الأحد، 10 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية السابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية السابعة لقائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ 2022م:

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

مما ورد في القرآن الكريم في الآيات المباركة من سورة البقرة في الحديث عن فريضة الصيام، وتعيين شهر رمضان ليكون هو الشهر المحدد لأداء فريضة الصيام، كركنٍ من أركان الإسلام، وكفرضٍ أساسيٍ من فرائض الله "عزَّ وجلَّ"، أتى قول الله "سبحانه وتعالى": {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية185]، فشهر رمضان المبارك هو شهر نزول القرآن، الذي اتبدأ فيه نزول القرآن الكريم من خلال الوحي إلى رسول الله وخاتم أنبيائه محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وقد يكون- والله أعلم- هو بنفسه شهر البعثة بالرسالة إلى الناس، فتختلف الأقوال، البعض يعتبرون شهر البعثة هو شهر رجب، ولكن العجيب أنَّ أولئك الذين يعتبرون أنَّ شهر البعثة أنه شهر رجب، هم يعتبرون نزول القرآن في بداية البعثة، وأنه من خلال أول لقاء بالبعثة بالرسالة نزلت سورة اقرأ، هكذا يقولون هم، وهذا لا يستقيم؛ لأنه من المعلوم قطعاً أنَّ نزول القرآن الكريم ابتدأ في شهر رمضان المبارك، في ليلة القدر منه، كما قال الله "سبحانه وتعالى": {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية1]، فالإرسال قد يكون إذا كانت البعثة مترافقة مع نزول القرآن، أو ابتداء نزوله، في شهر رمضان المبارك، وهو شهرٌ مباركٌ، وشهرٌ عظيم، وهناك روايات عن أمير المؤمنين عليٍّ "عليه السلام" أيضاً تفيد ذلك، وعلى كلٍّ فمما لا شك فيه أنه إذا كان نزول القرآن الكريم متزامناً مع بداية البعثة بالرسالة؛ فستكون البعثة حتماً في شهر رمضان المبارك.

القرآن الكريم الذي أنزله الله في شهر رمضان المبارك، ثم شرع صيام هذا الشهر، وبيَّن لنا غايةً عمليةً أو ثمرةً عمليةً أساسيةً ومهمةً بالنسبة لنا هي التقوى، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: من الآية183]، فمما لا شك فيه أيضاً أنَّ هناك تلازمٌ تام ما بين تحقيق التقوى، وما بين الاهتداء بالقرآن الكريم؛ لأن من أول متطلبات التقوى هو الهدى، أن نعرف ونعلم ماذا نفعل؟ ما الذي فيه الوقاية لنا إن فعلناه؟ ما الذي فيه الوقاية لنا إن التزمنا به، من الأعمال، من الأقوال، من المواقف، من التصرفات؟ أيضاً كيف يأتينا من الهدى ما يساعدنا على تزكية أنفسنا؛ لأن من متطلبات التقوى: تزكية النفس، نحتاج إلى تزكية أنفسنا؛ لكي نتقي الله "سبحانه وتعالى".

ثم عندما نأتي إلى الجانب العملي، الجانب العملي لا يأتي هكذا بدون إرشاد، بدون تعليم، بدون معرفة، يحتاج الإنسان إلى معرفة ماذا يعمل؛ حتى يعمل، حتى يتحرك، وما الذي يجتنبه؟ ما الذي ينتهي عنه؟ ما الذي يحذر منه، مما فيه خطرٌ عليه، أو شرٌ عليه، أو عقابٌ له؟ ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى" فيما يتعلق بالتقوى والمتقين في علاقتهم بالقرآن الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: الآية2]، ويقول عنهم في آخر تلك المواصفات التي وردت في أول سورة البقرة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة: من الآية5]، فمن أساسيات ولوازم التقوى، هو: الاهتداء بالقرآن الكريم، والتحرك على أساسه، فبذلك تتحقق التقوى من خلال الالتزام عملياً بما يهدي إليه الله في القرآن الكريم، وبما للقرآن الكريم من أثرٍ تربويٍ عظيمٍ في تزكية النفس البشرية، يساعدها على الالتزام، يهيئها للعمل، ولما له من عطاءٍ تربويٍ أيضاً يتناسب مع الصيام في تحفيز النفس البشرية على الصبر، على التحمل، في توفير الدافع الإيماني الكبير، الذي يجعل الإنسان ينطلق بكل رغبة، بكل جد، بكل اهتمام، باستشعارٍ للمسؤولية، وبما يمثِّله أيضاً من صلةٍ بالله "سبحانه وتعالى"، يحظى الإنسان من خلالها بمعونة الله، بتوفيقه، فكل هذه الاعتبارات مأخوذةٌ بعين الاعتبار، كل هذه الحيثيات مأخوذةٌ بعين الاعتبار في أهميتها وتناسبها، والتلازم مع بين فريضة الصيام والقرآن الكريم في مسألة التقوى.

الله "سبحانه وتعالى" ضمن سنته في هداية عباده يرسل الرسل، وينزل عليهم الكتب، وهذه سنَّةٌ ماضيةٌ مع عباده، ترافق نزول الهدى ومسيرة الهداية للمجتمع البشري منذ بداية وجودهم، منذ آدم "عليه السلام"، الله هداه، وأتت الهداية مترافقةً مع بداية استخلافه على الأرض، ثم استمرت المسألة إلى خاتم النبيين في مسألة إرسال الرسل وإنزال الكتب، إلى خاتم النبيين محمد "صلوات الله وسلامه عليه على آله"، فبعثه الله بالرسالة إلى العالمين، رحمةً للعالمين، وأنزل عليه القرآن العظيم.

والقرآن الكريم هو نعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله بها علينا، نعمة الهداية بالرسول والكتاب هي أعظم النعم على الإطلاق، وهي مفتاح كل النعم، بدونها تتحول كل النعم إلى نقم، إلى وسيلة لاكتساب المعاصي، لاكتساب الآثام، إلى وسيلة للجناية على النفس، للجناية على المجتمع البشري، إلى وسيلةٍ للشقاء، إلى وسيلةٍ للإفساد في الأرض، إلى وسيلةٍ لإفساد الحياة، فالإنسان بحاجة إلى أن ترتسم له منهجية التعامل مع نعم الله عليه، وأن ترتسم له المسيرة الصحيحة لكيفية الاستخلاف في الأرض، التي يجمع فيها ما بين المبادئ والقيم الإلهية والإنسانية الراقية العظيمة، التي تنسجم مع كرامته الإنسانية، أو أن ينحرف عن ذلك، إذا لم يحصل على ذلك، أو لم يرتبط بهذه الصلة، بهذه الهداية، فيكون انحرافه سبباً لشقائه، سبباً لسوء تصرفاته، سبباً لكفرانه للنعم، سبباً للجناية على نفسه.

نعمة الله علينا بالقرآن الكريم هي نعمةٌ عظيمة، وهو كان المعجزة الرئيسية، من ضمن المعجزات هو المعجزة الرئيسية لرسول الله محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وقد عظمت نعمة الله "سبحانه وتعالى" أن حفظ النص القرآني للأجيال اللاحقة ما بعد عصر وزمن مبعث الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" وحركته المباشرة وحياته، من بعد وفاة الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" لو لم يَحفظ الله "سبحانه وتعالى"- بمعجزةٍ إلهية، بآيةٍ عجيبة- النص القرآني للأجيال اللاحقة؛ لكانت المشكلة خطيرة جداً في مسألة التحريف للنص القرآني؛ لأن التحريف فيما يقدَّم باسم الدين مسألةٌ معروفة، يعني: كل المسلمين يعرفون هذه الحقيقة، أنَّ هناك تحريفاً خطيراً حصل في نقل المعارف الدينية، وفي نقل المفاهيم الدينية، وفيما يقدَّم باسم الدين، حتى في المرويات عن رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، هناك الكثير من الأحاديث المكذوبة، التي لم تصح عن النبي "صلوات الله عليه وعلى آله"، وهناك الكثير أيضاً مما يقدَّم باسم الدين، باسم الإسلام، بصفة الشريعة، بمختلف العناوين الدينية، من المعروف أنه لا يصح باسم الدين، فمن المسائل المعروفة هي مسألة التحريف، ولكن الأمة متفقة على أنَّ النص القرآني محفوظ؛ لأن الله "سبحانه وتعالى" تكفَّل بحفظه، هو القائل في القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: الآية9]، فهو أكَّد أنه حافظٌ له بشكلٍ مستمر إلى يوم القيامة، وهذا ما حصل، على مدى كل هذه القرون التي مضت وانقضت، لا يزال النص القرآني محفوظاً، وسيبقى محفوظاً إلى نهاية أيام الحياة، إلى قيام الساعة، فهذه نعمة، نعمةٌ عظيمةٌ جداً لنا؛ لأنه وإن حاول البعض أن يحرِّف في المعنى، أو أن يحرِّف في المفاهيم، فالقرآن يفضحه، سلامة النص، وبقاء النص، وحفظ النص القرآني نعمةٌ عظيمة تفضح المتقوِّلين على القرآن، فهذه من النعم العظيمة علينا في هذا الزمن، وفي كل زمن، أنَّ الله حفظ القرآن الكريم من التحريف لنصه، نعمةٌ عظيمةٌ جداً، وبقي لنا إلى هذا الزمن، ويبقى ما بعد هذا العصر إلى نهاية التاريخ، إلى نهاية الوجود البشري.

القرآن الكريم هو من نور الله، من علمه، من حكمته، من رحمته، ولهذا يسمِّيه بالحكيم، يسمِّيه بالعظيم، يسمِّيه بالمجيد، يسمِّيه بالنور، يصفه بأنه رحمة، ويصفه بأنه هدى، وعندما نأتي إلى سوره المباركة، فمطلع كل سورةٍ منه- باستثناء سورةٍ واحدة- مطلعها وبدايتها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ ليبين لنا، وليرسخ فينا أنَّ كل ما في هذا القرآن الكريم من هداية، من إرشاد، من توجيه، من تعليمات، من أوامر، من نواهي، هي من منطلق رحمة الله بنا؛ لأنه الرحيم، الذي يريد لنا الخير، يريد لنا السعادة، يريد لنا الفلاح، يريد لنا النجاة، يريد لنا ألَّا نشقى، ألَّا نسبب لأنفسنا الخسران الرهيب، مظاهر رحمته في نعمه المادية التي أنعم بها عليها، ومظاهر رحمته وتجليات رحمته فيما كرَّمنا به في هذه الحياة كمجتمعٍ بشري، وفي خلقنا، معروفةٌ وواضحةٌ، وذكَّرنا بها أيضاً في القرآن الكريم كثيراً، وكذلك نحتاج كمجتمعٍ بشري إلى هداية، إلى تعليمات، إلى إرشاد، إلى نظام لمسيرة حياتنا، فقدَّم لنا ذلك من منطلق رحمته بنا، وكل ما فيه على هذا الأساس، وهذا ما يجب أن نبني عليه نظرتنا إلى القرآن الكريم، وإلى ما فيه، إلى ما فيه من تعليمات، من توجيهات، من أوامر، من نواهٍ؛ حتى لا ننظر إلى شيءٍ من مسؤولياتنا في القرآن، أو مما أمرنا الله به في القرآن، ووجهنا إليه، وأرشدنا إليه، إلى أنه يمثِّل مشكلةً لنا في واقع حياتنا، وكأنه يتنافى مع الرحمة، أو أن ننظر إلى شيءٍ مما حرَّمه الله ونهانا عنه وكأنه حرمانٌ لنا، يجب أن تكون نظرتنا صحيحة، من هذا المنطلق الذي نرى فيه كل ما أمرنا الله به رحمة، ونرى أنَّ كل ما نهانا الله عنه فمن منطلق رحمته بنا، فنثق، ونطمئن إلى هذا؛ لأن الإنسان بحاجة إلى ثقة بذلك، واطمئنان تجاه ذلك، مهما كان في بعض الأمور شيءٌ من شكل المشقة، أو الصعوبات، أو التحديات، فالصعوبات والتحديات والمشاق هي جزءٌ من حياة هذا الإنسان، لكن الحقيقة أنَّ اليسرى هي في طريق القرآن، في طريق الحق، أنها هي الأيسر، هي الأقل كلفة، وهي الأعظم والأحسن عاقبةً للإنسان، مهما كانت المشاق.

الله أيضاً يصف كتابه بأنه مبارك، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام: الآية155]، وهذه من أهم مواصفات القرآن، فهو كتابٌ مبارك:

مباركٌ فيما يتضمنه هو من الهداية الواسعة، من المعارف العجيبة، من سعة الهداية، ومن المعارف الواسعة جداً، ولذلك الإنسان كلما ارتبط بالقرآن أكثر؛ كلما توسعت معارفه، كلما ازداد حكمةً، كلما ازداد بصيرةً، كلما ازداد علماً، ولا يرى نفسه في مرحلة من المراحل مهما بلغ أنه قد استوعب ما في هذا الكتاب من النور، من الهدى، من العلم، من المعرفة؛ لأنه واسعٌ جداً، وفيه بركةٌ عجيبة في عطائه المعرفي.

ومباركٌ أيضاً في أثره التربوي، أثره عجيبٌ جداً في إصلاح نفس الإنسان، في تزكية النفس البشرية، في تأثيره الوجداني، تأثير عجيب، لا يصل إلى مستواه أي شيءٍ آخر، ولا أي بديلٍ آخر، في مستوى تأثيره الإيجابي في النفس البشرية، التي يكسبها الطمأنينة، يساعدها على التزكية، ينمِّي فيها ما فطرها الله عليه من مكارم الأخلاق، يزكيها مما قد تلوثت به، مما يتنافى ولا ينسجم مع فطرتها... وهكذا مباركٌ في عطائه التربوي.

مباركٌ أيضاً فيما يهدي إليه، فهو يهدي إلى ما فيه البركة، إلى ما فيه سعة الخير لنا، وعندما نتحرك على أساسه، على أساس ما فيه من التعليمات، على أساس هدايته، يبارك الله لنا في جهودنا، تكون جهوداً مثمرة، مباركة، آثارها، نتائجها، فاعليتها عالية، أكثر بكثير من مستوى إمكاناتنا، من مستوى قدراتنا؛ لأن البركة هي سعة تفوق مسألة الأرقام، مسألة الإمكانات، تفوق حجم الشيء الواقعي بزيادة، زيادةٍ من الله "سبحانه وتعالى".

فبركته أيضاً في النتائج، في الآثار، فيما يترتب عليه، وهذا يمثل إغراءً كبيراً للعمل بالقرآن؛ لأنه لا شيء آخر له هذه الميزة بهذا المستوى، بهذا المقدار، بركته عجيبة، الجهود التي تبذل لأمةٍ تتحرك على أساسه يباركها الله، فتأتي البركة في كل شيء: بركةٌ في الأعمال، بركةٌ في النتائج، بركةٌ في الآثار، بركةٌ في كل مجالات الحياة، الأمة التي تتحرك على أساسه، تهتدي به، تلتزم به، تستبصر به، تعي به، تنطلق على أساسه، تقف المواقف التي يرشد إليها، سيمنحها الله أيضاً البركة فيما يمنحها من الخيرات، في أرزاقها، فيما يكتبه لها من النصر، فيما يكتبه لها من الخير في كل شؤون حياتها.

مما وصفه الله به، أنه نور، القرآن هو نور، وتكرر الوصف له كثيراً في القرآن الكريم، من ضمن ذلك قول الله "سبحانه وتعالى": {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة: من الآية15]، وكذلك في قوله "سبحانه وتعالى": {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ}[إبراهيم: من الآية1]، يعني: إلى رسول الله محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[إبراهيم: من الآية1].

الحالة التي يكون الإنسان فيها بدون الهداية الإلهية هي حالة ظلمات؛ لأنه لا يبصر فيها الحقائق، لا يبصر فيها الخير بالفعل، لا يبصر فيها الطريقة الصحيحة التي بها فوزه، بها نجاته، بها سعادته، وتتكون لديه تصورات وتخيلات؛ وبالتالي ثقافات ومفاهيم خاطئة، فتمثل ظلمات تحول بينه وبين أن يرى الحقيقة كما هي، والحق كما هو، والخير كما هو، وتنعكس عنده الأمور في كثيرٍ من الأشياء، فيصبح لديه مفاهيم خاطئة، تصورات خاطئة، عقائد باطلة، أفكار خاطئة، وتشكل تلك الأفكار الظلامية حاجزاً يحجبه عن إدراك الحق والحقائق، عن إدراك الاتجاه الصحيح، فيتخبط في مسيرة حياته، في مواقفه، في أعماله، في قراراته، في تصرفاته، في سلوكياته، على المستوى الشخصي، أو على مستوى المجتمع الذي يتجه اتجاهاً بعيداً عن القرآن الكريم، يعتمد له نظاماً مخالفاً للقرآن الكريم، يبني مسيرة حياته على أساسٍ مناقضٍ للقرآن الكريم، فينتج عن ذلك انحرافات وحالة خطيرة جداً من التخبط.

فالقرآن هو نور؛ لأنه يقدم لك ما يضيء لك في واقع الحياة، فينير لك الدرب، ينير لك الطريق الموصلة فعلاً إلى الله "سبحانه وتعالى"، إلى خير الدنيا والآخرة، إلى الفوز العظيم، إلى النجاة من عذاب الله، إلى النجاة من الشقاء والخسران، ما يسمو بك، ولذلك هو يهدي، يهدي إلى الصراط المستقيم، فتتجه في مسيرة حياتك الاتجاه الصحيح الموصل إلى الغاية العظمى، إلى النتيجة الكبرى، إلى الفوز العظيم، وإلا كانت مسيرة الإنسان منحرفة، يتجه ويتخبط في هذه الحياة فلا يصل إلى النتيجة العظيمة، إلى الغاية العظيمة، إلى العاقبة الحسنة، وبعد شقاء الدنيا يكون مصيره- والعياذ بالله- إلى النار في الآخرة.

