الأحد، 10 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ -2022م

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من ضمن الآيات المباركة التي أتت في سياق الحديث عن فريضة صيام شهر رمضان- الآيات المباركة في سورة البقرة- أتى قول الله "سبحانه وتعالى": {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: الآية186].

الدعاء في الحالة الإيمانية هو من لوازم الإيمان، وجزءٌ مما يعبِّر به الإنسان المؤمن عن إيمانه، فالدعاء يعبِّر عن إيمانك بالله "سبحانه وتعالى" أنه الحي القيوم، أنه المدبر لشأنك، وشؤون السماوات والأرض، وشؤون الخلائق أجمعين، أنه الرحيم الكريم، أنه أرحم الراحمين، أنه سميع الدعاء، أنه المنعم المتفضل، أنه الملاذ والملجأ، الذي تلجأ إليه، وتلوذ به، وتفر إليه من كل هموم هذه الحياة، ومن كل التحديات والمخاطر فيها.

ومن جانبٍ آخر، هو يعبِّر ويدل على تذكُّرك لله "سبحانه وتعالى"، أنك ذاكرٌ له، لست غافلاً عنه، لست ناسياً له، الحالة البديلة عن الدعاء لله "سبحانه وتعالى"، هي: حالة النسيان لله، والالتجاء إلى غير الله "سبحانه وتعالى"؛ لأن الإنسان هو عبدٌ ضعيفٌ مفتقرٌ دائماً، يحتاج إلى العون، يحتاج إلى الرعاية، يحتاج إلى المساعدة، هو إمَّا أن يكون متوجِّهاً إلى الله "سبحانه وتعالى"، وإلَّا كان البديل أن يتوجه إلى غير الله، إلى أمثاله من العبيد الضعفاء المحتاجين، الفقراء إلى الله "سبحانه وتعالى".

وهو أيضاً يعبِّر عن رجائك كإنسانٍ مؤمن، أنك ترجو الله، ترجو رحمته، ترجو فضله، تثق به، تتوكل عليه، أنك منيبٌ إليه، توَّابٌ إليه، رجَّاعٌ دائماً في كل المهمات والملمات، وفي كل الأحوال والظروف، إلى رحمته وكرمه وفضله، فالدعاء موقعه من الإيمان هذا الموقع المهم جدًّا، والذي لا بدَّ منه في الحالة الإيمانية.

في إطار الحديث عن صيام شهر رمضان المبارك في الآيات المباركة من سورة البقرة، أتت هذه الآية المباركة، بهذا التعبير الرقيق، الذي يعبِّر عن رحمة الله "سبحانه وتعالى"، وعن كرمه، وعن فضله، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، الله "سبحانه وتعالى" هو القريب من عباده، يعلم بكل أحوالهم وظروفهم، ويسمع دعاءهم ونداءهم، يَذْكُر من ذَكَرَه، ويَشْكُر من شَكَرَه، وهو "سبحانه وتعالى" يجيب الدعاء، يسمع الدعاء، ويجيب الدعاء، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، ويَسَّر لعباده مسألة الدعاء، فليست مسألةً معقَّدةً في وسائلها، وليست مسألةً ترتبط بأشخاص محددين فقط، يَسَّر المسألة إلى هذا المستوى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فهو يجيب كل من دعاه إذا دعاه،وفق حكمته ورحمته "سبحانه وتعالى" وتدبيره، وهو الحي القيوم، ووفق ما يتعلق أيضاً بأحوال الداعي إذا دعا، وهو ما نتحدث عن بعضٍ منه على نحوٍ مختصرٍ إن شاء الله.

في مسألة الدعاء، الدعاء حالةٌ مطلوبةٌ من الإنسان في كل الأحوال؛ لأنها- كما قلنا- جزءٌ من إيمانه، ومن التزاماته الإيمانية، ومن اهتماماته الإيمانية، تعبِّر عن عمق علاقته بالله "سبحانه وتعالى"، فهي حالةٌ مطلوبةٌ في العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء، وفي مختلف الحالات، وفي مختلف الظروف، وفي مختلف الأوقات، فالإنسان المؤمن لا يغفل عن الله بشكلٍ مستمر، لا يبقى في حالةٍ من الغفلة والنسيان والإعراض، وينكفئ على نفسه في همومه، في مشاكل حياته، في آماله ورغباته، في متطلبات حياته، كل شيءٍ في واقع حياته يشده إلى الله، حالة اليسر تشده إلى الله، وحالة العسر كذلك، حالة الرخاء تشده إلى الله، وحالة الشدة كذلك، الاهتمامات التي لديه المتعلقة بإيمانه ودينه ومستقبله في آخرته تشده إلى الله "سبحانه وتعالى"، وظروف وشؤون حياته هذه، بكل ما فيها من هموم ومشاكل ومعاناة، وبكل ما فيها من يسرٍ وخيرٍ، تشده إلى الله "سبحانه وتعالى"، فهو ذلك الذي يلتجئ إلى الله دوماً، ويتوجه إليه بالدعاء في كل الحالات، كل شيءٍ يشده إلى الله، يدفعه إلى الدعاء لله "سبحانه وتعالى".

البرنامج العبادي في الذكر والصلاة يشده إلى الله "سبحانه وتعالى"،الأوقات المباركة، الأوقات المميزة، التي تعتبر فرص الاستجابة فيها أكثر، من أهم الأوقات عند الإنسان المؤمن التي يحاول أن يقتنص الفرصة فيها، وألَّا تفوته الفرصة فيها، فهو أيضاً يبحث عن تلك الأوقات، وهو أيضاً يحرص عليها، يحرص على المناسبات، على الأعمال؛ لأنهناك من الأوقات، ومن الأعمال، ومن الحالات، ما تكون فرصة الاستجابة فيها للدعاء أكثر، فهو يحرص على تلك الأوقات المميزة، الحالات المميزة، ومنها:شهر رمضان، ومنها: ليلة القدر أيضاً في داخل شهر رمضان، ومنها: العشر الأواخر في شهر رمضان، ومنها: الأوقات المباركة على الدوام، مثل: أوقات السحر، أوقات آخر الليل، مثل: عقب الصلوات... أوقات متعددة تعطى فيها للإنسان فرصة أن يدعو الله "سبحانه وتعالى"، وأن يحظى بالاستجابة من الله "سبحانه وتعالى".

ففي الآية المباركة يأتي الحث والترغيب في الدعاء، ما أكرم الله! ما أعظم رحمته وفضله! هو الذي يدعونا أن ندعوه، هو الذي يحثنا على أن ندعوه، هو الذي يرغِّبنا في أن ندعوه، ويعدنا بالاستجابة، ويرشدنا إلى أسباب الاستجابة، ويحذِّرنا من العوائق التي تمثِّل مشكلةً لنا وعائقاً في أن نحظى بالاستجابة.

في هذه الآية المباركة هو يقدِّم هذا العرض المبارك منه "سبحانه وتعالى"،يعرضه علينا، ينادينا، ويدعونا، ويرغِّبنا، هل نريد أكثر من ذلك؟! إلى درجة أن يعد هذا الوعد بالاستجابة: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، والله يريد من كل عباده أن يدعوه، وليس فقط أن يتصوروا أنَّ هذه المسألة خاصةٌ بمن بلغوا منتهى الصلاح منهم، أو بلغوا أعلى مستويات الإيمان منهم، الكل عليهم أن يتوجهوا إلى الله "سبحانه وتعالى" بالدعاء، وأن يحرصوا- في نفس الوقت- على أسباب الاستجابة.

في آخر الآية المباركة قال "جلَّ شأنه":{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، إذا أردنا أن يستجيب الله دعاءنا، ووفق حكمته، وتحت سقف حكمته، وبمقتضى ما يدبِّره "سبحانه وتعالى"؛ لأنه الحي، القيوم، الرحيم، عالم الغيب والشهادة، الأعلم بمصلحتنا منا، الأعلم بما فيه الخير لنا حتى منا، إذا أردنا أن نعرف أسباب الاستجابة، فلنلحظ قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي}، فلنستجب لله "سبحانه وتعالى"، ولنؤمن بالله "سبحانه وتعالى" إيماناً ثمرته الثقة بالله، التوكل على الله، الرجاء الصادق في الله "سبحانه وتعالى"، هذا الإيمان وهذه الاستجابة هي ما ينقصنا كثيراً في واقعنا، وهي ما يؤثِّر علينا، إلى درجة أن يتساءل الإنسان: [لماذا أدعو فلا يستجاب لي في أكثر الأمور؟]، هناك نقصٌ كبير في مسألة الاستجابة، الاستجابة الجزئية التي هي الحالة الغالبة السائدة في مجتمعنا الإسلامي، في واقعنا بشكلٍ عام، مع إهمال لأشياء أساسية لا تحصل الاستجابة فيها من جانب الناس، من جانب مجتمعنا الإسلامي، من جانبنا لله "سبحانه وتعالى"، هي تمثل مشكلةً كبيرةً علينا.

المطلوب في الاستجابة أن تكون استجابةً شاملة، أن نستجيب لله "سبحانه وتعالى" في مختلف التزاماتنا الإيمانية: في الجانب السلوكي، في الجانب الأخلاقي، في الجانب الروحي والعبادي، في جانب المسؤوليات التي حددها الله لنا، ورسمها لنا... في مختلف الجوانب، أن نتجه، أن يكون هذا هو التوجه الأساس نحو الاستجابة الشاملة، مع التوبة والإنابة إلى الله عند الزلل، عند التقصير، عند التفريط في شيءٍ ما، والرجوع العملي إلى الله "سبحانه وتعالى".

عندما يكون التوجه نحو الاستجابة الكلية، الشاملة، المتكاملة، حالة قائمة في واقعنا، ونسعى لأن نبادر إلى تلافي أي تقصير، وأن نرجع إلى الله عند كل زلل، فالله هو أرحم الراحمين، هو أكرم الأكرمين، هو ذو الفضل الواسع العظيم، هو الذي لا يخلف وعده أبداً، لا يخلف الله وعده، والذي يفي بما وعد به، وهذه مسألة مهمة جدًّا، من ضمن الاستجابة أن نستجيب لله في الدعاء نفسه، أن نتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأن هذا مما أمرنا به، ورغَّبنا فيه، ووجَّهنا إليه.

أيضاً من ضمن الاستجابة الكاملة والشاملة: الاستجابة أيضاً في الأسباب العملية، يرتبط بالدعاء الأسباب العملية، ليس الدعاء بديلاً عن العمل، الدعاء في الحالة الإيمانية مرتبطٌ بالعمل، مبنيٌ على أساس الانطلاقة العملية، والاستجابة العملية، مثلاً: لا يمكن بأن نكتفي بالدعاء بأن ينصرنا الله على أعدائنا فحسب، ونتنصل عن مسؤولياتنا العملية التي ترتبط بالنصر، فالله تعالى يقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]،{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: من الآية46]... وهكذا تأتي تعليمات وتوجيهات كثيرة ترتبط بهذه المسألة، فنأتي في حالة الاستجابة الكاملة إلى الأخذ بهذه الأسباب العملية، وندعو الله، ندعوه بأن ينصرنا، {وَانْصُرْنَا}، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية147]، ندعوه "سبحانه وتعالى" من ميدان العمل، في إطار الأخذ بالأسباب العملية.

في مسألة الرزق: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك: من الآية15]،{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة: من الآية10]، {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا}[النساء: من الآية32]، الأخذ بالأسباب العملية، ومع الأسباب العملية يأتي الدعاء أيضاً.

ففي إطار الفرص المميزة لاستجابة الدعاء، يأتي شهر رمضان المبارك، وتأتي هذه الآية المباركة، التي تلفت نظرنا إلى هذه الفرصة، وإلى أهمية المسألة بشكلٍ عام، ويأتي في آخرها قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وما أحوجنا إلى الرشد! ما أحوجنا إلى أن نهتدي إلى الخير في شؤون ديننا ودنيانا، في شؤون دنيانا وآخرتنا! ما أكثر ما يتخبط فيه الناس، وهم يسعون وراء الخير، كل إنسان يريد الخير لنفسه، الإنسان هو مفطورٌ على ذلك، يريد الخير لنفسه، ولكن ما أكثر الوسائل، والأعمال، والتصرفات، التي تصدر من الإنسان، ويريد أن تكون وسيلةً يصل بها إلى خيرٍ لنفسه، أو يحقق بها خيراً لنفسه، فلا يصل، بل ينتج عن الكثير منها النتائج السيئة، المعاكسة، يعمل عملاً معيناً، ينطلق على أساس رؤية معينة، فكرة معينة، وهي في عواقبها سيئةٌ عليه، لا توصله إلى الخير، الاهتداء إلى الخير يحتاج إلى فكرة صحيحة، يعتمد على رؤية سليمة، الله "سبحانه وتعالى" إذا استجبنا له، إذا انطلقنا وفق هديه، تعليماته، توجيهاته، هو الأعلم بالخير لنا، وهو مصدر كل الخير "سبحانه وتعالى"، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، فلكي نرشد، فلكي نهتدي للخير في مساعينا، في أعمالنا، في اهتماماتنا، فيما نطلبه ونسعى إليه، نحتاج إلى الله "سبحانه وتعالى"، إلى هديه، ونستجيب له، ونؤمن به، وهذا ما يوصلنا إلى الخير كله في الدنيا والآخرة.

استجابة الدعاء أيضاً يرتبط بها التدبير الإلهي، وليست مسألةً متروكةً إلى مزاج الإنسان، إلى سقفه وسقف رغباته، وأهوائه، وآماله التي قد لا تكون منضبطةً بالحكمة، ولا وفق تدبير الله العام الحكيم، الإنسان أحياناً ينطلق من منطلق رغباته، والتي هي مزاجيةٌ إلى حدٍ كبير، وأهوائه، ولا يلتفت لا إلى واقعه العملي من جهة، ولا إلى واقع الحياة من جهةٍ أخرى.

{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: من الآية3]، أمور الكون، أمور الحياة مُدَبَّرةٌ بتدبير الله الحي القيوم الحكيم، وهناك الأسباب والنتائج، والسنن التي رسمها الله في شؤون هذه الحياة، لا يمكن للإنسان، لا يمكن له هو وفق رغباته أن يخترق هذه السنن التي نظَّم الله واقع الحياة على أساسها، ولكن تبقى هناك مساحة مهمةٌ جدًّا، مساحةٌ هي الكفيلة بالانتقال بك إلى الخير، إلى الفلاح، هي الكفيلة بالنقلة بك إلى ساحة الرحمة الإلهية، الإنسان يدعو الله، ويكون واثقاً بالله، ومقتنعاً بأن الله هو الحكيم، هو المدبر لشؤون السماوات والأرض، هو الأعلم بمصلحته، فالإنسان أحياناً يطلب شيئاً من الله بإلحاح، وبعض الأشياء قد لا تكون مناسبةً للإنسان في علم الله "سبحانه وتعالى"، قد يترتب عليها ما يؤثر على الإنسان في حياته، أو في دينه، فيكون من رحمة الله "سبحانه وتعالى" ألَّا يستجيب لك في ذلك، وأن يبدلك  خيراً منه، ويعطيك مكافئةً ورحمةً وتفضلاً منه في مقابل دعائك، التجائك، طلبك، ما هو خيرٌ لك.

في القرآن الكريم عندما نعود إلى أنبياء الله- والقرآن الكريم يتحدث عن دعائهم- نجد مختلف الأدعية، أنواع الأدعية، التي تتعلق بجوانب كثيرة، بشؤونٍ متعددة من ظروفهم وشؤونهم، ونجد في مقدِّمة ما يطلبونه من الله "سبحانه وتعالى" هو: المغفرة، وهذا يعلمنا أن يكون في مقدمة ما نطلبه من الله، ومن أهم ما نطلبه من الله، هو المغفرة، نحن بحاجة إلى المغفرة، لا شيء يضرنا كذنوبنا، كمعاصينا، كتقصيرنا، كتفريطنا، لا شيء يسبب لنا أن نخسر الكثير الكثير من رعاية الله، من رحمته، من فضله، مثل المعاصي والذنوب، والتفريط والتقصير، ولذلك يأتي الطلب بالمغفرة من واقع الوعي بهذه الحقيقة، ومن واقع الوعي بخطورة الذنوب والمعاصي على مستقبل الإنسان الأبدي الدائم، الكبير والمهم والعظيم في الآخرة.

فنجد في دعاء أنبياء الله: نوح، وإبراهيم، وكذلك يعقوب، وموسى، داوود، وسليمان، وموسى، وعيسى، وزكريا... أنبياء كثر نجد في أدعيتهم في القرآن الكريم التركيز على مسألة المغفرة، على جوانب مهمة يحتاج إليها الإنسان.

أيضاً في أدعية نبي الله نوح، مع الدعاء بالمغفرة، الدعاء بالنصر، بعد جهدٍ عمليٍ كبير، تسعمائة وخمسين سنة من الصبر، من العمل، من الجهد، من المثابرة، ويأتي الدعاء بطلب النصر.

إبراهيم "عليه السلام"، أدعية متنوعة، منها طلب المغفرة، منها أدعية بالذرية المباركة والطيِّبة.

يعقوب "عليه السلام" في محنته الكبيرة، كيف كان دائم الرجوع إلى الله:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف: من الآية86]، عانى من الحزن الشديد، والمحنة الشديدة، فصبر، وبثَّ شكواه إلى الله "سبحانه وتعالى"، والتجأ إلى الله بالدعاء على طول تلك المحنة التي استمرت لسنواتٍ طويلة؛ حتى فرَّج الله عنه حزنه، وكشف غمه.

أيوب "عليه السلام" في معاناته الصحية، التي صبر فيها لدهرٍ طويل، ووقتٍ طويل، والتجأ إلى الله "سبحانه وتعالى" بالدعاء، حتى فرَّج الله عنه.

