كثيرة، هو محكٌ إيماني يبين مدى مصداقية إيمانك بالله “سبحانه وتعالى”، أولها: ثقتك بالله، الله يأمرك بالإنفاق، وفي نفس الوقت يعدك، يعدك بأن يضاعف لك، يسمي إنفاقك قرضاً، يعدك وعداً صادقاً أن يضاعفه لك، وأن يبدل لك عنه الأجر الكريم، فإذا بخل الإنسان بعد هذه الضمانة من الله، بعد هذا الوعد، الوعد الصادق من الله “سبحانه وتعالى”، من الله الذي لا يخلف وعده، فماذا يعني ذلك؟ بكل صراحة يعني ذلك: أنه لم يثق بوعد الله، لم يثق بوعد الله.

أمَّا إذا كان مستجيباً بثقةٍ بوعد الله، وتصديقٍ بوعد الله، فهذه حالة إيمانية، لكن إذا بخل، معنى ذلك: أنه لم يثق بوعد الله، وهذا خللٌ في إيمانه، معناه: مشكلة عنده في إيمانه.

الله يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: من الآية39]، وعد مؤكد، ألا تثقوا بوعد الله؟!

في مسألة الإنفاق في سبيل الله، جزءٌ من الإنفاق في سبيل الله يعود إلى الإعداد، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، حتى إعدادك على المستوى الشخصي يحسب إنفاقاً في سبيل الله، عندما تشتري لك سلاحاً لتجاهد به في سبيل الله، أو ذخائر لتجاهد بها في سبيل الله، حتى على المستوى الشخصي هو من الإنفاق في سبيل الله؛ للترغيب في ذلك، فيأتي في آخر الآية المباركة في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، ليقول في آخرها: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[الأنفال: من الآية60].

أيضاً علاقة الإنفاق بالإيمان أنه من الأعمال الرئيسية في الإيمان، التي لا يمكن أن تصل إلى مرتبة الإيمان الصادق، ومواصفات المؤمنين والمتقين، إلَّا بها، لا يمكن أن تكون في صف الأبرار، وفي عدادهم إلَّا بها، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[آل عمران: الآية92].

الإنفاق أيضاً يعتبر شاهداً على تقديرك لنعمة الله عليك، وتأثرك بنعمة الله “سبحانه وتعالى”؛ وبالتالي توجهك برغبةٍ لأن تشكر الله “سبحانه وتعالى”، وهو القائل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: من الآية7]؛ لأن ما بين يديك من المال والإمكانات، وما رزقك الله به، في أي مستوى كان هذا الرزق، بحسب ظروف الناس المتفاوتة، هو من الله، هو من الله، تشكره عليه، جزءٌ من هذا الشكر يتعلق بماذا؟ بالإنفاق، هنا أنت تنفق ما تنفق وأنت تشكر الله المنعم، الكريم، الذي كل ما لديك من النعم فهي منه “سبحانه وتعالى”، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل: من الآية53].

بينما الحالة المختلفة التي تبخل فيها، وتشح عن الإنفاق، وتمتنع عن الإنفاق، هي حالة تُعَبِّر عن كفرانك للنعمة، عن عدم تقديرك لنعمة الله “سبحانه وتعالى”، وهذه مسألة مهمة جدًّا.

أيضاً من أهم الدوافع ذات الصلة بالجانب الإيماني للإنفاق، هي: الأثر التربوي المميز للإنفاق في تثبيت النفس، تثبيت القيم الإيمانية، الأخلاق الإيمانية، المعاني الإيمانية، في نفسية الإنسان، {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[البقرة: 265]، ابتغاء القربة إلى الله “سبحانه وتعالى”، والمنزلة عند الله “سبحانه وتعالى”، وفي تطهير نفسيتك من الشح، لا تتحول نفسيتك إلى نفسية خبيثة، تترسخ فيها إلى العمق حالة الشح، التي هي خطيرةٌ جدًّا على الإنسان، يجمع فيها بين البخل والحرص، البخل في المال، والحرص عليه، فتكون الحالة هي حالة شُح.

الله يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن: من الآية16]، حالة الشح حالة خطيرة جدًّا، هي وراء الكثير من المفاسد والجرائم التي يصل إليها الإنسان نتيجة أطماعه الشديدة، أطماعه الكبيرة، توجهه المادي الجنوني، يعني: المفرط، المفرط الرهيب، جشعه المادي الشنيع جدًّا، حالة ناتجة عن الحرص، بخله عن كل الحقوق، أطماعه التي يسبب بها أن يأخذ الكثير من الحرام، وأن يأكل الحرام، وأن يتاجر بالحرام، وأن يجمع الحرام، الذي يُخَلِّدُهُ في نار جهنم والعياذ بالله، فللإنفاق الأثر التربوي الإيجابي الذي يُخَلِّصُ الإنسان، يُخَلِّصُ نفسيته من الشح، هذه مسألة مهمة جدًّا، الإنسان بحاجةٍ إليها.

من حيث الرغبة في الأجر العظيم الذي وعد الله به: من أعظم الأعمال قربةً إلى الله في الأجر، والفضل، وما يقابل ذلك عند الله، فيما يقدمه لك، فيما يَمُنُّ به عليك، في مستقبلك في الآخرة، وفيما له أثره العظيم في الدنيا، هو الإنفاق، بدءاً بالإنفاق في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، الله يقول في القرآن الكريم: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: الآية261-262].

الإنفاق في سبيل الله يضاعف الله الأجر عليه إلى حدٍ عجيب، الإنسان ينبهر، يُذهل الإنسان أمام هذا الأجر العظيم، أمام هذه المضاعفة الواسعة جدًّا، فالحد الأدنى من المضاعفة يصل إلى سبعمائة ضعف، هذا هو الحد الأدنى، يعني: لو أنفق الإنسان مثلاً ألفاً، ألف ريال مثلاً، فكأنه أنفق سبعمائة ألف في الأجر، لو أنفق التاجر مثلاً مليوناً، فكأنه أنفق سبعمائة مليون، المضاعفة في الأجر مضاعفة هائلة جدًّا جدًّا، الأجر العظيم، وهذا هو الحد الأدنى.