{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة: 15-16]، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[إبراهيم: من الآية1]، وتجلى ذلك في حركة رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، كيف أخرج الناس من الظلمات، كم كان لديهم من العقائد الباطلة، التي يبنون عليها أمورهم العملية، كم كان لديهم من المفاهيم والتصورات الخرافية والجاهلة والخاطئة، التي تتسبب في ضلالهم على المستوى العملي، كم كان لديهم من سلوكيات وأخلاقيات منحرفة وبشعة، لا تنسجم مع الكرامة الإنسانية، لا تنسجم مع ما أراده الله للإنسان وكرَّمه به من السمو في أخلاقه، في رشده، في تصرفاته، فبمسعى رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، بتبليغه للرسالة الإلهية، بجهوده الكبيرة، بأدائه العظيم، الذي تجسدت فيه حكمة القرآن الكريم، وبركة القرآن الكريم، غيَّر الواقع الذي كان سائداً آنذاك، واقع الجاهلية بكل ما تعنيه، وانتقل بالمجتمع نقلةً عظيمةً، ونقلةً كبيرةً جداً، ترتب عليها نقلةٌ كبيرة في واقع حياة المجتمع العربي آنذاك، المجتمع العربي الذي كان في واقع حياته، في ظروف حياته، دون مستوى بقية المجتمعات، أولئك الأميون، يعرفون بالأميين، ليس لديهم ثقافة، أكثر ما لديهم خرافات، وأساطير، وضلالات، وجهالات، وحالة من الشتات والفرقة لا مثيل لها لدى غيرهم من الأمم، والتخلف في شؤون حياتهم بشكلٍ كبير، بالنقلة التي أحدثها الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وصلوا في أعلى مستوى في المجتمع البشري آنذاك، فسادوا بقية الأمم على وجه الأرض، نقلة في فارقٍ زمنيٍ بسيط، انتقلت بهم، وغيَّرت واقعهم تماماً، لو استمروا وواصلوا على ذلك، لما كان واقع حالهم على ما هو عليه اليوم.

{لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: من الآية1]، وهكذا أيضاً يبين لنا الله في القرآن الكريم عظمة كتابه، أنه كتابٌ عظيم الشأن، أحكمت آياته، تضمَّن الحكمة، وهو معجزةٌ للرسول "صلوات الله عليه وعلى آله"، قال الله عنه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: الآية88]، يعني: لو تعاونوا، وتظافرت كل جهودهم جنباً إلى جنب؛ لكي يأتوا بمثل القرآن الكريم، لا يستطيعون أن يأتوا بمثله أبداً، لا في إحكامه، ولا في نظمه، ولا في بلاغته، ولا في حكمته، ولا بمستوى ما فيه من الهداية، هدايته هدايةٌ عجيبة شاملة واسعة، بشكلٍ عجيبٍ جداً، وهو أرقى ما أعطاه الله للبشر، ليس لديهم شيءٌ يرقى إلى مستواه، في أفكارهم، في نظرياتهم، في مقترحاتهم، في تصوراتهم، في كل إنتاجهم الفكري والثقافي والمعرفي، ليس لديهم شيءٌ يماثل القرآن الكريم، في أي مجال من المجالات:

الرؤى السياسية: لا ترقى إلى مستوى ما في القرآن الكريم، ولا مقارنة، ليست شيئاً في مقابل ما في القرآن الكريم.

على المستوى الاقتصادي: النظريات، المقترحات، الدراسات، كل نتاجهم المتعلق بذلك من الرؤى والأفكار لا يساوي شيئاً في مقابل ما هو في القرآن الكريم، في أثره، في واقعيته، في نتيجته الطيبة، في مستوى ما يفيد به البشر.

وهكذا، على المستوى التربوي، على المستوى الاجتماعي، على المستوى... على كل المستويات.

والقرآن الكريم وردت أوصافه المتنوعة وأسماؤه المتعددة، التي أيضاً تبين لنا جوانب من عظمته وأهميته بالنسبة لنا، ويتجلى لنا مدى إنعام الله علينا بذلك:

من الأوصاف الأساسية للقرآن الكريم: الحكيم، وأتى القسم بالقرآن الكريم، والقسم به أيضاً يبين أهميته، وأنه نعمة وآية من آيات الله، {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس: الآية2]، قسمٌ بالقرآن وحكمة القرآن، وحكمة القرآن، القرآن هو حكيم، ما فيه حكمة، ما فيه من الهداية هو حكمة في مختلف المجالات، عندما يهدينا إلى شؤون حياتنا في أي مجال من مجالات الحياة: في المجال السياسي، أو المجال الاقتصادي، أو المجال الاجتماعي، أو المجال الأمني... أو في أي مجال من مجالات الحياة؛ لأنه كتابٌ يهدينا في حياتنا، في شؤون حياتنا، فيما يوصلنا إلى الله، وإلى رحمته، ويصلنا بفضله وكرمه ورحمته، والآخرة أيضاً، في الدنيا والآخرة، {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}، ومن أهم ما نحتاج إليه هو الحكمة؛ لأن البديل عن الحكمة هو الحماقة، والعشوائية، والتوجهات الخاطئة، والأفكار الخاطئة، والمفاهيم الخاطئة؛ وبالتالي التحرك على أساسها يكون تحركاً خاطئاً، مهما أخلص الناس وبذلوا من جهد.

ولذلك تتجلى لنا الخسارة الرهيبة للمسلمين عندما تركوا الاهتداء بالقرآن الكريم في كثيرٍ من شؤون حياتهم، وفي مجالات رئيسية من مجالات الحياة، كيف فقدوا الحكمة، فقدوا الحكمة، وأنتجوا، أو اكتسبوا، أو تقبَّلوا بدائل، بدائل عن حكمة القرآن، عن هداية الله في القرآن، مما هو ضلال، مما هو حماقة، مما هو غباء، مما سبب لهم التعاسة، العناء، الشقاء، مما كان له تأثيرات سيئة جداً في شؤون حياتهم.

مما ورد في القرآن الكريم: الوصف له بالمجد، وكذلك في سياق قسم أيضاً: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق: الآية1]، فهو قسمٌ بالقرآن ومجده، القرآن كتابٌ مجيد، الأمة إذا التزمت به، إذا اهتدت به في شؤون حياتها، تكتسب المجد لنفسها؛ لأن كل هداية الله في القرآن الكريم هي هدايةٌ تسمو بنا، ترقى بنا، تكسبنا الشرف، ليس فيها شيءٌ يحط المجتمع البشري، يسيء إليه، أو يسبب له الهوان، أو ينزل به إلى الدناءة والانحطاط.

 

القرآن الكريم كل ما فيه من هداية الله "سبحانه وتعالى" رفعة، عزة، شرف، سمو، وكذلك قوة، وبالتالي كل ما يتحقق به المجد للأمة، إذا سارت عليه، تكون أمةً مجيدةً، تكسب المجد لنفسها، أمةً تسمو، وتزكو، وتقوى، وتعظم، وتبتعد عن كل ما فيه الانحطاط، والدناءة، والسقوط، والضعة، وهذا من أهم ما تسمو إليه وتتوق إليه النفس البشرية الكريمة، التي بقي فيه كرامة، فهي دائماً تتوق إلى المجد، وتترفع عن الضعة، عن السقوط، والقرآن الكريم كفيلٌ، لو اتبعته الأمة الإسلامية واهتدت به بشكلٍ متكامل في مسيرة حياتها، أن يرقى بها لأن تسود بقية الأمم، وأن تقود المجتمع البشري، تقوده على نحوٍ صحيح، بما فيه الخير له، على أساسٍ من المبادئ والقيم الإلهية، التي تصلح بها الحياة، وتستقيم بها الحياة، ويسمو بها الإنسان، ويزكو بها الإنسان، فتحفظ للإنسان كرامته الإنسانية، ولكن هذا أيضاً لا يقتصر فقط على الأمة بشكلٍ كامل، أي مجتمع، أي أمةٍ من داخل الأمة تسير على هذا الأساس ستكسب المجد لنفسها.

مما ورد من أوصاف القرآن الكريم: العزيز، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}[فصلت: من الآية41]، القرآن الكريم أيضاً هو من تجليات عزة الله "سبحانه وتعالى"، هو عزيزٌ من حيث أنه لا يقبل شيئاً من الباطل، لا يقبل الاختلال في نظمه، وبلاغته، وحكمته، أحكمت آياته، فلا مجال للخلل فيها أبداً، وعزيزٌ في أن الله حفظ نصه، وبقي سليماً من الاختراق في نصه، وعزيزٌ أيضاً فيما يهدي إليه، ليس فيه رؤى سخيفة، أو أفكار باطلة يتبناها، هو يعرض أفكار الآخرين ويبطلها، يزهق باطلهم، يدحضها، يفندها، لكن هو عزيزٌ.

أيضاً في أثره التربوي، هو يربي على العزة، يربي النفس البشرية على العزة، ويسمو بها، يربي المجتمع الذي يهتدي به على العزة، ويقدم أيضاً من الهداية ما إن تمسكت به الأمة، أو تمسَّك به أي مجتمع من هذه الأمة؛ يعتز، ليس فيه أفكار، أو ثقافات، أو مفاهيم، أو تعليمات، أو توجيهات، تسبب للأمة الهوان والذلة، على العكس، مشكلة الأمة حين ذلت: أنها ابتعدت عمَّا في القرآن الكريم من هدايةٍ تعتز بها لو سارت عليها، لو اتبعت ذلك الذي ورد في القرآن الكريم والتزمت به.

 

{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}، فهو عزيزٌ في نفسه، عزيزٌ في عطائه، عزيزٌ في ما يهدي إليه، وما يهدي إليه فيه العزة.

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: الآية42]، وهو تنزيلٌ من الله الحكيم، ما يقدمه حكمة، ما يهدي إليه حكمة، ما يدعو إليه وفقاً لحكمته "سبحانه وتعالى"، والحميد، ما يدعونا إليه، ما يوجهنا به فيه الحمد، فيه الشرف الكبير، ليس فيه ما يخجل الإنسان، يحط من قيمته وكرامته الإنسانية، يسيء إلى إنسانيته، مثلما في كثير من الآراء والثقافات والمفاهيم الخاطئة، فيها ما يحط من كرامة الإنسان، من منزلته، يسيء إليه، يكون له تأثيراته السيئة عليه، وعلى واقع المجتمع كمجتمع.

والقرآن الكريم هو كتاب هداية، الوظيفة الرئيسية للقرآن الكريم الهداية، الله قال، كما تلونا في بداية المحاضرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، هداية، قال عنه: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}[المائدة: من الآية16]، قال عنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: من الآية9]، فما يهدينا إليه القرآن الكريم، هو هدايةٌ من الله "سبحانه وتعالى" للأقوم في كل شيء، للأرقى في كل شيء، للأنجح في كل شيء، للأفضل في كل شيء، فهو ليس فقط يقدِّم مثلاً الرؤية الصحيحة، أو الفكرة الصحيحة في موضوع معين، أو التعليم الصحيح تجاه موقفٍ معين، أو قضيةٍ معينة؛ إنما أحسن، أحسن، وأفضل، وأرقى، وأسمى، وخير ما يستقيم به الأمر في ذلك، أفضل ما يستقيم به الأمر في ذلك يقدمه لنا القرآن الكريم، يقدم شيئاً راقياً جداً وعظيماً، بحيث لا يستطيع بشرٌ أن يقدم ما هو أرقى من ذلك، أفضل من ذلك، أنجح من ذلك، أحسن عاقبةً من ذلك، أفضل أثراً من ذلك، يقدم الأرقى دائماً.

ولهذا من الخسران الكبير على المسلمين أن يبحثوا عن بدائل عن القرآن الكريم، وأحياناً بغرور، بنظرة إكبار وإعجاب إلى تلك البدائل التي هي- في أغلب الأحوال- ليست فقط دون مستوى ما يهدي إليه الله في القرآن الكريم، وإنما ليست شيئاً، ليست شيئاً مفيداً، ولا نافعاً، ولا صالحاً، ولا تستقيم به الحياة، يترتب عليه النتائج السيئة.

ولذلك عندما نتحرك في مسيرة حياتنا، نريد أن نقف موقفاً، الطريقة الصحيحة أن ننظر ما الذي يهدي إليه الله في القرآن الكريم، فنقف الموقف الذي يهدي إليه، وبكل ثقة، بكل اطمئنان، في مواقفنا نعتمد على القرآن الكريم، في ولاءاتنا لنعتمد على القرآن الكريم، في نظم شؤون حياتنا في المجال الاقتصادي لنعتمد على القرآن الكريم بثقة، ما الذي يثنينا عن ذلك؟! ما الذي يصرفنا عن ذلك؟! ما الذي يبرر لنا أن نبحث عن بدائل تخالف القرآن الكريم، وتتناقض معه؟!

فعندما نفهم أن القرآن الكريم كتاب هداية، لنعتمد عليه في كل مسيرة حياتنا، بدءاً من الجانب الإيماني، الجانب الإيماني الذي نحتاج إلى تنميته، يعتمد في بداية الأمر وفي أول شيء على معرفة الله "سبحانه وتعالى"، نحن كعالمٍ إسلامي تنقصنا المعرفة بالله، وكان لهذا آثار سلبية علينا في مدى ثقتنا بالله، اعتمادنا على الله، حتى في علاقتنا بالقرآن، والقرآن يعالج لنا هذه المشكلة، القرآن الكريم في أهميته وأثره العظيم فيما يتعلق بمجال معرفة الله أن الله قال عنه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: الآية21]، لو نزل القرآن على جبلٍ واستوعبه، لخشع من خشية الله إلى أرقى مستوى، لبلغ في معرفته بالله، وبالتالي في خشيته من الله، إلى درجة أن يتصدع، وأن يظهر عليه الخشوع، {لَرَأَيْتَهُ}: يتجلى ويظهر في حاله إلى درجة التصدع من خشية الله "سبحانه وتعالى"

فالقرآن الكريم كفيلٌ في عطائه في هذا المجال (في مجال معرفة الله "سبحانه وتعالى") أن يرتقي بك في معرفتك، وبالتالي في إيمانك بالله، وثقتك بالله، وخشيتك من الله، إلى مستوى عظيم، ولا يماثله شيءٌ في ذلك، وهو من أهم ما نعود فيه إلى القرآن، وما ينبغي علينا أن نعود فيه إلى القرآن الكريم، وأن نركز عليه في القرآن الكريم.

كما أسلفنا فيما يتعلق بأثر القرآن على المستوى التربوي، الله قال "جلَّ شأنه": {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: من الآية82]، (مَا هُوَ شِفَاءٌ): شفاء للنفس البشرية مما قد تلوثت به، تدنست به مما يتناقض مع فطرتها، مما يؤثر سلباً على فطرتها، القيم الخيّرة، الصفات الحميدة، مكارم الأخلاق، في منابع الفضيلة والخير، مختلف أنواع الفضائل هي موجودةٌ في الفطرة البشرية، فطر الله الناس عليها، ولذلك الإنسان يقر بهذه الحقيقة، يتبناها بشكلٍ كبير في مسيرة حياته، حتى العناوين تبقى عناوين عند الجميع، وإن لم تكن على مستوى المصداقية قائمةً لدى الكثير.

فالإنسان بحاجة إلى القرآن الكريم على المستوى التربوي، هو يربي نفسية الإنسان تربيةً راقيةً عظيمة، ويسمو بها، ويحيي فيها وينمي فيها ما أودعه الله في فطرتها من مكارم الأخلاق، من الفضائل، من المعاني العظيمة التي ميزت الإنسان، وأكسبته الكرامة، وتعزز من دوره، وتهيئ له أيضاً أن يندفع في مسيرة حياته في الأعمال الصالحة، في المواقف الصالحة، في الاتجاه الصحيح، برغبة كبيرة، بقناعة تامة؛ لأن القيم العظيمة وزكاء النفس يساعده على ذلك، فينطلق ملتزماً، يمقت مساوئ الأخلاق، يكره الرذائل، نفسه عزيزة، نفسه كريمة، تترفع عن الأشياء السيئة والمنحطة والدنيئة، تترفع عن الذلة والهوان والخزي، تنسجم مع ما فيه الخير، مع ما يحقق له كرامته الإنسانية.

من المهام الأساسية للقرآن من خلال الرسول: {وَيُزَكِّيهِمْ}[البقرة: من الآية129]، "صلوات الله على رسول الله وعلى آله" هو كان يزكي بالقرآن، بهداية القرآن، تعليمات الله في القرآن.

من أهم ما يجب أن نستفيده من القرآن، وأن نهتدي من خلال القرآن الكريم إليه، هو: تحديد مسؤولياتنا كأمةٍ مسلمة: أولاً المسؤوليات كمجتمع بشري، ما هو دورنا، لماذا استخلفنا الله في الأرض، كيفية هذا الاستخلاف، وما يحقق لنا النجاح فيه في الدنيا والآخرة، في عواقبه في الآخرة، ثم على مستوى مسؤولياتنا والتزاماتنا الأخلاقية، والدينية، والإيمانية، التي حددها الله في القرآن الكريم؛ لأن البعض يرسخ في أوساط الناس أننا أمة بلا مسؤولية، ليس لدينا التزامات ولا مسؤوليات، أمة تبقى هكذا خاضعة، تقودها بقية الأمم، تتدخل في شؤونها بقية الأمم، تتحكم فيها بقية الأمم، ليس لها هدف، ليس لها رسالة، ليس لها دور عالمي، ولا دور حتى في واقع نفسها، وإنما تبقى هكذا على ما هي عليه في هذا العصر، وهذه كارثة، الله "سبحانه وتعالى" يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: من الآية110]، وحتى بتفسير أن الآية تعني في المقدمة وبشكلٍ رئيسي أخيار هذه الأمة وصفوتها، لكن على أساس أنهم يقودونها ويسيرون بها في مسؤوليتها، يعني: مسؤولية هي هذه المسؤولية في الأساس، وإن كان الذي يضطلع بهذا الدور في الحركة بالأمة على أساسه أخيار هذه الأمة، وصفوتها، الصالحون منها.

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، لديكم مسؤولية، مسؤولية عالمية تتحركون فيها، {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، هذه رسالتكم، المعروف الذي يحارب، المعروف في كل المجالات، الذي يُغيّب، ويحل بدلاً عنه المنكر وأهل المنكر، {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.

مسيرة إيمانية، فيها مسؤولية عالمية، مسؤولية كبيرة، بدءاً من داخل الأمة، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية104]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: الآية54]، فنحن أمة لديها مسؤوليات، ليست المسألة أن نبقى في قرانا ومساجدنا وبيوتنا، ومن منزلك إلى مسجدك، وليس لك دُخل في أي شيء، وأنت منعزل عن واقع هذه الحياة، وما يجري في هذه الحياة، وما يحدث في واقع هذه الحياة، أنت كمنتمي للإسلام مكلف بأن تكون ضمن أمة تحارب الظلم، تحارب الفساد، تحارب الطغيان، تتصدى للمنكر، تتصدى للشر والأشرار، تصلح في أرض الله، تصلح عباد الله، مسؤولية جماعية ومسؤولية مهمة، والقرآن يهدينا إلى مسؤولياتنا، يعرِّفنا بها، يؤكد لنا عليها، وعمَّا يترتب عليها، وعن خطورة الإخلال بها، ويهدينا إلى ما يبنينا لنكون في مستوى النهوض بهذه المسؤوليات، ما يبنينا معرفياً، ثقافياً، تربوياً، ما يبنينا على المستوى العملي، ما يبنينا على المستوى العملي، كيف نتحرك للنهوض بهذه المسؤولية، ونقتدي برسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" في طريقته، وفي مسيرته، وفي حركته بالرسالة الإلهية، وفي بناء الأمة.