زكريا "عليه السلام"- كلهم هؤلاء من أنبياء الله- عندما التجأ إلى الله في أن يرزقه الذرية الطيبة، حتى في وقتٍ متأخر، فالتجأ إلى الله "سبحانه وتعالى"، واستجاب الله دعاءه.

ونجد في دعائهم الالتجاء إلى الله من عمق قلوبهم، من أعماق قلوبهم، التجاء إلى الله التجاءً عميقاً، التوجه إلى الله توجهاً قوياً، توجهاً بالخشوع، والرغبة، والرهبة، إقبال عجيب إلى الله "سبحانه وتعالى"، وكذلك من موقع الثقة بالله، والرجاء لله "سبحانه وتعالى"، لا يأس من رَوْحِ الله، ولا قنوط من رحمته.

نبي الله إبراهيم، ذكر الله عنه أنه قال:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر: الآية56]، لا قنوط من رحمة الله، لا يأس من رحمة الله "سبحانه وتعالى"، مهما طالت بالإنسان محنته، أو آلامه، أو همومه، أو... مهما كانت الظروف التي يعيشها الإنسان، مهما كان مستوى الصعوبات، والتعقيدات، والتحديات، التي يواجهها الإنسان، لا يأس ولا قنوط من رحمة الله "سبحانه وتعالى".

نبي الله يعقوب "عليه السلام" ذكر الله عنه أنه قال لأبنائه: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: من الآية87]، فمهما طالت المحنة، مهما كانت الغمة، مهما كانت التعقيدات والصعوبات، ومهما كان حجم المعاناة، لا يأس من رَوْحِ الله "سبحانه وتعالى".

الإنسان يبقى راجياً لله "سبحانه وتعالى"، رجاؤك جزءٌ من إيمانك الصادق، والإنسان له تجارب في مسألة الاستجابة، كل إنسان له تجارب في مسألة الاستجابة لدعائه، كيف يستجيب الله الدعاء في حالة الكرب والاضطرار، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}[النمل: من الآية62]، كم قد تكون الحالات الكثيرة التي توجه الإنسان إلى الله فيها وهو في حالة الاضطرار، الكرب الشديد، الضائقة الشديدة جدًّا، الألم الشديد جدًّا، فتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، وتوجه من كل أعماق قلبه إلى الله "سبحانه وتعالى"، مستغيثاً، راجياً، متضرعاً، فاستجاب الله له وفرَّج عنه، ولكن الإنسان ينسى.

كثيراً ما ينسى من كان من هذا النوع،الذي يلتجئ إلى الله في حالة الاضطرار الشديد، والضائقة الكبيرة جدًّا، ثم عندما يفرِّج الله عنه، عندما يخرج من تلك الحالة الشديدة يغفل، ينسى، يلهو، يعرض.

البعض من الناس هكذا حالهم، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس: الآية12]، من حالات اللؤم، من حالات الدناءة، من حالات الكفران للنعمة، من حالات الإساءة إلى الله "سبحانه وتعالى"، والتنكر لفضله، لرحمته، لجميل ما أسداه، أن تتعامل مع الله على هذا النحو: عند الضر الشديد، تدعو الله، تلتجئ إليه، تستغيثه، وعندما يفرِّج عنك، تعرض وتتجه في هذه الحياة وكأنك لم تدع الله ليكشف عنك ذلك الضر، وكأنه لم يكشف عنك ذلك الضر، أصبحت شخصيةً مختلفة، في ذهنك، في نفسك، في مشاعرك، لم تعد ذلك الذي أقبل إلى الله عند حالة الشدة الشديدة، والضر الشديد، تغيَّرت نفسيتك، تغيَّر إقبالك إلى الله، وتنكَّرت لله "سبحانه وتعالى"، واتجهت في واقع حياتك، في أعمالك، في تصرفاتك بما تسيء به إلى الله "سبحانه وتعالى"، حالة إسراف، {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}، يتنكَّر لله "سبحانه وتعالى".

البعض من الناس حتى في حالة الشدة تقسو قلوبهم، يزداد يأسهم، يتنكَّرون لله "سبحانه وتعالى"، يفقدون الأمل والرجاء، وهي حالة خطيرة جدًّا، حالةٌ سيئة، لا تنسجم مع الإيمان أبداً، يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود: الآية9]، ييأس: لا يرجو الله،وكفور: يقنط من رحمة الله "سبحانه وتعالى"، فيزداد قسوةً، ويزداد يأساً، ويكون لذلك آثاره السيئة على نفسه، على تصرفاته، على أعماله، فقد يتجه في واقع حياته لمعالجة مشاكله، وهمومه، وظروفه، بالأعمال السيئة، بالأعمال التي هي معصيةٌ لله "سبحانه وتعالى"، وهذه حالةٌ خطيرة.

الشيء الصحيح بالنسبة للإنسان المؤمن: أنه عند كل شدة، وفي كل مشاكله، في كل مشاكله يلتجئ إلى الله "سبحانه وتعالى"، أولاً: من واقع الثقة بالله "سبحانه وتعالى"، والتوكل على الله، والرجاء في الله "سبحانه وتعالى"، وتوجهاً صادقاً، توجهاً بالتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، وهذا من أهم ما ينبغي أن يكون الإنسان عليه في حالة الدعاء لله "سبحانه وتعالى"، قال "جلَّ شأنه": {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 55-56].

الدعاء هو عبادة، بل هو- كما ورد في الحديث عن رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"- مخ العبادة، موقعه في العبادة مهمٌ جدًّا، ونحن نعبِّر عن عبوديتنا لله، وافتقارنا إلى الله، وإيماننا بأنه المدبر لشؤون السماوات والأرض، من خلال الدعاء أيضاً، كما أنه أيضاً صلة تعبِّر عن علاقتك الإيمانية بالله "سبحانه وتعالى"، في التجائك إليه، في مناجاته، في ذكره وشكره، ولهذا يأتي الأمر بذلك والحث عليه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: من الآية60]، توجهوا إليه "سبحانه وتعالى" يستجب لكم.

فعندما نتوجه إلى الله "سبحانه وتعالى" ينبغي أن نكون في حالة التضرع، أن نتوجه بتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، أن نكون في حالة الدعاء في حالة تضرعٍ إلى الله "سبحانه وتعالى"، يعني: ألَّا نتجه في دعائنا بقلبٍ قاسٍ، وعينٍ جافة، وذهنٍ شارد، الحالة التي يتوجه الإنسان فيها بالدعاء إلى الله "سبحانه وتعالى" ومشاعره جامدة، لا خشوع، لا خضوع، لا استشعار للقرب من الله "سبحانه وتعالى"، لا استشعار لواقعك أنك تتوجه في تلك الحالة بالدعاء إلى الله، بالمناجاة لله، بالتخاطب مع الله "سبحانه وتعالى"، فتكون في جوٍ بعيدٍ عن الأدب، أدب المقام، مقام العبد بين يدي ربه "سبحانه وتعالى" وأنت تتوجه إلى الله، فمشاعرك الجامدة، قلبك القاسي، ذهنك الشارد، الذي لم يركِّز حتى معك، لم يركِّز حتى على ما تقول وأنت تدعو، هذه الحالة بعيدة عن الاستجابة لله "سبحانه وتعالى".

مما يميز حالة الشدة، وحالة الاضطرار:أنَّ الإنسان يتوجه فيها بالدعاء من عمق قلبه، ووجدانه، وشعوره، فيكون توجهاً صادقاً، توجهاً يتجه فيه اتجاهاً بالوجدان والمشاعر، وليس فقط باللسان.

فالدعاء عندما يأتي كحالة فقط على أطراف اللسان، لا يعيش معها الإنسان بقلبه، بوجدانه، بفكره وذهنه، هي حالة لا مبالاة، تعبِّر عن عدم الاهتمام، عن عدم الجدية، وتعبِّر عن حالة الغفلة لدى الإنسان وهو يقدم الموضوع بشكلٍ عاديٍ جدًّا، هذه حالة في واقع الأمر لا يتعامل بها الإنسان مع الإنسان، إذا أراد منه شيئاً، هو يتعامل بطريقة محترمة، وبإقبال، إقبالٍ في الذهن، إقبالٍ في التعبير، إقبالٍ نفسي، فالحالة التي نتوجه بها إلى الله "سبحانه وتعالى" ينبغي أن تكون بتوجهٍ شعوريٍ ووجدانيٍ وذهنيٍ ونفسيٍ، وفي حالةٍ إيمانية، وبتضرع، بتذلل لله "سبحانه وتعالى"، بخشوع وخضوع لله "سبحانه وتعالى"، بشعورٍ بالافتقار إلى الله، وشعورٍ عميقٍ بالرجاء والأمل في فضله، في رحمته، في كرمه، بتذكرٍ لنعمه الواسعة التي لا تحصى ولا تعد، ومن واقع استجابةٍ عملية.

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، ادعوه واتجهوا بالاستقامة على منهجه، على دينه، على تعليماته، اتجهوا لتكونوا مصلحين في أرضه، مستقيمين على نهجه، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، مشاعرك لتكن مشاعر حيَّة، فيها حالة الخوف، فيها حالة الطمع والرجاء فيما عند الله، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، هذا بشارة، وفي نفس الوقت يلفت نظرنا إلى أن نكون من المحسنين؛ ليستجيب الله دعاءنا.

الدعاء أيضاً يعبِّر عن اهتمامات الإنسان، فالبعض من الناس مثلاً كل أدعيتهم، أو معظم أدعيتهم تتوجه نحو مطالب هذه الحياة، رغباتهم في هذه الحياة، لا تركز على الجوانب الإيمانية والدينية، ولا على مستقبلهم في الآخرة،فأكثر ما يطلبونه مثلاً: يطلبون الرزق، يطلبون ما يبتغونه من مطالب في هذه الحياة، وينسون ما عدا ذلك، ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى": {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: 200-201]، فتتجه اهتمامات البعض كلها نحو هذه الدنيا، {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، يطلب الرزق، يطلب الصحة، يطلب العافية، يطلب دفع الشر، دفع الضر، مطالب كلها دنيوية، ويقتصر على ذلك؛ لأن كل اهتماماته تتجه فقط إلى ذلك، هذه حالة خطيرة، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، ليس له أي نصيب في الآخرة، هو في الأساس لم يتجه في اهتماماته العملية، ولا النفسية، ولا في حتى دعائه، إلى مسألة الآخرة، كل ما يطلبه هو فقط من أمور هذه الحياة، ومتطلبات هذه الحياة فقط.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، فهو يتجه إلى الله "سبحانه وتعالى" من واقع رؤيةٍ صحيحة، الاحتياج إلى الله "سبحانه وتعالى" في شؤون هذه الدنيا في حدود ما هو حسن، ما فيه الخير لنا في ديننا ودنيانا، {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، أولئك قال عنهم: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، ما عاد بش حسنة، آتنا في الدنيا وبس، هؤلاء {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً }، ما يحسن به حالنا، ما تستقيم به أمورنا، ما لا يؤثر على ديننا، ما نرتفق به في شؤون حياتنا، تحت سقف: {حَسَنَةً}، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، مع طلب الوقاية من عذاب الله، طلب الخير في الآخرة، {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}[البقرة: من الآية202]؛ لأن الدعاء لا بدَّ أن يرتبط به عمل، لا بدَّ أن ينطلق من واقعٍ عملي؛ حتى يستجاب له، {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة:الآية202].

في شهر رمضان كموسمٍ عظيمٍ للدعاء، فيه فرصٌ مميزةٌ للاستجابة، في ظل الظروف الإيمانية والواقع الإيماني، مع الصيام، مع القرآن، مع الأثر الروحي والتربوي لشهر رمضان في صيامه، وقيامه، وصالح الأعمال فيه، في آثارها النفسية والتربوية في مشاعر القرب من الله "سبحانه وتعالى"، وفيما نعيشه في واقع حياتنا من تحديات، من أخطار، من هموم، من مشاكل، من ظروف، ومنها:حالة الجدب العالمي، الذي شمل بلدنا، هناك جدب على مساحة واسعة من الأرض، على كثيرٍ من بلدان هذا العالم، وأيضاً على بلدنا، شمله هذا الجدب، وهناك معاناة كبيرة ناتجة عن هذا الجدب، هذا الجدب هو واحدٌ من همومنا في ظروف حياتنا ومعيشتنا، تأثيراته السلبية علينا في الأرياف، في الإنتاج الزراعي، في ظروف المعيشة، حتى في توفر مياه الشرب في كثيرٍ من المناطق الريفية، هذه الحالة يجب أن نعود فيها إلى الله "سبحانه وتعالى"، أن نتضرع إلى الله "سبحانه وتعالى"، ضمن اهتماماتنا، نطلب من الله المغفرة، نطلب من الله الهداية، نطلب من الله النصر، نطلب من الله العون، نطلب من الله التوفيق، نطلب منه "سبحانه وتعالى" الرزق، الخير، الفرج، نطلب من الله متطلباتنا الأساسية على المستوى العام، وعلى المستوى الشخصي، كل إنسان له همومه، له مشاكله، له معاناته، له ظروفه الخاصة، ومشاكله الخاصة أحياناً، نلتجئ إلى الله في كل ذلك، ندعوه خوفاً وطمعاً، نرغب إليه، نثق به، نتوكل عليه، نلتجئ إليه، ومن واقع الاستجابة العملية، كتوجهٍ نتوجه به في واقعنا على أساس الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، نتوجه بالتوبة الدائمة إلى الله "سبحانه وتعالى"، وصف الله عباده المؤمنين الصادقين المتقين بقوله تعالى في سورة التوبة: {التَّائِبُونَ}[التوبة: من الآية112]،{التَّائِبُونَ}، يتوبون إلى الله باستمرار من تقصيرهم، من ذنوبهم، وبالرجوع العملي.

من أهم ما يجب الرجوع فيه على المستوى العملي: التخلص من الحقوق والمظالم، إخراج الزكاة، وللأسف فالكثير من المزارعين هم ممن يبخلون بإخراج الزكاة، وهذا يؤثر، يؤثر على البركات، يؤثر على الأرزاق، حالة الرجوع إلى الله يجب أن تكون من الجميع، من المسؤولين أيضاً؛ لأنها تصدر من جانبهم الكثير من المظالم، الكثير من المعاصي، ومن المواطنين، نحن كلنا معنيون بالرجوع الصادق إلى الله، بالتوبة، بالدعاء، بالتضرع، بالإنابة، بالاستغفار، بالالتجاء إلى الله، وبالرجوع العملي في إصلاح واقعنا العملي، لتكن حالة الشدائد مفيدةً لنا في أثرها في عودتنا إلى الله، وفي رجوعنا العملي، الذي نصلح به أعمالنا، نفتش فيه عن جوانب التقصير لدينا، نحرص فيه على أن نحقق الاستجابة المتكاملة لله "سبحانه وتعالى"، في كل مجالات حياتنا، فنتضرع إلى الله، ونلتجئ إلى الله.

حالة البأساء والضراء من أهم ما فيها أن تكون دافعاً للتضرع وللعودة إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}[الأعراف: الآية94]، هنا نلاحظ قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، يتذللون لله، يخشعون لله، يخضعون لله، يعودون إلى الله بالتوبة والإنابة والرجوع العملي، بدلاً من أن تكون الحالة هي قسوة القلوب، أو اليأس والقنوط، التي هي حالة خطيرة جدًّا على الإنسان.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[الأنعام: الآية42]؛ لأنها هي الحالة الصحيحة، التي تنفعهم، التي تنقذهم، التي تخرجهم مما هم فيه من الضيق، {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: الآية43]، هذه هي الحالة الخطيرة جدًّا: أن تقسو القلوب، وأن يزين الشيطان للناس أعمالهم، فيستمروا على حالة التقصير، يستمروا على أسباب المؤاخذة، والعقوبة، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، أن يستمروا على الأسباب التي أدَّت إلى ذلك.

فالحالة الإيمانية، الحالة الصحيحة، الحالة الإيجابية المفيدة النافعة: هي بالرجوع إلى الله على المستوى العملي، وبالتضرع، بالدعاء، بالاستغفار، ليتوجه الجميع في هذه الليالي المباركة بالتضرع، بالدعاء، بالاستغاثة، بالالتجاء إلى الله "سبحانه وتعالى".

ثم تأتي صلاة الاستسقاء، مثلاً: في نهاية كل أسبوع؛ حتى يفرِّج الله، لكن لا تكون يتيمة، لا تكون صلاة الاستسقاء يتيمة، الناس يتعودون على أن يصلوا فقط صلاة الاستسقاء، صلاة الاستسقاء ينبغي أن يتقدمها الاستغفار، أن يتقدمها الذكر لله "سبحانه وتعالى"، على نحوٍ مستمر، في الليل والنهار، عقب الصلوات، والإكثار من الاستغفار، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح: 10-11]، والتوجه على أساس الرجوع العملي، الرجوع العملي، والاهتمام بالزكاة، والاهتمام بالصدقات للفقراء والمساكين، والاهتمام بالتوبة، والتخلص من المعاصي، والكف عن الذنوب.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يفرِّج عنا، وأن يَمُنَّ علينا من واسع فضله، وأن يغيثنا بغوثه، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛

الأربعاء، 6 أبريل 2022

المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ - 2022 م

لتحميل الملف
    
المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ 2022 م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

من أهم ما هو محسوبٌ في عداد مواصفات عباد الله المتقين، هو: اليقين بالآخرة، وهو من أهم الدوافع إلى التقوى، ومن أهم ما يساعد على التزام حالة التقوى، اليقين بالآخرة، قال الله "سبحانه وتعالى" عن عباده المتقين: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة: من الآية4]، فهم يوقنون بالآخرة، وهم مؤمنون إيماناً صادقاً بوعد الله "سبحانه وتعالى" ووعيده.