الله قال بعد ذلك: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، قد تأتي المضاعفة لعوامل واعتبارات، منها: طبيعة الظروف التي أنفق الإنسان فيها، مستوى إخلاصه وإقباله إلى الله، وبُعدِه عن المحبطات والمفسدات، واستقامته، مستوى استقامته، طبيعة ظروفه التي أنفق فيها، وإقباله إلى الله “سبحانه وتعالى”، اعتبارات أخرى للمضاعفة، تتضاعف فيها الأجور إلى أكثر بكثير من ذلك، في بعض الروايات: ((حتى تصير اللقمة مثل جبل أحد))، اللقمة الواحدة مثل الجبل الكبير.

فالأجر العظيم الذي وعد الله به، لابدَّ للإنسان المؤمن أن يرغب فيه؛ لأن الإنسان المؤمن هو يرجو الله، ويرغب فيما عند الله، ويعي قيمة ما يُقَدِّمُهُ الله وما يعرضه الله عليه، عروضاً مغريةً جدًّا، يعرض الله علينا عروضاً مغريةً جدًّا جدًّا، كيف لا يرغب الإنسان، إذا لم يرغب، فهو قليل الإيمان، ممن لا يرجوا الله “سبحانه وتعالى”، أو لا يثق بوعده.

كل هذا له أهميته الكبيرة، إضافةً إلى الآثار الاجتماعية للإنفاق بين أبناء المجتمع؛ لأن جانباً أساسياً من الإنفاق أيضاً يتجه إلى من؟ إلى المجتمع، {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}[البقرة: من الآية215]، فتأتي هذه الفئات في المجتمع بدءاً من محيط الإنسان، من قرابته، وهو يصلهم، وهو يعطف على فقيرهم، وهو يواسي محتاجهم، ثم تتسع هذه الدائرة في الوسط الاجتماعي، إلى اليتامى، إلى المساكين، إلى ابن السبيل، إلى الفقراء، وهو يعطيهم، فيكون لهذا الأثر العظيم بين أبناء المجتمع.

أولاً هو- في واقع الحال- ظاهرة إيمانية وإنسانية، حالة التراحم بين أبناء المجتمع، حالة الإحسان فيما بينهم، حالة العطف والرحمة هي حالة إيمانية، من لوازم الإيمان، الله يقول عن عباده المؤمنين: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، يقول عنهم: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: من الآية17]، فيهم- يعني- مع الجانب الإيماني إنسانية، فلديهم الضمير الحي، والعاطفة الإنسانية، والدافع الإيماني، الذي يجتمع مع بعض، فَيُشَكِّل حالةً من المواساة، من الإحسان فيما بينهم؛ فيعطفون على فقيرهم، على محتاجهم، يتألمون لظروف بعضهم البعض، ليست ضمائرهم ميتة، ليست مشاعرهم متبلِّدة، فيرون الحالات الإنسانية المأساوية فيما بينهم، فلا يبالون تجاه بعضهم البعض، يشبع ويتخم بما شبع، ويرى الآخر جائعاً، يتضور جوعاً، يبحث من أين يأكل، حتى من القمامة، يرى جاره يعاني، لا يتوفر لديه القوت الضروري، وهو هناك يأكل يأكل، وقد يصاب بأمراض نتيجةً لكثرة ما أكل، وينتج عن ذلك أضرار صحية، فهو مبطان، وحوله جائعون، يشاهد في المشاهد العامة حالات البؤس، الحرمان، الفقر، العناء، لكثيرٍ من الناس، فلا يكترث، وكأنه يحمل صخرةً، حجراً صُلباً، ولا يحمل قلباً ومشاعر إنسانية.

الحالة الإيمانية هي تختلف، هي حالة تراحم، هي حالة- كما قلنا- اجتمع فيها الضمير الحي، اجتمعت فيها المشاعر الإنسانية، اجتمع فيها الدافع الإيماني، فتتوفر كل الدوافع للتراحم، للمواساة، للتألم لحال البائسين، لحال الجائعين، لحال المعانين، فيتجه الإنسان بمواساتهم، بكل تقدير، بكل محبة، بكل حرص، بكل رغبة، بل الحالة الإيمانية قد ترقى بالإنسان إلى درجة أن يؤثر على نفسه في بعض الأحيان، في أحيان حساسة حتى، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}[الإنسان: من الآية8].

هذا الأثر التربوي له أهميته، كظاهرة إنسانية وإيمانية لها أثرها العظيم في التراحم بين المجتمع؛ وبالتالي في التآخي بين المجتمع، في المحبة بين أبناء المجتمع، في دفع الكثير من المفاسد والأضرار.

إذا أصبح الفقير، البائس، المعدم، يرى الآخرين من حوله ممن هم متمكنون، ولديهم الثروة والإمكانات المادية، لا يبالون بحاله البائس، لا يكترثون لمعاناته الشديدة، لا يلتفتون إلى جوعه وجوع أسرته، لا يبالون بوضعه الصعب جدًّا، حتى على مستوى الزكاة، حتى على مستوى فعل الخير والبر، فقد يمتلئ قلبه بالمشاعر السلبية تجاههم، يرى فيهم حالة البخل، الشدة، الشُح، اللا إنسانية، فيكرههم في أقل الأحوال؛ أمَّا البعض فقد يحقد عليهم، قد يتجه البعض إلى ارتكاب جرائم سيئة: جرائم السطو، جرائم النهب، جرائم السرقة، ولكن في أقل الأحوال لدى البعض الآخر أن يكرههم، يرى فيهم أناساً متوحشين، ليس فيهم أي خير، ليس فيهم إنسانية، ليس لديهم ضمير، وهكذا في أقل الأحوال؛ فتنتشر بين المجتمع هذه الحالة من الفرقة والتباين.