من أهم ما نهتدي به في القرآن الكريم- وخسرت الأمة كثيراً؛ لأنها غيَّبته- الهداية في مجال الوعي عن الأعداء، وعن التحديات، وعن المخاطر، وهذا مما حصل فيه جهلٌ رهيب، وغباءٌ كبير، وانحرافات كارثية، وسياسات خاطئة للغاية، إلى حد كارثي، أوقع الأمة في مآزق، وهوى بها إلى الأسفل، ومكَّن أعداءها منها، وتكبَّدت الأمة بسببه خسائر رهيبة للغاية، فقدت الوعي عن الأعداء، من هم الأعداء؟ القرآن يحدد لك من هو العدو، وهذا من أهم ما تحتاج إليه الأمة؛ لأن هناك عملية تضليل كبيرة في داخل الأمة عمَّن هو العدو، ومن هو الصديق، من هو العدو؟ القرآن يحدد لك منهم أعداؤك كمسلم، ولماذا هم أعداؤك، وعلى أي أساس، ما هي حقيقة مشكلتك معهم، ومشكلتهم معك، حديث واسع في القرآن الكريم، وحديث واسع عمَّا يبني الأمة للتصدي لمخاطر الأعداء، حديث عن طبيعة نشاط الأعداء، طريقتهم في استهداف الأمة، الأسلوب الصحيح لمواجهتهم، مجالات المواجهة معهم، حديثٌ واسعٌ جداً فيه ما يكفي ويفي لدرء الأخطار عن هذه الأمة، ولتكون في منعة من أعدائها، وعزة، وعلى قاعدةٍ مهمة أوردها الله في القرآن الكريم، هي قوله "سبحانه وتعالى": {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ}[النساء: من الآية45]، أعلم بهم من هم، أعلم بهم كيف هم، أعلم بهم ماذا يفعلون، ما هي سياساتهم، ما هي أساليبهم، أعلم بهم كيف هو مستوى خطورتهم عليكم، أعلم بهم ما هي نقاط الضعف لديهم، ما هو الأسلوب الصحيح في مواجهتهم، ما هي السياسات الحكيمة والراشدة والمثمرة والمفيدة تجاههم... وهكذا، (أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) دائرة واسعة تشمل كل ما يتعلق بالعدو، وما يتعلق بنا تجاه العدو.

من أهم ما يتعلق بالقرآن الكريم- وسبقت الإشارة إليه- الحكمة، أنه كتابٌ حكيم، إلى درجة أن يوصف بالحكيم، {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}[الإسراء: من الآية39]، كل ما يهدينا الله فيه إليه من الأعمال، أعمال حكيمة، من التصرفات، تصرفات حكيمة، من السلوكيات، من المواقف، من... كل ما فيه على هذا الأساس، يجعل منا أمةً حكيمة، راشدةً في فكرها، مستقيمةً ومتوازنةً في أعمالها ومواقفها وسياساتها، الإنسان بحاجة إلى هذا على المستوى الشخصي، والأمة كأمة وكمجتمع.

ومع كل مزاياه العظيمة التي هذا جزءٌ يسيرٌ منها، مزاياه أكبر وأعظم، فقد يسَّره الله للذكر، عندما نتلو القرآن الكريم بتدبر، بتأمل؛ نستفيد، بدايةً مما يقدِّمه بشكلٍ واضحٍ جداً، وبشكلٍ بديهيٍ وسريع، من اللحظة الأولى، بأدنى تأمل، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر: الآية17]؛ إنما كيف نلتفت إلى واقعنا ونحن نتأمل القرآن، ونقيِّم واقعنا على هذا الأساس، هدايته واسعة، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}[الروم: من الآية58]، ولا يتحقق للأمة أن تصلح واقعها، إلَّا إذا تمسكت به، واهتدت به، وسارت على أساس هديه، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف: الآية170]، طريق الإصلاح للنفس، طريق الإصلاح لواقع المجتمع، طريق الإصلاح في حالة الأمة، لكل ما قد تخرَّب في داخل هذه الأمة، هو عن طريق القرآن الكريم، والتمسك به، والاهتداء به.

الحديث عن القرآن الكريم يمكن أن يطول كثيراً، لكن من خلال التلاوة، من خلال الاهتمام بثقافته، الإنسان يستفيد أكثر وأكثر، وتتعزز علاقته بالقرآن أكثر وأكثر، والأهم من كل ذلك: ما يمنحك الله من خلال إقبالك إلى القرآن من الاهتداء به، والأنس به، والاستيعاب- ولو إلى حدٍ ما- لعظمة هذا الكتاب وأهميته.

نكتفي بهذا المقدار...

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يهدينا بكتابه، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛




المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ -2022م

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من ضمن الآيات المباركة التي أتت في سياق الحديث عن فريضة صيام شهر رمضان- الآيات المباركة في سورة البقرة- أتى قول الله "سبحانه وتعالى": {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: الآية186].

الدعاء في الحالة الإيمانية هو من لوازم الإيمان، وجزءٌ مما يعبِّر به الإنسان المؤمن عن إيمانه، فالدعاء يعبِّر عن إيمانك بالله "سبحانه وتعالى" أنه الحي القيوم، أنه المدبر لشأنك، وشؤون السماوات والأرض، وشؤون الخلائق أجمعين، أنه الرحيم الكريم، أنه أرحم الراحمين، أنه سميع الدعاء، أنه المنعم المتفضل، أنه الملاذ والملجأ، الذي تلجأ إليه، وتلوذ به، وتفر إليه من كل هموم هذه الحياة، ومن كل التحديات والمخاطر فيها.

ومن جانبٍ آخر، هو يعبِّر ويدل على تذكُّرك لله "سبحانه وتعالى"، أنك ذاكرٌ له، لست غافلاً عنه، لست ناسياً له، الحالة البديلة عن الدعاء لله "سبحانه وتعالى"، هي: حالة النسيان لله، والالتجاء إلى غير الله "سبحانه وتعالى"؛ لأن الإنسان هو عبدٌ ضعيفٌ مفتقرٌ دائماً، يحتاج إلى العون، يحتاج إلى الرعاية، يحتاج إلى المساعدة، هو إمَّا أن يكون متوجِّهاً إلى الله "سبحانه وتعالى"، وإلَّا كان البديل أن يتوجه إلى غير الله، إلى أمثاله من العبيد الضعفاء المحتاجين، الفقراء إلى الله "سبحانه وتعالى".

وهو أيضاً يعبِّر عن رجائك كإنسانٍ مؤمن، أنك ترجو الله، ترجو رحمته، ترجو فضله، تثق به، تتوكل عليه، أنك منيبٌ إليه، توَّابٌ إليه، رجَّاعٌ دائماً في كل المهمات والملمات، وفي كل الأحوال والظروف، إلى رحمته وكرمه وفضله، فالدعاء موقعه من الإيمان هذا الموقع المهم جدًّا، والذي لا بدَّ منه في الحالة الإيمانية.

في إطار الحديث عن صيام شهر رمضان المبارك في الآيات المباركة من سورة البقرة، أتت هذه الآية المباركة، بهذا التعبير الرقيق، الذي يعبِّر عن رحمة الله "سبحانه وتعالى"، وعن كرمه، وعن فضله، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، الله "سبحانه وتعالى" هو القريب من عباده، يعلم بكل أحوالهم وظروفهم، ويسمع دعاءهم ونداءهم، يَذْكُر من ذَكَرَه، ويَشْكُر من شَكَرَه، وهو "سبحانه وتعالى" يجيب الدعاء، يسمع الدعاء، ويجيب الدعاء، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، ويَسَّر لعباده مسألة الدعاء، فليست مسألةً معقَّدةً في وسائلها، وليست مسألةً ترتبط بأشخاص محددين فقط، يَسَّر المسألة إلى هذا المستوى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فهو يجيب كل من دعاه إذا دعاه،وفق حكمته ورحمته "سبحانه وتعالى" وتدبيره، وهو الحي القيوم، ووفق ما يتعلق أيضاً بأحوال الداعي إذا دعا، وهو ما نتحدث عن بعضٍ منه على نحوٍ مختصرٍ إن شاء الله.

في مسألة الدعاء، الدعاء حالةٌ مطلوبةٌ من الإنسان في كل الأحوال؛ لأنها- كما قلنا- جزءٌ من إيمانه، ومن التزاماته الإيمانية، ومن اهتماماته الإيمانية، تعبِّر عن عمق علاقته بالله "سبحانه وتعالى"، فهي حالةٌ مطلوبةٌ في العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء، وفي مختلف الحالات، وفي مختلف الظروف، وفي مختلف الأوقات، فالإنسان المؤمن لا يغفل عن الله بشكلٍ مستمر، لا يبقى في حالةٍ من الغفلة والنسيان والإعراض، وينكفئ على نفسه في همومه، في مشاكل حياته، في آماله ورغباته، في متطلبات حياته، كل شيءٍ في واقع حياته يشده إلى الله، حالة اليسر تشده إلى الله، وحالة العسر كذلك، حالة الرخاء تشده إلى الله، وحالة الشدة كذلك، الاهتمامات التي لديه المتعلقة بإيمانه ودينه ومستقبله في آخرته تشده إلى الله "سبحانه وتعالى"، وظروف وشؤون حياته هذه، بكل ما فيها من هموم ومشاكل ومعاناة، وبكل ما فيها من يسرٍ وخيرٍ، تشده إلى الله "سبحانه وتعالى"، فهو ذلك الذي يلتجئ إلى الله دوماً، ويتوجه إليه بالدعاء في كل الحالات، كل شيءٍ يشده إلى الله، يدفعه إلى الدعاء لله "سبحانه وتعالى".

البرنامج العبادي في الذكر والصلاة يشده إلى الله "سبحانه وتعالى"،الأوقات المباركة، الأوقات المميزة، التي تعتبر فرص الاستجابة فيها أكثر، من أهم الأوقات عند الإنسان المؤمن التي يحاول أن يقتنص الفرصة فيها، وألَّا تفوته الفرصة فيها، فهو أيضاً يبحث عن تلك الأوقات، وهو أيضاً يحرص عليها، يحرص على المناسبات، على الأعمال؛ لأنهناك من الأوقات، ومن الأعمال، ومن الحالات، ما تكون فرصة الاستجابة فيها للدعاء أكثر، فهو يحرص على تلك الأوقات المميزة، الحالات المميزة، ومنها:شهر رمضان، ومنها: ليلة القدر أيضاً في داخل شهر رمضان، ومنها: العشر الأواخر في شهر رمضان، ومنها: الأوقات المباركة على الدوام، مثل: أوقات السحر، أوقات آخر الليل، مثل: عقب الصلوات... أوقات متعددة تعطى فيها للإنسان فرصة أن يدعو الله "سبحانه وتعالى"، وأن يحظى بالاستجابة من الله "سبحانه وتعالى".

ففي الآية المباركة يأتي الحث والترغيب في الدعاء، ما أكرم الله! ما أعظم رحمته وفضله! هو الذي يدعونا أن ندعوه، هو الذي يحثنا على أن ندعوه، هو الذي يرغِّبنا في أن ندعوه، ويعدنا بالاستجابة، ويرشدنا إلى أسباب الاستجابة، ويحذِّرنا من العوائق التي تمثِّل مشكلةً لنا وعائقاً في أن نحظى بالاستجابة.

في هذه الآية المباركة هو يقدِّم هذا العرض المبارك منه "سبحانه وتعالى"،يعرضه علينا، ينادينا، ويدعونا، ويرغِّبنا، هل نريد أكثر من ذلك؟! إلى درجة أن يعد هذا الوعد بالاستجابة: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، والله يريد من كل عباده أن يدعوه، وليس فقط أن يتصوروا أنَّ هذه المسألة خاصةٌ بمن بلغوا منتهى الصلاح منهم، أو بلغوا أعلى مستويات الإيمان منهم، الكل عليهم أن يتوجهوا إلى الله "سبحانه وتعالى" بالدعاء، وأن يحرصوا- في نفس الوقت- على أسباب الاستجابة.

في آخر الآية المباركة قال "جلَّ شأنه":{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، إذا أردنا أن يستجيب الله دعاءنا، ووفق حكمته، وتحت سقف حكمته، وبمقتضى ما يدبِّره "سبحانه وتعالى"؛ لأنه الحي، القيوم، الرحيم، عالم الغيب والشهادة، الأعلم بمصلحتنا منا، الأعلم بما فيه الخير لنا حتى منا، إذا أردنا أن نعرف أسباب الاستجابة، فلنلحظ قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي}، فلنستجب لله "سبحانه وتعالى"، ولنؤمن بالله "سبحانه وتعالى" إيماناً ثمرته الثقة بالله، التوكل على الله، الرجاء الصادق في الله "سبحانه وتعالى"، هذا الإيمان وهذه الاستجابة هي ما ينقصنا كثيراً في واقعنا، وهي ما يؤثِّر علينا، إلى درجة أن يتساءل الإنسان: [لماذا أدعو فلا يستجاب لي في أكثر الأمور؟]، هناك نقصٌ كبير في مسألة الاستجابة، الاستجابة الجزئية التي هي الحالة الغالبة السائدة في مجتمعنا الإسلامي، في واقعنا بشكلٍ عام، مع إهمال لأشياء أساسية لا تحصل الاستجابة فيها من جانب الناس، من جانب مجتمعنا الإسلامي، من جانبنا لله "سبحانه وتعالى"، هي تمثل مشكلةً كبيرةً علينا.

المطلوب في الاستجابة أن تكون استجابةً شاملة، أن نستجيب لله "سبحانه وتعالى" في مختلف التزاماتنا الإيمانية: في الجانب السلوكي، في الجانب الأخلاقي، في الجانب الروحي والعبادي، في جانب المسؤوليات التي حددها الله لنا، ورسمها لنا... في مختلف الجوانب، أن نتجه، أن يكون هذا هو التوجه الأساس نحو الاستجابة الشاملة، مع التوبة والإنابة إلى الله عند الزلل، عند التقصير، عند التفريط في شيءٍ ما، والرجوع العملي إلى الله "سبحانه وتعالى".

عندما يكون التوجه نحو الاستجابة الكلية، الشاملة، المتكاملة، حالة قائمة في واقعنا، ونسعى لأن نبادر إلى تلافي أي تقصير، وأن نرجع إلى الله عند كل زلل، فالله هو أرحم الراحمين، هو أكرم الأكرمين، هو ذو الفضل الواسع العظيم، هو الذي لا يخلف وعده أبداً، لا يخلف الله وعده، والذي يفي بما وعد به، وهذه مسألة مهمة جدًّا، من ضمن الاستجابة أن نستجيب لله في الدعاء نفسه، أن نتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأن هذا مما أمرنا به، ورغَّبنا فيه، ووجَّهنا إليه.

أيضاً من ضمن الاستجابة الكاملة والشاملة: الاستجابة أيضاً في الأسباب العملية، يرتبط بالدعاء الأسباب العملية، ليس الدعاء بديلاً عن العمل، الدعاء في الحالة الإيمانية مرتبطٌ بالعمل، مبنيٌ على أساس الانطلاقة العملية، والاستجابة العملية، مثلاً: لا يمكن بأن نكتفي بالدعاء بأن ينصرنا الله على أعدائنا فحسب، ونتنصل عن مسؤولياتنا العملية التي ترتبط بالنصر، فالله تعالى يقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]،{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: من الآية46]... وهكذا تأتي تعليمات وتوجيهات كثيرة ترتبط بهذه المسألة، فنأتي في حالة الاستجابة الكاملة إلى الأخذ بهذه الأسباب العملية، وندعو الله، ندعوه بأن ينصرنا، {وَانْصُرْنَا}، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية147]، ندعوه "سبحانه وتعالى" من ميدان العمل، في إطار الأخذ بالأسباب العملية.

في مسألة الرزق: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك: من الآية15]،{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة: من الآية10]، {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا}[النساء: من الآية32]، الأخذ بالأسباب العملية، ومع الأسباب العملية يأتي الدعاء أيضاً.

ففي إطار الفرص المميزة لاستجابة الدعاء، يأتي شهر رمضان المبارك، وتأتي هذه الآية المباركة، التي تلفت نظرنا إلى هذه الفرصة، وإلى أهمية المسألة بشكلٍ عام، ويأتي في آخرها قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وما أحوجنا إلى الرشد! ما أحوجنا إلى أن نهتدي إلى الخير في شؤون ديننا ودنيانا، في شؤون دنيانا وآخرتنا! ما أكثر ما يتخبط فيه الناس، وهم يسعون وراء الخير، كل إنسان يريد الخير لنفسه، الإنسان هو مفطورٌ على ذلك، يريد الخير لنفسه، ولكن ما أكثر الوسائل، والأعمال، والتصرفات، التي تصدر من الإنسان، ويريد أن تكون وسيلةً يصل بها إلى خيرٍ لنفسه، أو يحقق بها خيراً لنفسه، فلا يصل، بل ينتج عن الكثير منها النتائج السيئة، المعاكسة، يعمل عملاً معيناً، ينطلق على أساس رؤية معينة، فكرة معينة، وهي في عواقبها سيئةٌ عليه، لا توصله إلى الخير، الاهتداء إلى الخير يحتاج إلى فكرة صحيحة، يعتمد على رؤية سليمة، الله "سبحانه وتعالى" إذا استجبنا له، إذا انطلقنا وفق هديه، تعليماته، توجيهاته، هو الأعلم بالخير لنا، وهو مصدر كل الخير "سبحانه وتعالى"، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، فلكي نرشد، فلكي نهتدي للخير في مساعينا، في أعمالنا، في اهتماماتنا، فيما نطلبه ونسعى إليه، نحتاج إلى الله "سبحانه وتعالى"، إلى هديه، ونستجيب له، ونؤمن به، وهذا ما يوصلنا إلى الخير كله في الدنيا والآخرة.

استجابة الدعاء أيضاً يرتبط بها التدبير الإلهي، وليست مسألةً متروكةً إلى مزاج الإنسان، إلى سقفه وسقف رغباته، وأهوائه، وآماله التي قد لا تكون منضبطةً بالحكمة، ولا وفق تدبير الله العام الحكيم، الإنسان أحياناً ينطلق من منطلق رغباته، والتي هي مزاجيةٌ إلى حدٍ كبير، وأهوائه، ولا يلتفت لا إلى واقعه العملي من جهة، ولا إلى واقع الحياة من جهةٍ أخرى.