من المعلوم أنَّ من أهم المهام للرسالة والرسول والقرآن، هو: التبشير والإنذار، فالله يصف نبيه "صلوات الله عليه وعلى آله" بأنه بشيراً ونذيراً، يصف القرآن- كذلك- بشيراً ونذيراً.

فيأتي النذر أو الإنذار بالآخرة من المهام الرئيسية للأنبياء والرسل "صلوات الله عليهم"، ومن أهم ما تتضمنه كتب الله "سبحانه وتعالى"، وختامها القرآن الكريم والرسول محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، حيث كان لذلك مساحة واسعة في الحديث عن الآخرة، واليوم الآخر، وبشكلٍ تفصيلي، لم يبق مجرد عنوان عام بدون تفاصيل، مثلاً: نسمع عن يوم القيامة، ثم لا نسمع عن أي شيءٍ من التفاصيل سوى أنه يومٌ للحساب، وبعده الجزاء.

أتى الحديث التفصيلي عن يوم القيامة في مرحلته الأولى: النفخة الأولى، التي بها نهاية الحياة، ودمار الأرض والسماوات، وإعادة تكوينها من جديد، ثم في النفخة الثانية، في حالة البعث والقيام والحساب، وتفاصيل مقامات الحساب بشكلٍ دقيق، ثم ما بعد ذلك فيما يتعلق بالجزاء، الذي هو الجنة والنار، فالحديث التفصيلي لامس كل جانب من الجوانب التي تتصل بحياتنا.

يأتي الحديث عن الجوانب النفسية للإنسان في تلك المقامات والمشاهد، في ساحة القيامة، وما بعد ذلك: في الجنة، أو في النار، يأتي الحديث عن كل ما يتصل بشؤون حياتنا في كل جانبٍ من جوانبها، عن الطعام، عن الشراب، عن الملابس، عن ظروف وأجواء الحياة التي يعيشها الإنسان هناك، بنحوٍ تفصيليٍ فيه العبرة الكبيرة لنا، فيه ما يدل على أهمية ما نحن قادمون عليه.

ولذلك يأتي التأكيد على هذه الحقائق في القرآن الكريم، بالرغم من كل ذلك، أكثر الناس هم في حالة غفلة، بعد كل ذلك الإنذار المتكرر والمؤكد، والذي تأتي فيه الكثير من التفاصيل، والتي تلامس كل جانب يهم الإنسان، يتعلق بحياته، على نحوٍ تفصيلي، مع ذلك الحالة السائدة لدى أكثر البشر، أكثر الناس، هي حالة الغفلة، كما قال الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: الآية1]، فحالة الغفلة الشديدة لدى أكثر الناس، وحالة تصل بهم إلى درجة الإعراض، واللامبالاة، وعدم الانتباه إلى أعمالهم، أقوالهم، تصرفاتهم... وغير ذلك، البعض إلى درجة التكذيب، إلى درجة التكذيب بالآخرة، وبعالم الآخرة.

ما يتميز به المتقون: أنهم في حالة انتباه، في حالة تذكر، مع يقينهم بالآخرة، مع إيمانهم بوعد الله ووعيده، هم في حالة انتباه، وتذكر، وجهوزية، واستعداد؛ ولذلك يزنون تصرفاتهم، أعمالهم، مواقفهم على هذا الأساس، أنَّ هناك حساب، هناك جزاء، يتذكرون ذلك، وإذا حدثت لهم حالات غفلة، فهي حالات عارضة، وليست حالاتٍ مستحكمة، هي حالاتٌ عارضة، يخرجون منها، يُذَكَّرون فيتذكَّرون، يأتي ما ينبههم؛ فيخرجون من حالة غفلتهم، ويعودون إلى انتباههم، وهم يستشعرون دائماً قرب لقاء الله "سبحانه وتعالى"، {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: الآية46]، فاستشعارهم المستمر لقرب لقاء الله "سبحانه وتعالى"، يجعلهم في حالةٍ من الانتباه، واليقظة، والاستعداد، والإدراك أنَّ مواقفهم محسوبة، وتصرفاتهم محسوبة، وأعمالهم محسوبة... إلى غير ذلك، ولهذا يقول الله "سبحانه وتعالى" عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف: الآية201]، فهم قد تعرض لهم حالة الغفلة، ثم سرعان ما ينتبهون، فينتبهون لتصرفاتهم، لأعمالهم، لمواقفهم، ويتحركون على أساسٍ من إيمانهم.

أيضاً في علاقتهم بالله "سبحانه وتعالى"؛ لأن الإيمان بالآخرة هو جزءٌ من إيماننا بالله، إيماننا بوعده ووعيده "سبحانه وتعالى"، فالله يقول عنهم: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[الأنفال: من الآية2]؛ ولذلك يتأثرون، {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} فيتأثرون بذلك، يكون لذلك تأثير في أعماق قلوبهم {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، مشاعرهم حيَّة، وجدانهم حي، ضميرهم حي، يخشون من عذاب الله، يستحيون من الله "سبحانه وتعالى".

وحالة الاستشعار الدائم لذلك المستقبل الآتي حتماً، عبَّر عنها القرآن الكريم في إدراك أهميتها يوم القيامة، الإنسان الذي كان متذكراً هنا، منتبهاً، في حالةٍ من اليقظة، والاستعداد، والجهوزية، يوم القيامة يدرك قيمة أنه كان يستشعر أهمية الحساب، ويحسب لنفسه ذلك قبل مجيء يوم القيامة، فيقول الله "سبحانه وتعالى" عن هذه الحالة: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة: الآية20]، هكذا هو الإنسان المؤمن المتقي يوم القيامة، بعد أن يأخذ كتابه بيمينه، وفيه الصفحات التي تبيِّض وجهه، تجعله يستبشر من أعماله الصالحة، من أعماله التي فيها مرضاة الله "سبحانه وتعالى"، فهو مستبشر، فيتذكر حينها أهمية استشعاره في حياته هنا في الدنيا لمسألة الحساب، ومسألة القيامة والجزاء، فيقول: {إِنِّي ظَنَنْتُ}، يعني: كنت استشعر في حياتي في الدنيا، {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}، أنه لا بدَّ من الحساب، وأنني سألقى الحساب، ومن ثم الجزاء، فكان لهذا أهمية في أن أستعد، أن أتوب إلى الله، أن أتلافى تقصيري، أن أتدارك خطيئاتي، أن أتجه إلى الله "سبحانه وتعالى" بالعمل الصالح فيما أمرني به، فكان لذلك الثمرة الطيِّبة.

حالة اليقظة، حالة الانتباه، حالة الاستعداد، حالة الاهتمام لدى المتقين، تصل إلى أن يكون لديهم انتباه واهتمام في مختلف الحالات والظروف، حتى في حالة النوم، قال الله عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}[السجدة: من الآية16]، يأتي التذكر للآخرة، للحساب، للجزاء، لذلك المستقبل الأبدي، حتى وهو مضطجعٌ على فراش نومه، فتثيره هذه الحالة، وتنشِّطه للقيام من نومه إلى العمل الصالح، إلى ذكر الله "سبحانه وتعالى"، إلى التحرك لما فيه طاعة الله "سبحانه وتعالى"، إلى الاهتمام بمسؤولياته وواجباته، هذه الحالة الهامة من التذكر والانتباه تجعلهم يتداركون أنفسهم عند كل حالة تقصيرٍ، أو عند كل هفوةٍ أو ذنب، فيبادرون سريعاً بالتوبة والإنابة إلى الله "سبحانه وتعالى"، كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: من الآية135]، هم يتجهون بمبادرة سريعة بالإنابة إلى الله، بتدارك خطيئاتهم، أو معاصيهم، أو ذنوبهم، أو تقصيرهم، أو تفريطهم، أو تهاونهم، ولا يصرون أبداً، لا يستمرون في حالة العصيان لهذا الانتباه.

هذه الحالة الإيمانية التي عليها أنبياء الله وأولياء الله، الله يقول عن الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله": {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وهو في مقام الرسالة والنبوة والمنزلة العظيمة العالية عند الله، لكن هكذا هو الإيمان، يستذكر اليوم العظيم والعذاب العظيم.

يقول الله "سبحانه وتعالى" عن أوليائه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان: الآية10]، فيما روي في قصة الإمام عليٍّ "عليه السلام"، وفاطمة الزهراء: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}، في الحالة الذهنية، في الحالة النفسية حالة تذكر واهتمام، والتفاتة إلى ذلك اليوم الآتي.

الآخرون الذين هم في حالة غفلة، وحالة نسيان، ينتج عن ذلك استهتار من جانبهم، وتهاون في أعمالهم، في أقوالهم، في تصرفاتهم، تعرض عليهم الأعمال العظيمة، الأعمال المقربة إلى الله، الأعمال التي هي جزءٌ أساسيٌ من التزاماتهم الإيمانية والدينية، التي لا بدَّ منها في نجاتهم، في فوزهم، في الخير لهم في الدنيا والآخرة، فلا يبالون، ولا يستجيبون، تغلب عليهم حالة الإعراض، يحذرون من المعاصي، من الذنوب، سواءً ما هو منها انتهاكٌ لحدود الله، والمحرمات التي حرمها الله، أو إخلالٌ بواجباتهم ومسؤولياتهم التي عليهم القيام بها؛ لأن الله أمرهم بها، ودعاهم إليها، وهي جزءٌ من الالتزامات الإيمانية والدينية، فلا يبالون، لا يستجيبون، لا يهتمون، لا يتفاعلون، قلوبهم قاسية، ذهنياتهم متبلدة، حالة الغفلة والإعراض هي المسيطرة عليهم، حالة الانصراف الكلي نحو أهوائهم ورغبات حياتهم، التي هي متاعٌ قليل، ومتاعٌ زائل، هي المستحكمة عليهم، استحكام حالة الغفلة التي عبَّر عنها القرآن الكريم: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: من الآية1]، فتأتي معها حالة الإعراض.

من الحقائق المعروفة لدينا جميعاً، لدى كل البشرية جمعاء: أن حياتنا هنا في هذه الدنيا هي حياةٌ مؤقتة، مهما كان إعراض الإنسان وغفلته، واتجاهه في اهتماماته بشكلٍ كلي نحو شؤون هذه الحياة فحسب، مع غفلة عن أن اهتمامه بالحياة الأخرى هو لمصلحته في هذه الحياة، وفي تلك الحياة، يعني: لا يحتاج صلاح حياتك هنا في الدنيا إلى أن تتجاهل أمر الآخرة، هناك ترابط ما بين الحياة الدنيا والآخرة، تذكرك للآخرة تستقيم به حياتك هنا في الدنيا، والخلل الكبير، والتجاوز، والانتهاك للمحرمات، والإعراض عن الله، وعن منهجه، وعن هديه، عواقبه سيئةٌ لك في الدنيا، وعواقبه خطيرةٌ جداً عليك في الآخرة.

نحن في هذه الحياة في حياةٍ مؤقتة، نعيش فيها بأجل، وهذه مسألة نعرفها جميعاً، وهي حياة مسؤوليةٍ واختبار، تأتي الحياة التي هي جزاء، إما جزاء خيرٍ خالصٍ دائمٍ على أرقى مستوى، أو حالة عذابٍ شديدٍ دائمٍ أبديٍ على أشد مستوى، التي خيرها خالص وشرها خالص الحياة الآخرة؛ أما هذه الحياة فهي ميدان مسؤولية، وميدان اختبار وميدان عمل.

ونخضع في حياتنا هذه لرقابةٍ دائمةٍ من الله "سبحانه وتعالى" وملائكته، فلا يغفل عنا الله ولا للحظةٍ واحدة، ولا يغفل عنا ملائكته الذين من مهامهم الأساسية: الرقابة المستمرة علينا، وتوثيق كل أعمالنا وتصرفاتنا وأقوالنا، كما قال الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 16-18]، رقابة دائمة في ليلنا ونهارنا، في كل أحوالنا، في خلواتنا واجتماعاتنا، أينما كنا، أينما ذهبنا، أينما انتقلنا، في رقابة مستمرة، توثق فيها كل أعمالنا، كل تصرفاتنا؛ لأن هذه الحياة هي ميدان مسؤولية، الله "سبحانه وتعالى" قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك: من الآية2].

ثم تنتهي هذه الحياة، نهاية هذه الحياة بالموت، الموت هو نهاية لهذه الحياة، وهو إقفالٌ لملف العمل، لملف عملك، إقفالٌ له على ما فيه من عملٍ صالحٍ تفوز به، أو عملٍ سيءٍ وتقصيرٍ وتفريطٍ يسبب لك الخسران والهلاك، والموت أيضاً هو نهايةٌ حتميةٌ للفرصة، لا فرصة بعده أبداً، الفرصة الوحيدة التي أتاحها الله لك هي هذه الأيام التي أنت تعيش فيها، هي هذه الحياة المؤقتة، التي لها أجلها، وستنتهي، وأنت لا تعلم متى هي النهاية، متى يأتيك الموت، متى ترحل من هذه الحياة، لا تعرف ذلك، ليس هناك وقتٌ محددٌ بالنسبة لك، تعرف أن حياتك ستنتهي عنده، كل يومٍ يمكن أن يكون هو اليوم الأخير من حياتك، وكل ليلةٍ من الممكن أن تكون هي الليلة الأخيرة من حياتك، ولذلك من المهم أن يكون الإنسان في جهوزيةٍ مستمرة، في استعدادٍ مستمر، فإذا رحل في أي يومٍ من الأيام، في أي ليلةٍ من الليالي، كان جاهزاً؛ أما إذا كان الإنسان في حالة غفلة، فهي الحالة الخطيرة.

ويؤكد الله لنا ويذكرنا بهذه الحقيقة التي نراها في واقع حياتنا، ونرى في كل يوم كم أن هناك القوافل من البشر الذين يرحلون من هذه الحياة، فيقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، كل نفس، لا أحد يستطيع أن يرد ذلك، أن يدفع ذلك، أن يمنع عن نفسه ذلك، أن يستثني نفسه من ذلك، أن يُحَصِّن نفسه من ذلك، أياً كان الإنسان، لا ملك، ولا زعيم، ولا... مهما كانت إمكاناته، قدراته، ذكاؤه، مهما كان يمتلك من العلاقات، من التأثيرات، لا شيء يمكن أن يدفع عنه ذلك.

ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى": {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الواقعة: 83-87]، ولا يستطيع الناس هم أن يدفعوا عن أحدٍ ذلك، مهما كان عزيزاً لديهم، أو مهماً لديهم، لا يستطيعون أن يمنعوا عنه ذلك.

فالإنسان يجهل موعد رحيله من هذه الحيلة، موعد موته، موعد نهاية هذه الحياة، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان: من الآية34]، لكن الخطر الكبير عندما تستحكم حالة الغفلة لدى الإنسان، فلا ينتبه من غفلته تلك إلا حين يأتيه الموت، كان في حالة غفلةٍ وإعراض، ولا مبالاة، ولا اهتمام، فتفاجأ عندما أتى موعد الرحيل وهو في حالة غفلةٍ مستحكمة تامة، لم تنفع فيه في هذه الحياة حالة الأحداث والتقلبات والمتغيرات التي فيها العظة والعبرة، لم ينفع فيه أنه يشاهد ويعلم عن الكثير ممن يرحلون، قد يكون بينهم من أقاربه، من أحبائه، من أهل بلاده ممن يعرفهم، فلم يتذكر بذلك، ولم ينتفع بذلك، ولم يلتفت إلى ذلك، لم تنفع فيه المواعظ، لم ينفع فيه التذكير بهدى الله، بآيات الله "سبحانه وتعالى"، لم ينفع فيه ما كان يمر به أحياناً، الإنسان أحياناً يمر بحالات مرضية مثلاً، أو حوادث، يكون فيها تذكيرٌ له، يوشك فيها على الرحيل من هذه الحياة، يحسُّ فيها أحياناً بخطر الموت، بخطر الوفاة، بتهديدٍ مباشرٍ على حياته، فيعود إلى غفلته التامة، وعدم اهتمامه نهائياً، ثم عندما أتاه الموت بشكلٍ حقيقي، بشكلٍ نهائي، أصبحت المسألة مسألة جدية ولا مناص من ذلك، ينتبه حينئذٍ، ولكن بعد فوات الأوان، حالة خطيرة على الإنسان ألَّا ينبهه في البداية إلا أمر الموت، ألَّا ينتبه إلا بعد فوات الأوان نهائياً، هذه حالة تحصل للكثير من الناس، تحصل للكثير من الناس، حينها تكون بدايةً للتحسر، بدايةً للعذاب النفسي، انتباهاً إلى حجم الفرصة التي فوتت، وحجم الخسارة التي حدثت، فالله يذكرنا بذلك، فيذكر ذوي الغفلة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}، عندما جاءت سكرة الموت، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق: الآية19]، هذه الحالة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق: الآية22]، ينتبه الإنسان، يتذكر في تلك اللحظة الحرجة جداً، يصل إلى أعلى مستوى من التذكر والانتباه والاهتمام، ويدرك أهمية المسألة، ولكن بعد فوات الأوان.

كما يقول الله "سبحانه وتعالى" في آيةٍ أخرى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، أنفقوا؛ لأن هذا لمصلحتكم، أنتم تقدمون لأنفسكم، {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون: الآية10]، يطلب التأخير ولو لمهلة قريبة، ولو لم تكن طويلة، البعض قد ربما يتمنى من الله أياماً، أياماً يصلح فيها بعض أموره، أو فترةً وجيزة، ولكن لا يمكن أبداً أن يحصل على أي تأخيرٍ إضافي.

{لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}؛ لأنه يدرك حينها قيمة ما ينفق ويقدم ويتصدق به في نجاته، في مستقبله الأبدي.

{وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}: أصلح نفسي، وأصلح أعمالي، وأكن في زمرة الصالحين، لكن هل يفيده هذا الطلب؟ مهما كان ملحاً، مهما كان من أعماق قلبه، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المنافقون: الآية11]، ولذلك الموت هو نهايةٌ للفرصة الوحيدة التي لا تعوض، مهما طالب الإنسان؛ لأن الإنسان يطالب بهذه الفرصة، وبإضافة فرصة جديدة، في تلك اللحظات عند الموت، يطلب في يوم القيامة، يطلب حتى في نار جهنم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}[فاطر: من الآية37]، يطالبون بإلحاح، باستغاثة، بتضرع، فيرد الله عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا}[فاطر: من الآية37]، الفرصة هي هذه الحياة التي أنت فيها، هي هذه الساعات التي تهدرها، هي هذا الوقت الذي تضيعه، هذه هي فرصتك، وهذه الأعمال التي تعرض عليك ومنها أعمالٌ عظيمة في ميزان الحسنات، في أسباب النجاة، في عوامل القرب من الله "سبحانه وتعالى"، ثم لا تتفاعل معها، الإنسان بحاجة إلى أن يدرك أهمية هذه الحقيقة؛ ليتلافى نفسه، وليستعد مبكراً.

محطات التذكر التي تأتي متأخرة: عند الموت، عند البعث في يوم القيامة، لا تجدي الإنسان شيئاً، لا تجديه شيئاً، تصبح جزءاً من عذاباته النفسية الشديدة، وندمه العميق الشديد؛ لأنه أدرك أنه كان بإمكانه أن يغتنم الفرصة، أنَّ الله أعطاه الفرصة فلم يغتنمها.

{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 21-24]، في الدنيا كانت تأتيك المواعظ، يأتيك التذكير، كانت تأتيك الفرص، يأتيك شهر رمضان، تأتيك الأعمال التي تعرض عليك، أعمالٌ عظيمة، جهادٌ في سبيل الله، إنفاقٌ في سبيل الله، أعمالٌ صالحة تعرض عليك، فيها فوزك، فيها نجاتك، فيها فلاحك، وعد الله عليها بجناته، يقول لهم: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[آل عمران: من الآية15]، وعد عليها بالسلامة من عذابه، فكنت أنت ذلك المعرض، المستهتر، اللامبالي، والبعض النافر حتى، الذي ينفر من ذلك، ويستاء من ذلك، وكأن الإنسان أساء إليه، عندما يعرض عليه عملاً عظيماً، فيه فوزه، فلاحه، نجاته، صلاح حياته في الدنيا والآخرة، الخير له عند الله "سبحانه وتعالى"، فتستحكم حالة الغفلة لدى البعض، فلا يكترث، لا يتذكر أنَّ حياته الأبدية المهمة آتية، وأنها هي الجديرة بأن يستعد لها؛ لأنها هي التي خيرها خالص، أو شرها خالصٌ وأبديٌ.

فحينئذٍ بعد كل هذه الأحداث، {دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}: تغيرت معالمها بشكلٍ تام، أصبحت ساحةً للحساب والجزاء، أتى أمر الله، أتى حسابه، وأتت ملائكته، وقامت عملية الحساب على قدمٍ وساق، حساب مكثف لكل الخلائق، في تلك المتغيرات التي تأتي فيها جهنم، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، رأى جهنم، رأى عذاب الله الأكبر، رأى المصير الأبدي المظلم، المصير السيئ، المصير الذي هو كله عذابٌ رهيبٌ شديدٌ أليم، وحينها تذكر، حالة خطيرة ألَّا يتذكر الإنسان إلَّا عندما يرى جهنم، غفلة خطيرة على الإنسان، حينها لا ينفعه التذكر، التذكر ينفعك هنا، عندما تذكر بآيات الله فلا تعرض عنها، لا تكن من أولئك الذين إذا ذكروا بها أعرضوا عنها، لا تكن من أولئك الذين قال الله عنهم: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ}[الصافات: الآية13]، لا يكن حالك كمثل من قال الله عنهم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}[الكهف: من الآية57]، هنا عندما تتذكر بآيات الله، فتتجه وأنت في فرصة هذه الحياة للأعمال التي فيها نجاتك، فلاحك، الخير لك في الدنيا والآخرة، تعيش من خلالها الشعور بقيمة هذه الحياة، وأنت على صلةٍ بالله "سبحانه وتعالى"، في الأعمال الصالحة، في الأعمال العظيمة التي تسمو بها، تشرف بها، تعتز بها، تتحقق لك بها كرامتك الإنسانية، وفي الآخرة: الجنة، السلامة من عذاب الله، النعيم العظيم، الفوز العظيم، هنا الفرصة لك أن تتذكر.

أمَّا إذا استحكمت غفلتك، واستمر اعراضك، فحينها تتذكر عندما يُجَاء بجهنم، ما الذي يفيدك تذكرك حينئذٍ؟! {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، حينئذٍ لم يعد وقت التذكير، ولا وقت المحاضرات، ولا المواعظ، ولا النصائح، انتهى كل شيء، لم يبق إلَّا الجزاء، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: 24-26].

ولاحظوا من الإشكاليات لدى الكثير من الناس، عندما يأتي الحديث عن الآخرة، عندما يأتي التذكير والإنذار بالآخرة، بالحساب، بالجزاء، التذكير بوعد الله ووعيده، البعض كأن ذلك لا يعنيهم هم، كأنهم ليسوا معنيين، فليسوا ممن سيموتون، ولا ممن سيبعثون، ولا ممن سيحاسبون، ولا هم مجزيون، كأنهم خارج هذه الأمور بكلها، هذه حماقة من البعض، اعراضٌ وغفلةٌ وحماقةٌ لا تجديهم شيئاً، لا تنفهم شيئاً، لا تدفع عنهم شيئاً، يوم القيامة الحضور إجباري، إجباري على الجميع، ليس هناك من مناص.

أيضاً البعض يعيشون هذه الحالة من الإعراض ومن الغفلة، وكأنك عندما تتحدث عن الآخرة تتحدث عن شيءٍ بعيد جداً، شيء لم يحن الوقت بعد للاهتمام به، للالتفاتة إليه، للتركيز عليه، للانتباه له، سيأتي فيما بعد... هكذا ينظرون باستبعاد كبير، يرون المسألة بعيدة جداً، ولم يحن الوقت بعد، ونحن مشغولون الآن بأمور أخرى، مع أنَّ الأمور الأخرى مهما كانت لا تعيق الإنسان عن أن يحسب حسابه ليوم القيامة.

الله "سبحانه وتعالى" يقول: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، المسألة قريبة، لا تنظر للمسألة وكأنها بعيدة، متى ستأتي القيامة ويوم القيامة، والحساب والجزاء والنار، شيءٌ هناك بعيد جداً، لم يحن الوقت أن أشغل نفسي به، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}[القمر: من الآية1]، نحن هذه الأمة (أمة محمد) آخر الأمم، نحن في هذا الزمن في الحقبة التاريخية الأخيرة من الحياة البشرية ولهذا كان رسول الله محمدٌ "صلى الله عليه وعلى آله وسلم" خاتم النبيين وتمام عدة المرسلين لاقتراب القيامة، لاقتراب الساعة، هو من أشراطها، قد جاء أشراطها، هو من علاماتها، من علامات قربها؛ لأنه آخر الأنبياء والرسل، فالمسألة قريبة، والقيامة ستأتي فجأة وبغتة وفي وقتٍ غير متوقع، يتفاجأ بها الناس، يتفاجأ بها البشر، لا تأتي في وقتٍ محدد معلوم، لا يعلمها إلا هو، يختص الله "سبحانه وتعالى" وحده بعلمها، {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}[الأعراف : من الآية187]، فهي تباغت الناس، والكثير من الناس- إن لم يكن كلهم عندما تأتي- تأتي وهم في وضعٍ من الغفلة وعدم التوقع نهائياً أن قد أزف وقتها، هذا ينهبنا على أهمية الاستعداد والجهوزية المستمرة.

كذلك الموت، الموت هو الفاصل الذي يفصل الناس عن قيام الساعة، من لا يدركونها مباشرةً فبينهم وبينها فاصل الموت، الموت فاصلٌ قصيرٌ جداً، الإنسان الذي كان يتوقع أن المسألة بعيدةٌ جداً، سيكون متفاجئاً باستشعاره لقربها جداً، الغافلون سيلحظون كم أن الوقت مرَّ بسرعةٍ عجيبة وأتى عالم الآخرة، فالحالة التي تفصلك عنها من خلال الموت هي أشبه ما تكون بنوم ليلةٍ، أو ببعضٍ من ليلةٍ، بعضٍ من يوم، فتشعر بكل مشاعرك، بكل مشاعرك وكامل إحساسك وكأنه لم يكن بينك وبين القيامة إلا مدة وجيزة قصيرة جداً، وأنها سرعان ما أتت، حتى أنهم يتفاجؤون بذلك، والله أكد لنا هذه الحقيقة يوم القيامة في مشاعرهم، في إحساسهم، في حساباتهم، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، يعني: تصور حالة الاستشعار لديهم إلى درجة وكأنهم كانوا متأكدين تماماً أن الوقت الذي مرَّ من لحظة مماتهم إلى لحظة بعضهم كان لساعةٍ واحدة، ويقسمون على ذلك، هذا هو شعورك عن الفترة التي مررت بها ما بين موتك وبين بعثك.

والبعض إذا زاد الوقت لديهم، كما قال الله عنهم في القرآن الكريم: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ}، يتحدثون فيما بينهم بصوت هادئ، الكل في حالة هدوء، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه: من الآية108]، فلذلك لا يرفعون أصواتهم؛ إنما يتحدثون بأصوات منخفضة جداً وهم يتعجبون من سرعة مجيء القيامة، كيف أتى عالم الآخرة بكل هذه السرعة! فيختلفون على الحساب، تختلف تقديراتهم لحساب الزمن الذي مر من لحظة مماتهم إلى لحظة المبعث.

{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه: الآية103]، هذه أكبر تقدير لدى بعضهم، يعني: الذي قد طوَّل المدة الزمنية جداً بحسب تقديراته، فيقول عشراً، مقدار عشر ليالي تأخر الوقت، لاحظ مقدار العشر الليالي عندك في هذه الحياة، في سفر، أو في عمل، أو في مرحلة زمنية يقترن بها عمل معين، يعني: وقت وجيز، وقت وجيز، وكأنه لم يكن هناك... ولكن هذه تقديرات البعض منهم فقط الذين تصوروا أن قد قدروا أطول مدة، أطول مدة.

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً}، الأذكياء فيهم، الذين لديهم دقة في الحسابات والتقديرات، أكثرهم دقة في الموضوع، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}[طه: الآية104]، من لديه اعتماد على اعتبارات ومستندات في حساباته فهو يقدر المسألة بأقل من ذلك، ليس عشراً، يوماً، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}.

هكذا هي تقديرات الإنسان يوم القيامة، يراها أتت بسرعة، وكأنه لم يكن الفارق الزمني عنها سوى يوم، أو ساعة، أو عشيةً، أو ضحاها، بحسب الاختلافات في التقديرات لديهم، والذين أكثروا وبالغوا في نظرهم وتقديراتهم قالوا عشرا، عشرة ليالي مثلاً مرت، فهي سريعة، والإنسان سيراها سريعة وقريبة، يراها قريبةً جداً عندما تأتي.

في ذلك اليوم، في يوم القيامة، يوم الحساب، هو ليس يوماً لمهرجانٍ يجتمع فيه البشر لأمور عادية، هو يوم الفصل، يوم الحساب، والكل سيحضر غصباً عنه، رغماً عنه، لا يمكنك الامتناع عن الحضور، أو التخفي، أو التهرب، أو التملص، كم أنت في الدنيا تتملص، تتهرب من أعمال عظيمة، من أمور مهمة، أو أحياناً تتعقد من بعض الأمور، فتجلس حبيس المنزل ممتنعاً عن كل عملٍ يرضي الله "سبحانه وتعالى"، يوم القيامة ستحضر رغماً عنك، راضياً، ساخطاً، بأي حالٍ أنت، {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية32]، الكل يحضر، ويحضّر للحساب ورغماً عنه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم: الآية93]، الكل بلا استثناء، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم: الآية94]، ليس هناك نسيان لأحد، أو غفلة عن أحد، أو خرج من الكشوفات والحسابات فنسي، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم: 94-95]، فالمجيء للكل.

ولذلك حسرة الغافلين والناسين والمعرضين حسرةٌ رهيبة يوم القيامة؛ لأنهم نسوا ذلك اليوم؛ لأنهم لم يستعدوا له، لأنهم لم يدركوا قيمة الفرص التي أتاحها الله لهم في هذه الحياة، أتاهم النذير، أتاهم التحذير، أتاهم التذكير فأعرضوا، أتتهم الفرص، لاحظوا كم يمنحنا الله من فرص، يأتي شهر رمضان أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، لياليه أفضل الليالي، ساعاته أفضل الساعات، الأعمال فيه مضاعفةٌ جداً، وفيه ليلة القدر، تأتي أيضاً الأعمال العظيمة التي تعرض على الناس، مثل الجهاد في سبيل الله، الإنفاق في سبيل الله، الأعمال الصالحة التي تثقل موازينهم يوم القيامة، التي وعدهم الله عليها بالأمن يوم الفزع الأكبر، بالاطمئنان يوم اضطراب القلوب يوم القيامة، تكاد القلوب أن تخرج من الصدور، من رقابهم، عندما تنشب في حلوقهم من شدة الفزع، يعد الله بالأمن، بالطمأنينة، بالجنة، بذلك النعيم العظيم الذي وصفه في الجنة، فلا يلتفت البعض، ولا يهتمون، ويعرضون، ويغفلون، هناك سيتحسرون ويندمون، ويقول الله لهم: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}[السجدة: من الآية14]، نسيان، غفلة، عدم اهتمام، عواقبه الندم الشديد.

نكتفي بهذا المقدار...

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله "سبحانه وتعالى" أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ -2022م 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

في سياق الحديث عن التقوى وعن المتقين فيما قدَّمه القرآن الكريم من علاماتهم، وصفاتهم، ونماذج من أعمالهم، وكذلك فيما عرضه مما وعد به الله "سبحانه وتعالى" عباده المتقين، وردت آياتٌ مباركة في سورة آل عمران، وفيها يتم الفرز بين التوجهات والاهتمامات لدى المتقين، وما يصلون من خلال ذلك إليه من الفوز العظيم، والنتائج المهمة، وما عليه غيرهم من الاهتمامات والتوجهات، التي نتائجها محدودة، ويعقبها الخسران.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: 14-17].

بدءاً بقوله "سبحانه وتعالى": {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}، الشهوات: هي غرائز لدى الإنسان، تدفعه غريزياً ونفسياً إلى متعلَّقات ومتطلبات هذه الحياة في جانبها المادي، سواءً على مستوى الحياة الزوجية، والحياة الأسرية، أو متطلبات هذه الحياة، مما يحتاج إليه الناس، من المال الذي يعتمدون عليه كنفقات في حياتهم، من الحرث والثروة الزراعية وما ينتج عنها، الثروة الحيوانية وما ينتفعون فيها من المنافع المتنوعة والمتعددة مما أنعم الله به عليهم، هي شهوات غريزية، والإنسان يندفع إليها غريزياً، ولكن المشكلة عندما تأتي حالة التزيين للشد إلى تلك الشهوات والمتطلبات والرغبات بشكلٍ كبير، حتى يتوجه إليها كل الاهتمام، كل التركيز من جانب الإنسان، وهذا ما يحصل للكثير من الناس، تتوجه كل اهتماماتهم، وتُستَغرَق كل جهودهم، وكل تفكيرهم، كل تركيزهم في هذه الحياة نحو هذه الشهوات، وهذه الرغبات، فيؤْثرون هذه الرغبات والشهوات، يُؤْثرونها على آخرتهم، إلى درجة أنه من الممكن أن ينحرفوا عن خط التقوى، أن يخدموا الباطل، أن يقعوا في الحرام، أن ينتهكوا حدود الله "سبحانه وتعالى"، أن يرتكبوا المعاصي بكل أشكالها وأنواعها، أن يتحمَّلوا الآثام والأوزار؛ بغية تحقيق أهدافهم ورغباتهم ومتطلباتهم المادية، فهذا يحصل للكثير من الناس، مع أنَّ الكثير لا يصلون أصلاً إلى مبتغاهم من ذلك، ومن يصلون إلى مستويات معينة، فيصبحون مثلاً أثرياء ومتمكِّنين، لا تنتهي أطماعهم، ولا يصلون إلى حد القناعة أصلاً، فهم يبتغون المزيد والمزيد، ولا يصلون إلى درجة أن يشعروا بالتمتع الكافي بكل ما قد حصلوا عليه، وتمكنوا منه، بل لا تزال تدفع بهم الأطماع والرغبات والشهوات نحو المزيد والمزيد، وما أكثر الذين يدفعهم ذلك إلى ارتكاب الآثام والمعاصي، وإلى استخدام الوسائل المحرمة، وإلى تجاوز شرع الله وتعاليمه وتوجيهه، ولا يصلون في نهاية المطاف إلى نتيجة؛ لأن كل هذه النعم، وكل هذه المتع، هي منافع مؤقتة في هذه الحياة، ويجب أن يستوعب الإنسان هذه الحقيقة؛ لأنها منافع مؤقتة، كما قال الله "سبحانه وتعالى": {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فهي منافع يعيش عليها الإنسان لمرحلةٍ مؤقتة، وبِقَدَرٍ معين، بمستوى معين.