ومن أسوأ الأمور أيضاً عندما تحصل مثل هذه الظواهر السلبية لدى المجتمع، ثم تأتي منظَّمات أجنبية لِتُقَدِّم نفسها بصورةٍ مختلفة، فكأنكم يا أيها المسلمون لم يعد لديكم ضمير، وليس فيكم إنسانية، وليس فيكم خير، وليس فيكم إحسان، وتأتي المنظَّمة الأجنبية من بلدان اليهود والنصارى والكافرين والمشركين، فيقدِّمون أنفسهم بصورة إحسان، وصورة فعل خير، وصورةٍ إنسانية، وأنتم بعيدون عن ذلك، فيكسبون هم تعاطف ذلك الفقير، الذي يرى المجتمع من حوله لا يلتفت إليه، ولا إلى بؤسه، ولا إلى معاناته، فتكون صورةً خطيرة، ولو أنَّ المنظَّمات هي تأتي- أصلاً- بدوافع سياسية، وبأهداف شيطانية، ومآرب شيطانية، ولذلك لا يليق بالمجتمع المسلم أن يكون مجتمعاً بخيلاً، وأن يكون مجتمعاً تنعدم فيه الرحمة، والإنسانية، والمواساة، لا يجوز ولا يليق.

والبديل عن الإنفاق، عن العطاء، عن فعل الخير، هو: البخل والشح، البخل حالة سيئة جدًّا، من أقبح ما يمكن أن يتصف به الإنسان، حتى أنه يدخل ضمن عنوان الفحشاء؛ لقبحه وبشاعته وسوئه، يقول الله “سبحانه وتعالى” في وعيده للذين يبخلون: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}[النساء: من الآية37]؛ لأن الذي يبخل- الكثير منهم- لا يكتفي بأنه يبخل؛ إنما يُثَبِّط الآخرين، يُثبِّطُهُم عن إخراج زكاتهم، يُثَبِّطُهُم عن الإنفاق في سبيل الله، يأمرهم بالبخل عن الإنفاق في سبيل الله، عن الإحسان إلى عباد الله، {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}[النساء: من الآية37]، حتى يتهرب من إخراج زكاته، ومن الإنفاق فيه، فهو يكتم بهذا الهدف، فهم ضمن الوعيد الإلهي: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}[النساء: من الآية37]، هذا من الكفر للنعمة، من الكفر للنعمة، ومن الرفض للالتزامات الإيمانية، فالله أعدَّ لهم العذاب المهين؛ لأنهم يستحقون الإهانة، ويستحقون العذاب.

إضافةً إلى ما يخسره الناس من البركات والخيرات، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف: من الآية96]، بعد أن تنعدم البركات، وتنعدم الخيرات، وفي واقع الحال البخل بالزكاة مثلاً هو خيانةٌ للأمانة؛ لأن الله قد جعل الحق للفقراء، ولتلك المصارف في مالك، {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌِ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24-225]، فأنت تأكل حقهم، وتخون أمانتك، فالمسألة خطيرة جدًّا.

فيما يتعلق بمجالات الإنفاق، يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}[البقرة: من الآية215]، (مِنْ خَيْرٍ): يشمل أي خيرٍ مما أعطاك الله، وأنعم به عليك، {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة: من الآية215].

يقول أيضاً: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة: الآية273]، هو يعلم، وسيجازيكم عليه الخير مما وعد به، لا يخفى عليه ما أنفقتم فينساكم، “سبحانه وتعالى”!

يقول عن الإنفاق في سبيل الله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: الآية195].

يقول عن الزكاة (الصدقة الزكاة) ومصارفها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة: الآية60].

نكتفي بهذا المقدار…

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

 

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه

المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ

المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ 12-04-2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من أهم ما يساعد على تقوى الله "سبحانه وتعالى"، مما هو باعثٌ على التقوى، ومفيدٌ في الالتزام بها على نحوٍ مستمر، هو: الصلاة، الصلوات الخمس هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي فريضةٌ عظيمةٌ من فرائض الله "عزَّ وجلَّ"، ولها أهميتها الكبيرة من حيث موقعها في الدين، ما يترتب عليها من النتائج التربوية العظيمة، الفضل والأجر الكبير عليها من جوانب متعددة.

والكل يعرف عن أهمية الصلاة على نحوٍ إجمالي، وأنها ركنٌ عظيمٌ من أركان الإسلام، وأتى في القرآن الكريم من ضمن المواصفات الرئيسية، وفي كثيرٍ من المواقع في القرآن الكريم، في أول المواصفات الأساسية للمتقين وللمؤمنين: العناية بالصلاة، تحت العنوان المعروف: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، وتكرر هذا في القرآن الكريم؛ باعتباره من المواصفات الأساسية اللازمة، التي عليها أهل التقوى والإيمان، لا تنفك عنهم، يستمرون على ذلك، {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، تتكرر {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}... في كثيرٍ من الآيات المباركة التي تحدثت عن مواصفاتهم، وعلاماتهم، واهتماماتهم العملية التي يواظبون عليها.

ونجد مثلاً في سورة البقرة في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة: 2-3]، فبعد قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، يأتي بقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، وهي تفيد الاستمرارية على ذلك، أنهم يواظبون على الصلاة القيِّمة، التي يؤدونها على نحوٍ تام.

وتكرر كثيراً في القرآن الكريم إلى جانب الحديث عن صلاتهم القيِّمة، التي يتميزون بها؛ لأن الكثير يصلون، لكن ما يميِّز صلاة المتقين: أنها صلاةٌ قيِّمة، وهذا ما سنتحدث عنه أثناء حديثنا في الموضوع.

يأتي أيضاً مما وصفوا به: المحافظة على الصلاة، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: الآية9]، هكذا يقول الله عنهم، فهم يحافظون عليها باستمرار أيضاً، ويستمرون عليها، {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج: الآية23]، ليسوا موسميين، فقط في شهر رمضان، أو في يوم الجمعة، أو في بعض الأوقات، أو يهتم بالبعض من الصلوات على نحوٍ شكلي، ثم يترك البعض منها.

وأيضاً يصفهم بالخشوع في صلاتهم، صلاتهم صلاة مميزة، من حيث حضور الذهن، من حيث الخشوع لله "سبحانه وتعالى"، {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون: الآية2].

لأهمية الصلاة تكرر الأمر لإقامتها في القرآن الكريم كثيراً، فيأتي قول الله "سبحانه وتعالى": {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: من الآية43]، وتكررت هذه الصيغة في القرآن الكريم: الأمر بإقامة الصلاة، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}[النساء: الآية103]، في مواطن كثيرة من القرآن الكريم، في عدة سور، وفي عدة آيات، منها قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}، {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ}[إبراهيم: الآية31]، وعادةً ما يقترن مع الأمر بالصلاة الأمر بالإنفاق، والأمر بالزكاة، في كثيرٍ من الآيات القرآنية، وهو ما سنتحدث عنه لاحقاً إن شاء الله، عندما نتحدث عن الزكاة وعن الإنفاق.