{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: من الآية3]، أمور الكون، أمور الحياة مُدَبَّرةٌ بتدبير الله الحي القيوم الحكيم، وهناك الأسباب والنتائج، والسنن التي رسمها الله في شؤون هذه الحياة، لا يمكن للإنسان، لا يمكن له هو وفق رغباته أن يخترق هذه السنن التي نظَّم الله واقع الحياة على أساسها، ولكن تبقى هناك مساحة مهمةٌ جدًّا، مساحةٌ هي الكفيلة بالانتقال بك إلى الخير، إلى الفلاح، هي الكفيلة بالنقلة بك إلى ساحة الرحمة الإلهية، الإنسان يدعو الله، ويكون واثقاً بالله، ومقتنعاً بأن الله هو الحكيم، هو المدبر لشؤون السماوات والأرض، هو الأعلم بمصلحته، فالإنسان أحياناً يطلب شيئاً من الله بإلحاح، وبعض الأشياء قد لا تكون مناسبةً للإنسان في علم الله "سبحانه وتعالى"، قد يترتب عليها ما يؤثر على الإنسان في حياته، أو في دينه، فيكون من رحمة الله "سبحانه وتعالى" ألَّا يستجيب لك في ذلك، وأن يبدلك  خيراً منه، ويعطيك مكافئةً ورحمةً وتفضلاً منه في مقابل دعائك، التجائك، طلبك، ما هو خيرٌ لك.

في القرآن الكريم عندما نعود إلى أنبياء الله- والقرآن الكريم يتحدث عن دعائهم- نجد مختلف الأدعية، أنواع الأدعية، التي تتعلق بجوانب كثيرة، بشؤونٍ متعددة من ظروفهم وشؤونهم، ونجد في مقدِّمة ما يطلبونه من الله "سبحانه وتعالى" هو: المغفرة، وهذا يعلمنا أن يكون في مقدمة ما نطلبه من الله، ومن أهم ما نطلبه من الله، هو المغفرة، نحن بحاجة إلى المغفرة، لا شيء يضرنا كذنوبنا، كمعاصينا، كتقصيرنا، كتفريطنا، لا شيء يسبب لنا أن نخسر الكثير الكثير من رعاية الله، من رحمته، من فضله، مثل المعاصي والذنوب، والتفريط والتقصير، ولذلك يأتي الطلب بالمغفرة من واقع الوعي بهذه الحقيقة، ومن واقع الوعي بخطورة الذنوب والمعاصي على مستقبل الإنسان الأبدي الدائم، الكبير والمهم والعظيم في الآخرة.

فنجد في دعاء أنبياء الله: نوح، وإبراهيم، وكذلك يعقوب، وموسى، داوود، وسليمان، وموسى، وعيسى، وزكريا... أنبياء كثر نجد في أدعيتهم في القرآن الكريم التركيز على مسألة المغفرة، على جوانب مهمة يحتاج إليها الإنسان.

أيضاً في أدعية نبي الله نوح، مع الدعاء بالمغفرة، الدعاء بالنصر، بعد جهدٍ عمليٍ كبير، تسعمائة وخمسين سنة من الصبر، من العمل، من الجهد، من المثابرة، ويأتي الدعاء بطلب النصر.

إبراهيم "عليه السلام"، أدعية متنوعة، منها طلب المغفرة، منها أدعية بالذرية المباركة والطيِّبة.

يعقوب "عليه السلام" في محنته الكبيرة، كيف كان دائم الرجوع إلى الله:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف: من الآية86]، عانى من الحزن الشديد، والمحنة الشديدة، فصبر، وبثَّ شكواه إلى الله "سبحانه وتعالى"، والتجأ إلى الله بالدعاء على طول تلك المحنة التي استمرت لسنواتٍ طويلة؛ حتى فرَّج الله عنه حزنه، وكشف غمه.

أيوب "عليه السلام" في معاناته الصحية، التي صبر فيها لدهرٍ طويل، ووقتٍ طويل، والتجأ إلى الله "سبحانه وتعالى" بالدعاء، حتى فرَّج الله عنه.

زكريا "عليه السلام"- كلهم هؤلاء من أنبياء الله- عندما التجأ إلى الله في أن يرزقه الذرية الطيبة، حتى في وقتٍ متأخر، فالتجأ إلى الله "سبحانه وتعالى"، واستجاب الله دعاءه.

ونجد في دعائهم الالتجاء إلى الله من عمق قلوبهم، من أعماق قلوبهم، التجاء إلى الله التجاءً عميقاً، التوجه إلى الله توجهاً قوياً، توجهاً بالخشوع، والرغبة، والرهبة، إقبال عجيب إلى الله "سبحانه وتعالى"، وكذلك من موقع الثقة بالله، والرجاء لله "سبحانه وتعالى"، لا يأس من رَوْحِ الله، ولا قنوط من رحمته.

نبي الله إبراهيم، ذكر الله عنه أنه قال:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر: الآية56]، لا قنوط من رحمة الله، لا يأس من رحمة الله "سبحانه وتعالى"، مهما طالت بالإنسان محنته، أو آلامه، أو همومه، أو... مهما كانت الظروف التي يعيشها الإنسان، مهما كان مستوى الصعوبات، والتعقيدات، والتحديات، التي يواجهها الإنسان، لا يأس ولا قنوط من رحمة الله "سبحانه وتعالى".

نبي الله يعقوب "عليه السلام" ذكر الله عنه أنه قال لأبنائه: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: من الآية87]، فمهما طالت المحنة، مهما كانت الغمة، مهما كانت التعقيدات والصعوبات، ومهما كان حجم المعاناة، لا يأس من رَوْحِ الله "سبحانه وتعالى".

الإنسان يبقى راجياً لله "سبحانه وتعالى"، رجاؤك جزءٌ من إيمانك الصادق، والإنسان له تجارب في مسألة الاستجابة، كل إنسان له تجارب في مسألة الاستجابة لدعائه، كيف يستجيب الله الدعاء في حالة الكرب والاضطرار، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}[النمل: من الآية62]، كم قد تكون الحالات الكثيرة التي توجه الإنسان إلى الله فيها وهو في حالة الاضطرار، الكرب الشديد، الضائقة الشديدة جدًّا، الألم الشديد جدًّا، فتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، وتوجه من كل أعماق قلبه إلى الله "سبحانه وتعالى"، مستغيثاً، راجياً، متضرعاً، فاستجاب الله له وفرَّج عنه، ولكن الإنسان ينسى.

كثيراً ما ينسى من كان من هذا النوع،الذي يلتجئ إلى الله في حالة الاضطرار الشديد، والضائقة الكبيرة جدًّا، ثم عندما يفرِّج الله عنه، عندما يخرج من تلك الحالة الشديدة يغفل، ينسى، يلهو، يعرض.

البعض من الناس هكذا حالهم، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس: الآية12]، من حالات اللؤم، من حالات الدناءة، من حالات الكفران للنعمة، من حالات الإساءة إلى الله "سبحانه وتعالى"، والتنكر لفضله، لرحمته، لجميل ما أسداه، أن تتعامل مع الله على هذا النحو: عند الضر الشديد، تدعو الله، تلتجئ إليه، تستغيثه، وعندما يفرِّج عنك، تعرض وتتجه في هذه الحياة وكأنك لم تدع الله ليكشف عنك ذلك الضر، وكأنه لم يكشف عنك ذلك الضر، أصبحت شخصيةً مختلفة، في ذهنك، في نفسك، في مشاعرك، لم تعد ذلك الذي أقبل إلى الله عند حالة الشدة الشديدة، والضر الشديد، تغيَّرت نفسيتك، تغيَّر إقبالك إلى الله، وتنكَّرت لله "سبحانه وتعالى"، واتجهت في واقع حياتك، في أعمالك، في تصرفاتك بما تسيء به إلى الله "سبحانه وتعالى"، حالة إسراف، {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}، يتنكَّر لله "سبحانه وتعالى".

البعض من الناس حتى في حالة الشدة تقسو قلوبهم، يزداد يأسهم، يتنكَّرون لله "سبحانه وتعالى"، يفقدون الأمل والرجاء، وهي حالة خطيرة جدًّا، حالةٌ سيئة، لا تنسجم مع الإيمان أبداً، يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود: الآية9]، ييأس: لا يرجو الله،وكفور: يقنط من رحمة الله "سبحانه وتعالى"، فيزداد قسوةً، ويزداد يأساً، ويكون لذلك آثاره السيئة على نفسه، على تصرفاته، على أعماله، فقد يتجه في واقع حياته لمعالجة مشاكله، وهمومه، وظروفه، بالأعمال السيئة، بالأعمال التي هي معصيةٌ لله "سبحانه وتعالى"، وهذه حالةٌ خطيرة.

الشيء الصحيح بالنسبة للإنسان المؤمن: أنه عند كل شدة، وفي كل مشاكله، في كل مشاكله يلتجئ إلى الله "سبحانه وتعالى"، أولاً: من واقع الثقة بالله "سبحانه وتعالى"، والتوكل على الله، والرجاء في الله "سبحانه وتعالى"، وتوجهاً صادقاً، توجهاً بالتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، وهذا من أهم ما ينبغي أن يكون الإنسان عليه في حالة الدعاء لله "سبحانه وتعالى"، قال "جلَّ شأنه": {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 55-56].

الدعاء هو عبادة، بل هو- كما ورد في الحديث عن رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"- مخ العبادة، موقعه في العبادة مهمٌ جدًّا، ونحن نعبِّر عن عبوديتنا لله، وافتقارنا إلى الله، وإيماننا بأنه المدبر لشؤون السماوات والأرض، من خلال الدعاء أيضاً، كما أنه أيضاً صلة تعبِّر عن علاقتك الإيمانية بالله "سبحانه وتعالى"، في التجائك إليه، في مناجاته، في ذكره وشكره، ولهذا يأتي الأمر بذلك والحث عليه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: من الآية60]، توجهوا إليه "سبحانه وتعالى" يستجب لكم.

فعندما نتوجه إلى الله "سبحانه وتعالى" ينبغي أن نكون في حالة التضرع، أن نتوجه بتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، أن نكون في حالة الدعاء في حالة تضرعٍ إلى الله "سبحانه وتعالى"، يعني: ألَّا نتجه في دعائنا بقلبٍ قاسٍ، وعينٍ جافة، وذهنٍ شارد، الحالة التي يتوجه الإنسان فيها بالدعاء إلى الله "سبحانه وتعالى" ومشاعره جامدة، لا خشوع، لا خضوع، لا استشعار للقرب من الله "سبحانه وتعالى"، لا استشعار لواقعك أنك تتوجه في تلك الحالة بالدعاء إلى الله، بالمناجاة لله، بالتخاطب مع الله "سبحانه وتعالى"، فتكون في جوٍ بعيدٍ عن الأدب، أدب المقام، مقام العبد بين يدي ربه "سبحانه وتعالى" وأنت تتوجه إلى الله، فمشاعرك الجامدة، قلبك القاسي، ذهنك الشارد، الذي لم يركِّز حتى معك، لم يركِّز حتى على ما تقول وأنت تدعو، هذه الحالة بعيدة عن الاستجابة لله "سبحانه وتعالى".

مما يميز حالة الشدة، وحالة الاضطرار:أنَّ الإنسان يتوجه فيها بالدعاء من عمق قلبه، ووجدانه، وشعوره، فيكون توجهاً صادقاً، توجهاً يتجه فيه اتجاهاً بالوجدان والمشاعر، وليس فقط باللسان.

فالدعاء عندما يأتي كحالة فقط على أطراف اللسان، لا يعيش معها الإنسان بقلبه، بوجدانه، بفكره وذهنه، هي حالة لا مبالاة، تعبِّر عن عدم الاهتمام، عن عدم الجدية، وتعبِّر عن حالة الغفلة لدى الإنسان وهو يقدم الموضوع بشكلٍ عاديٍ جدًّا، هذه حالة في واقع الأمر لا يتعامل بها الإنسان مع الإنسان، إذا أراد منه شيئاً، هو يتعامل بطريقة محترمة، وبإقبال، إقبالٍ في الذهن، إقبالٍ في التعبير، إقبالٍ نفسي، فالحالة التي نتوجه بها إلى الله "سبحانه وتعالى" ينبغي أن تكون بتوجهٍ شعوريٍ ووجدانيٍ وذهنيٍ ونفسيٍ، وفي حالةٍ إيمانية، وبتضرع، بتذلل لله "سبحانه وتعالى"، بخشوع وخضوع لله "سبحانه وتعالى"، بشعورٍ بالافتقار إلى الله، وشعورٍ عميقٍ بالرجاء والأمل في فضله، في رحمته، في كرمه، بتذكرٍ لنعمه الواسعة التي لا تحصى ولا تعد، ومن واقع استجابةٍ عملية.

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، ادعوه واتجهوا بالاستقامة على منهجه، على دينه، على تعليماته، اتجهوا لتكونوا مصلحين في أرضه، مستقيمين على نهجه، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، مشاعرك لتكن مشاعر حيَّة، فيها حالة الخوف، فيها حالة الطمع والرجاء فيما عند الله، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، هذا بشارة، وفي نفس الوقت يلفت نظرنا إلى أن نكون من المحسنين؛ ليستجيب الله دعاءنا.

الدعاء أيضاً يعبِّر عن اهتمامات الإنسان، فالبعض من الناس مثلاً كل أدعيتهم، أو معظم أدعيتهم تتوجه نحو مطالب هذه الحياة، رغباتهم في هذه الحياة، لا تركز على الجوانب الإيمانية والدينية، ولا على مستقبلهم في الآخرة،فأكثر ما يطلبونه مثلاً: يطلبون الرزق، يطلبون ما يبتغونه من مطالب في هذه الحياة، وينسون ما عدا ذلك، ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى": {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: 200-201]، فتتجه اهتمامات البعض كلها نحو هذه الدنيا، {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، يطلب الرزق، يطلب الصحة، يطلب العافية، يطلب دفع الشر، دفع الضر، مطالب كلها دنيوية، ويقتصر على ذلك؛ لأن كل اهتماماته تتجه فقط إلى ذلك، هذه حالة خطيرة، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، ليس له أي نصيب في الآخرة، هو في الأساس لم يتجه في اهتماماته العملية، ولا النفسية، ولا في حتى دعائه، إلى مسألة الآخرة، كل ما يطلبه هو فقط من أمور هذه الحياة، ومتطلبات هذه الحياة فقط.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، فهو يتجه إلى الله "سبحانه وتعالى" من واقع رؤيةٍ صحيحة، الاحتياج إلى الله "سبحانه وتعالى" في شؤون هذه الدنيا في حدود ما هو حسن، ما فيه الخير لنا في ديننا ودنيانا، {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، أولئك قال عنهم: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، ما عاد بش حسنة، آتنا في الدنيا وبس، هؤلاء {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً }، ما يحسن به حالنا، ما تستقيم به أمورنا، ما لا يؤثر على ديننا، ما نرتفق به في شؤون حياتنا، تحت سقف: {حَسَنَةً}، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، مع طلب الوقاية من عذاب الله، طلب الخير في الآخرة، {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}[البقرة: من الآية202]؛ لأن الدعاء لا بدَّ أن يرتبط به عمل، لا بدَّ أن ينطلق من واقعٍ عملي؛ حتى يستجاب له، {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة:الآية202].

في شهر رمضان كموسمٍ عظيمٍ للدعاء، فيه فرصٌ مميزةٌ للاستجابة، في ظل الظروف الإيمانية والواقع الإيماني، مع الصيام، مع القرآن، مع الأثر الروحي والتربوي لشهر رمضان في صيامه، وقيامه، وصالح الأعمال فيه، في آثارها النفسية والتربوية في مشاعر القرب من الله "سبحانه وتعالى"، وفيما نعيشه في واقع حياتنا من تحديات، من أخطار، من هموم، من مشاكل، من ظروف، ومنها:حالة الجدب العالمي، الذي شمل بلدنا، هناك جدب على مساحة واسعة من الأرض، على كثيرٍ من بلدان هذا العالم، وأيضاً على بلدنا، شمله هذا الجدب، وهناك معاناة كبيرة ناتجة عن هذا الجدب، هذا الجدب هو واحدٌ من همومنا في ظروف حياتنا ومعيشتنا، تأثيراته السلبية علينا في الأرياف، في الإنتاج الزراعي، في ظروف المعيشة، حتى في توفر مياه الشرب في كثيرٍ من المناطق الريفية، هذه الحالة يجب أن نعود فيها إلى الله "سبحانه وتعالى"، أن نتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، ضمن اهتماماتنا، نطلب من الله المغفرة، نطلب من الله الهداية، نطلب من الله النصر، نطلب من الله العون، نطلب من الله التوفيق، نطلب منه "سبحانه وتعالى" الرزق، الخير، الفرج، نطلب من الله متطلباتنا الأساسية على المستوى العام، وعلى المستوى الشخصي، كل إنسان له همومه، له مشاكله، له معاناته، له ظروفه الخاصة، ومشاكله الخاصة أحياناً، نلتجئ إلى الله في كل ذلك، ندعوه خوفاً وطمعاً، نرغب إليه، نثق به، نتوكل عليه، نلتجئ إليه، ومن واقع الاستجابة العملية، كتوجهٍ نتوجه به في واقعنا على أساس الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، نتوجه بالتوبة الدائمة إلى الله "سبحانه وتعالى"، وصف الله عباده المؤمنين الصادقين المتقين بقوله تعالى في سورة التوبة: {التَّائِبُونَ}[التوبة: من الآية112]،{التَّائِبُونَ}، يتوبون إلى الله باستمرار من تقصيرهم، من ذنوبهم، وبالرجوع العملي.

من أهم ما يجب الرجوع فيه على المستوى العملي: التخلص من الحقوق والمظالم، إخراج الزكاة، وللأسف فالكثير من المزارعين هم ممن يبخلون بإخراج الزكاة، وهذا يؤثر، يؤثر على البركات، يؤثر على الأرزاق، حالة الرجوع إلى الله يجب أن تكون من الجميع، من المسؤولين أيضاً؛ لأنها تصدر من جانبهم الكثير من المظالم، الكثير من المعاصي، ومن المواطنين، نحن كلنا معنيون بالرجوع الصادق إلى الله، بالتوبة، بالدعاء، بالتضرع، بالإنابة، بالاستغفار، بالالتجاء إلى الله، وبالرجوع العملي في إصلاح واقعنا العملي، لتكن حالة الشدائد مفيدةً لنا في أثرها في عودتنا إلى الله، وفي رجوعنا العملي، الذي نصلح به أعمالنا، نفتش فيه عن جوانب التقصير لدينا، نحرص فيه على أن نحقق الاستجابة المتكاملة لله "سبحانه وتعالى"، في كل مجالات حياتنا، فنتضرع إلى الله، ونلتجئ إلى الله.

