الجمعة، 30 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية السابعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ


بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ


الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نعود إلى الحديث على ضوء الآية المباركة في سورة الأنعام، وكان سياق الآية في قوله “سبحانه وتعالى”: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[الأنعام: من الآية151]، وتحدَّثنا على ضوء هذه الآية المباركة، وعلى ضوء هذا النص، هذه الفقرة من هذه الآية عن كيف يتعامل البعض مع مشكلة الفقر، وبالذات الفقر الشديد (الإملاق)، وقد يدفع البعض تدفعه معاناته من الفقر الشديد إلى أن يعتمد على وسائل محرَّمة، على وسائل محرَّمة، يسعى من خلالها لعلاج هذه المشكلة، أو للتعامل مع هذه المشكلة، وقد يظلم أبناءه وبناته، وقد يرتكب محرَّمات أخرى، وقد يظلم المجتمع من حوله، وقد يظلم البعض، فالوسائل المحرَّمة كثيرة التي يلجأ إليها البعض في التعامل مع هذه المشكلة، تحدَّثنا عن البعض، ونتحدث- إن شاء الله- لاحقاً في المحاضرات القادمة عن جوانب أخرى.

الله “سبحانه وتعالى” بعد هذا النهي قال “جلَّ شأنه”: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، فهو هنا “سبحانه وتعالى” يلفت نظرنا إلى كيف نتوجه بشكلٍ صحيح لمكافحة هذه المشكلة، ولمواجهة هذه المشكلة: بالعودة إلى الله “سبحانه وتعالى”، والالتجاء إليه “جلَّ شأنه”، والأخذ بأسباب الرزق، والاعتماد على توجيهاته “جلَّ شأنه”، {نَحْنُ}: الله “جلَّ شأنه”، الرزاق، الكريم الوهاب، الغني الحميد، ذو الفضل الواسع العظيم، من بيده ملكوت كل شيء، من بيده خزائن السماوات والأرض، يقول “جلَّ شأنه”: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وهذا طمأنة، وضمانة، ووعد إلهي لا يمكن أن يتخلَّف أبداً؛ لأن الله “جلَّ شأنه” لا يخلف وعده أبداً، يقدِّم الضمانة لعباده، ولمن يعانون من هذه المشكلة أيضاً، أنه متكفلٌ برزقهم وبرزق أولادهم: بنين وبنات، فهذه الضمانة مهمة جداً؛ لأنها أول ما تعالجه في مشكلة الفقر: هو القلق النفسي، والضغط النفسي؛ لأنه يترك تأثيراً سيئاً جداً على الإنسان، ويكون هو الدافع لارتكاب الجريمة، والدافع للاعتماد على وسائل محرَّمة، القلق، والضغط النفسي، والتوتر النفسي، والانزعاج النفسي.

عندما يكون الإنسان معانياً من جهة، وفاقداً للأمل في الحصول على متطلبات حياته الضرورية من جهةٍ أخرى بالطريقة الصحيحة، والطريقة السليمة، والطريقة المشروعة، فهذا الضغط النفسي يؤثِّر عليه، فمع يأسه يفكِّر بوسائل محرَّمة، ويوسوس له الشيطان أيضاً ويشجِّعه، وقد يأتي أيضاً من شياطين الإنس من لهم أنشطة واهتمامات وأعمال كثيرة جداً وفق الوسائل المحرَّمة، وبالطرق غير المشروعة، فيسوِّلون له أيضاً، ويوسوسون له، ويشجِّعونه على الاتجاه معهم في الاتجاهات الخاطئة، وفي اعتماد الوسائل والأساليب المحرَّمة، فهذه ضمانة مهمة لمعالجة هذه الحالة النفسية، وعلى الإنسان أن يثق بالله “سبحانه وتعالى”؛ وبالتالي يتجه الاتجاه الصحيح لمواجهة هذه المشكلة، بدءاً بالالتجاء إلى الله “سبحانه وتعالى”، ثم الأخذ بالأسباب التي أرشد إليها.

الله “سبحانه وتعالى” من أسمائه الحسنى: الرَّزاق، هو الذي يرزق، وهو “سبحانه وتعالى” خلق لنا الأرزاق، خلق الأشياء الكثيرة جداً، وأنعم علينا بالنعم الوافرة جداً، التي فيها رزقٌ لنا، تلبِّي احتياجاتنا، تتوفر لنا من خلالها متطلبات حياتنا، وأساسيات معيشتنا، وما نحتاج إليه.