فالصلاة تأتي في رأس القائمة، في مقدِّمة المواصفات والأعمال الأساسية، وكعنوانٍ رئيسي، حتى أنها تدل على ما بعدها من الاهتمامات والالتزامات العملية، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ}.

ويقول الله "سبحانه وتعالى": {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنعام: الآية72]، فيأتي هنا الأمر بشكل رئيسي ومباشر في ما يخص الصلاة، {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: أدُّوا صلاتكم صلاةً قيِّمة، فهو أمرٌ بالصلاة نفسها، وأن تؤدَّى قيِّمةً.

أيضاً يأتي قول الله "سبحانه وتعالى" في المحافظة عليها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة: الآية238]، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} في كل الحالات، في كل الحالات المختلفة، والله "سبحانه وتعالى" قد شرع كيفيةً متناسبةً مع مختلف الظروف التي يواجهها الإنسان، مثلاً: في حالة المرض، الذي يتعذر فيه أداء الصلاة كاملةً، من قيام، وقعود، وفق هيئاتها، شرع الله صلاة المريض بحسب استطاعته من قعود، إذا لم يستطع من قعود، فهو مضطجع، وكذلك مثلاً في حالة السفر (السفر بعيداً) هناك أيضاً صلاة السفر، وفي ما يتعلق أيضاً بظروف القتال المستمر، الذي يتعذر معه- مثلاً- أداء الصلاة وفق هيئاتها وأركانها المعروفة في حالة الأمن والاطمئنان، فهناك ما يتناسب مع تلك الظروف.

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، (الصَّلَاةِ الْوُسْطَى) يختلف المسلمون ما هي من بين الصلوات، وروي عن أمير المؤمنين علي "عليه السلام" أنها صلاة الجمعة، وفي بقية الأيام الظهر، صلاة الجمعة في يوم الجمعة.

{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، قوموا في صلاتكم وقفوا- لأنها وقفة بين يدي الله "سبحانه وتعالى"- لله بإخلاص، بإخلاص لله سبحانه وتعالى، من أجل الله "سبحانه وتعالى"، مع الحذر من الرياء والدوافع غير الإيمانية، {قَانِتِينَ}: خاضعين لله "سبحانه وتعالى"؛ لأن وقفة الصلاة هي وقفة تعبُّد لله "سبحانه وتعالى"، وتعبير عن العبودية لله "سبحانه وتعالى"، وذكر لله "جلَّ شأنه".

{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية239]، في ظروف الخوف لها اعتبارها، ظروف الخوف التي قد يفوت وقت الصلاة بكله قبل أدائها، فتؤدَّى كما ذكر الله "سبحانه وتعالى": {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، بحسب الحالة.

أيضاً يقول "جلَّ شأنه": {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}[النساء: من الآية103]، هناك: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، يعني: فأدوا صلاتكم كاملةً مع الذكر لله "سبحانه وتعالى"، والإكثار من ذكره، {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء: من الآية103]، فيأتي للظروف: الظروف القتالية، ظروف الخوف، حالاتها التي لا تفريط فيها بالصلاة، وفي نفس الوقت تتلاءم مع تلك الظروف والحالات.

الأمر بإقامتها في القرآن الكريم هو متكرر، كما أشرنا في بداية المحاضرة، وما تعنيه إقامتها، هو: أداؤها خالصةً لله، كاملةً شروطها وفروضها، الإتيان بها وفق ما شرعها الله "سبحانه وتعالى"، وهذا أمرٌ مهمٌ جدًّا؛ لأن البعض ممن يؤدِّي صلاته بشكلٍ اعتياديٍ روتينيٍ، لا يعي أهميتها، وفضلها، وعظيم شأنها، قد يؤدِّيها بشكلٍ عاديٍ جدًّا، من دون إتقانٍ لهيئاتها وأركانها، أو مع تفريطٍ وتقصيرٍ في شيءٍ من شروطها وأركانها، فيكون لذلك تأثير سيئ على أدائه، لا يؤديها كاملة، لا يؤديها متقنة وفق ما شرعها الله "سبحانه وتعالى".

البعض ممن يؤدِّيها- كما قلنا- بشكل اعتيادي روتيني، وقد يؤدِّيها وهو مستعجلٌ جدًّا لأمرٍ من أمور الدنيا، لشأنٍ من شؤون نفسه وأغراض حياته، فعادةً يترك عجلته عليها هي، مع أنه قد يكون متأنياً في بقية الأمور، إنما يستعجل جدًّا فيها؛ فيفرِّط في شيءٍ منها.

لأهمية الصلاة، وعظيم شأنها، كانت في رأس القائمة ضمن الأولويات العبادية، والأعمال العظيمة، والفرائض المؤكَّدة في كل رسالات الله "سبحانه وتعالى"، ولدى كل أنبيائه "صلوات الله عليهم"، ويتضح لنا في القرآن الكريم كيف كانت أهميتها في عهد الأنبياء "عليهم الصلاة والسلام"، وكيف كانت عنايتهم بها، مما يدل على عظيم شأنها، وعلى منزلتها وموقعها المهم في دين الله "سبحانه وتعالى"، وفي القربة إلى الله "سبحانه وتعالى"، وفي آثارها المهمة التي نحتاج إليها نحن كبشرٍ في كل زمانٍ ومكان.

 في القرآن الكريم على نحوٍ إجمالي، في حديثه عن الأنبياء "صلوات الله وسلامه عليهم"، يقول الله "جلَّ شأنه": {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء: من الآية73]، فالله "سبحانه وتعالى" أوحى إلى الأنبياء {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، عنوان واسع يشمل كل الأعمال الصالحة التي فيها الخير، {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ}، فنلاحظ كيف كانت أساسيةً، وخصَّت بالذكر؛ لأهميتها وموقعها، وأثرها

الكبير على المستوى التربوي والعبادي، {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}، وكثيراً ما تقترن الزكاة بالصلاة، ويقترن الإنفاق بالصلاة، {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.