حالة البأساء والضراء من أهم ما فيها أن تكون دافعاً للتضرع وللعودة إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}[الأعراف: الآية94]، هنا نلاحظ قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، يتذللون لله، يخشعون لله، يخضعون لله، يعودون إلى الله بالتوبة والإنابة والرجوع العملي، بدلاً من أن تكون الحالة هي قسوة القلوب، أو اليأس والقنوط، التي هي حالة خطيرة جدًّا على الإنسان.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[الأنعام: الآية42]؛ لأنها هي الحالة الصحيحة، التي تنفعهم، التي تنقذهم، التي تخرجهم مما هم فيه من الضيق، {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: الآية43]، هذه هي الحالة الخطيرة جدًّا: أن تقسو القلوب، وأن يزين الشيطان للناس أعمالهم، فيستمروا على حالة التقصير، يستمروا على أسباب المؤاخذة، والعقوبة، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، أن يستمروا على الأسباب التي أدَّت إلى ذلك.

فالحالة الإيمانية، الحالة الصحيحة، الحالة الإيجابية المفيدة النافعة: هي بالرجوع إلى الله على المستوى العملي، وبالتضرع، بالدعاء، بالاستغفار، ليتوجه الجميع في هذه الليالي المباركة بالتضرع، بالدعاء، بالاستغاثة، بالالتجاء إلى الله "سبحانه وتعالى".

ثم تأتي صلاة الاستسقاء، مثلاً: في نهاية كل أسبوع؛ حتى يفرِّج الله، لكن لا تكون يتيمة، لا تكون صلاة الاستسقاء يتيمة، الناس يتعودون على أن يصلوا فقط صلاة الاستسقاء، صلاة الاستسقاء ينبغي أن يتقدمها الاستغفار، أن يتقدمها الذكر لله "سبحانه وتعالى"، على نحوٍ مستمر، في الليل والنهار، عقب الصلوات، والإكثار من الاستغفار، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح: 10-11]، والتوجه على أساس الرجوع العملي، الرجوع العملي، والاهتمام بالزكاة، والاهتمام بالصدقات للفقراء والمساكين، والاهتمام بالتوبة، والتخلص من المعاصي، والكف عن الذنوب.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يفرِّج عنا، وأن يَمُنَّ علينا من واسع فضله، وأن يغيثنا بغوثه، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛

الأربعاء، 6 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ - 2022 م

لتحميل الملف
    
المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ 2022 م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من أهم ما هو محسوبٌ في عداد مواصفات عباد الله المتقين، هو: اليقين بالآخرة، وهو من أهم الدوافع إلى التقوى، ومن أهم ما يساعد على التزام حالة التقوى، اليقين بالآخرة، قال الله "سبحانه وتعالى" عن عباده المتقين: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة: من الآية4]، فهم يوقنون بالآخرة، وهم مؤمنون إيماناً صادقاً بوعد الله "سبحانه وتعالى" ووعيده.

من المعلوم أنَّ من أهم المهام للرسالة والرسول والقرآن، هو: التبشير والإنذار، فالله يصف نبيه "صلوات الله عليه وعلى آله" بأنه بشيراً ونذيراً، يصف القرآن- كذلك- بشيراً ونذيراً.

فيأتي النذر أو الإنذار بالآخرة من المهام الرئيسية للأنبياء والرسل "صلوات الله عليهم"، ومن أهم ما تتضمنه كتب الله "سبحانه وتعالى"، وختامها القرآن الكريم والرسول محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، حيث كان لذلك مساحة واسعة في الحديث عن الآخرة، واليوم الآخر، وبشكلٍ تفصيلي، لم يبق مجرد عنوان عام بدون تفاصيل، مثلاً: نسمع عن يوم القيامة، ثم لا نسمع عن أي شيءٍ من التفاصيل سوى أنه يومٌ للحساب، وبعده الجزاء.

أتى الحديث التفصيلي عن يوم القيامة في مرحلته الأولى: النفخة الأولى، التي بها نهاية الحياة، ودمار الأرض والسماوات، وإعادة تكوينها من جديد، ثم في النفخة الثانية، في حالة البعث والقيام والحساب، وتفاصيل مقامات الحساب بشكلٍ دقيق، ثم ما بعد ذلك فيما يتعلق بالجزاء، الذي هو الجنة والنار، فالحديث التفصيلي لامس كل جانب من الجوانب التي تتصل بحياتنا.

يأتي الحديث عن الجوانب النفسية للإنسان في تلك المقامات والمشاهد، في ساحة القيامة، وما بعد ذلك: في الجنة، أو في النار، يأتي الحديث عن كل ما يتصل بشؤون حياتنا في كل جانبٍ من جوانبها، عن الطعام، عن الشراب، عن الملابس، عن ظروف وأجواء الحياة التي يعيشها الإنسان هناك، بنحوٍ تفصيليٍ فيه العبرة الكبيرة لنا، فيه ما يدل على أهمية ما نحن قادمون عليه.

ولذلك يأتي التأكيد على هذه الحقائق في القرآن الكريم، بالرغم من كل ذلك، أكثر الناس هم في حالة غفلة، بعد كل ذلك الإنذار المتكرر والمؤكد، والذي تأتي فيه الكثير من التفاصيل، والتي تلامس كل جانب يهم الإنسان، يتعلق بحياته، على نحوٍ تفصيلي، مع ذلك الحالة السائدة لدى أكثر البشر، أكثر الناس، هي حالة الغفلة، كما قال الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: الآية1]، فحالة الغفلة الشديدة لدى أكثر الناس، وحالة تصل بهم إلى درجة الإعراض، واللامبالاة، وعدم الانتباه إلى أعمالهم، أقوالهم، تصرفاتهم... وغير ذلك، البعض إلى درجة التكذيب، إلى درجة التكذيب بالآخرة، وبعالم الآخرة.

ما يتميز به المتقون: أنهم في حالة انتباه، في حالة تذكر، مع يقينهم بالآخرة، مع إيمانهم بوعد الله ووعيده، هم في حالة انتباه، وتذكر، وجهوزية، واستعداد؛ ولذلك يزنون تصرفاتهم، أعمالهم، مواقفهم على هذا الأساس، أنَّ هناك حساب، هناك جزاء، يتذكرون ذلك، وإذا حدثت لهم حالات غفلة، فهي حالات عارضة، وليست حالاتٍ مستحكمة، هي حالاتٌ عارضة، يخرجون منها، يُذَكَّرون فيتذكَّرون، يأتي ما ينبههم؛ فيخرجون من حالة غفلتهم، ويعودون إلى انتباههم، وهم يستشعرون دائماً قرب لقاء الله "سبحانه وتعالى"، {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: الآية46]، فاستشعارهم المستمر لقرب لقاء الله "سبحانه وتعالى"، يجعلهم في حالةٍ من الانتباه، واليقظة، والاستعداد، والإدراك أنَّ مواقفهم محسوبة، وتصرفاتهم محسوبة، وأعمالهم محسوبة... إلى غير ذلك، ولهذا يقول الله "سبحانه وتعالى" عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف: الآية201]، فهم قد تعرض لهم حالة الغفلة، ثم سرعان ما ينتبهون، فينتبهون لتصرفاتهم، لأعمالهم، لمواقفهم، ويتحركون على أساسٍ من إيمانهم.

أيضاً في علاقتهم بالله "سبحانه وتعالى"؛ لأن الإيمان بالآخرة هو جزءٌ من إيماننا بالله، إيماننا بوعده ووعيده "سبحانه وتعالى"، فالله يقول عنهم: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[الأنفال: من الآية2]؛ ولذلك يتأثرون، {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} فيتأثرون بذلك، يكون لذلك تأثير في أعماق قلوبهم {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، مشاعرهم حيَّة، وجدانهم حي، ضميرهم حي، يخشون من عذاب الله، يستحيون من الله "سبحانه وتعالى".

وحالة الاستشعار الدائم لذلك المستقبل الآتي حتماً، عبَّر عنها القرآن الكريم في إدراك أهميتها يوم القيامة، الإنسان الذي كان متذكراً هنا، منتبهاً، في حالةٍ من اليقظة، والاستعداد، والجهوزية، يوم القيامة يدرك قيمة أنه كان يستشعر أهمية الحساب، ويحسب لنفسه ذلك قبل مجيء يوم القيامة، فيقول الله "سبحانه وتعالى" عن هذه الحالة: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة: الآية20]، هكذا هو الإنسان المؤمن المتقي يوم القيامة، بعد أن يأخذ كتابه بيمينه، وفيه الصفحات التي تبيِّض وجهه، تجعله يستبشر من أعماله الصالحة، من أعماله التي فيها مرضاة الله "سبحانه وتعالى"، فهو مستبشر، فيتذكر حينها أهمية استشعاره في حياته هنا في الدنيا لمسألة الحساب، ومسألة القيامة والجزاء، فيقول: {إِنِّي ظَنَنْتُ}، يعني: كنت استشعر في حياتي في الدنيا، {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}، أنه لا بدَّ من الحساب، وأنني سألقى الحساب، ومن ثم الجزاء، فكان لهذا أهمية في أن أستعد، أن أتوب إلى الله، أن أتلافى تقصيري، أن أتدارك خطيئاتي، أن أتجه إلى الله "سبحانه وتعالى" بالعمل الصالح فيما أمرني به، فكان لذلك الثمرة الطيِّبة.

حالة اليقظة، حالة الانتباه، حالة الاستعداد، حالة الاهتمام لدى المتقين، تصل إلى أن يكون لديهم انتباه واهتمام في مختلف الحالات والظروف، حتى في حالة النوم، قال الله عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}[السجدة: من الآية16]، يأتي التذكر للآخرة، للحساب، للجزاء، لذلك المستقبل الأبدي، حتى وهو مضطجعٌ على فراش نومه، فتثيره هذه الحالة، وتنشِّطه للقيام من نومه إلى العمل الصالح، إلى ذكر الله "سبحانه وتعالى"، إلى التحرك لما فيه طاعة الله "سبحانه وتعالى"، إلى الاهتمام بمسؤولياته وواجباته، هذه الحالة الهامة من التذكر والانتباه تجعلهم يتداركون أنفسهم عند كل حالة تقصيرٍ، أو عند كل هفوةٍ أو ذنب، فيبادرون سريعاً بالتوبة والإنابة إلى الله "سبحانه وتعالى"، كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: من الآية135]، هم يتجهون بمبادرة سريعة بالإنابة إلى الله، بتدارك خطيئاتهم، أو معاصيهم، أو ذنوبهم، أو تقصيرهم، أو تفريطهم، أو تهاونهم، ولا يصرون أبداً، لا يستمرون في حالة العصيان لهذا الانتباه.

هذه الحالة الإيمانية التي عليها أنبياء الله وأولياء الله، الله يقول عن الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله": {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وهو في مقام الرسالة والنبوة والمنزلة العظيمة العالية عند الله، لكن هكذا هو الإيمان، يستذكر اليوم العظيم والعذاب العظيم.

يقول الله "سبحانه وتعالى" عن أوليائه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان: الآية10]، فيما روي في قصة الإمام عليٍّ "عليه السلام"، وفاطمة الزهراء: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}، في الحالة الذهنية، في الحالة النفسية حالة تذكر واهتمام، والتفاتة إلى ذلك اليوم الآتي.

الآخرون الذين هم في حالة غفلة، وحالة نسيان، ينتج عن ذلك استهتار من جانبهم، وتهاون في أعمالهم، في أقوالهم، في تصرفاتهم، تعرض عليهم الأعمال العظيمة، الأعمال المقربة إلى الله، الأعمال التي هي جزءٌ أساسيٌ من التزاماتهم الإيمانية والدينية، التي لا بدَّ منها في نجاتهم، في فوزهم، في الخير لهم في الدنيا والآخرة، فلا يبالون، ولا يستجيبون، تغلب عليهم حالة الإعراض، يحذرون من المعاصي، من الذنوب، سواءً ما هو منها انتهاكٌ لحدود الله، والمحرمات التي حرمها الله، أو إخلالٌ بواجباتهم ومسؤولياتهم التي عليهم القيام بها؛ لأن الله أمرهم بها، ودعاهم إليها، وهي جزءٌ من الالتزامات الإيمانية والدينية، فلا يبالون، لا يستجيبون، لا يهتمون، لا يتفاعلون، قلوبهم قاسية، ذهنياتهم متبلدة، حالة الغفلة والإعراض هي المسيطرة عليهم، حالة الانصراف الكلي نحو أهوائهم ورغبات حياتهم، التي هي متاعٌ قليل، ومتاعٌ زائل، هي المستحكمة عليهم، استحكام حالة الغفلة التي عبَّر عنها القرآن الكريم: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: من الآية1]، فتأتي معها حالة الإعراض.

من الحقائق المعروفة لدينا جميعاً، لدى كل البشرية جمعاء: أن حياتنا هنا في هذه الدنيا هي حياةٌ مؤقتة، مهما كان إعراض الإنسان وغفلته، واتجاهه في اهتماماته بشكلٍ كلي نحو شؤون هذه الحياة فحسب، مع غفلة عن أن اهتمامه بالحياة الأخرى هو لمصلحته في هذه الحياة، وفي تلك الحياة، يعني: لا يحتاج صلاح حياتك هنا في الدنيا إلى أن تتجاهل أمر الآخرة، هناك ترابط ما بين الحياة الدنيا والآخرة، تذكرك للآخرة تستقيم به حياتك هنا في الدنيا، والخلل الكبير، والتجاوز، والانتهاك للمحرمات، والإعراض عن الله، وعن منهجه، وعن هديه، عواقبه سيئةٌ لك في الدنيا، وعواقبه خطيرةٌ جداً عليك في الآخرة.

نحن في هذه الحياة في حياةٍ مؤقتة، نعيش فيها بأجل، وهذه مسألة نعرفها جميعاً، وهي حياة مسؤوليةٍ واختبار، تأتي الحياة التي هي جزاء، إما جزاء خيرٍ خالصٍ دائمٍ على أرقى مستوى، أو حالة عذابٍ شديدٍ دائمٍ أبديٍ على أشد مستوى، التي خيرها خالص وشرها خالص الحياة الآخرة؛ أما هذه الحياة فهي ميدان مسؤولية، وميدان اختبار وميدان عمل.

ونخضع في حياتنا هذه لرقابةٍ دائمةٍ من الله "سبحانه وتعالى" وملائكته، فلا يغفل عنا الله ولا للحظةٍ واحدة، ولا يغفل عنا ملائكته الذين من مهامهم الأساسية: الرقابة المستمرة علينا، وتوثيق كل أعمالنا وتصرفاتنا وأقوالنا، كما قال الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 16-18]، رقابة دائمة في ليلنا ونهارنا، في كل أحوالنا، في خلواتنا واجتماعاتنا، أينما كنا، أينما ذهبنا، أينما انتقلنا، في رقابة مستمرة، توثق فيها كل أعمالنا، كل تصرفاتنا؛ لأن هذه الحياة هي ميدان مسؤولية، الله "سبحانه وتعالى" قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك: من الآية2].

ثم تنتهي هذه الحياة، نهاية هذه الحياة بالموت، الموت هو نهاية لهذه الحياة، وهو إقفالٌ لملف العمل، لملف عملك، إقفالٌ له على ما فيه من عملٍ صالحٍ تفوز به، أو عملٍ سيءٍ وتقصيرٍ وتفريطٍ يسبب لك الخسران والهلاك، والموت أيضاً هو نهايةٌ حتميةٌ للفرصة، لا فرصة بعده أبداً، الفرصة الوحيدة التي أتاحها الله لك هي هذه الأيام التي أنت تعيش فيها، هي هذه الحياة المؤقتة، التي لها أجلها، وستنتهي، وأنت لا تعلم متى هي النهاية، متى يأتيك الموت، متى ترحل من هذه الحياة، لا تعرف ذلك، ليس هناك وقتٌ محددٌ بالنسبة لك، تعرف أن حياتك ستنتهي عنده، كل يومٍ يمكن أن يكون هو اليوم الأخير من حياتك، وكل ليلةٍ من الممكن أن تكون هي الليلة الأخيرة من حياتك، ولذلك من المهم أن يكون الإنسان في جهوزيةٍ مستمرة، في استعدادٍ مستمر، فإذا رحل في أي يومٍ من الأيام، في أي ليلةٍ من الليالي، كان جاهزاً؛ أما إذا كان الإنسان في حالة غفلة، فهي الحالة الخطيرة.

ويؤكد الله لنا ويذكرنا بهذه الحقيقة التي نراها في واقع حياتنا، ونرى في كل يوم كم أن هناك القوافل من البشر الذين يرحلون من هذه الحياة، فيقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، كل نفس، لا أحد يستطيع أن يرد ذلك، أن يدفع ذلك، أن يمنع عن نفسه ذلك، أن يستثني نفسه من ذلك، أن يُحَصِّن نفسه من ذلك، أياً كان الإنسان، لا ملك، ولا زعيم، ولا... مهما كانت إمكاناته، قدراته، ذكاؤه، مهما كان يمتلك من العلاقات، من التأثيرات، لا شيء يمكن أن يدفع عنه ذلك.

ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى": {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الواقعة: 83-87]، ولا يستطيع الناس هم أن يدفعوا عن أحدٍ ذلك، مهما كان عزيزاً لديهم، أو مهماً لديهم، لا يستطيعون أن يمنعوا عنه ذلك.

فالإنسان يجهل موعد رحيله من هذه الحيلة، موعد موته، موعد نهاية هذه الحياة، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان: من الآية34]، لكن الخطر الكبير عندما تستحكم حالة الغفلة لدى الإنسان، فلا ينتبه من غفلته تلك إلا حين يأتيه الموت، كان في حالة غفلةٍ وإعراض، ولا مبالاة، ولا اهتمام، فتفاجأ عندما أتى موعد الرحيل وهو في حالة غفلةٍ مستحكمة تامة، لم تنفع فيه في هذه الحياة حالة الأحداث والتقلبات والمتغيرات التي فيها العظة والعبرة، لم ينفع فيه أنه يشاهد ويعلم عن الكثير ممن يرحلون، قد يكون بينهم من أقاربه، من أحبائه، من أهل بلاده ممن يعرفهم، فلم يتذكر بذلك، ولم ينتفع بذلك، ولم يلتفت إلى ذلك، لم تنفع فيه المواعظ، لم ينفع فيه التذكير بهدى الله، بآيات الله "سبحانه وتعالى"، لم ينفع فيه ما كان يمر به أحياناً، الإنسان أحياناً يمر بحالات مرضية مثلاً، أو حوادث، يكون فيها تذكيرٌ له، يوشك فيها على الرحيل من هذه الحياة، يحسُّ فيها أحياناً بخطر الموت، بخطر الوفاة، بتهديدٍ مباشرٍ على حياته، فيعود إلى غفلته التامة، وعدم اهتمامه نهائياً، ثم عندما أتاه الموت بشكلٍ حقيقي، بشكلٍ نهائي، أصبحت المسألة مسألة جدية ولا مناص من ذلك، ينتبه حينئذٍ، ولكن بعد فوات الأوان، حالة خطيرة على الإنسان ألَّا ينبهه في البداية إلا أمر الموت، ألَّا ينتبه إلا بعد فوات الأوان نهائياً، هذه حالة تحصل للكثير من الناس، تحصل للكثير من الناس، حينها تكون بدايةً للتحسر، بدايةً للعذاب النفسي، انتباهاً إلى حجم الفرصة التي فوتت، وحجم الخسارة التي حدثت، فالله يذكرنا بذلك، فيذكر ذوي الغفلة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}، عندما جاءت سكرة الموت، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق: الآية19]، هذه الحالة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق: الآية22]، ينتبه الإنسان، يتذكر في تلك اللحظة الحرجة جداً، يصل إلى أعلى مستوى من التذكر والانتباه والاهتمام، ويدرك أهمية المسألة، ولكن بعد فوات الأوان.