ولذلك هناك فرق بين من يتجه إليها ويجعل منها كل مأربه في هذه الحياة، كل مطلبه، كل رغباته، كل اهتمامه، يتوجه كلياً نحوها بكل اهتماماته وتركيزه، فيجعلها هي الأساس، الأساس في اهتماماته، الأساس في أعماله، الأساس حتى في مواقفه، الأساس حتى في ولاءاته، يبني على هذا الأساس كل اهتماماته وتوجهاته في هذه الحياة، وبين نظرة المتقين، الذين ينظرون النظرة الواقعية، النظرة الصحيحة، على هدىً من ربهم، فيرون فيها منافع مؤقتة، لا ينبغي أن يتجه الإنسان إليها هي ليجعل منها غاية، ليجعل منها نهاية السؤول، وغاية المأمول، فيتوجه بكل اهتماماته نحوها، هي منافع لحياةٍ مؤقتة، ومنافع في أصلها مؤقتة، وكثيراً ما يشوبها الكثير من المنغصات.

وإذا اتجه الإنسان ليجعل منها وسيلةً لا غايةً، وتعامل معها بشكلٍ صحيح؛ فإنه سيستفيد ويكسب بدلاً من أن يتحمل الأوزار والآثام، يستفيد من ذلك الأجر والمثوبة عند الله "سبحانه وتعالى"، والإنسان يستطيع أن يجعل مثلاً من حياته الزوجية حياةً راقيةً ساميةً في إطار التقوى، يجعل من حياته الأسرية حياة راقيةً ساميةً في إطار التقوى، يجعل من اهتماماته المعيشية في هذه الحياة اهتماماتٍ موزونةً بمعيار التقوى، ومضبوطةً بمعيار التقوى، فيكون كل سعيه في ذلك موزوناً بالضوابط الشرعية، وبأهداف عظيمة، أهداف سامية، مثلما يأتي عن حال المتقين في مواصفاتهم، كيف يتعاملون تجاه ما منحهم الله إياه، وما مكنهم فيه،

أمَّا غيرهم فهم يتجهون بشكلٍ كلي، وباهتمامٍ كامل نحو متع هذه الحياة ومتطلباتها المعيشية والمادية، ويتحول كل اهتمامهم إلى اهتمامٍ مادي، فيتحول الأساس عندهم في اهتماماتهم، في مواقفهم، في أعمالهم، في ولاءاتهم، في عداواتهم، نحو الجانب المادي، هو الأساس عندهم، يحبون عليه، ويبغضون عليه، يتجهون فيه بكل الاهتمامات، هو المحسوب لديهم من وراء كل عمل، من وراء كل سعي، من وراء كل موقف، حساباتهم كلها حسابات مادية.

مع أنَّ الكثير- كما قلنا- لا يصلون إلى مبتغاهم من ذلك، فالبعض قد لا يمتلك في هذه الدنيا ولا حتى جراماً واحداً من الذهب، دعك عن القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، التي يمكن أن تمثل ثروةً هائلة، القنطار يقال- في بعض التقديرات- أنه ما يعادل مليء جلد ثور، يعني: كمية كبيرة جداً، والقناطير المجمعة، قنطار على قنطار على قنطار، يعني: أعداداً كبيرة من القناطير المجمعة من الذهب، أو المجمعة من الفضة، فالقليل من الناس الذين قد يصلون إلى امتلاك ثروات هائلة مادية ومالية، وأكثر الناس وأغلبهم حتى ممن سخَّروا كل اهتمامهم النفسي والذهني، وكل جهدهم العملي، نحو الحصول على متع هذه الحياة وثرواتها، هم يعيشون حالةً من البؤس، والعناء، والشقاء، وكما قلنا: قد لا يمتلك الكثير من الناس ولا مقدار جرام واحد من الذهب، ولا من الفضة.

ولذلك من الخطأ، ومن الخسران، ومن الحماقة، أن يتجه كل اهتمام الإنسان إلى الجانب المادي، فيجعل منه الأساس في أعماله، في مواقفه، في مسيرة حياته في هذه الحياة؛ لأن الإنسان لا يحتاج إلى ذلك أصلاً، لا يحتاج إلى أن يجعل من ذلك كل اهتمامه، أن يستغرق كل الجهد، وكل الاهتمام، وكل التركيز، بل أن يحوِّل حتى واقعه النفسي إلى راغبٍ كل الرغبة إلى نحوٍ غير طبيعي، إلى نحوٍ مفرط، هذا يحصل للبعض، حبه للمال، حبه لمتع الحياة يتحول إلى حالة رهيبة جداً من الحب الشديد، والطمع المفرط، طمع رهيب جداً، يفعل من أجله أي شيء، يرتكب من أجله أي معصية، وهذا يحصل للبعض إلى حدٍ رهيب.

لاحظنا مثلاً خلال هذه المدة مع العدوان على بلدنا، كيف كان البعض مقابل الحصول على شيءٍ من المال، قد يرفع احداثيات يتسبب فيها في استشهاد عدد كبير من الأبرياء من الأطفال والنساء، فينتج عن ذلك جرائم رهيبة جداً، وجرائم وحشية جداً، جرائم فظيعة للغاية، وكل ذلك من أجل أن يحصل على قليلٍ من المال، البعض يخون دينه، يخون أمته، يخون شعبه، يقف في صف الباطل، يسهم في ارتكاب الجرائم، يسهم في أن يلحق بشعبه الكثير من الظلم، بأمته الكثير من الظلم، مقابل أن يحصل على مكاسب مادية، أن يصل إلى تلك الرغبات.

ولربما- في واقع الحال- منشأ أغلب الجرائم، أغلب المفاسد، يعود إلى تلك الرغبة المادية الرهيبة، إلى ذلك التوجه المادي الكبير، الذي ينسى الإنسان معه كل شيء: ينسى الدار الآخرة، ينسى الله، ينسى الحساب، ينسى الجزاء.

في إطار التوجه المادي، والطمع المادي، والرغبات المادية، البعض يظلم حتى قريبه، شريكة في الإرث مثلاً، يظلم أخته، فيستحوذ على حصتها من الإرث، يظلم ابنته، فيأخذ مهرها، ويأكله سحتاً حراماً، يظلم أخاه القريب، أو الصغير؛ لأنه استطاع أن يخادعه ويغالطه فيأخذ من حصته من الإرث، أو يخفي عنه وثائق، فيصادر عليه بعضاً من الممتلكات؛ لتلبية أطماعه وأهوائه ورغباته.

ثم على المستوى الكبير: مستوى الدول، مستوى أنظمة، مستوى كيانات، تدفع بها أطماعها وأهواؤها ورغباتها المادية إلى أن ترتكب بحق الشعوب الأخرى، بحق الأمم الأخرى، الظلم، والجرائم، وأفظع الانتهاكات، نتيجةً لتلك الأطماع الرهيبة، والأهواء الكبيرة.

بينما نجد كيف أنَّ التربية الإيمانية، التربية على التقوى- ونحن في شهر التقوى- تجعل الإنسان يتعامل بتوازن، وواقعية، ويحسب حسابات أكبر، حسابات أعظم، حسابات أهم؛ لأن الذين يتجهون إلى هذه الرغبات المادية، وتتحول كل اهتماماتهم، وكل جهودهم، وكل مساعيهم نحو الجانب المادي، هم يتعاملون وكأن هذه الماديات وهذه الحياة هي كل شيءٍ، ولا شيء بعدها، فيريدون أن يغتنموا الفرصة، وأن يغتنموا هذه الحياة وهذه المتع إلى أقصى حد.

والله "سبحانه وتعالى" قال: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، بعد أن بيَّن لنا أنَّ هذه المنافع في هذه الحياة هي محدودة، هي مؤقتة، والحياة بكلها مؤقتة، وستنتهي، والإنسان مهما حصل عليه من الإمكانيات المادية، هي لفترة مؤقتة، وسيفارقها، فهناك عند الله "سبحانه وتعالى" {حُسْنُ الْمَآبِ}: حسن المرجع، الذي يتحقق فيه للإنسان من النعيم، والحياة الطيِّبة، والمتع السامية والحقيقية والعظيمة والراقية، ما يتميز عن كل متع هذه الحياة، وعن كل مادياتها، يتميز ما عند الله "سبحانه وتعالى" بأنه أرقى، وأعظم، وأسمى، وبأنه أكبر وأكثر، وبأنه يدوم ويبقى ولا يفنى، وهذا يفترض به أن يكون دافعاً كبيراً لرغبة الإنسان؛ لأنها في الأساس مشتهيات، لكن يأتي الشد إليها، ويأتي الإغراء بها في الدنيا، الإغراء بها والشد إليها في عملية التزيين التي تدفع البعض إلى أن يؤْثرها حتى على الآخرة، وكذلك تتحول إلى عائقٍ لدى البعض الآخر، عائق عن أن يستجيب للحق، عن أن يستجيب لله "سبحانه وتعالى"، عن أن يتحرك في طريق الحق، عن أن يقف موقف الحق، الكثير من الناس أكبر عائقٍ له عن أن يقف موقف الحق، هو: حساباته المادية، ومصالحه المادية، ومخاوفه على الإمكانات المادية... وما شابه.

{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، نحن عندما نستجيب لله "سبحانه وتعالى"؛ لن نخسر، ليس معنى ذلك أنه سيحرمك من الخير، مما تشتهيه أنت بغريزتك الإنسانية، في الدنيا يمنحك من رزقه، من فضله، من رعايته، أمَّا في الآخرة فما هو أعظم، وهو الذي يجب أن تتطلع إليه أكثر، فما في الدنيا ترى فيه وسيلةً وليس غاية، وسيلةً تبتغي به الدار الآخرة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}[القصص: من الآية77]، وتعمل فيه في إطار التقوى، ليس هو الهدف، الهدف هي الدار الآخرة، هو وسيلة لهذه الدنيا.

{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، ولذلك يزيِّن الله لنا ما هو خيرٌ حقيقيٌ، وعظيمٌ، وكبيرٌ؛ لأن الإنسان يحب الخير لنفسه، فحتى بحساب غرائزنا المادية، رغباتنا المادية، شهواتنا، فالله يعرض علينا ما هو أعظم، وما هو أبقى وأدوم، وما هو أرقى وأسمى، ولهذا يقول: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، العادة عند الإنسان إذا كان يحب شيئاً، وعُرِضَ عليه ما هو خيرٌ منه، يعني: أشياء مادية، لكن هناك أشياء مادية أعظم منها، أفضل منها، أسمى منها، {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، الشيء الطبيعي أنَّ الإنسان يتفاعل، ما دام عُرِضَ عليه ما هو أعظم مما هو منشدٌ إليه أصلاً، مما يرغب فيه أصلاً، مما يشتهيه أصلاً، {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ}، {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، يعني: الخير الذي يعرضه الله علينا، وهو خيرٌ من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، خيرٌ مما في هذه الدنيا من كل الثروات المادية الهائلة، التي لا يصل إليها أكثر الناس أصلاً، أكثر الناس يبتعد عن تقوى الله "سبحانه وتعالى"، وتضيع جهوده في هذه الحياة وهو لا يزال تحت خط الفقر طول مسيرة حياته، أو في مستوى محدود من الإمكانيات الضرورية، أو نحواً منها، ويخسر مع ذلك آخرته، وهو لا يحتاج إلى أن يخسر آخرته؛ لأنه- كما قلنا- يمكن للإنسان أن تكون اهتماماته المعيشية مهما بلغت في إطار التقوى، مهما مكَّنه الله فيه، مهما أنعم به عليه، لا يخرج عن إطار التقوى، تبقى وسيلة، ولا تتحول إلى غاية.

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ}، فهذا الخير الذي يعرضه الله علينا ثمنه التقوى، ثمنه التقوى، وسيلة الوصول إليه هي التقوى، الطريق للحصول عليه هو بالتقوى.

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، من عطائه، برحمته، بفضله، بكرمه، برضوانه، ما يعطينا في هذه الحياة يعطينا على أساس الاختبار، ليختبرنا فيه، ويبقى ضمن ظروف هذه الحياة، ما فيها من المنغصات، ما فيها من المشاكل، ما فيها من العناء، والذين بأيديهم ثروات وإمكانيات يحتاجون إلى الجهد، إلى العناء الدائم، إلى الشغل المكثف، إلى الاهتمامات الدائمة... إلى غير ذلك، يحتاجون إلى أن يقدِّموا لذلك الكثير من همهم، من تفكيرهم، من جهدهم العملي.

أمَّا الذي يعرضه الله "سبحانه وتعالى"، فيقدِّمه لك برضوانه، برحمته، بكرمه، بفضله، فيكون شيئاً عظيماً جداً من عطاء الله.

{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، جناتٌ في جنة الخلد، جناتٌ وبساتين عظيمة، شاسعة، فسيحة، كبيرة، ليست كما هو حال الكثير من الناس، الأغلب من الناس ما يمتلكونه مثلاً من إمكانات مادية، قد يكون قليلاً من المزارع، قليلاً من المدرجات الزراعية عندنا في الأرياف في اليمن، لا تكاد تتسع للثور إذا دخل إليها ليشتغل فيها، ضيِّقة وصغيرة، فيها القليل من أشجار القات، أو البن، وإذا بُذرت فيها البذور، كان محصولها من القمح، أو من الذرة، شيئاً يسيراً، وكم أخذت من الجهد، وكم أخذت من العناء، وكم أخذت من العمل.

أمَّا تلك فهي {جَنَّاتٌ}: بساتين في جنة الخلد، بساتين شاسعة، هائلة، كما قال عنها في آياتٍ أخرى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[محمد: من الآية15]، فيها من كل الثمرات، ومن كل أصناف الفواكه، وعلى مستوى راقٍ عظيم، مثمرة بشكلٍ مستمر، {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}[الواقعة: الآية33]، كما قال عنها أيضاً في سورة الرعد: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}[الرعد: من الآية35]، الثمر مستمر، والأوراق- كذلك- ليست فقط لمواسم معينة، ثم تهل وتيبس في مواسم أخرى، وأوقات أخرى، هي مثمرة على الدوام بطيب الثمر، بدون عناء، بدون جهد، ولا تتساقط أوراقها، ولا تحتاج إلى عناء، لا في تحصيل الماء لها، ولا في العناية بها، من دون عناء.

{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، الأنهار تجري من تحتها باستمرار، فالماء متوفر، لا تحتاج إلى عناء في سقيها، تحتاج إلى بئر، ثم البعض إلى بئر ارتوازية، إلى بئر ارتوازية عميقة، البعض قد لا يمتلكون ذلك، فيعانون أشد المعاناة في توفير الماء لها، المياه تجري من تحتها بشكل أنهار غزيرة متدفقة، في منظرٍ بهيجٍ وخلَّاب، وارتواءٍ دائم، لا تظمأ أبداً، تلك الأشجار في حالة ارتواء دائم، مورقة، مونقة، مثمرة على الدوام، بدون عناء، وعلى مستوى واسع، على مستوى واسع.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، ليست لفترات مؤقتة، تنتهي عليك، أو تفارقها أنت، تخلد في ذلك النعيم الواسع جداً، الذي فيه من كل الثمرات، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}[البقرة: من الآية25]، تعيش للأبد، بدون مرض، بدون هموم، بدون أوجاع وأسقام، بدون حمية غذائية تمنع فيها من بعضٍ من الفواكه، أو ينتج لك أمراض معينة، تمنع عليك فواكه معينة، ذلك أمرٌ مختلف، هناك لا حمية، ولا مشاكل، ولا مشاكل صحية، ولا معاناة، ولا نزاعات، ولا خلافات، ولا صراعات، تهنأ بذلك النعيم، بدون أي منغِّصات، تعيش في ظروف مستقرة، ليس فيها أي صراع، أي هموم، أي معاناة، أي أذية، أي مشاغلة، أي ازعاج، لا يحصل لك هناك أي إزعاج من أي أحد، ولا بأي شيء، حياة هنيئة، ولا آلام، ولا أمراض، ولا أسقام... ولا أي شيءٍ من المعاناة، ولا أي شيءٍ من المعاناة، حياة تهنأ فيها بذلك النعيم.

{خَالِدِينَ فِيهَا}، فلا يعانون من الهرم، ولا من السقم، ولا من المرض، ولا من الموت، ولا من الشيخوخة، يبقون في صحة دائمة، يهنؤون بذلك النعيم للأبد.

فعندما تقارن، من خلال هذه المقارنة يتضح لك أنَّ الله يعرض عليك ما هو خيرٌ لك، كما قال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}.

{خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، الحياة الزوجية هناك حياة راقية، وسليمة من كل العيوب، وسليمة من كل الشوائب.

{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}، ومع النعيم المادي، ما يجعله نعيماً حقيقياً وعظيماً وسامياً، هو النعيم المعنوي، أنَّ كل ذلك يحصل بتكريم من الله، وأنَّ الذين اتقوا يعيشون في ظل تلك الحياة السعيدة، الهنيئة، الطيِّبة، التي يتوفر فيها النعيم، وكل المشتهيات على أرقى مستوى، كما قال في آيةٍ أخرى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}[النحل: من الآية31]، {مَا يَشَاءُونَ}، كل أصناف النعيم، كل أصناف المشتهيات والرغبات على أرقى وأسمى مستوى، حياة طيِّبة، ولكنها كلها برضوانٍ من الله "سبحانه وتعالى"، بتكريم، بتكريم، الإنسان هناك يعيش في حالة التكريم تلك، كما قال في آيةٍ أخرى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان: الآية20]، {وَمُلْكًا}، على هيئة الملوك، كأنك هناك ملك، كأنك أمير، كأنك، يعني تحس بأن لك كرامة، بأن لك قدراً، بأن لك احتراماً، شخصية محترمة في الجنة، الكل يحترمك ويقدرك حتى ملائكة الله تحترمك وتقدرك، تُحِسُّ بتعزيز، بإكرام، بتقدير، حتى ظروف الحياة هناك، أساليب المعيشة، تقدم إليهم موائدهم بصحافٍ من ذهب، يخدمون لا يحتاجون إلى العناء في توفير احتياجاتهم ومتطلباتهم، هناك غلمان متخصصون في خدمتهم وتقديم كل ما يحتاجون إليه.