من ضمن ما يذكره الله أيضاً عن نبيه وخليله إبراهيم "عليه السلام"، في اهتمامه الكبير بأمر الصلاة، وهو الذي بنى الكعبة، أعاد بناءها، وأحياها من جديد، فأحيا دورها الكبير كقبلةٍ للصلاة، وكذلك في دورها فيما يتعلق بالحج، فإبراهيم "عليه السلام" كان من ضمن أدعيته: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}[إبراهيم: الآية40]، فمع اهتمامه بأمر الصلاة، وورد الكثير في القرآن الكريم فيما يتعلق بذلك في سورة البقرة، وفي سورة إبراهيم... وفي سورٍ أخرى أيضاً، كان من الملاحظ لاهتمامه الكبير بالموضوع، أنَّ من ضمن أدعيته هذا الدعاء: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ}، وهذا مما ينبغي أن يأخذه الإنسان المؤمن بعين الاعتبار، أن يدعو الله أن يوفِّقه لأداء الصلاة، أن يعينه على أداء الصلاة القيِّمة؛ لأن المطلوب هو أن تكون صلاةً قيِّمة، ما أكثر المصلين! وما أقلَّ الذين يقيمون الصلاة! وهذا الدعاء بنفسه دعاءٌ عظيم، دعاءٌ مهم، يمكن للإنسان أن يعتمده ضمن أدعيته التي يدعو الله بها: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، يدعو الإنسان لنفسه بذلك، ويدعو لذريته، {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}.

كذلك في القرآن الكريم عن نبي الله إسماعيل "عليه السلام" يقول الله عنه: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}[مريم: من الآية55]، من ضمن أوصافه العظيمة، من ضمن ما يتحدث به القرآن عنه؛ باعتباره شيء مهم، وشيء عظيم، ومواصفة مهمة، من مميزاته "عليه السلام" أنه كان هكذا: يهتم بأمر الصلاة، ويأمر أهله بها بشكلٍ متكرر، فهي ضمن الاهتمامات التربوية التي يحرص عليها الإنسان مع أهله، ضمن المسؤوليات والالتزامات الأخلاقية والتربوية تجاه الأهل: أن يأمرهم الإنسان بالصلاة، أن يحثهم على الصلاة، أن ينبههم على الصلاة... وهكذا شيءٌ مستمر، {يَأْمُرُ} كحالة مستمرة، {يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}، تقترن، قرينة الصلاة هي الزكاة، {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}، هذا يدل على اهتمامه العظيم بأمرهما، بأمر الصلاة والزكاة، ويدل على موقعهما العظيم في دين الله "سبحانه وتعالى"، وأنهما عنوانان رئيسيان بارزان، يعبِّران عن غيرهما، عن بقية المواصفات الإيمانية.

كذلك في القرآن الكريم في سورة طه، في الحديث عن نبي الله موسى "عليه السلام"، عندما أوحى الله إليه، قال الله "سبحانه وتعالى" وهو يخاطبه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}[طه: الآية14]، فلعظيم شأن الصلاة، أفردت أيضاً بالذكر مع أنها من العبادة، تدخل ضمن قوله تعالى: {فَاعْبُدْنِي}، فيأتي أيضاً الإفراد لها بالذكر، والتخصيص لها بالذكر؛ لأهميتها الكبيرة جدًّا، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، فمن الأدوار الأساسية للصلاة، هي: أنها ذكرٌ لله، أنت في صلاتك تذكر الله، وتتذكر الله "سبحانه وتعالى"، وتخرج من حالة الغفلة عن الله "سبحانه وتعالى"، إذا أدَّيت صلاتك كما ينبغي بإقبالٍ ذهنيٍ ونفسيٍ، وتوجهٍ بالقلب والمشاعر، وبالوجدان واللسان نحو الله "سبحانه وتعالى".

كذلك فيما أوحى الله به إلى نبيه موسى ونبيه هارون "عليهما السلام"، يقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس: الآية87]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، فإقامة الصلاة تأتي ضمن الأوامر الإلهية المؤكدة والمتكررة؛ لِمَا للمسألة من أهمية كبيرة جدًّا لنا نحن، للبشرية أنفسهم.

أيضاً في سورة مريم، فيما ذكره الله عن نبيه عيسى "عليه السلام"، عندما أنطقه الله وهو في المهد، فقال "عليه السلام" ضمن ما قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}[مريم: الآية31]، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}، ما شاء الله، سبحان الله العظيم، كان نبي الله عيسى مباركاً أينما كان، فيقول: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}، يعني: بالاستمرار على ذلك، بالاستمرار على ذلك، {مَا دُمْتُ حَيًّا}: طول الحياة، طول العمر.

فكم في القرآن الكريم من الحديث عن الصلاة، من الأمر بها، من التأكيد عليها كعنوانٍ رئيسيٍ إيمانيٍ يساعد على التقوى، والصلاة لها- كما أشرنا في سياق الحديث- أهميتها من جوانب متعددة:

أول ما في الصلاة: أنها ذكرٌ لله تعالى، كما قرأنا في قوله "سبحانه وتعالى" مخاطباً لنبيه موسى "عليه السلام": {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، الإنسان بحاجة إلى الذكر لله، ومن أخطر ما يمكن أن يتعرض له الإنسان في التأثير السلبي على نفسه، واهتماماته، وأعماله، وتصرفاته، ومواقفه، هو: الغفلة عن الله "سبحانه وتعالى"، هي الحالة الخطيرة التي يصطادك فيها الشيطان، يوقع بك الشيطان، تسقط فيها في حبائل الشيطان ومصائد الشيطان، حالة الغفلة عن الله، حالة النسيان لله "سبحانه وتعالى"، فأتت الصلوات الخمس، التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، والفرض العظيم من فرائض الله "سبحانه وتعالى"، في أوقات موزَّعة على اليوم والليلة؛ حتى لا تنسى لفترة طويلة مع انشغال الإنسان في ظروف حياته، ظروف معيشته.