كما يقول الله "سبحانه وتعالى" في آيةٍ أخرى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، أنفقوا؛ لأن هذا لمصلحتكم، أنتم تقدمون لأنفسكم، {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون: الآية10]، يطلب التأخير ولو لمهلة قريبة، ولو لم تكن طويلة، البعض قد ربما يتمنى من الله أياماً، أياماً يصلح فيها بعض أموره، أو فترةً وجيزة، ولكن لا يمكن أبداً أن يحصل على أي تأخيرٍ إضافي.

{لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}؛ لأنه يدرك حينها قيمة ما ينفق ويقدم ويتصدق به في نجاته، في مستقبله الأبدي.

{وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}: أصلح نفسي، وأصلح أعمالي، وأكن في زمرة الصالحين، لكن هل يفيده هذا الطلب؟ مهما كان ملحاً، مهما كان من أعماق قلبه، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المنافقون: الآية11]، ولذلك الموت هو نهايةٌ للفرصة الوحيدة التي لا تعوض، مهما طالب الإنسان؛ لأن الإنسان يطالب بهذه الفرصة، وبإضافة فرصة جديدة، في تلك اللحظات عند الموت، يطلب في يوم القيامة، يطلب حتى في نار جهنم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}[فاطر: من الآية37]، يطالبون بإلحاح، باستغاثة، بتضرع، فيرد الله عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا}[فاطر: من الآية37]، الفرصة هي هذه الحياة التي أنت فيها، هي هذه الساعات التي تهدرها، هي هذا الوقت الذي تضيعه، هذه هي فرصتك، وهذه الأعمال التي تعرض عليك ومنها أعمالٌ عظيمة في ميزان الحسنات، في أسباب النجاة، في عوامل القرب من الله "سبحانه وتعالى"، ثم لا تتفاعل معها، الإنسان بحاجة إلى أن يدرك أهمية هذه الحقيقة؛ ليتلافى نفسه، وليستعد مبكراً.

محطات التذكر التي تأتي متأخرة: عند الموت، عند البعث في يوم القيامة، لا تجدي الإنسان شيئاً، لا تجديه شيئاً، تصبح جزءاً من عذاباته النفسية الشديدة، وندمه العميق الشديد؛ لأنه أدرك أنه كان بإمكانه أن يغتنم الفرصة، أنَّ الله أعطاه الفرصة فلم يغتنمها.

{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 21-24]، في الدنيا كانت تأتيك المواعظ، يأتيك التذكير، كانت تأتيك الفرص، يأتيك شهر رمضان، تأتيك الأعمال التي تعرض عليك، أعمالٌ عظيمة، جهادٌ في سبيل الله، إنفاقٌ في سبيل الله، أعمالٌ صالحة تعرض عليك، فيها فوزك، فيها نجاتك، فيها فلاحك، وعد الله عليها بجناته، يقول لهم: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[آل عمران: من الآية15]، وعد عليها بالسلامة من عذابه، فكنت أنت ذلك المعرض، المستهتر، اللامبالي، والبعض النافر حتى، الذي ينفر من ذلك، ويستاء من ذلك، وكأن الإنسان أساء إليه، عندما يعرض عليه عملاً عظيماً، فيه فوزه، فلاحه، نجاته، صلاح حياته في الدنيا والآخرة، الخير له عند الله "سبحانه وتعالى"، فتستحكم حالة الغفلة لدى البعض، فلا يكترث، لا يتذكر أنَّ حياته الأبدية المهمة آتية، وأنها هي الجديرة بأن يستعد لها؛ لأنها هي التي خيرها خالص، أو شرها خالصٌ وأبديٌ.

فحينئذٍ بعد كل هذه الأحداث، {دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}: تغيرت معالمها بشكلٍ تام، أصبحت ساحةً للحساب والجزاء، أتى أمر الله، أتى حسابه، وأتت ملائكته، وقامت عملية الحساب على قدمٍ وساق، حساب مكثف لكل الخلائق، في تلك المتغيرات التي تأتي فيها جهنم، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، رأى جهنم، رأى عذاب الله الأكبر، رأى المصير الأبدي المظلم، المصير السيئ، المصير الذي هو كله عذابٌ رهيبٌ شديدٌ أليم، وحينها تذكر، حالة خطيرة ألَّا يتذكر الإنسان إلَّا عندما يرى جهنم، غفلة خطيرة على الإنسان، حينها لا ينفعه التذكر، التذكر ينفعك هنا، عندما تذكر بآيات الله فلا تعرض عنها، لا تكن من أولئك الذين إذا ذكروا بها أعرضوا عنها، لا تكن من أولئك الذين قال الله عنهم: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ}[الصافات: الآية13]، لا يكن حالك كمثل من قال الله عنهم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}[الكهف: من الآية57]، هنا عندما تتذكر بآيات الله، فتتجه وأنت في فرصة هذه الحياة للأعمال التي فيها نجاتك، فلاحك، الخير لك في الدنيا والآخرة، تعيش من خلالها الشعور بقيمة هذه الحياة، وأنت على صلةٍ بالله "سبحانه وتعالى"، في الأعمال الصالحة، في الأعمال العظيمة التي تسمو بها، تشرف بها، تعتز بها، تتحقق لك بها كرامتك الإنسانية، وفي الآخرة: الجنة، السلامة من عذاب الله، النعيم العظيم، الفوز العظيم، هنا الفرصة لك أن تتذكر.

أمَّا إذا استحكمت غفلتك، واستمر اعراضك، فحينها تتذكر عندما يُجَاء بجهنم، ما الذي يفيدك تذكرك حينئذٍ؟! {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، حينئذٍ لم يعد وقت التذكير، ولا وقت المحاضرات، ولا المواعظ، ولا النصائح، انتهى كل شيء، لم يبق إلَّا الجزاء، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: 24-26].

ولاحظوا من الإشكاليات لدى الكثير من الناس، عندما يأتي الحديث عن الآخرة، عندما يأتي التذكير والإنذار بالآخرة، بالحساب، بالجزاء، التذكير بوعد الله ووعيده، البعض كأن ذلك لا يعنيهم هم، كأنهم ليسوا معنيين، فليسوا ممن سيموتون، ولا ممن سيبعثون، ولا ممن سيحاسبون، ولا هم مجزيون، كأنهم خارج هذه الأمور بكلها، هذه حماقة من البعض، اعراضٌ وغفلةٌ وحماقةٌ لا تجديهم شيئاً، لا تنفهم شيئاً، لا تدفع عنهم شيئاً، يوم القيامة الحضور إجباري، إجباري على الجميع، ليس هناك من مناص.

أيضاً البعض يعيشون هذه الحالة من الإعراض ومن الغفلة، وكأنك عندما تتحدث عن الآخرة تتحدث عن شيءٍ بعيد جداً، شيء لم يحن الوقت بعد للاهتمام به، للالتفاتة إليه، للتركيز عليه، للانتباه له، سيأتي فيما بعد... هكذا ينظرون باستبعاد كبير، يرون المسألة بعيدة جداً، ولم يحن الوقت بعد، ونحن مشغولون الآن بأمور أخرى، مع أنَّ الأمور الأخرى مهما كانت لا تعيق الإنسان عن أن يحسب حسابه ليوم القيامة.

الله "سبحانه وتعالى" يقول: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، المسألة قريبة، لا تنظر للمسألة وكأنها بعيدة، متى ستأتي القيامة ويوم القيامة، والحساب والجزاء والنار، شيءٌ هناك بعيد جداً، لم يحن الوقت أن أشغل نفسي به، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}[القمر: من الآية1]، نحن هذه الأمة (أمة محمد) آخر الأمم، نحن في هذا الزمن في الحقبة التاريخية الأخيرة من الحياة البشرية ولهذا كان رسول الله محمدٌ "صلى الله عليه وعلى آله وسلم" خاتم النبيين وتمام عدة المرسلين لاقتراب القيامة، لاقتراب الساعة، هو من أشراطها، قد جاء أشراطها، هو من علاماتها، من علامات قربها؛ لأنه آخر الأنبياء والرسل، فالمسألة قريبة، والقيامة ستأتي فجأة وبغتة وفي وقتٍ غير متوقع، يتفاجأ بها الناس، يتفاجأ بها البشر، لا تأتي في وقتٍ محدد معلوم، لا يعلمها إلا هو، يختص الله "سبحانه وتعالى" وحده بعلمها، {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}[الأعراف : من الآية187]، فهي تباغت الناس، والكثير من الناس- إن لم يكن كلهم عندما تأتي- تأتي وهم في وضعٍ من الغفلة وعدم التوقع نهائياً أن قد أزف وقتها، هذا ينهبنا على أهمية الاستعداد والجهوزية المستمرة.

كذلك الموت، الموت هو الفاصل الذي يفصل الناس عن قيام الساعة، من لا يدركونها مباشرةً فبينهم وبينها فاصل الموت، الموت فاصلٌ قصيرٌ جداً، الإنسان الذي كان يتوقع أن المسألة بعيدةٌ جداً، سيكون متفاجئاً باستشعاره لقربها جداً، الغافلون سيلحظون كم أن الوقت مرَّ بسرعةٍ عجيبة وأتى عالم الآخرة، فالحالة التي تفصلك عنها من خلال الموت هي أشبه ما تكون بنوم ليلةٍ، أو ببعضٍ من ليلةٍ، بعضٍ من يوم، فتشعر بكل مشاعرك، بكل مشاعرك وكامل إحساسك وكأنه لم يكن بينك وبين القيامة إلا مدة وجيزة قصيرة جداً، وأنها سرعان ما أتت، حتى أنهم يتفاجؤون بذلك، والله أكد لنا هذه الحقيقة يوم القيامة في مشاعرهم، في إحساسهم، في حساباتهم، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، يعني: تصور حالة الاستشعار لديهم إلى درجة وكأنهم كانوا متأكدين تماماً أن الوقت الذي مرَّ من لحظة مماتهم إلى لحظة بعضهم كان لساعةٍ واحدة، ويقسمون على ذلك، هذا هو شعورك عن الفترة التي مررت بها ما بين موتك وبين بعثك.

والبعض إذا زاد الوقت لديهم، كما قال الله عنهم في القرآن الكريم: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ}، يتحدثون فيما بينهم بصوت هادئ، الكل في حالة هدوء، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه: من الآية108]، فلذلك لا يرفعون أصواتهم؛ إنما يتحدثون بأصوات منخفضة جداً وهم يتعجبون من سرعة مجيء القيامة، كيف أتى عالم الآخرة بكل هذه السرعة! فيختلفون على الحساب، تختلف تقديراتهم لحساب الزمن الذي مر من لحظة مماتهم إلى لحظة المبعث.

{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه: الآية103]، هذه أكبر تقدير لدى بعضهم، يعني: الذي قد طوَّل المدة الزمنية جداً بحسب تقديراته، فيقول عشراً، مقدار عشر ليالي تأخر الوقت، لاحظ مقدار العشر الليالي عندك في هذه الحياة، في سفر، أو في عمل، أو في مرحلة زمنية يقترن بها عمل معين، يعني: وقت وجيز، وقت وجيز، وكأنه لم يكن هناك... ولكن هذه تقديرات البعض منهم فقط الذين تصوروا أن قد قدروا أطول مدة، أطول مدة.

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً}، الأذكياء فيهم، الذين لديهم دقة في الحسابات والتقديرات، أكثرهم دقة في الموضوع، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}[طه: الآية104]، من لديه اعتماد على اعتبارات ومستندات في حساباته فهو يقدر المسألة بأقل من ذلك، ليس عشراً، يوماً، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}.

هكذا هي تقديرات الإنسان يوم القيامة، يراها أتت بسرعة، وكأنه لم يكن الفارق الزمني عنها سوى يوم، أو ساعة، أو عشيةً، أو ضحاها، بحسب الاختلافات في التقديرات لديهم، والذين أكثروا وبالغوا في نظرهم وتقديراتهم قالوا عشرا، عشرة ليالي مثلاً مرت، فهي سريعة، والإنسان سيراها سريعة وقريبة، يراها قريبةً جداً عندما تأتي.

في ذلك اليوم، في يوم القيامة، يوم الحساب، هو ليس يوماً لمهرجانٍ يجتمع فيه البشر لأمور عادية، هو يوم الفصل، يوم الحساب، والكل سيحضر غصباً عنه، رغماً عنه، لا يمكنك الامتناع عن الحضور، أو التخفي، أو التهرب، أو التملص، كم أنت في الدنيا تتملص، تتهرب من أعمال عظيمة، من أمور مهمة، أو أحياناً تتعقد من بعض الأمور، فتجلس حبيس المنزل ممتنعاً عن كل عملٍ يرضي الله "سبحانه وتعالى"، يوم القيامة ستحضر رغماً عنك، راضياً، ساخطاً، بأي حالٍ أنت، {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية32]، الكل يحضر، ويحضّر للحساب ورغماً عنه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم: الآية93]، الكل بلا استثناء، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم: الآية94]، ليس هناك نسيان لأحد، أو غفلة عن أحد، أو خرج من الكشوفات والحسابات فنسي، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم: 94-95]، فالمجيء للكل.

ولذلك حسرة الغافلين والناسين والمعرضين حسرةٌ رهيبة يوم القيامة؛ لأنهم نسوا ذلك اليوم؛ لأنهم لم يستعدوا له، لأنهم لم يدركوا قيمة الفرص التي أتاحها الله لهم في هذه الحياة، أتاهم النذير، أتاهم التحذير، أتاهم التذكير فأعرضوا، أتتهم الفرص، لاحظوا كم يمنحنا الله من فرص، يأتي شهر رمضان أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، لياليه أفضل الليالي، ساعاته أفضل الساعات، الأعمال فيه مضاعفةٌ جداً، وفيه ليلة القدر، تأتي أيضاً الأعمال العظيمة التي تعرض على الناس، مثل الجهاد في سبيل الله، الإنفاق في سبيل الله، الأعمال الصالحة التي تثقل موازينهم يوم القيامة، التي وعدهم الله عليها بالأمن يوم الفزع الأكبر، بالاطمئنان يوم اضطراب القلوب يوم القيامة، تكاد القلوب أن تخرج من الصدور، من رقابهم، عندما تنشب في حلوقهم من شدة الفزع، يعد الله بالأمن، بالطمأنينة، بالجنة، بذلك النعيم العظيم الذي وصفه في الجنة، فلا يلتفت البعض، ولا يهتمون، ويعرضون، ويغفلون، هناك سيتحسرون ويندمون، ويقول الله لهم: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}[السجدة: من الآية14]، نسيان، غفلة، عدم اهتمام، عواقبه الندم الشديد.

نكتفي بهذا المقدار...

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله "سبحانه وتعالى" أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ -2022م 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

في سياق الحديث عن التقوى وعن المتقين فيما قدَّمه القرآن الكريم من علاماتهم، وصفاتهم، ونماذج من أعمالهم، وكذلك فيما عرضه مما وعد به الله "سبحانه وتعالى" عباده المتقين، وردت آياتٌ مباركة في سورة آل عمران، وفيها يتم الفرز بين التوجهات والاهتمامات لدى المتقين، وما يصلون من خلال ذلك إليه من الفوز العظيم، والنتائج المهمة، وما عليه غيرهم من الاهتمامات والتوجهات، التي نتائجها محدودة، ويعقبها الخسران.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: 14-17].

بدءاً بقوله "سبحانه وتعالى": {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}، الشهوات: هي غرائز لدى الإنسان، تدفعه غريزياً ونفسياً إلى متعلَّقات ومتطلبات هذه الحياة في جانبها المادي، سواءً على مستوى الحياة الزوجية، والحياة الأسرية، أو متطلبات هذه الحياة، مما يحتاج إليه الناس، من المال الذي يعتمدون عليه كنفقات في حياتهم، من الحرث والثروة الزراعية وما ينتج عنها، الثروة الحيوانية وما ينتفعون فيها من المنافع المتنوعة والمتعددة مما أنعم الله به عليهم، هي شهوات غريزية، والإنسان يندفع إليها غريزياً، ولكن المشكلة عندما تأتي حالة التزيين للشد إلى تلك الشهوات والمتطلبات والرغبات بشكلٍ كبير، حتى يتوجه إليها كل الاهتمام، كل التركيز من جانب الإنسان، وهذا ما يحصل للكثير من الناس، تتوجه كل اهتماماتهم، وتُستَغرَق كل جهودهم، وكل تفكيرهم، كل تركيزهم في هذه الحياة نحو هذه الشهوات، وهذه الرغبات، فيؤْثرون هذه الرغبات والشهوات، يُؤْثرونها على آخرتهم، إلى درجة أنه من الممكن أن ينحرفوا عن خط التقوى، أن يخدموا الباطل، أن يقعوا في الحرام، أن ينتهكوا حدود الله "سبحانه وتعالى"، أن يرتكبوا المعاصي بكل أشكالها وأنواعها، أن يتحمَّلوا الآثام والأوزار؛ بغية تحقيق أهدافهم ورغباتهم ومتطلباتهم المادية، فهذا يحصل للكثير من الناس، مع أنَّ الكثير لا يصلون أصلاً إلى مبتغاهم من ذلك، ومن يصلون إلى مستويات معينة، فيصبحون مثلاً أثرياء ومتمكِّنين، لا تنتهي أطماعهم، ولا يصلون إلى حد القناعة أصلاً، فهم يبتغون المزيد والمزيد، ولا يصلون إلى درجة أن يشعروا بالتمتع الكافي بكل ما قد حصلوا عليه، وتمكنوا منه، بل لا تزال تدفع بهم الأطماع والرغبات والشهوات نحو المزيد والمزيد، وما أكثر الذين يدفعهم ذلك إلى ارتكاب الآثام والمعاصي، وإلى استخدام الوسائل المحرمة، وإلى تجاوز شرع الله وتعاليمه وتوجيهه، ولا يصلون في نهاية المطاف إلى نتيجة؛ لأن كل هذه النعم، وكل هذه المتع، هي منافع مؤقتة في هذه الحياة، ويجب أن يستوعب الإنسان هذه الحقيقة؛ لأنها منافع مؤقتة، كما قال الله "سبحانه وتعالى": {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فهي منافع يعيش عليها الإنسان لمرحلةٍ مؤقتة، وبِقَدَرٍ معين، بمستوى معين.