حالة التكريم، الحالة التي يعيشون فيها نتيجة رضا الله عنهم، ما يعبر عن ذلك الرضوان، وما يتجلى به ذلك الرضوان، يلمسونه بشكل رعايةٍ واسعةٍ من الله فيها كلها تكريم، تكريمٌ لهم، يعيشون معززين مكرمين، ينالون ما ينالونه، ويقدم لهم ما يقدم من النعيم في كل أجواء ذلك التكريم والرضوان.

والله "سبحانه وتعالى" برضوانه عنهم يرعاهم برعايةٍ عجيبة؛ لأن مسألة الاستضافة لمن أنت راضٍ عنه وتحبه وتقدره، تدفعك مثلاً- على سبيل المثال التقريبي والصورة التقريبية لنا- إلى أن تهتم به اهتماماً واسعاً، يعني: اهتماماً غير عادي، مثلاً: في واقع الحياة قد يكون لدى الإنسان اهتمام بضيوفه، أي ضيف، لكن عندما يكون هذا الضيف من تحبه، من ترضى عنه، من تقدره، من تعزه، فأنت أكثر حرصاً على أن تعتني به أكثر، أن تدفع عنه ما يؤذيه، أن تدفع عنه ما يزعجه، أن توفر له ما يرغب فيه بحسب إمكاناتك وقدراتك.

أما الله "سبحانه وتعالى" فهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وذو الفضل الواسع العظيم، وهو على كل شيءٍ قدير، ومع ذلك كما قال: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ففي الجنة هو بصيرٌ بعباده الذين اتقوا، يعلم ما يسرهم، يعلم ما يرتاحون به، ما يناسبهم، ما يلائمهم، ما يفرحون به، وقادرٌ على تحصيل ذلك، على أن يخلق ذلك، على أن يمنَّ عليهم بذلك، على أن يكرمهم بذلك، عالمٌ بخصائص النفس البشرية، ما يناسب كلاً منهم، وما يرتاح به، وما يفرح به، وما يناسبه، فينعم به عليه، وعالمٌ في الدنيا بحال الذين تتوجه كل اهتماماتهم مادية، فقادرٌ على أن يحوِّل اهتماماتهم تلك وأطماعهم تلك التي نسوا معها الله، ونسوا معها الدار الآخرة، وحولوا تلك المتع وتلك الرغبات إلى غاية، حولوها إلى غاية، يتوجه نحوها كل اهتمامهم، كل سعيهم، أن يحولها إلى عذابٍ لهم، فيعذبهم بها في الدنيا، {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.

إذاً هذا العرض المغري هو عرضٌ صادق من الله "سبحانه وتعالى"، هو يعرض علينا هذا النعيم، هو يعرض علينا تلك الحياة الأبدية السعيدة، النعيم الأبدي الذي لا ينقطع، يدوم ولا يفنى، ومقابله فقط التقوى، والتقوى هي بمتناول كُلٍّ منا، في هذه الحياة الأمور المادية ليست بمتناول كُلٍّ منا، مثلاً: قد ترغب في شيءٍ في هذه الحياة ولا تستطيع توفيره؛ لأنك لا تمتلك قيمته، إذا ثمنه مرتفعٌ جداً، وهو شيءٌ نفيس، لكن الوصول إليه يكاد يكون مستحيلاً للكثير من الناس، الذين لا يمتلكون إمكانات مادية كافية، فهذا المعروض من النعيم الأبدي من بساتين الجنة، يعني: الكثير منا ظروفه المادية لا يستطيع أن يوفر لنفسه بها ولو مزرعةً صغيرة، البعض عاجز عن أن يشتري حتى بقرة واحدة، عن أن يشتري- ربما البعض- حتى نعجة واحدة، ظروف صعبة لدى أكثر الناس، فما بالك بأن يشتري مثلاً مزرعةً كبيرةً جداً، تتوفر فيها كل متطلبات الزراعة من الماء وغيره، وتمويل العمل فيها على الدوام، هذه مسألة صعبة لدى الكثير من الناس، الذي يعرضه الله لنا ثمنه التقوى، التقوى التي نلتزم بها حتى في اهتماماتنا المعيشية، حتى في نشاطنا الزراعي والتجاري وغيره، فنجعل منه وسيلةً نبتغي بها الدار الآخرة، ولا نجعل منه غايةً نخسر بها الآخرة، ثمنه التقوى، التقوى هي في متناول كُلٍ منا، يأتي القرآن بنماذج من مواصفات المتقين؛ ليبين لنا التقوى، ويعرفنا على المتقين.

 {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: الآية16]، {الَّذِينَ يَقُولُونَ} من واقع إيمانهم، من اقع شعورهم، يقولون بوعي من عمق مشاعرهم،  {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

من أهم مواصفات المتقين: أنهم يستشعرون مسؤوليتهم تجاه أعمالهم وتصرفاتهم، فهم هنا يتوجهون إلى الله "سبحانه وتعالى" في طلب المغفرة، فيقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}، إننا آمنا: آمنا بك؛ فاستشعرنا عظيم حقك علينا، آمنا بوعدك ووعيدك؛ فأدركنا أهمية ما نعمل، وما يترتب عليه من الجزاء في الآخرة، وما يترتب عليه حتى من العواقب والنتائج في هذه الدنيا، فأدركنا الخطورة في تصرفاتنا وأعمالنا، عندما نعصي، عندما نذنب، عندما نفرط، عندما نقصر، عندما نهمل، عندما نفرط في شيءٍ من التزاماتنا العملية الإيمانية فلا نقوم به، عندما لا نعمل ما ينبغي علينا أن نعمله، يستشعرون الخطورة، ليسوا مستهترين في أعمالهم، في تصرفاتهم، هم يدركون المسؤولية فيما يفعلون، فيما يتصرفون، في مواقفهم، فيما عليهم من التزامات إيمانية وعملية، ولذلك يطلبون من الله المغفرة، يطلبون من الله المغفرة، يدركون خطورة الذنوب، خطورة التفريط، خطورة التقصير، خطورة الإهمال تجاه التزاماتهم الإيمانية فيما أمرهم الله به، ويدركون الخطورة الرهيبة لتجاوز حدود الله "سبحانه وتعالى"، أو لفعل الحرام، مسألة خطيرة جداً لديهم، فهم يخافون من ذنوبهم، وتقصيرهم، وإهمالهم، وتفريطهم، ليسوا متهاونين، ليسوا مستهترين.

{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}؛ لأنهم يدركون أن ما يصل بالإنسان إلى نار جهنم هي ذنوبه، ذنوبه التي هي إما بشكل تفريطٍ فيما أمر الله به من الالتزامات العملية، وهذه من أخطر الذنوب التي يغفل عنها الكثير من الناس، ما علينا أن نعمله، ما أمرنا الله به.

أو بشكل انتهاكٍ لحرمات الله وفعل المحرم، فهم يدركون خطورة الذنوب أنها هي التي تصل بالإنسان إلى نار جهنم، هي التي تسبب للإنسان سخط الله، هي التي تسبب للإنسان المصائب الخطيرة والعقوبات العاجلة في الدنيا، هي التي تسبب للمجتمعات النكبات، مجتمعات بأكثرها تدخل في نكبات كبيرة؛ نتيجة ذنوب، نتيجة تقصير في مسؤولياتها، في واجباتها، في الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، تقصير في إتباع ما أنزل الله، تفريط تجاه توجيهات الله "سبحانه وتعالى".

{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فهم يؤمنون بوعيد الله، ويوقنون بالآخرة، ويدركون أن النار هي العقوبة الحتمية على الإنسان المستهتر، أو للإنسان المستهتر المتهاون، الذي لا يرجع إلى الله، لا ينيب إلى الله، لا يستقيم على أساس هدى الله، لا يلتزم بتعليمات الله وتوجيهاته، فيصر، على عصيانه، يصر على تقصيره، يصر على تفريطه، فيدركون الخطورة في ذلك، ولذلك يضرعون إلى الله، وعندهم اهتمام عملي، ليسوا فقط يقولون ذلك، ثم لا يلتفتون إلى واقعهم العملي لمعرفة ما هم مقصرون فيه، فيتداركون ذلك، لمعرفة ما قد يكون الإنسان واقعاً فيه، مما فيه إثم في سلوكياته، أو في تصرفاته، أو في طريقته في أداء المسؤولية، فيقلعون عن ذلك وينتبهون، يقولون وهم يلتفتون إلى واقعهم العملي، يقيمون واقعهم العملي، يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ}[آل عمران: من الآية17]، {الصَّابِرِينَ}، الصابرين وهم يؤدون مسؤولياتهم العملية عندما يواجهون المشاق، أو الصعوبات، أو التحديات، الصابرين على ظروف هذه الحياة، التي يواجهونها وهم يستمرون في السير وفق منهج الله وتعليمات الله "سبحانه وتعالى"؛ لأن الكثير من الناس مشكلته في الصبر، أمام شهوات نفسه ورغباتها لا يصبر، فيرتكب المحرم، أو يقف في صف الباطل، أمام البعض من العوائق، أو الصعوبات، أو المشاق، في أداء المسؤولية، في فعل ما أمرنا الله به، لا يصبر، فيتقاعس عن ذلك، أمام أي مشاق، أو متاعب نفسية، أو جسدية، لا يريد أن يصبر، فيفرط في عملٍ مهم، أو يفعل ما هو من المحرمات.

فالصبر مسألة مهمة جداً وأساسية، والإنسان المؤمن هو أولاً يطلب من الله "سبحانه وتعالى" أن يفرغ عليه الصبر، الله يقول في القرآن الكريم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، ثم هو يوطِّن نفسه على الصبر، يروض نفسه على الصبر، يستفيد من كل الوسائل التربوية التي ترتقي به، تمنحه القوة، قوة التحمل، تهيئه للاستعداد للصبر، من مثل صيام شهر رمضان، الذي هو عملية ترويضيه على الصبر، والإنسان يصبر على: أولاً على السيطرة على شهوات نفسه تجاه الطعام، والشراب، والمعاشرة الزوجية، ثم أيضاً يصبر على الجوع، على العطش، على متاعب معينة جسدية، عملية ترويضيه تكسب الإنسان قوة التحمل، وارتفاع المعنويات، والمزيد من القدرة والطاقة.

{الصَّابِرِينَ}، والصبر لا بدَّ منه، لا بدَّ منه، كثير من الناس يتهربون من المسؤوليات المهمة، كالجهاد في سبيل الله؛ لأنهم لا يريدون أن يصبروا، أو ظروف معينة، أو معاناة معينة، أو أحزان معينة؛ لأنهم لا يريدون أن يصبروا، فالصبر لا بدَّ منه في التقوى، في تحقيق التقوى لا بدَّ من الصبر، فبالتالي تعمل من خلال الصبر الأعمال العظيمة التي تقيك من عذاب الله، تقي الأمة من الخزي والهوان، تقي المجتمع من سيطرة أعدائه عليه، تقينا من مختلف الشرور، وتقينا من عذاب الله، ومن النار.

{وَالصَّادِقِينَ}، الصادقين في إيمانهم، عندما قالوا آمنا قالوها بصدق، آمنوا فعلاً، آمنوا بالله، آمنوا بوعده ووعيده، وكان لإيمانهم ثمرة هي التقوى، والصادقين في إيمانهم، في فهمهم لدينهم، فهموه بصدق، ولديهم المصداقية في أدائهم العملي، في التزامهم الإيماني، فيما عليهم أن يعملوا، وفيما عليهم أن يتركوا، مصداقية في الانتماء، في العمل، في الموقف، وهم من يتحرون الصدق فيما يقولون، من يتحرون الصدق في أدائهم لمسؤولياتهم، الصدق من أهم العناوين التي تترتب عليها مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، الصدق عنوانٌ إيمانيٌ مهم، وأساسيٌ في تحقيق التقوى، ولذلك واقع المؤمنين المتقين أنهم أهل صدق، ويتحرون دائماً الصدق.

{وَالصَّادِقِينَ}، في التزاماتهم الإيمانية، والعملية، وانتماءاتهم، ومواقفهم، ويتحرون الصدق فيما يقولون.

{وَالْقَانِتِينَ}، هم دائماً في حالة خضوعٍ لله "سبحانه وتعالى"، خاضعين لله، خاشعين لله، ولذلك لديهم استعداد في طاعة الله في كل شيء، ليس هناك بالنسبة لهم تأثيرات سلبية لمزاجهم الشخصي، أو لنوازعهم وعقدهم الشخصية، فيأنفون من تنفيذ أي شيءٍ فيه رضاً لله، أو أمر الله به "سبحانه وتعالى"، المهم بالنسبة لهم هو رضوان الله، كيف يرضى عنهم، مقابل أن المهم لدى الكثير من الناس هو الناس وليس رضا الله، رضا الله هو المهم بالنسبة لعباده المؤمنين المتقين، ولا يأنفون، ولا يستنكفون، ولا يستكبرون من أن يعملوا ما هو رضا الله "سبحانه وتعالى"، ولو كان مزاجهم الشخصي قد لا ينسجم مع ذلك، أو كلام الناس، أو إثارة الناس، وبالذات أن البعض من الناس لديهم خبرة شيطانية في استثارة الإنسان تجاه عمل قد يكون مهماً، وفيه مرضاةٌ لله "سبحانه وتعالى"، فيأتون لاستثارة الإنسان؛ ليعيقوه عن ذلك العمل، مهما كان عظيماً ومهماً.

أو أحياناً في سياق العمل في سبيل الله وطاعة الله، والأعمال التي هي أعمالٌ منسجمةٌ مع التقوى، وقائمةٌ على أساس التقوى، قد يأتي من يثير فيك الحساسيات الشخصية، والحسابات الشخصية، والعقد الشخصية؛ لينفرك منها، ويجعل حساباتك فيها حسابات شخصية، مناصب، مواقع وهمية، مسميات معينة، حسابات معينة، وبالتالي تأنف، أو أحياناً بدافع العقدة تتوقف عن عمل معين، {وَالْقَانِتِينَ}، فهم في حالة خضوع تام لله، وانقياد تام لأمر الله "سبحانه وتعالى"، لا أنفة فيهم، لا كبر فيهم، لا عقد لديهم.

{وَالْمُنْفِقِينَ}، فنلاحظ مثلاً وصفهم بالمنفقين، حتى تكون نظرتنا صحيحة إلى مسألة الإمكانات المادية، أن المسألة بالنسبة للمتقين أنهم يتعاملون بها كوسيلة وليس كغاية، فهم يبتغون فيما مكنهم الله منها يبتغون الدار الآخرة، يستشعرون مسؤوليتهم فيها، فهم في حالة إنفاق من كل ما رزقهم الله، ومن كل إمكاناتهم التي مكنهم الله بها "سبحانه وتعالى"، وبشكلٍ مستمر، روحيتهم روحية عطاء.

في مقابل أن روحية البعض هي روحية أخذ، واستغلال، وانتهازية، واكتساب دائم، واستحواذ دائم، وطمع، فهم على العكس من ذلك، هم يحملون روحية الإنفاق، روحية العطاء، يجودون مما رزقهم الله "سبحانه وتعالى" ضمن التزاماتهم الإيمانية، في مقدمها الإنفاق في سبيل الله، ومن ضمنها الصدقات على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الناس، والإحسان إلى ذوي القربى، إلى غير ذلك.

{وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}، وهم أيضاً، ختم في هذه المواصفات ختمها بالاستغفار، وبدأها أيضاً بطلبهم للمغفرة، فهم على ما هم عليه من صبر عملي في ميدان العمل، ينهضون بمسؤولياتهم وواجباتهم، صبر في مقام التزامهم الإيماني وحذرهم من المعاصي والمحرمات، صدق، انقياد تام لأمر لله، إنفاق مستمر وروحية عطاء، طاعة تامة لله "سبحانه وتعالى"، هم لا يحملون حالة الغرور، الغرور والعجب بالنفس، فينظرون إلى أنفسهم بغرور كبير، يتصور أن الله يتمنى أنه قد مات ليدخله الجنة فوراً، هم لا يزالون يستشعرون تقصيرهم، وهم لا يزالون يخافون من الذنوب والمعاصي، وهم لا يزالون يستشعرون خطورة التفريط، خطورة التقصير، فيبادرون دائماً بالاستغفار وتلافي جوانب التقصير لديهم، حتى في وقت من أحسن الأوقات للذكر والدعاء والاستغفار، يخصصونه للاستغفار، هو وقت الأسحار، في آخر الليل ما قبل طلوع الفجر، ما قبل طلوع الفجر هو وقت السحر، وقت من أحسن الأوقات على مستوى قبول الدعاء، على مستوى قيمة الذكر والعبادة، على مستوى الأجواء الذهنية والنفسية للإنسان، وهو يتفرغ في ذلك الوقت لذكر الله "سبحانه وتعالى"، ويتوجه إلى الله "سبحانه وتعالى".