البعض قد ينهمك ذهنياً نفسياً عملياً في مشاغله المعيشية مثلاً، في بيعه، في شرائه، في شغله، في زراعته... في أي أعمالٍ من أعماله، على نحوٍ ينسى فيه تذكُّر الله، والذكرى لله "سبحانه وتعالى"، فلو لم تكن هذه الصلوات الخمس الموزعة على اليوم والليلة؛ لبقي لفترة طويلة، قد يمر يومه بكله غافلاً عن الله "سبحانه وتعالى"، لا يذكر الله، ناسياً لله، وهي حالةٌ خطيرةٌ جدًّا، لها تأثيراتها السلبية على مشاعر الإنسان، وعلى واقع الإنسان العملي بالتالي، على التزامه الإيماني، على اهتمامه، فعندما يمر بعضٌ من الوقت، مثلاً ما بين الفجر والظهر، وقت متسع، لكن يأتي الظهر كذلك، ثم فريضة العصر، ثم كذلك المغرب، يأتي المغرب، وهكذا العشاء، فهكذا تأتي هذه الفواصل الزمنية، والتي هي أيضاً في حركة الزمن، في حركة الليل والنهار، في حركة الشمس، أشبه ما تكون بفواصل زمنية، لها علاقة بواقع الإنسان، لها علاقة بنظم حياته وأعماله وتحركاته، كذلك مثلاً عندما نستيقظ من نومنا، فيكون أول الفرائض التي نؤديها هي فريضة الفجر، هذا في غير شهر رمضان طبعاً، مع سهر الليل في شهر رمضان وقيامه.

وهكذا يأتي الذكر لله والتذكر لله الذي له أهميته الكبيرة في أن تبقى متجهاً نحو الله "سبحانه وتعالى"، خائفاً من العصيان لله، متنبهاً ومستحياً من الله "سبحانه وتعالى"، ومنتبهاً إلى أعمالك، إلى تصرفاتك، كيف لا تعصي الله، كيف لا تسبب لنفسك سخط الله، كيف تعمل ما يرضي الله "سبحانه وتعالى"، كيف تتقي الله "جلَّ شأنه"، فهذا الجانب جانبٌ مهم.

فالصلاة هي ذكرٌ لله "سبحانه وتعالى"، وهي أيضاً حافلةٌ بالأذكار العظيمة، بالتكبير لله "جلَّ شأنه"، وبالتسبيح لله "سبحانه وتعالى"، ومع التسبيح التهليل والتحميد، وأيضاً مع ذلك قراءة القرآن، وقراءة سورة الفاتحة التي لا بدَّ منه في كل صلاة، فللأذكار نفسها، ولقراءة القرآن نفسه الأثر العظيم في الذكر لله "سبحانه وتعالى"، وفي ترسيخ ما تعنيه تلك الأذكار.

في التكبير لله، الذي يعني: ترسيخ الشعور بعظمة الله "سبحانه وتعالى"، وأنه أكبر من كل شيء، بكل ما لهذا من أهميةٍ كبيرة بالتالي في مواقف الإنسان، في أعمال الإنسان، في طاعته لله "سبحانه وتعالى"، في نهوضه بمسؤولياته، في مواجهته لأعداء الله، في تصديه للأخطار والتحديات مهما كانت.

ما يتعلق بالتسبيح كذلك، ما يتعلق بقراءة القرآن كذلك... وهكذا، أذكار الصلاة أذكار عظيمة، وليست عشوائية، هي شرعت، وأتت عن رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، شرعها الله لعباده، شرع لنا ما نذكره به في صلاتنا، فهي أذكار محددة ومشروعة للصلاة، حافلةٌ بالأذكار العظيمة المهمة، التي ترسِّخ في نفس الإنسان ووجدانه المعاني العظيمة، التي تشده نحو الله "سبحانه وتعالى"، وهذا المجال يطول الحديث عنه، لسنا في سياق الحديث عنه تفصيلياً؛ إنما الحديث عنه على نحو الإجمال.

من أهم ما في الصلاة: أنها تساهم في ترسيخ معنى العبودية لله "سبحانه وتعالى"، وهي في أذكارها، وأركانها من: ركوعٍ، وسجود، وقيامٍ، وقعود، هي تعبِّر عن عبوديتك لله "سبحانه وتعالى"، أنت تقف في صلاتك في موقف الصلاة، وفي مقام الصلاة، تتوجه، لا تتلفت إلى شيءٍ آخر، تبقى ملتزماً وفق هيئة الصلاة، وفق أذكارها، أركانها، شروطها، فروضها، لا تنشغل بشيءٍ آخر، لا تلتفت إلى شيءٍ آخر، لا تمارس أي أعمال أخرى، بوقفة الإجلال والخشوع والخضوع لله "سبحانه وتعالى"، ركوعك وسجودك كله، وإقبالك ذلك الذي يمنع فيه أي حديثٍ آخر غير أذكار الصلاة، ويمنع فيه أيضاً أي أعمال أخرى غير أعمال الصلاة، أي تلفت بوجهك، برأسك، إلى أي جهةٍ أخرى، كل ذلك ممنوع، تُقبِل بشكلٍ كليٍ، ولا تؤدي في الصلاة إلا أذكارها وأعمالها، وتترك أي شيءٍ آخر، هذا الإقبال بخشوع وخضوع، وحالة من القنوت لله "سبحانه وتعالى"، والخشوع لله "جلَّ شأنه"، والإقبال إلى الله، هي تعبيرٌ عن عبوديتك لله "سبحانه وتعالى"، وفي أذكارها كذلك، في أذكار الصلاة كذلك تعبير عن العبودية لله "سبحانه وتعالى".

والمهم في ذلك هو: استحضار الذهن، التركيز الذهني على ما تقول وما تفعل، هذا أمرٌ مهمٌ جدًّا، التركيز الذهني والحضور الذهني على ما تقول وما تفعل، هذا يساعدك على أن تستشعر هذه الحالة من العبودية لله، من التعبير عن أنك عبدٌ لله، تقف بين يديه، تتوجه إليه، تذكره، تكبره، تسبحه، تقرأ من كتابه، تتلو آياته... إلى غير ذلك مما في أذكار الصلاة، وهذا جانبٌ مهمٌ، وترسيخه في وجدان الإنسان، وفي مشاعره له أهميته الكبيرة فيما يتعلق بطاعتك لله "سبحانه وتعالى"، بإقبالك إلى الله، بتسليمك لله، وتقبلك لهدي الله، وتقبلك لتعليمات الله "سبحانه وتعالى".