ولذلك هناك فرق بين من يتجه إليها ويجعل منها كل مأربه في هذه الحياة، كل مطلبه، كل رغباته، كل اهتمامه، يتوجه كلياً نحوها بكل اهتماماته وتركيزه، فيجعلها هي الأساس، الأساس في اهتماماته، الأساس في أعماله، الأساس حتى في مواقفه، الأساس حتى في ولاءاته، يبني على هذا الأساس كل اهتماماته وتوجهاته في هذه الحياة، وبين نظرة المتقين، الذين ينظرون النظرة الواقعية، النظرة الصحيحة، على هدىً من ربهم، فيرون فيها منافع مؤقتة، لا ينبغي أن يتجه الإنسان إليها هي ليجعل منها غاية، ليجعل منها نهاية السؤول، وغاية المأمول، فيتوجه بكل اهتماماته نحوها، هي منافع لحياةٍ مؤقتة، ومنافع في أصلها مؤقتة، وكثيراً ما يشوبها الكثير من المنغصات.

وإذا اتجه الإنسان ليجعل منها وسيلةً لا غايةً، وتعامل معها بشكلٍ صحيح؛ فإنه سيستفيد ويكسب بدلاً من أن يتحمل الأوزار والآثام، يستفيد من ذلك الأجر والمثوبة عند الله "سبحانه وتعالى"، والإنسان يستطيع أن يجعل مثلاً من حياته الزوجية حياةً راقيةً ساميةً في إطار التقوى، يجعل من حياته الأسرية حياة راقيةً ساميةً في إطار التقوى، يجعل من اهتماماته المعيشية في هذه الحياة اهتماماتٍ موزونةً بمعيار التقوى، ومضبوطةً بمعيار التقوى، فيكون كل سعيه في ذلك موزوناً بالضوابط الشرعية، وبأهداف عظيمة، أهداف سامية، مثلما يأتي عن حال المتقين في مواصفاتهم، كيف يتعاملون تجاه ما منحهم الله إياه، وما مكنهم فيه،

أمَّا غيرهم فهم يتجهون بشكلٍ كلي، وباهتمامٍ كامل نحو متع هذه الحياة ومتطلباتها المعيشية والمادية، ويتحول كل اهتمامهم إلى اهتمامٍ مادي، فيتحول الأساس عندهم في اهتماماتهم، في مواقفهم، في أعمالهم، في ولاءاتهم، في عداواتهم، نحو الجانب المادي، هو الأساس عندهم، يحبون عليه، ويبغضون عليه، يتجهون فيه بكل الاهتمامات، هو المحسوب لديهم من وراء كل عمل، من وراء كل سعي، من وراء كل موقف، حساباتهم كلها حسابات مادية.

مع أنَّ الكثير- كما قلنا- لا يصلون إلى مبتغاهم من ذلك، فالبعض قد لا يمتلك في هذه الدنيا ولا حتى جراماً واحداً من الذهب، دعك عن القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، التي يمكن أن تمثل ثروةً هائلة، القنطار يقال- في بعض التقديرات- أنه ما يعادل مليء جلد ثور، يعني: كمية كبيرة جداً، والقناطير المجمعة، قنطار على قنطار على قنطار، يعني: أعداداً كبيرة من القناطير المجمعة من الذهب، أو المجمعة من الفضة، فالقليل من الناس الذين قد يصلون إلى امتلاك ثروات هائلة مادية ومالية، وأكثر الناس وأغلبهم حتى ممن سخَّروا كل اهتمامهم النفسي والذهني، وكل جهدهم العملي، نحو الحصول على متع هذه الحياة وثرواتها، هم يعيشون حالةً من البؤس، والعناء، والشقاء، وكما قلنا: قد لا يمتلك الكثير من الناس ولا مقدار جرام واحد من الذهب، ولا من الفضة.

ولذلك من الخطأ، ومن الخسران، ومن الحماقة، أن يتجه كل اهتمام الإنسان إلى الجانب المادي، فيجعل منه الأساس في أعماله، في مواقفه، في مسيرة حياته في هذه الحياة؛ لأن الإنسان لا يحتاج إلى ذلك أصلاً، لا يحتاج إلى أن يجعل من ذلك كل اهتمامه، أن يستغرق كل الجهد، وكل الاهتمام، وكل التركيز، بل أن يحوِّل حتى واقعه النفسي إلى راغبٍ كل الرغبة إلى نحوٍ غير طبيعي، إلى نحوٍ مفرط، هذا يحصل للبعض، حبه للمال، حبه لمتع الحياة يتحول إلى حالة رهيبة جداً من الحب الشديد، والطمع المفرط، طمع رهيب جداً، يفعل من أجله أي شيء، يرتكب من أجله أي معصية، وهذا يحصل للبعض إلى حدٍ رهيب.

لاحظنا مثلاً خلال هذه المدة مع العدوان على بلدنا، كيف كان البعض مقابل الحصول على شيءٍ من المال، قد يرفع احداثيات يتسبب فيها في استشهاد عدد كبير من الأبرياء من الأطفال والنساء، فينتج عن ذلك جرائم رهيبة جداً، وجرائم وحشية جداً، جرائم فظيعة للغاية، وكل ذلك من أجل أن يحصل على قليلٍ من المال، البعض يخون دينه، يخون أمته، يخون شعبه، يقف في صف الباطل، يسهم في ارتكاب الجرائم، يسهم في أن يلحق بشعبه الكثير من الظلم، بأمته الكثير من الظلم، مقابل أن يحصل على مكاسب مادية، أن يصل إلى تلك الرغبات.

ولربما- في واقع الحال- منشأ أغلب الجرائم، أغلب المفاسد، يعود إلى تلك الرغبة المادية الرهيبة، إلى ذلك التوجه المادي الكبير، الذي ينسى الإنسان معه كل شيء: ينسى الدار الآخرة، ينسى الله، ينسى الحساب، ينسى الجزاء.

في إطار التوجه المادي، والطمع المادي، والرغبات المادية، البعض يظلم حتى قريبه، شريكة في الإرث مثلاً، يظلم أخته، فيستحوذ على حصتها من الإرث، يظلم ابنته، فيأخذ مهرها، ويأكله سحتاً حراماً، يظلم أخاه القريب، أو الصغير؛ لأنه استطاع أن يخادعه ويغالطه فيأخذ من حصته من الإرث، أو يخفي عنه وثائق، فيصادر عليه بعضاً من الممتلكات؛ لتلبية أطماعه وأهوائه ورغباته.

ثم على المستوى الكبير: مستوى الدول، مستوى أنظمة، مستوى كيانات، تدفع بها أطماعها وأهواؤها ورغباتها المادية إلى أن ترتكب بحق الشعوب الأخرى، بحق الأمم الأخرى، الظلم، والجرائم، وأفظع الانتهاكات، نتيجةً لتلك الأطماع الرهيبة، والأهواء الكبيرة.

بينما نجد كيف أنَّ التربية الإيمانية، التربية على التقوى- ونحن في شهر التقوى- تجعل الإنسان يتعامل بتوازن، وواقعية، ويحسب حسابات أكبر، حسابات أعظم، حسابات أهم؛ لأن الذين يتجهون إلى هذه الرغبات المادية، وتتحول كل اهتماماتهم، وكل جهودهم، وكل مساعيهم نحو الجانب المادي، هم يتعاملون وكأن هذه الماديات وهذه الحياة هي كل شيءٍ، ولا شيء بعدها، فيريدون أن يغتنموا الفرصة، وأن يغتنموا هذه الحياة وهذه المتع إلى أقصى حد.

والله "سبحانه وتعالى" قال: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، بعد أن بيَّن لنا أنَّ هذه المنافع في هذه الحياة هي محدودة، هي مؤقتة، والحياة بكلها مؤقتة، وستنتهي، والإنسان مهما حصل عليه من الإمكانيات المادية، هي لفترة مؤقتة، وسيفارقها، فهناك عند الله "سبحانه وتعالى" {حُسْنُ الْمَآبِ}: حسن المرجع، الذي يتحقق فيه للإنسان من النعيم، والحياة الطيِّبة، والمتع السامية والحقيقية والعظيمة والراقية، ما يتميز عن كل متع هذه الحياة، وعن كل مادياتها، يتميز ما عند الله "سبحانه وتعالى" بأنه أرقى، وأعظم، وأسمى، وبأنه أكبر وأكثر، وبأنه يدوم ويبقى ولا يفنى، وهذا يفترض به أن يكون دافعاً كبيراً لرغبة الإنسان؛ لأنها في الأساس مشتهيات، لكن يأتي الشد إليها، ويأتي الإغراء بها في الدنيا، الإغراء بها والشد إليها في عملية التزيين التي تدفع البعض إلى أن يؤْثرها حتى على الآخرة، وكذلك تتحول إلى عائقٍ لدى البعض الآخر، عائق عن أن يستجيب للحق، عن أن يستجيب لله "سبحانه وتعالى"، عن أن يتحرك في طريق الحق، عن أن يقف موقف الحق، الكثير من الناس أكبر عائقٍ له عن أن يقف موقف الحق، هو: حساباته المادية، ومصالحه المادية، ومخاوفه على الإمكانات المادية... وما شابه.

{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، نحن عندما نستجيب لله "سبحانه وتعالى"؛ لن نخسر، ليس معنى ذلك أنه سيحرمك من الخير، مما تشتهيه أنت بغريزتك الإنسانية، في الدنيا يمنحك من رزقه، من فضله، من رعايته، أمَّا في الآخرة فما هو أعظم، وهو الذي يجب أن تتطلع إليه أكثر، فما في الدنيا ترى فيه وسيلةً وليس غاية، وسيلةً تبتغي به الدار الآخرة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}[القصص: من الآية77]، وتعمل فيه في إطار التقوى، ليس هو الهدف، الهدف هي الدار الآخرة، هو وسيلة لهذه الدنيا.

{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، ولذلك يزيِّن الله لنا ما هو خيرٌ حقيقيٌ، وعظيمٌ، وكبيرٌ؛ لأن الإنسان يحب الخير لنفسه، فحتى بحساب غرائزنا المادية، رغباتنا المادية، شهواتنا، فالله يعرض علينا ما هو أعظم، وما هو أبقى وأدوم، وما هو أرقى وأسمى، ولهذا يقول: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، العادة عند الإنسان إذا كان يحب شيئاً، وعُرِضَ عليه ما هو خيرٌ منه، يعني: أشياء مادية، لكن هناك أشياء مادية أعظم منها، أفضل منها، أسمى منها، {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، الشيء الطبيعي أنَّ الإنسان يتفاعل، ما دام عُرِضَ عليه ما هو أعظم مما هو منشدٌ إليه أصلاً، مما يرغب فيه أصلاً، مما يشتهيه أصلاً، {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ}، {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، يعني: الخير الذي يعرضه الله علينا، وهو خيرٌ من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، خيرٌ مما في هذه الدنيا من كل الثروات المادية الهائلة، التي لا يصل إليها أكثر الناس أصلاً، أكثر الناس يبتعد عن تقوى الله "سبحانه وتعالى"، وتضيع جهوده في هذه الحياة وهو لا يزال تحت خط الفقر طول مسيرة حياته، أو في مستوى محدود من الإمكانيات الضرورية، أو نحواً منها، ويخسر مع ذلك آخرته، وهو لا يحتاج إلى أن يخسر آخرته؛ لأنه- كما قلنا- يمكن للإنسان أن تكون اهتماماته المعيشية مهما بلغت في إطار التقوى، مهما مكَّنه الله فيه، مهما أنعم به عليه، لا يخرج عن إطار التقوى، تبقى وسيلة، ولا تتحول إلى غاية.

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ}، فهذا الخير الذي يعرضه الله علينا ثمنه التقوى، ثمنه التقوى، وسيلة الوصول إليه هي التقوى، الطريق للحصول عليه هو بالتقوى.

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، من عطائه، برحمته، بفضله، بكرمه، برضوانه، ما يعطينا في هذه الحياة يعطينا على أساس الاختبار، ليختبرنا فيه، ويبقى ضمن ظروف هذه الحياة، ما فيها من المنغصات، ما فيها من المشاكل، ما فيها من العناء، والذين بأيديهم ثروات وإمكانيات يحتاجون إلى الجهد، إلى العناء الدائم، إلى الشغل المكثف، إلى الاهتمامات الدائمة... إلى غير ذلك، يحتاجون إلى أن يقدِّموا لذلك الكثير من همهم، من تفكيرهم، من جهدهم العملي.

أمَّا الذي يعرضه الله "سبحانه وتعالى"، فيقدِّمه لك برضوانه، برحمته، بكرمه، بفضله، فيكون شيئاً عظيماً جداً من عطاء الله.

{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، جناتٌ في جنة الخلد، جناتٌ وبساتين عظيمة، شاسعة، فسيحة، كبيرة، ليست كما هو حال الكثير من الناس، الأغلب من الناس ما يمتلكونه مثلاً من إمكانات مادية، قد يكون قليلاً من المزارع، قليلاً من المدرجات الزراعية عندنا في الأرياف في اليمن، لا تكاد تتسع للثور إذا دخل إليها ليشتغل فيها، ضيِّقة وصغيرة، فيها القليل من أشجار القات، أو البن، وإذا بُذرت فيها البذور، كان محصولها من القمح، أو من الذرة، شيئاً يسيراً، وكم أخذت من الجهد، وكم أخذت من العناء، وكم أخذت من العمل.

أمَّا تلك فهي {جَنَّاتٌ}: بساتين في جنة الخلد، بساتين شاسعة، هائلة، كما قال عنها في آياتٍ أخرى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[محمد: من الآية15]، فيها من كل الثمرات، ومن كل أصناف الفواكه، وعلى مستوى راقٍ عظيم، مثمرة بشكلٍ مستمر، {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}[الواقعة: الآية33]، كما قال عنها أيضاً في سورة الرعد: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}[الرعد: من الآية35]، الثمر مستمر، والأوراق- كذلك- ليست فقط لمواسم معينة، ثم تهل وتيبس في مواسم أخرى، وأوقات أخرى، هي مثمرة على الدوام بطيب الثمر، بدون عناء، بدون جهد، ولا تتساقط أوراقها، ولا تحتاج إلى عناء، لا في تحصيل الماء لها، ولا في العناية بها، من دون عناء.

{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، الأنهار تجري من تحتها باستمرار، فالماء متوفر، لا تحتاج إلى عناء في سقيها، تحتاج إلى بئر، ثم البعض إلى بئر ارتوازية، إلى بئر ارتوازية عميقة، البعض قد لا يمتلكون ذلك، فيعانون أشد المعاناة في توفير الماء لها، المياه تجري من تحتها بشكل أنهار غزيرة متدفقة، في منظرٍ بهيجٍ وخلَّاب، وارتواءٍ دائم، لا تظمأ أبداً، تلك الأشجار في حالة ارتواء دائم، مورقة، مونقة، مثمرة على الدوام، بدون عناء، وعلى مستوى واسع، على مستوى واسع.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، ليست لفترات مؤقتة، تنتهي عليك، أو تفارقها أنت، تخلد في ذلك النعيم الواسع جداً، الذي فيه من كل الثمرات، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}[البقرة: من الآية25]، تعيش للأبد، بدون مرض، بدون هموم، بدون أوجاع وأسقام، بدون حمية غذائية تمنع فيها من بعضٍ من الفواكه، أو ينتج لك أمراض معينة، تمنع عليك فواكه معينة، ذلك أمرٌ مختلف، هناك لا حمية، ولا مشاكل، ولا مشاكل صحية، ولا معاناة، ولا نزاعات، ولا خلافات، ولا صراعات، تهنأ بذلك النعيم، بدون أي منغِّصات، تعيش في ظروف مستقرة، ليس فيها أي صراع، أي هموم، أي معاناة، أي أذية، أي مشاغلة، أي ازعاج، لا يحصل لك هناك أي إزعاج من أي أحد، ولا بأي شيء، حياة هنيئة، ولا آلام، ولا أمراض، ولا أسقام... ولا أي شيءٍ من المعاناة، ولا أي شيءٍ من المعاناة، حياة تهنأ فيها بذلك النعيم.

{خَالِدِينَ فِيهَا}، فلا يعانون من الهرم، ولا من السقم، ولا من المرض، ولا من الموت، ولا من الشيخوخة، يبقون في صحة دائمة، يهنؤون بذلك النعيم للأبد.

فعندما تقارن، من خلال هذه المقارنة يتضح لك أنَّ الله يعرض عليك ما هو خيرٌ لك، كما قال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}.

{خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، الحياة الزوجية هناك حياة راقية، وسليمة من كل العيوب، وسليمة من كل الشوائب.

{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}، ومع النعيم المادي، ما يجعله نعيماً حقيقياً وعظيماً وسامياً، هو النعيم المعنوي، أنَّ كل ذلك يحصل بتكريم من الله، وأنَّ الذين اتقوا يعيشون في ظل تلك الحياة السعيدة، الهنيئة، الطيِّبة، التي يتوفر فيها النعيم، وكل المشتهيات على أرقى مستوى، كما قال في آيةٍ أخرى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}[النحل: من الآية31]، {مَا يَشَاءُونَ}، كل أصناف النعيم، كل أصناف المشتهيات والرغبات على أرقى وأسمى مستوى، حياة طيِّبة، ولكنها كلها برضوانٍ من الله "سبحانه وتعالى"، بتكريم، بتكريم، الإنسان هناك يعيش في حالة التكريم تلك، كما قال في آيةٍ أخرى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان: الآية20]، {وَمُلْكًا}، على هيئة الملوك، كأنك هناك ملك، كأنك أمير، كأنك، يعني تحس بأن لك كرامة، بأن لك قدراً، بأن لك احتراماً، شخصية محترمة في الجنة، الكل يحترمك ويقدرك حتى ملائكة الله تحترمك وتقدرك، تُحِسُّ بتعزيز، بإكرام، بتقدير، حتى ظروف الحياة هناك، أساليب المعيشة، تقدم إليهم موائدهم بصحافٍ من ذهب، يخدمون لا يحتاجون إلى العناء في توفير احتياجاتهم ومتطلباتهم، هناك غلمان متخصصون في خدمتهم وتقديم كل ما يحتاجون إليه.