في ذلك الوقت من يداوم على اليقظة فيه قد ينظر إلى نفسه أنه أصبح من عظماء أولياء الله، ومن العبَّاد الذين أصبحت مرتبتهم ودرجاتهم في التقوى والعبادة والإيمان عالية، فقد يحمل شيئاً من الغرور، وهم على العكس من ذلك، لا يشعرون بغرور لا تجاه أعمالهم واهتماماتهم والتزاماتهم، ولا تجاه قيامهم في مثل ذلك الوقت الذي يخصصونه للاستغفار؛ لأنهم يدركون أهمية ذلك الوقت فيما يطلبونه من الله، وأهم وأول مطلبٍ لهم هو طلب المغفرة، طلب المغفرة.

هذه النماذج يقدمها الله "سبحانه وتعالى" يعرفنا بها عن التقوى والمتقين، إضافةً إلى ما وعدهم الله به "سبحانه وتعالى"، هذه كلها في متناولنا جميعاً، في متناول الفقير والغني، في متناول المسؤول والشخص العادي مثلاً الذي هو مواطن ليس في موقع مسؤولية معينة، وهذه المواصفات في قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ}، هي تفيد الاستمرارية، هم هكذا بشكلٍ مستمر، البعض من الناس يصبر مرحلة معينة، بعد ذلك يتغير تماماً، يكون قانتاً منطلقاً بتسليمٍ تام لأمر الله، في طاعة الله، فيما هو رضا لله، لمراحل معينة، في مراحل يتغير، تصبح عنده أولويات، اعتبارات أخرى، يريد مناصب، يريد مكاسب، يريد أهدافاً شخصية، أو البعض من الناس يصل إلى مستوى معين فيدخل في عقد وإشكالات فيتوقف؛ أما هؤلاء فمواصفاتهم هذه تفيد الاستمرارية.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛



المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ


المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 2 رمضان 1443هـ

إب نيوز ٣ إبريل 

المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ الموافق 03-04-2022 م

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

نواصل الحديث عن العنوان الأساسي: التقوى، الذي هو الهدف العملي والثمرة العملية من وراء صيام شهر رمضان كفرضٍ عظيم، وركنٍ عظيمٍ ومهمٍ من أركان الإسلام، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: من الآية183].

تحدثنا بالأمس عن أهمية التقوى، وعن بعضٍ من مجالات التقوى، ولأهمية التقوى في القرآن الكريم، فهي العنوان الرئيسي الذي يلي الإيمان، يلي عنوان الإيمان، بعده عنوان التقوى، فنجدها في القرآن الكريم تتكرر، وتتضمن في كثيرٍ أيضاً من المواقع في القرآن الكريم الحديث  عن مواصفات المتقين، وعن ثمار ونتائج التقوى في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة، فالحديث عن التقوى في القرآن الكريم حديثٌ واسع، وحديثٌ مفيدٌ ومهمٌ؛ ولذلك نجد أنَّ التقوى ركيزة أساسية تتفرع عنها المواصفات الإيمانية، فالتقوى هي ثمرة الإيمان الواعي ونتاجه، وتتفرع عنها المواصفات الإيمانية التي تجسد التزام الإنسان عملياً في مسيرة حياته في كل مجالات الحياة، فالحديث عنها حديثٌ مهمٌ، واستيعاب ذلك أيضاً هو شيءٌ مهمٌ.

يأتي في القرآن الكريم الحديث عن التقوى، الحديث عن التعريف بها، عن علاماتها، عن مواصفات المتقين، عمَّا يترتب على التقوى من نتائج عظيمة مهمة للإنسان، والعنوان في أساسه بما يعنيه من وقاية الإنسان من الشرور، وقاية الإنسان من الأخطار، وقاية الإنسان من الهلاك، وقاية الإنسان من عذاب الله “سبحانه وتعالى”، هو يدل- بحد ذاته- على أهميته.

من أهم ما يتعلق بالتقوى: أنها أساسٌ لقبول الأعمال الصالحة، لقبول الأعمال الصالحة، الله “سبحانه وتعالى” قال في القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: من الآية27]، كلنا نعي وندرك أهمية الأعمال الصالحة؛ لأننا ننال من خلالها رضوان الله “سبحانه وتعالى”، لأننا نحقق لأنفسنا من خلالها الخير في الدنيا والآخرة، ويقترن بذلك ما وعد الله به من الأجر والثواب، وما للأعمال الصالحة من فضلٍ وأثرٍ إيجابيٍ مهمٍ في نفس الإنسان، في واقع حياته، ثم ما يتحقق له من وراء ذلك، وعادةً ما يكون العنوان الرئيسي لذلك هو: عنوان الأجر والثواب، وما نحصل عليه من جانب الله “سبحانه وتعالى” فيما وعد به.

ونجد في القرآن الكريم الحديث عن الوعد الإلهي، الذي يرغِّب الإنسان إلى حدٍ كبير في فعل العمل، وفي القيام بالعمل؛ لأنه يدرك ما سيحصل عليه من خلال ذلك العمل، فالإنسان هو المستفيد من وراء ما يعمل من الأعمال الصالحة؛ أمَّا الله “سبحانه وتعالى” فهو غنيٌ عنا، وغنيٌ عن أعمالنا، وكما يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ}[فصلت: من الآية46]، فالإنسان هو المستفيد، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}[العنكبوت: من الآية6]، هو المستفيد هو، وهو المحتاج إلى أن يعمل هذه الأعمال التي فيها نجاته، فيها فلاحه، فيها فوزه، فيها ما يتحقق له ما يرغب به ويحتاج إليه من الخير لنفسه في الدنيا والآخرة، وفيها ما يسمو بنفسه، فيها ما يحقق لنفسه الكمال الإنساني، فيها ما يحقق لنفسه على المستوى المعنوي، ما يرغب به، ما يأمله، ما يحتاج إليه، وكذلك الرعاية الإلهية الواسعة، التي تشمل الجوانب المادية والمعنوية، هذا على المستوى الشخصي.

ثم على المستوى المجتمعي، كمجتمعٍ يتحرك على أساسٍ من الإيمان، والتقوى، والعمل الصالح، والسعي لمرضاة الله “سبحانه وتعالى”، وأن تكون له صلته بالله، الصلة الإيمانية التي يحظى من خلالها بمعونة الله، برحمة الله، بتوفيق الله، بالنصر من الله، بالعون من الله، بالرعاية الواسعة الشاملة من الله “سبحانه وتعالى”، فالأعمال الصالحة التي نعملها، والتي عادةً ما نتجه إلى عملها ونحن نؤمِّل ما وراءها من الخير، ما وعد الله به عليها من الثواب، ما يترتب عليها من النتائج، قبولها مرهونٌ بالتقوى، بهذا التأكيد في القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

فالإنسان قد يعمل في مسيرة حياته، وبالذات في ظل الانتماء الإسلامي، في ظل انتمائنا للإسلام كمجتمعٍ مسلم، نتجه لفعل الخير هنا وهناك، والكثير من الناس قد يتجه لفعل الخير في مجال معين مثلاً، وقد لا يكون ملتزماً بتقوى الله “سبحانه وتعالى”، قد يكون ممن يصرُّ على الاستمرار في معاصي، في ذنوب، البعض حتى في جرائم معينة، وهو يظن أنه قد فعل هناك البعض من أعمال الخير، من أعمال الإحسان، من الأعمال الصالحة، وأنه سيحظى بالأجر، سيحظى بالثواب، سيحظى بالعفو الإلهي، مع إصراره، ومع استمراره على انتهاك حرمات الله، وتجاوز حدود الله، وإصراره على ذنوب ومعاصي معينة، وهذا كثيراً ما يحصل، وبالذات أنه أحياناً يُسند بثقافةٍ خاطئة، وبمفاهيم خاطئة، تسهل للبعض أن ينحو في مسيرة حياته هذا المنحى، يكتفي بأن يعمل أحياناً الأعمال الصالحة، أن يتحرك في إطار القيام ببعضٍ من الشعائر الدينية والشكليات العملية، ويستمر في اتجاهٍ آخر في أعمال سيئة، أو في مواقف سيئة، في مواقف يخدم بها الباطل، يتجند من خلالها في صف الباطل، يسعى من خلالها لسيطرة الباطل، أو يحمل ولاءات باطلة، ولاءات لأعداء الله، ولاءات لأعداء الإسلام والمسلمين، ارتباطات تخدمهم ضد أمته، ضد دينه، جوانب كثيرة يمكن أن يكون الإنسان من خلالها بعيداً عن التقوى، لا يلتزم بالتقوى، لا يتقي الله “سبحانه وتعالى”، تحدثنا بالأمس عن أن التقوى تشمل الالتزام تجاه ما أمرنا الله به، من مسؤوليات، وأعمال، وما يتصل بذلك، وأيضاً تتعلق بالحذر مما نهى الله “سبحانه وتعالى” عنه، من المناهي والمحرمات، يشمل ذلك الجوانب السلوكية، الجوانب التي تتصل أيضاً بالمواقف، والولاءات… وغير ذلك، لا تتجه فقط تجاه جانبٍ واحد.

الإنسان قد يتحسر كثيراً عندما يكون ممنياً لنفسه بأنه يعمل البعض من الأعمال الصالحة، وأن هذا كافٍ في أن يفوز بما وعد الله به “سبحانه وتعالى” من الخير، والثواب، والجنة، والرضوان، وأنه بذلك قد أمَّن مستقبله الآتي الأبدي عند الله “سبحانه وتعالى”، وقد ضمن لنفسه النجاة، البعض حتى يحمل في نفسه حالة وكأنه من المتأكدين والقاطعين قطعاً بأن تلك الأعمال التي يقوم بها كافية، في أن يحظى بمرضات الله “سبحانه وتعالى”، وبعفوه، وبجنته، فيتعامل على نحوٍ من الاستهتار، والتهاون، واللامبالاة، تجاه ما يصرُّ عليه ويستمر فيه من الأعمال السيئة، وهذه مسألةٌ خطيرة، قد يأتي الإنسان يوم القيامة مفلساً، ليس له رصيدٌ من العمل الصالح، ليس له أي أجر، أي ثواب على ما قدم من أعمال صالحة، لماذا؟ إما لأنها لم تقبل من الأساس، لم تقبل من الأساس، من البداية، أو أنه أحبطها؛ لأنه لم يلتزم بالتقوى، كانت قد قبلت، ثم أتى منه من الأعمال السيئة التي أصرَّ عليها واستمر عليها ما أحبط به عمله ذلك، عمله ذلك من صلاة، من صيام، وأعمال أخرى، البعض حتى قد يكون من ضمن أعماله أعمال تصنف في إطار الجهاد في سبيل الله، أو الإنفاق، أو الإحسان، أو فعل الخير، جوانب كثيرة قد يكون الإنسان أمَّل أن يكون قد حصل- على الأقل- من خلالها هي على الأجر والثواب.

والله “سبحانه وتعالى” يقول في القرآن الكريم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان: الآية23]، هذا أمر رهيب جدًّا، الأعمال التي يعولون عليها أنه ربما يكون لهم من خلالها أجر وثواب وحسنات، أو تكون سبباً لنجاتهم يوم القيامة، لعتق رقابهم من النار، للفوز بما وعد الله به “سبحانه وتعالى” عباده المؤمنين المتقين، ولكنهم يجدون كل تلك الأعمال التي يؤملون أنها ستصنف في عداد الأعمال الصالحة، الأعمال المرضية المقبولة، فيجدونها لا قيمة لها، لا أجر عليها، لا فضل لهم عليها؛ لأنها أحبطت أو لم تقبل من الأساس، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، هباءً كالغبار، كضوء الشمس الذي يدخل من النافذة وفيه ذرات من الغبار، يعني: لا قيمة له، لا أثر له، لا إيجابية له، وفعلاً حتى في واقع الحياة لا إيجابية للعمل الذي لا يقترن مع التقوى، فعلاً لا يترك أثره في نفس الإنسان، في مشاعر الإنسان، وبالتالي في أعمال الإنسان واستقامة أعماله، فالمسألة مهمةٌ جدًّا، هذا من أهم ما يتعلق بالتقوى.

الله “سبحانه وتعالى” أيضاً يضرب لنا مثلاً مهماً في القرآن الكريم عن إحباط العمل، عندما قال “جلَّ شأنه”: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة: الآية266]، هذا أيضاً في الإحباط؛ لأن الإنسان إما أنه مصرٌّ على المعاصي، على الذنوب، على الأعمال السيئة، وهو يعلم أنها أعمال سيئة ويصر عليها، فما أتى منه خلال ذلك من الأعمال الصالحة لا يقبل منه.

أو أنه أتبع فيما بعد العمل الصالح، قد كان في مرحلة من المراحل يعمل الأعمال الصالحة، وهو ذلك الإنسان الذي يرجع إلى الله، لا يصر على ذنوبه، على خطيئاته، يتوب منها، يتدارك نفسه من أي زلة، ويرجع إلى الله “سبحانه وتعالى”، لكنه فيما بعد عمل أعمالاً سيئة أصرَّ عليها، وأحبط بها كل أعماله تلك، وقد تكون المسألة خطيرة عندما تكون مثلاً إحباطاً لأعمال عظيمة، أجرها كبير، فضلها عظيم، مثلاً: الجهاد في سبيل الله، فعل الخير بكله مجالات الإحسان الواسعة، التي تقدم فيها الخدمة للناس من حولك بنيةٍ صادقةٍ وطيبةٍ ومخلصةٍ لله “سبحانه وتعالى”، ووفق التعليمات الإلهية، فالمسألة تكون خطيرة على الإنسان.

أو مثلاً بعد عمرٍ طويل، عمرٍ طويل من الأعمال الصالحة، والتوبة، والرجوع إلى الله، فإذا بالإنسان في مرحلة من المراحل يتجه اتجاهاً آخر من أجل هوى النفس، والبعض أيضاً من أجل هوى النفس إما في رغباتها وشهواتها، وإما فيما يتعلق بحالة الغضب لدى الإنسان والانفعال، أو بحالة المخاوف التي تؤثر على البعض من الناس، فتدفعهم نحو الانحراف.

أيضاً عندما لا يأتي العمل الصالح بنفسه طبقاً لتعليمات الله “سبحانه وتعالى”، العمل الصالح يرتبط بالتوجيهات الإلهية، في أصله، وفي كيفيته، أن تعمله وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، وتعليماته “سبحانه وتعالى”، مطابقاً لأمر الله وتوجيهاته، وقد لا يقبل منك أصلاً؛ لأنه شابه من الخلل، شابه من المخالفات ما أحبطه، فتكون يوم القيامة من المتحسرين، من النادمين، عندما تجد أن تلك الأعمال التي أمّلت أن تكون مقبولةً منك أنك ستؤجر عليها، لم تؤجر عليها، ولم تحسب لك، لم تحسب لك في عداد أعمالك الصالحة، فهذه مسألةٌ مهمةٌ جدًّا تبين لنا أهمية التقوى، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

أيضاً يتجلى من خلال التقوى قيمة التوجيهات الإلهية، وأهميتها، وفائدتها، توجيهات الله “سبحانه وتعالى” وأوامره لنا ونواهيه، هي كلها لمصلحتنا نحن، فوائدها لنا، ما أمرنا الله به؛ ففيه الخير لنا، ويتحقق لنا من خلاله نتائج مهمة، ومصالح حقيقية، وما نهانا عنه؛ ففيه ضرٌ علينا، شرٌ علينا، مخاطر علينا، وأضراره ونتائجه السيئة هي تؤثِّر علينا نحن؛ أمَّا الله “سبحانه وتعالى” فلن نضره بشيءٍ من أعمالنا السيئة.

فعندما نلتزم بالتقوى، فنعمل ما أمرنا الله به، ننهض بمسؤولياتنا التي حمَّلنا الله إياها، فنحن سنرى قيمة ذلك، أثره، نتائجه في مسيرة حياتنا، في واقع حياتنا، في كل المجالات، يعني: توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، توجيهات الله التي تتعلق بالجوانب الاقتصادية في حياتنا، ستظهر آثارها ونتائجها في الواقع الاقتصادي في حياتنا، وفي معيشتنا، وتأتينا مع ذلك البركات والخيرات؛ لأن لها ثمرة مباشرة، إيجابية مباشرة لكل توجيه من توجيهات الله، لكل أمرٍ من أوامر الله، له أثر جيد مباشر، وله نتيجة أيضاً إضافية فيما يأتي من الله “سبحانه وتعالى” من البركات والخيرات، وما يتحقق به للإنسان على المستوى الشخصي وللمجتمع الذي يتحرك وفق توجيهات الله كمجتمع، وهذا ما نلحظ أهميته تجاه كثيرٍ من الأمور التي فرَّط فيها مجتمعنا المسلم، فكان لتفريطه فيها الآثار السيئة، والخسائر الكبيرة في واقع مجتمعنا المسلم.

عندما نأتي مثلاً إلى ما أمر الله به من توحد المسلمين، من اجتماع كلمتهم، من الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، من السعي لإقامة القسط، وإقامة العدل، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا المسؤوليات الجماعية: من التعاون على البر والتقوى، أن يكونوا مجتمعاً يسوده الحق، ويسوده العدل، يسوده الخير، أن يكونوا أمةً تدعوا إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، عندما فرَّطوا في هذه المسؤوليات الجماعية المهمة والكبيرة، فرَّطوا في الجهاد في سبيل الله، وفرَّطوا في أن يعدوا ما يستطيعون من القوة، أن يبنوا أنفسهم كأمةٍ قوية، كما قال الله لهم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، كم كانت الخسائر الكبيرة لمجتمعنا المسلم، خسائر رهيبة جدًّا، حوَّلت واقع هذه الأمة إلى واقعٍ ضعيف، يسوده الضعف، تسوده الفرقة، يسوده الشتات؛ وبالتالي يتمكن أعداؤها من الإضعاف لها أكثر، من السيطرة عليها، من المؤامرة عليها، من الظلم لها، من الاضطهاد لها، من الاختراق لها.