من أهم ما في الصلاة، هو: عطاؤها التربوي، وأثرها الكبير في تزكية النفس، وتطهير نفسية الإنسان، وهذا جانبٌ مهمٌ جدًّا، يحتاج إليه الإنسان، ولأن هذا الموضوع موضوعٌ مهمٌ جدًّا، والإنسان في ظروف حياته، وشواغله، واحتكاكه بواقع هذه الحياة وما فيه، قد تتلوث نفسية الإنسان بالكثير مما يواجهه في ظروف هذه الحياة، وتتأثر سلباً، ولكن ما بين الصلاة إلى الصلاة، تأتي الصلاة الأخرى، فتمثل أيضاً عملية تطهير للنفس، وكأن الإنسان يتجه إلى حيث يطهر نفسيته من جديد، وهذا يعود إلى إقبال الإنسان إلى الصلاة بوعي، وأدائها بوعيٍ واستحضارٍ لقيمتها، وأهميتها، وفوائدها.

تزكية النفس جانبٌ مهم، يقول الله "سبحانه وتعالى": {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى: 14-15]، فالصلاة تساعد على تزكية النفس، وتسهم في ذلك إسهاماً مهماً.

يقول الله "جلَّ شأنه" أيضاً عن هذا الجانب: عن أهمية الصلاة في تطهير نفسية الإنسان، في تزكية نفسه، في ترسيخ حالة التزام التقوى لدى الإنسان، والانضباط الأخلاقي والإيماني، في تنمية الروح الخيِّرة والمشاعر الطيِّبة في نفسية الإنسان، التي تبعده عن الفحشاء، عن المنكر، عن المعاصي: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت: من الآية45]؛ لأنها ترسخ الحالة الإيمانية، تشدك إلى الله، تنمِّي في نفسك التذكر لله "سبحانه وتعالى"، والحياء من الله، والخشية من الله، والحب لله، والشعور بالقرب من الله، والشعور بالقرب من الله "سبحانه وتعالى"، وتطهر نفسيتك، وتنمِّي فيك المشاعر الطيبة، المشاعر الإيجابية، الطاقة الإيجابية، التي تساعدك على الاستقامة إلى درجة أن تمقت الفحشاء، أن تكره الأعمال السيئة، أن تنفر منها، أن تستوحش منها، وهذا أثرٌ عظيمٌ ومهمٌ جدًّا، يحصل عندما يؤدِّي الإنسان صلاته كما ينبغي، ضمن استقامته العملية، وحرصه على الاستقامة العملية.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج: من 19-20]، وأيضاً يذكر مواصفات أخرى مع الصلاة، لكن الصلاة كانت على رأس القائمة، في مقدمة ما يفيد في معالجة حالة الهلع لدى الإنسان، ما هي حالة الهلع؟ هي هذه: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}، يجزع من الشر، ليس عنده تحمل وطاقة، يحتاج إلى تربية تؤهله لذلك، وإذا مسه الخير منوعاً، يمنع، يبخل، يشح.

فهذه الحالة الإيجابية على المستوى التربوي للصلاة، الإنسان بحاجةٍ إليها، كل إنسان بحاجةٍ إليها، وينبغي أن تكون من الأشياء التي نحرص عليها، ونسعى لها، ونعي أهميتها الكبيرة لنا.

من أهم أيضاً ما في الصلاة: أنها وسيلةٌ مساعدةٌ وعونٌ على أداء العمل الصالح، وعلى النهوض بالمسؤولية، فالله "سبحانه وتعالى" قال في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: الآية153]، فالصلاة هي وسيلةٌ مهمةٌ جدًّا، تساعد الإنسان على تقوى الله، على اهتمامه بالأعمال الصالحة الأخرى؛ لأن لها الأثر الإيجابي الذي يساعدك على الاندفاع للأعمال الصالحة، ولتحمل المسؤولية التي عليك أن تتحرك للنهوض بها، في الجهاد في سبيل الله تعالى، في الأمر بالمعروف، في النهي عن المنكر، في مواجهة الطاغوت، في مواجهة التحديات... إلى غير ذلك مما يدخل في إطار المسؤولية، فلابدَّ من الاستفادة من الصلاة في ذلك، هي وسيلة لها أثرها الكبير، الذي يكسبك في وجدانك الاطمئنان، الشعور بالقرب من الله "سبحانه وتعالى"، الدافع الذي يمثل دافعاً مهماً جدًّا للتحرك، للاهتمام، للعمل، للالتزام، وهذه مسألة مهمة جدًّا، مرتبطةٌ بالصلاة، لها أثرها الإيماني الكبير في ذلك.

فمن خلال هذا الدور المهم للصلاة، والأهمية الكبيرة لها، يجب أن نعي أيضاً خطورة التهاون بالصلاة، والتفريط بالصلاة، والبعض- للأسف الشديد- قد يكون سبب تهاونه بأمر الصلاة، أو عن بعض الصلوات، هو الغرق في شهوات النفس، الاسترسال في هوى النفس، الضياع للوقت والجهد في أشياء تافهة، أو أشياء عبثية، وهذه مسألة خطيرة جدًّا.

على كُلٍّ حال لا ينبغي أن يكون هناك أي شيءٍ من الشواغل المعيشية، أو مما يدخل- كما قلنا- ضمن الأمور العبثية، أو أهواء النفس، مما يسبب لدى الإنسان أن يتهاون بصلاته، وأن يفرط في صلاته، فالتفريط فيها والتهاون بها ذنبٌ عظيم، وجرمٌ كبير، الإنسان إذا تجرأ على ذلك، فهو يورط نفسه، هو يسبب لنفسه ورطةً كبيرةً جدًّا، يجني على نفسه جنايةً كبيرة، يفتح للشيطان المجال على نفسه، ويتحمل وزراً عظيماً، يدنس نفسيته.

الله "جلَّ شأنه" يقول في القرآن الكريم، وهو يحكي عن واقع أهل النار في النار، وهم يتحدثون عن الأسباب الرئيسية التي أوصلتهم إلى نار جهنم، كان في مقدمتها: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر: الآية43]، كان في مقدمة الأسباب لهلاكهم، لأن يكونوا من أهل النار والعياذ بالله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}، على رأس القائمة.