حالة التكريم، الحالة التي يعيشون فيها نتيجة رضا الله عنهم، ما يعبر عن ذلك الرضوان، وما يتجلى به ذلك الرضوان، يلمسونه بشكل رعايةٍ واسعةٍ من الله فيها كلها تكريم، تكريمٌ لهم، يعيشون معززين مكرمين، ينالون ما ينالونه، ويقدم لهم ما يقدم من النعيم في كل أجواء ذلك التكريم والرضوان.

والله "سبحانه وتعالى" برضوانه عنهم يرعاهم برعايةٍ عجيبة؛ لأن مسألة الاستضافة لمن أنت راضٍ عنه وتحبه وتقدره، تدفعك مثلاً- على سبيل المثال التقريبي والصورة التقريبية لنا- إلى أن تهتم به اهتماماً واسعاً، يعني: اهتماماً غير عادي، مثلاً: في واقع الحياة قد يكون لدى الإنسان اهتمام بضيوفه، أي ضيف، لكن عندما يكون هذا الضيف من تحبه، من ترضى عنه، من تقدره، من تعزه، فأنت أكثر حرصاً على أن تعتني به أكثر، أن تدفع عنه ما يؤذيه، أن تدفع عنه ما يزعجه، أن توفر له ما يرغب فيه بحسب إمكاناتك وقدراتك.

أما الله "سبحانه وتعالى" فهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وذو الفضل الواسع العظيم، وهو على كل شيءٍ قدير، ومع ذلك كما قال: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ففي الجنة هو بصيرٌ بعباده الذين اتقوا، يعلم ما يسرهم، يعلم ما يرتاحون به، ما يناسبهم، ما يلائمهم، ما يفرحون به، وقادرٌ على تحصيل ذلك، على أن يخلق ذلك، على أن يمنَّ عليهم بذلك، على أن يكرمهم بذلك، عالمٌ بخصائص النفس البشرية، ما يناسب كلاً منهم، وما يرتاح به، وما يفرح به، وما يناسبه، فينعم به عليه، وعالمٌ في الدنيا بحال الذين تتوجه كل اهتماماتهم مادية، فقادرٌ على أن يحوِّل اهتماماتهم تلك وأطماعهم تلك التي نسوا معها الله، ونسوا معها الدار الآخرة، وحولوا تلك المتع وتلك الرغبات إلى غاية، حولوها إلى غاية، يتوجه نحوها كل اهتمامهم، كل سعيهم، أن يحولها إلى عذابٍ لهم، فيعذبهم بها في الدنيا، {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.

إذاً هذا العرض المغري هو عرضٌ صادق من الله "سبحانه وتعالى"، هو يعرض علينا هذا النعيم، هو يعرض علينا تلك الحياة الأبدية السعيدة، النعيم الأبدي الذي لا ينقطع، يدوم ولا يفنى، ومقابله فقط التقوى، والتقوى هي بمتناول كُلٍّ منا، في هذه الحياة الأمور المادية ليست بمتناول كُلٍّ منا، مثلاً: قد ترغب في شيءٍ في هذه الحياة ولا تستطيع توفيره؛ لأنك لا تمتلك قيمته، إذا ثمنه مرتفعٌ جداً، وهو شيءٌ نفيس، لكن الوصول إليه يكاد يكون مستحيلاً للكثير من الناس، الذين لا يمتلكون إمكانات مادية كافية، فهذا المعروض من النعيم الأبدي من بساتين الجنة، يعني: الكثير منا ظروفه المادية لا يستطيع أن يوفر لنفسه بها ولو مزرعةً صغيرة، البعض عاجز عن أن يشتري حتى بقرة واحدة، عن أن يشتري- ربما البعض- حتى نعجة واحدة، ظروف صعبة لدى أكثر الناس، فما بالك بأن يشتري مثلاً مزرعةً كبيرةً جداً، تتوفر فيها كل متطلبات الزراعة من الماء وغيره، وتمويل العمل فيها على الدوام، هذه مسألة صعبة لدى الكثير من الناس، الذي يعرضه الله لنا ثمنه التقوى، التقوى التي نلتزم بها حتى في اهتماماتنا المعيشية، حتى في نشاطنا الزراعي والتجاري وغيره، فنجعل منه وسيلةً نبتغي بها الدار الآخرة، ولا نجعل منه غايةً نخسر بها الآخرة، ثمنه التقوى، التقوى هي في متناول كُلٍ منا، يأتي القرآن بنماذج من مواصفات المتقين؛ ليبين لنا التقوى، ويعرفنا على المتقين.

 {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: الآية16]، {الَّذِينَ يَقُولُونَ} من واقع إيمانهم، من اقع شعورهم، يقولون بوعي من عمق مشاعرهم،  {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

من أهم مواصفات المتقين: أنهم يستشعرون مسؤوليتهم تجاه أعمالهم وتصرفاتهم، فهم هنا يتوجهون إلى الله "سبحانه وتعالى" في طلب المغفرة، فيقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}، إننا آمنا: آمنا بك؛ فاستشعرنا عظيم حقك علينا، آمنا بوعدك ووعيدك؛ فأدركنا أهمية ما نعمل، وما يترتب عليه من الجزاء في الآخرة، وما يترتب عليه حتى من العواقب والنتائج في هذه الدنيا، فأدركنا الخطورة في تصرفاتنا وأعمالنا، عندما نعصي، عندما نذنب، عندما نفرط، عندما نقصر، عندما نهمل، عندما نفرط في شيءٍ من التزاماتنا العملية الإيمانية فلا نقوم به، عندما لا نعمل ما ينبغي علينا أن نعمله، يستشعرون الخطورة، ليسوا مستهترين في أعمالهم، في تصرفاتهم، هم يدركون المسؤولية فيما يفعلون، فيما يتصرفون، في مواقفهم، فيما عليهم من التزامات إيمانية وعملية، ولذلك يطلبون من الله المغفرة، يطلبون من الله المغفرة، يدركون خطورة الذنوب، خطورة التفريط، خطورة التقصير، خطورة الإهمال تجاه التزاماتهم الإيمانية فيما أمرهم الله به، ويدركون الخطورة الرهيبة لتجاوز حدود الله "سبحانه وتعالى"، أو لفعل الحرام، مسألة خطيرة جداً لديهم، فهم يخافون من ذنوبهم، وتقصيرهم، وإهمالهم، وتفريطهم، ليسوا متهاونين، ليسوا مستهترين.

{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}؛ لأنهم يدركون أن ما يصل بالإنسان إلى نار جهنم هي ذنوبه، ذنوبه التي هي إما بشكل تفريطٍ فيما أمر الله به من الالتزامات العملية، وهذه من أخطر الذنوب التي يغفل عنها الكثير من الناس، ما علينا أن نعمله، ما أمرنا الله به.

أو بشكل انتهاكٍ لحرمات الله وفعل المحرم، فهم يدركون خطورة الذنوب أنها هي التي تصل بالإنسان إلى نار جهنم، هي التي تسبب للإنسان سخط الله، هي التي تسبب للإنسان المصائب الخطيرة والعقوبات العاجلة في الدنيا، هي التي تسبب للمجتمعات النكبات، مجتمعات بأكثرها تدخل في نكبات كبيرة؛ نتيجة ذنوب، نتيجة تقصير في مسؤولياتها، في واجباتها، في الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، تقصير في إتباع ما أنزل الله، تفريط تجاه توجيهات الله "سبحانه وتعالى".

{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فهم يؤمنون بوعيد الله، ويوقنون بالآخرة، ويدركون أن النار هي العقوبة الحتمية على الإنسان المستهتر، أو للإنسان المستهتر المتهاون، الذي لا يرجع إلى الله، لا ينيب إلى الله، لا يستقيم على أساس هدى الله، لا يلتزم بتعليمات الله وتوجيهاته، فيصر، على عصيانه، يصر على تقصيره، يصر على تفريطه، فيدركون الخطورة في ذلك، ولذلك يضرعون إلى الله، وعندهم اهتمام عملي، ليسوا فقط يقولون ذلك، ثم لا يلتفتون إلى واقعهم العملي لمعرفة ما هم مقصرون فيه، فيتداركون ذلك، لمعرفة ما قد يكون الإنسان واقعاً فيه، مما فيه إثم في سلوكياته، أو في تصرفاته، أو في طريقته في أداء المسؤولية، فيقلعون عن ذلك وينتبهون، يقولون وهم يلتفتون إلى واقعهم العملي، يقيمون واقعهم العملي، يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ}[آل عمران: من الآية17]، {الصَّابِرِينَ}، الصابرين وهم يؤدون مسؤولياتهم العملية عندما يواجهون المشاق، أو الصعوبات، أو التحديات، الصابرين على ظروف هذه الحياة، التي يواجهونها وهم يستمرون في السير وفق منهج الله وتعليمات الله "سبحانه وتعالى"؛ لأن الكثير من الناس مشكلته في الصبر، أمام شهوات نفسه ورغباتها لا يصبر، فيرتكب المحرم، أو يقف في صف الباطل، أمام البعض من العوائق، أو الصعوبات، أو المشاق، في أداء المسؤولية، في فعل ما أمرنا الله به، لا يصبر، فيتقاعس عن ذلك، أمام أي مشاق، أو متاعب نفسية، أو جسدية، لا يريد أن يصبر، فيفرط في عملٍ مهم، أو يفعل ما هو من المحرمات.

فالصبر مسألة مهمة جداً وأساسية، والإنسان المؤمن هو أولاً يطلب من الله "سبحانه وتعالى" أن يفرغ عليه الصبر، الله يقول في القرآن الكريم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، ثم هو يوطِّن نفسه على الصبر، يروض نفسه على الصبر، يستفيد من كل الوسائل التربوية التي ترتقي به، تمنحه القوة، قوة التحمل، تهيئه للاستعداد للصبر، من مثل صيام شهر رمضان، الذي هو عملية ترويضيه على الصبر، والإنسان يصبر على: أولاً على السيطرة على شهوات نفسه تجاه الطعام، والشراب، والمعاشرة الزوجية، ثم أيضاً يصبر على الجوع، على العطش، على متاعب معينة جسدية، عملية ترويضيه تكسب الإنسان قوة التحمل، وارتفاع المعنويات، والمزيد من القدرة والطاقة.

{الصَّابِرِينَ}، والصبر لا بدَّ منه، لا بدَّ منه، كثير من الناس يتهربون من المسؤوليات المهمة، كالجهاد في سبيل الله؛ لأنهم لا يريدون أن يصبروا، أو ظروف معينة، أو معاناة معينة، أو أحزان معينة؛ لأنهم لا يريدون أن يصبروا، فالصبر لا بدَّ منه في التقوى، في تحقيق التقوى لا بدَّ من الصبر، فبالتالي تعمل من خلال الصبر الأعمال العظيمة التي تقيك من عذاب الله، تقي الأمة من الخزي والهوان، تقي المجتمع من سيطرة أعدائه عليه، تقينا من مختلف الشرور، وتقينا من عذاب الله، ومن النار.

{وَالصَّادِقِينَ}، الصادقين في إيمانهم، عندما قالوا آمنا قالوها بصدق، آمنوا فعلاً، آمنوا بالله، آمنوا بوعده ووعيده، وكان لإيمانهم ثمرة هي التقوى، والصادقين في إيمانهم، في فهمهم لدينهم، فهموه بصدق، ولديهم المصداقية في أدائهم العملي، في التزامهم الإيماني، فيما عليهم أن يعملوا، وفيما عليهم أن يتركوا، مصداقية في الانتماء، في العمل، في الموقف، وهم من يتحرون الصدق فيما يقولون، من يتحرون الصدق في أدائهم لمسؤولياتهم، الصدق من أهم العناوين التي تترتب عليها مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، الصدق عنوانٌ إيمانيٌ مهم، وأساسيٌ في تحقيق التقوى، ولذلك واقع المؤمنين المتقين أنهم أهل صدق، ويتحرون دائماً الصدق.

{وَالصَّادِقِينَ}، في التزاماتهم الإيمانية، والعملية، وانتماءاتهم، ومواقفهم، ويتحرون الصدق فيما يقولون.

{وَالْقَانِتِينَ}، هم دائماً في حالة خضوعٍ لله "سبحانه وتعالى"، خاضعين لله، خاشعين لله، ولذلك لديهم استعداد في طاعة الله في كل شيء، ليس هناك بالنسبة لهم تأثيرات سلبية لمزاجهم الشخصي، أو لنوازعهم وعقدهم الشخصية، فيأنفون من تنفيذ أي شيءٍ فيه رضاً لله، أو أمر الله به "سبحانه وتعالى"، المهم بالنسبة لهم هو رضوان الله، كيف يرضى عنهم، مقابل أن المهم لدى الكثير من الناس هو الناس وليس رضا الله، رضا الله هو المهم بالنسبة لعباده المؤمنين المتقين، ولا يأنفون، ولا يستنكفون، ولا يستكبرون من أن يعملوا ما هو رضا الله "سبحانه وتعالى"، ولو كان مزاجهم الشخصي قد لا ينسجم مع ذلك، أو كلام الناس، أو إثارة الناس، وبالذات أن البعض من الناس لديهم خبرة شيطانية في استثارة الإنسان تجاه عمل قد يكون مهماً، وفيه مرضاةٌ لله "سبحانه وتعالى"، فيأتون لاستثارة الإنسان؛ ليعيقوه عن ذلك العمل، مهما كان عظيماً ومهماً.

أو أحياناً في سياق العمل في سبيل الله وطاعة الله، والأعمال التي هي أعمالٌ منسجمةٌ مع التقوى، وقائمةٌ على أساس التقوى، قد يأتي من يثير فيك الحساسيات الشخصية، والحسابات الشخصية، والعقد الشخصية؛ لينفرك منها، ويجعل حساباتك فيها حسابات شخصية، مناصب، مواقع وهمية، مسميات معينة، حسابات معينة، وبالتالي تأنف، أو أحياناً بدافع العقدة تتوقف عن عمل معين، {وَالْقَانِتِينَ}، فهم في حالة خضوع تام لله، وانقياد تام لأمر الله "سبحانه وتعالى"، لا أنفة فيهم، لا كبر فيهم، لا عقد لديهم.

{وَالْمُنْفِقِينَ}، فنلاحظ مثلاً وصفهم بالمنفقين، حتى تكون نظرتنا صحيحة إلى مسألة الإمكانات المادية، أن المسألة بالنسبة للمتقين أنهم يتعاملون بها كوسيلة وليس كغاية، فهم يبتغون فيما مكنهم الله منها يبتغون الدار الآخرة، يستشعرون مسؤوليتهم فيها، فهم في حالة إنفاق من كل ما رزقهم الله، ومن كل إمكاناتهم التي مكنهم الله بها "سبحانه وتعالى"، وبشكلٍ مستمر، روحيتهم روحية عطاء.

في مقابل أن روحية البعض هي روحية أخذ، واستغلال، وانتهازية، واكتساب دائم، واستحواذ دائم، وطمع، فهم على العكس من ذلك، هم يحملون روحية الإنفاق، روحية العطاء، يجودون مما رزقهم الله "سبحانه وتعالى" ضمن التزاماتهم الإيمانية، في مقدمها الإنفاق في سبيل الله، ومن ضمنها الصدقات على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الناس، والإحسان إلى ذوي القربى، إلى غير ذلك.

{وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}، وهم أيضاً، ختم في هذه المواصفات ختمها بالاستغفار، وبدأها أيضاً بطلبهم للمغفرة، فهم على ما هم عليه من صبر عملي في ميدان العمل، ينهضون بمسؤولياتهم وواجباتهم، صبر في مقام التزامهم الإيماني وحذرهم من المعاصي والمحرمات، صدق، انقياد تام لأمر لله، إنفاق مستمر وروحية عطاء، طاعة تامة لله "سبحانه وتعالى"، هم لا يحملون حالة الغرور، الغرور والعجب بالنفس، فينظرون إلى أنفسهم بغرور كبير، يتصور أن الله يتمنى أنه قد مات ليدخله الجنة فوراً، هم لا يزالون يستشعرون تقصيرهم، وهم لا يزالون يخافون من الذنوب والمعاصي، وهم لا يزالون يستشعرون خطورة التفريط، خطورة التقصير، فيبادرون دائماً بالاستغفار وتلافي جوانب التقصير لديهم، حتى في وقت من أحسن الأوقات للذكر والدعاء والاستغفار، يخصصونه للاستغفار، هو وقت الأسحار، في آخر الليل ما قبل طلوع الفجر، ما قبل طلوع الفجر هو وقت السحر، وقت من أحسن الأوقات على مستوى قبول الدعاء، على مستوى قيمة الذكر والعبادة، على مستوى الأجواء الذهنية والنفسية للإنسان، وهو يتفرغ في ذلك الوقت لذكر الله "سبحانه وتعالى"، ويتوجه إلى الله "سبحانه وتعالى".

في ذلك الوقت من يداوم على اليقظة فيه قد ينظر إلى نفسه أنه أصبح من عظماء أولياء الله، ومن العبَّاد الذين أصبحت مرتبتهم ودرجاتهم في التقوى والعبادة والإيمان عالية، فقد يحمل شيئاً من الغرور، وهم على العكس من ذلك، لا يشعرون بغرور لا تجاه أعمالهم واهتماماتهم والتزاماتهم، ولا تجاه قيامهم في مثل ذلك الوقت الذي يخصصونه للاستغفار؛ لأنهم يدركون أهمية ذلك الوقت فيما يطلبونه من الله، وأهم وأول مطلبٍ لهم هو طلب المغفرة، طلب المغفرة.

هذه النماذج يقدمها الله "سبحانه وتعالى" يعرفنا بها عن التقوى والمتقين، إضافةً إلى ما وعدهم الله به "سبحانه وتعالى"، هذه كلها في متناولنا جميعاً، في متناول الفقير والغني، في متناول المسؤول والشخص العادي مثلاً الذي هو مواطن ليس في موقع مسؤولية معينة، وهذه المواصفات في قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ}، هي تفيد الاستمرارية، هم هكذا بشكلٍ مستمر، البعض من الناس يصبر مرحلة معينة، بعد ذلك يتغير تماماً، يكون قانتاً منطلقاً بتسليمٍ تام لأمر الله، في طاعة الله، فيما هو رضا لله، لمراحل معينة، في مراحل يتغير، تصبح عنده أولويات، اعتبارات أخرى، يريد مناصب، يريد مكاسب، يريد أهدافاً شخصية، أو البعض من الناس يصل إلى مستوى معين فيدخل في عقد وإشكالات فيتوقف؛ أما هؤلاء فمواصفاتهم هذه تفيد الاستمرارية.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛



هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...