عندما نجد جوانب كثيرة تتعلق بالسعي لأن تكون هذه الأمة أمةً مهتدية، مستنيرة، مستبصرة، واعية، على هدىً من الله، مهتديةً بآيات الله، تمتلك من خلال نور الله الوعي الكبير والكافي، تتحصن بالهدى تجاه كل أشكال الضلال والباطل، عندما فرَّطت في ذلك؛ كيف كانت الآثار السيئة والرهيبة في انعدام حالة الوعي لدى الكثير من أبناء مجتمعنا المسلم، وكان لذلك آثار خطيرة ونتائج خطيرة جدًّا على واقع أمتنا بشكلٍ عام.

ولكن لأن الله “سبحانه وتعالى” هو أرحم الراحمين، فالمسألة لا ترتبط دائماً بالجانب الجماعي للأمة بكلها، يعني: الوعد الإلهي فيما يتعلق بالتقوى، ونتائجها، وثمارها الطيِّبة، لا يتوقف على أن تستجيب الأمة كل الأمة، من كل أبنائها، من كل مناطقها وبلدانها، إذا تحرَّكت من داخل الأمة ولو أمة، بل حتى على المستوى الشخصي، هناك ثمار ونتائج طيِّبة، لكن هناك بالتأكيد مسؤوليات جماعية، تأتي النتيجة فيها على المستوى الجماعي، فإذا تحرَّكت أمة، أو مجتمع معين من داخل الأمة، فهو بالتأكيد سيحصل على ما وعد الله به “سبحانه وتعالى”.

مما في القرآن الكريم مما يتحدث عن عظمة التقوى، عن ايجابياتها فيما يتحقق بها للإنسان من رعايةٍ إلهية عجيبة، ويتحقق بها للمجتمع كمجتمع، المجتمع الذي يستجيب، يتقي الله “سبحانه وتعالى” في التزاماته العملية، في مواقفه، في ولاءاته، في نهوضه بمسؤولياته، في استجابته الكاملة لله “سبحانه وتعالى”، ماذا يترتب على ذلك؟ يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: 2-3]، هذه الآية المباركة من أهم الآيات التي تبين لنا عظمة التقوى، بل أنها تقدِّم ما هو مغرٍ جدًّا، وجذَّاب إلى حدٍ كبير، يجذبنا نحو تقوى الله “سبحانه وتعالى”، فقد تضمنت وعداً من الله “سبحانه وتعالى”، وهو الذي لا يخلف وعده، وعداً عظيماً، وعداً مهماً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ}، هذا على المستوى الشخصي وعلى المستوى الجماعي، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} أي شخص، وكذلك أي مجتمع، أي أمة تتجه على هذا الأساس: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ}، يتق الله في التزاماته العملية، يتق الله فيما يعمل، يتق الله فيما يقول، يتق الله في النهوض بمسؤولياته، يتق الله فيلتزم بأوامر الله “سبحانه وتعالى”، يتق الله فيجتنب المحرمات، لا يعتمد على ما نهى الله “سبحانه وتعالى” عنه، ويرى أنه من خلاله سيتوصل إلى ما يبتغيه لنفسه، إلى ما يريده لنفسه، فيرى فيه وسيلة العمل التي تحقق أهدافه، أو تحقق رغباته، يحذر من ذلك، فيتقي الله، ويتجه وفق أوامر الله “سبحانه وتعالى”، من منطلق الثقة بالله، أنَّ الله لن يخذله، لن يتركه، أنَّ الله سيحقق له النتائج التي وعد بها، سيفي بوعده له.

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، مخرجاً من كل ضيق؛ لأنه في مسيرة الحياة قد تضيق بك الأمور، قد تتصعب عليك الأمور من جوانب كثيرة، تتعقد الأمور على المستوى المعيشي مثلاً، تعيش ظروفاً صعبة، ولكن لتطمئن أنها مرحلية، أو على مستوى أوسع، مثلما هو حال تقوى الله “سبحانه وتعالى” في النهوض بمسؤولية الجهاد في سبيل الله، والسعي للتحرر من سيطرة أعداء الله، والسعي للاستقلال كأمةٍ مؤمنةٍ، تتحرك وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، فيتكالب عليها الأعداء بالعدوان، والحصار، والمؤامرات الكثيرة، فينتج عن ذلك كثير من المتاعب، والظروف الصعبة، والتحديات الكبيرة، وتضيق الأمور على المستوى المعيشي، على المستوى الاقتصادي، وتتعقد على المستوى الميداني، فتجد الأمة نفسها في وضعيةٍ صعبة، تقدِّم الشهداء، تعاني، لها جرحى، تعاني من الحصار، تعاني من الضائقة في المعيشة، فالبعض قد يتأثر نتيجةً لذلك، ويصل إلى حالة اليأس، وانعدام الأمل، وكأن المسألة تستمر على ذلك النحو بلا نهاية، وكأنه ليس هناك أي إنفراجه تأتي، فهذا على المستوى الجماعي.

وأحياناً حتى على المستوى الشخصي، البعض من الناس تجربته العملية فيما يعانيه، وهو يتجه اتجاه الحق، يتجه على أساس تقوى الله “سبحانه وتعالى” في مواقفه، في التزاماته، في أعماله، في تصرفاته، حتى في شؤون معيشته، وفي بيعه وشرائه، وقد يتصور أنَّ البعض الآخر يتوصلون من خلال انفلاتهم، وعدم التزامهم، وتلعباتهم، وأساليبهم السيئة، وأساليبهم التي هي معصية لله “سبحانه وتعالى”، وخروجٌ عن التقوى، أنهم يتوصلون إلى تحقيق نجاحات لشؤونهم المعيشية، ولظروف حياتهم، فقد يضيق، وتضيق حاله، وتضيق نفسه، ويستاء، ويفقد الأمل، ثم قد يدفعه ذلك إلى ألَّا يصبر، ألَّا يواصل التزامه ومشواره على أساسٍ من تقوى الله “سبحانه وتعالى”، وهذا قد يدفع به إلى أن يتجه لفعل ما يفعله الآخرون؛ فيخسر في نهاية المطاف.

في طريق الحق تحصل المعاناة، لا نتوقع أنها لا تحصل، ولكنها معاناة يترافق معها يسر، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: 5-6]، ويكون لها في نفس الوقت آثار إيجابية حتى على المستوى التربوي.

طريق الحق هي طريقٌ يسلك فيها الإنسان مشوار حياته ومسيرة حياته وفق تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، ونحن في هذه الدنيا في دار الاختبار، في ميدان مسؤولية، لسنا في عالم الجنة، الذي هو عالمٌ كله راحة، ليس فيه أي منغصات، ليست فيه أي متاعب، ليست فيه أي معاناة، ليست فيه أي مشاق، ولا نتوقع عن الحالة الإيمانية وحالة التقوى أنها حالةٌ يسير فيها الإنسان مدللاً، تكون طريقة الرعاية الإلهية له ألَّا يحصل له أي معاناة، ولا أي مشاق، ولا أي متاعب، ولا يواجه أية مخاطر، ولا… لو كانت الأمور على هذا النحو؛ لكان كل الناس متقين، ومؤمنين، وصالحين، لو كانت المسألة مسألة دلال، رعاية فيها دلال، لا يحصل للإنسان أي معاناة على الإطلاق، ولا يواجه أي مخاطر، ولا يواجه أي شدائد، بل تتحقق الآمال والرغبات على أعلى مستوى من دون أي تعب، ولا أي تضحية، ولا أي مشاق، ولا أية مخاطر؛ لكان كل الناس متقين، لكان كل الناس متقين، يتجهون للتقوى، والإيمان، والعمل الصالح.

نحن في هذه الحياة في ميدان مسؤولية، في ميدان اختبار، وتحصل المشاق، وتحصل المتاعب بشكل اعتيادي في حياة الناس، حتى في كل مجالات حياتهم، وعادةً ما يكون المهم لدى الإنسان هو ما وراء ذلك من نتائج، فمثلاً: عندما نأتي إلى الفلاحين (المزارعين)، هو يدرك أنَّ الزراعة، وأنَّ الفلاحة، وأنَّ العمل في الزراعة فيه متاعب، فيه مشاق، لكنه ينظر إلى النتيجة، إلى ما يتحقق له من وراء هذا المجهود، إلى ما تثمره هذه المتاعب، ما يحصل عليه من وراء ذلك، فيستطيب متاعبه؛ لأنها متاعب مثمرة، ويستطيب جهوده، بل يفتخر بجهوده، أنها جهود أنجزت، حققت نتائج، كان لها ثمرة مهمة، ويرتاح بذلك، حتى وهو يعمل، حتى وهو يتعب، حتى وهو يعاني، حتى وهو يتصدى للمشاق، هو يتذكر، يتذكر- من خلال أحياناً تجارب ماضية- ما قد تحقق له، ما قد نتج نتيجةً لذلك؛ فيزداد عزماً، وعندما يصل إلى النتيجة المرجوة؛ يرتاح، يشعر بالراحة، التاجر… الناس في مختلف مجالات حياتهم وأعمالهم، عادةً ما يتجهون على هذا الأساس.

فكذلك في مسيرة العمل الصالح والإيمان والتقوى، ما يحصل من مشاق، أو متاعب، أو مخاطر معينة، يكسب الإنسان من ورائها ما يهوِّنها، ما يبسِّطها، ويأتي حتى معها اليسر من الله “سبحانه وتعالى” كما وعد، الآثار الإيجابية، لكن مع توطين النفس على الصبر، مع العزم على الاستمرارية، ثم يأتي من الله “سبحانه وتعالى” التدخل الكبير والرعاية الواسعة في نهاية المطاف، فتنفرج الأمور، وانفراجات كبيرة.

فالصعوبات مرحلية، مع الأعمال هي صعوبات مرحلية، يعقبها انفراجات، يعقبها من الله “سبحانه وتعالى” ما يحقق به النتائج العظيمة، والآثار الطيبة، وإذا قارنا في طريق الحق، في طريق الإيمان والتقوى ما فيها من مشاق وصعوبات، مع البديل الآخر، الذي هو اتجاه بعيداً عن التقوى، الاتجاه البعيد عن التقوى فيه صعوبات، فيه مخاطر، فيه عسر، فيه خسائر كبيرة، فيه أسوأ وأقسى وأشد عناءً مما في طريق الإيمان والتقوى، وعواقبه الخسران المبين، عاقبته في الآخرة جهنم، عواقبه في الدنيا الخسران.

الله “سبحانه وتعالى” سمَّى طريقه باليسرى، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل: الآية7]، هي اليسرى مقارنةً بالطريق الآخر، الطريق المنحرف عن الإيمان والتقوى والعمل الصالح، والاستقامة وفق منهج الله “سبحانه وتعالى”، الطريق الآخر سمَّاه بالعسرى، فمسألة المشاق والصعوبات والمتاعب تحصل، وهي مرحلة، وأحياناً يكون فيها أيضاً أسباب لتقصير معين، الإنسان مثلاً يتجه على أساسٍ من الإيمان والتقوى، ولكنه يقصر في بعض الأمور، يقصر في مستوى الأداء، في مستوى الاهتمام، في مستوى الالتزام، فيكون لتقصيره ذلك أيضاً آثار سلبية تؤثر عليه نوعاً ما، أو أحياناً حتى في الموقف الواحد، يقصر الناس، يحصل بعض من الشدائد، من المعاناة، لكن مع التزام التقوى والإيمان تنفرج، هذا وعدٌ إلهيٌ عظيم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق: من الآية2]، مهما ضاقت بك الأمور، مهما تعقدت، مهما اشدت الصعوبات، فهي ستنفرج حتماً، فلينطلق الإنسان بثقة، فلينطلق بثقة واطمئنان، وليسعى إلى أن يحقق في واقعه التقوى على المستوى الكامل؛ لأن القصور أحياناً يسهم في المزيد من الضيق.

{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق: من الآية3]، هاجس الرزق يأتي أحياناً كهاجس كبير، الهاجس المعيشي والمعاناة المعيشية تؤثر على الناس، وتضغط على الناس، وهمها يقلق الكثير من الناس فيبعده عن التقوى:

التقوى في موقف: أن يقف موقف الحق الذي يرضي الله “سبحانه وتعالى”.
أو على مستوى المعاملات: التقوى في المعاملات، حتى في معاملات البيع والشراء، والأعمال المعيشية والاقتصادية.
أو على المستوى السلوكي بشكلٍ عام: فيؤثر على الإنسان إما مخاوفه، وإما أطماعه، قلقه على مسألة الرزق، ضغط الحالة المعيشية على نفسه، على واقعه، وأيضاً الأطماع لدى البعض، التي تدفع بهم إلى أن يتجاوزوا، إلى أن يقفوا موقف الباطل، إلى أن يخونوا الحق، إلى أن يتجهوا الاتجاهات الباطلة، إلى أن يعملوا الأعمال السيئة، إلى أن يغشوا في معاملاتهم، إلى أن ينهبوا الحرام، أن يأخذوا الحرام… إلى غير ذلك.
فيأتي الوعد من الله “سبحانه وتعالى بالرزق حتى من حيث لا يحتسب الإنسان المتقي لله، بالتأكيد لا يعني هذا أنه يرزقه من حيث يحتسب، إنما يعني: من حيث يحتسب، ومن حيث لا يحتسب، حتى من حيث لا تتوقع، أنت عليك أن تأخذ بالأسباب، عليك أن تواصل مشوار حياتك، أن تنهض بمسؤولياتك، أن تؤدي واجباتك، وأن تثق بالله “سبحانه وتعالى”.

{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق: من الآية3]؛ لأن الإنسان أحياناً قد يكون ضمن حساباته قد وصل إلى مستوى المشكلة، إلى مستوى العائق والخط المسدود، من حيث حساباته، وتقديراته، وأساليبه، ووسائله المتاحة، ضاقت من هنا، وضاقت من هناك، وتعقدت من هنا، وتعقدت من هناك، فيفرِّج الله من حيث لا تتوقع، ويأتي من حيث لا تتوقع، فتنفرج الهموم، تنفرج الأمور، هذا يشجع الإنسان على المستوى الشخصي، والمجتمع كمجتمع أن يثق بالله، ألَّا ييأس إذا مرَّ بضائقه، إذا مرَّ بمعاناة، مثل ما هو حال شعبنا تجاه الحصار الذي يعانيه من تحالف العدوان، المهم هو أن نأخذ بالأسباب، المهم هو أن نعمل في إطار التقوى، أن نجد في إطار التقوى، والانفراجات تأتي من الله “سبحانه وتعالى”: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق : من الآية3]، من يتوكل على الله؛ لأن التوكل أيضاً مرتبطٌ بالتقوى، فهو يثق بالله، ويعتمد الله، ويثق بوعد الله أنه سيتحقق، وأن الله لن يخذله، مهما كان حجم التحديات والصعوبات، فهو يبقى واثقاً بالله “سبحانه وتعالى”، ومواصلاً لتقوى الله “سبحانه وتعالى”، فالله حسبه، كافيه، كافيه، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}[النساء: من الآية45]، كفى بالله معيناً.

الله “سبحانه وتعالى” الذي إذا توكلت عليه هو كافيك، وهو معينك، وهو ناصرك، وهو الذي يتولى رعايتك فيفرِّج عنك، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}[الطلاق: من الآية3]، فما أراد الله أن يمضيه أمضاه، ما أراد أن ينفذه نفذه، فهو القادر على تحقيق وعده، وإنجاز ما وعد، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: من الآية3]، جعل لكل شيءٍ من الأمور، على مستوى الأرزاق والآجال، على مستوى النتائج للأشياء، على مستوى التأثيرات للأشياء، على مستوى النتائج للأشياء، كل شيءٍ له قدر معين، كل شيءٍ مضبوط بمعيار الحكمة الإلهية، فالأمور في سيطرة الله “سبحانه وتعالى”، لا تخرج عن سيطرته أبداً، يقول أيضاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطلاق: من الآية4]، ييسر ما تعسر، مثلما قال في آيةٍ أخرى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق: من الآية7]، ويأتي باليسر أحياناً ليترافق مع العسر، فتنفرج آفاق وأبواب إذا اغتلقت أبواب، كما قال “جلَّ شأنه”: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، وكما قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: 5-6]، فهنا تكون هواجس العسر، العسر في الحالة المعيشية، العسر في الظروف العملية، ظروف عملية فيها صعوبات، فيها عسر، فليطمئن الإنسان بتقوى الله “سبحانه تعالى”، وبالسعي للكمال في التقوى، يعني: أحياناً قد تضيق الأمور أكثر لإغفال جوانب من تقوى الله “سبحانه وتعالى”، جوانب عملية فيها وقاية من كثيرٍ من الشرور، من كثيرٍ من المعاناة، فعندما يتجه الناس للأخذ بالأسباب وتكامل التقوى، يأتي من الله “سبحانه وتعالى” التيسير لأمورهم، فبعد العسر يأتي اليسر.

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}[الطلاق: من الآية5]، سيئات ما قبل، والسيئات التي تأتي على نحو الزلات، فيتوب الإنسان منها، ويرجع منها إلى الله “سبحانه وتعالى”، {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}[الطلاق: من الآية5]، يُعَظِّم له الأجر الكبير، فيحصل على مكاسب كبيرة من الله “سبحانه وتعالى”، تتجلى في رعايته في عاجل الدنيا، وما أعده لك في آجل الآخرة من جنته ورضوانه.

هكذا نجد أن التقوى هي الخيار الصحيح، لصلاح حياتنا، لانفراجة همومنا ومضائقنا ومعاناتنا، بها صلاح حال الإنسان في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة.

نكتفي بهذا المقدار…

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...