أيضاً يأتي الوعيد في القرآن الكريم في قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون: 4-5]، حالة الاستهتار بالصلاة، والغفلة عنها، والتهاون بأمرها، وقد يفوت لدى البعض من المتهاونين وقتها في أكثر الأحيان، وبالذات بعض الصلوات، البعض مثلاً يعتادون ويدمنون على التفريط في صلاة الفجر، فلا ينهض إلا في وسط النهار، أو بعد طلوع الشمس، وتصبح لدى البعض حالة يستمر عليها، فهو أصبح معتاداً لتضييع فريضة صلاة الفجر، ومدمناً على ذلك، هذا أمر خطير للغاية، معناه: أنك في مثل هذا الحال لم تعد من المؤمنين، ولا في عداد المتقين، وأنك ترتكب جرماً عظيماً، وتتحمل وزراً فظيعاً ثقيلاً، أمر خطير للغاية على الإنسان، في الحديث عن الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله": ((لا يزال الشيطان هائباً مذعوراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيعهن، تجرأ عليه، فألقاه في العظائم))، الشيطان يتجرأ على الإنسان إذا فرَّط وضيَّع في صلواته، أصبح لا يهتم ببعضها، أصبح يؤديها على نحوٍ يتخلص منها، كأنها مشكلة، فيؤديها [مغضى] على حسب تعبيرنا المحلي، هكذا بطريقة ليتخلص منها، وكأنها أصبحت مشكلةً بالنسبة له.

من خلال الوعي الإيماني يجب أن ندرك عظمة الصلاة، قيمتها، أهميتها، ويبدأ الإنسان على المستوى النفسي والذهني في رسم صورةٍ إيجابيةٍ عن الصلاة، وفي حمل مشاعر إيجابية نحوها، يعني: أن تدرك أنت أنها قربةٌ عظيمةٌ إلى الله، أنها نعمة، أنها مفيدةٌ لك أنت، أنك بحاجةٍ أنت إليها حتى على المستوى النفسي، حتى لعلاج الحالات النفسية، التي هي مؤثرة سلباً عليك في مشاعرك، في اهتماماتك، في أعمالك، وتحمل المشاعر الإيجابية نحو الصلاة، في أهميتها، في دورها، في عظمتها، فيما تكتسبه منها أنت، على المستوى النفسي: من الشعور بالاطمئنان، والسكينة، والراحة، والقرب من الله "سبحانه وتعالى"، ((أرحنا يا بلال))، يقال أنَّ النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" كان إذا أتى وقت الصلاة في بعض الأحيان يقول لبلال عندما يأمره بالأذان للصلاة: ((أرحنا يا بلال))، راحة، راحة، واطمئنان، وسكينة، ومشاعر إيجابية يعيشها الإنسان، هذه هي الصلاة بشأنها العظيم.

يتفاوت الناس في مستوى الاستفادة من هذا المورد التربوي الإيماني العظيم، بحسب إيمانهم، بحسب إقبالهم إلى الله "سبحانه وتعالى"، وهي ميسَّرة، ميسَّرة، ليست على نحوٍ ثقيل، على نحوٍ صعب، ليست أعدادها كبيرةً جدًّا، الله جعلها ميسَّرةً جدًّا، ليس هناك ما يبرر أن يستثقلها الإنسان، أو أن ينفر منها الإنسان، أو أن يعتبرها أمراً صعباً ومعقداً يتهرب منه، هي من أيسر الأعمال، من أيسر الأعمال الصلاة، أمر يسير، وسهل، وغير معقد، وله آثار إيجابية، وإذا استمر الإنسان عليه بإقبال، أصبح من الأعمال الشيقة جدًّا، التي يشتاق إليها، يتطلع إليها، يحس من خلالها بالراحة النفسية العظيمة، يحسُّ بآثارها وبركاتها الكبيرة، بنتائجها العظيمة.

ومع ذلك، مع الصلوات الخمس، هناك صلاة المناسبات، الصلوات المتعلقة بالمناسبات، منها مثلاً: صلاة العيدين، منها صلاة الجنازة، هي فرضٌ على الكفاية طبعاً بالنسبة لصلاة الجنازة، هناك صلاة الكسوفين، كسوف الشمس والقمر، وهكذا صلوات تتعلق بمناسبات معينة، وهناك صلاة النافلة، من أهمها صلاة الليل، في آخر الليل، أو من بعد منتصف الليل هي نافلة، ليست فريضة، لكن فضلها عظيم، أثرها النفسي التربوي كبيرٌ جدًّا، والإنسان يتزود بحسب ظروفه العملية، وبحسب اهتماماته في مسيرته في هذه الحياة.

وعلى كل حال تأتي الصلاة كوسيلة عظيمة جدًّا، بأثرها الكبير جدًّا، وارتباطها ببقية الأعمال، ليست بديلةً عن بقية الأعمال، ولا متعارضةً مع بقية الأعمال، بل لها صلتها الوثيقة؛ لأنها تؤدي هذا الدور في التذكر لله، في الإقبال إلى الله "سبحانه وتعالى"، الدور المساعد على التقوى، فتصبح هي وسيلةً معينة، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}[البقرة: من الآية45]، كما الصبر يساعدك على أداء مسؤولياتك، كذلك هي الصلاة.

فلا معنى أبداً لتقديمها وكأنها مثلاً بديلٌ عن الجهاد في سبيل الله، أو عن الأعمال المهمة الأخرى، في السعي لإقامة دين الله، لإقامة الحق، لإقامة العدل، لا مبرر أبداً يبرر التعامل معها وكأنها شيءٌ يغني عن بقية الدين، وهي تربطك ببقية الدين، تربطك بالاستجابة لله "سبحانه وتعالى" تجاه ما أمرك الله به.

من آخر ما نوصي به في حديثنا هذا الموجز عن الصلاة؛ لأن الحديث عنها يمكن أن يتسع جدًّا، هو: الحث للذين لم يتعلموا الصلاة جيداً أن يتعلموها، وألَّا يستحيوا من ذلك، ألَّا يتحرَّج الإنسان من تعلمها، أو التأكد من أنه يتقنها في أذكارها، وأركانها، وشروطها، وفروضها، وأن يكون هذا من ضمن الأشياء التي يتعلمها، بالذات المناطق التي تنتشر فيها الأمية، وليست فيها حركة جيدة للتعليم، أن يكون هناك اهتمام بهذا الأمر.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...