عندما نعود إلى القرآن الكريم نجد في آياته الكثير والكثير من الحديث عن نعم الله “سبحانه وتعالى”، وعما أعده لنا من الأرزاق؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” هو الرَّزاق، كما قال “جلَّ شأنه” عنه نفسه: {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات: من الآية58]، الرَّزاق ذو القوة، المقتدر على أن يخلق ما يشاء ويريد مما يحتاج إليه عباده، ومما تحتاج إليه خليقته، والقادر على إيصال ذلك إليهم، والقادر على أن يجعله على النحو الذي يناسب احتياجاتهم، فلا يعجز ولا يضعف “جلَّ شأنه” عن ذلك.

يقول جل شأنه: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الجمعة: من الآية11]؛ لأن رزقه واسع، ورزقه عظيم، ورزقه على أرقى مستوى، نعمه نعمٌ عظيمة.

يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}[هود: من الآية6]، وليس فقط بني آدم، وليس فقط الإنسان، إنما كل الدواب التي على الأرض، {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، فهو قد خلق أرزاقها، وهيَّأ لها الهداية إلى أرزاقها، وسخَّر لها ما تحتاج إليه في ذلك، وهيَّأ لها الظروف المناسبة لذلك، كل ما يتطلبه الموضوع هيَّأه، {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}[هود: من الآية6]، هو قادرٌ “جلَّ شأنه” على تدبير أمر رزقها، {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود: من الآية6].

يقول “جلَّ شأنه”: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ}[العنكبوت: من الآية17]؛ لأنه هو الرزَّاق، هو الذي بيده خزائن السماوات والأرض، هو الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي هو على كل شيءٍ قدير، فنطلب منه الرزق، ونبتغي منه الرزق، ونأخذ بالأسباب العملية، والأسباب المعنوية، والأسباب المتنوعة التي أرشدنا إليها للحصول على الرزق والبركة.

يقول “جلَّ شأنه”: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}[الإسراء: من الآية70]، هو “سبحانه وتعالى” رزقنا، وليس أيَّ رزقٍ عادي، إنما من الطيِّبات، رزق بني آدم من الطيِّبات، من طيِّبات الرزق، ولهذا النعم التي أنعم بها علينا، ورزقنا بها في الحياة، هي كلها في إطار الطيِّبات، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: من الآية70].

يقول “جلَّ شأنه” أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[فاطر: الآية3]، هو “جلَّ شأنه” الذي خلق كل ما نحتاج إليه، متطلبات حياتنا الأساسية هي من خَلْقِه، خلقها رزقاً لنا، ونعمةً علينا، وجعلها من الطيِّبات، في المأكولات، والمشروبات، والملبوسات… ومختلف أغراض الحياة للإنسان، ليس هناك إلهٌ آخر يمكن أن نقول: [أمَّا تلك النعم فهو الذي أوجدها وخلقها من العدم].

يقول “جلَّ شأنه” أيضاً: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ}[الشورى: من الآية12]، يعني: يوسِّعه، {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}[الشورى: من الآية12]، يجعله بِقَدَر، وفق حكمته “سبحانه وتعالى”، لكنه يرزق، يرزق الجميع، ويصل رزقه إلى الجميع.

من أسمائه “سبحانه وتعالى”: الوهاب، من أسمائه الحسنى، فهو المنعم واسع النعمة، والذي يهب الكثير والكثير من نعمه لعباده، سواءً ما كان منها النعم الجماعية، أو على مستوى كل شخصٍ منهم، أو مستوى ما أنعم به على البعض منهم، الوهاب، فهو يهب الكثير والكثير والكثير بغير حساب، يقول “جلَّ شأنه”: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}[ص: الآية9].

من أسمائه الحسنى “سبحانه وتعالى”: الكريم، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار: الآية6]، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية78]، ولذلك نعمه واسعةٌ جداً، عطاؤه عطاءٌ واسعٌ جداً، وعطاءٌ كريم، يقدِّم أحسن الأشياء، أفضل الأشياء، ذات جودة عالية، ذات منفعة كبيرة، ذات جمال وروعة، نجد هذا في مختلف ما أنعم به علينا من المأكولات وغيرها.

قرأنا في سورة الرحمن في الحديث عما فيها من النعم، وما عرضه الله لنا من النماذج من النعم العامة، وكيف هي على أرقى مستوى، وتحدَّثنا على ضوئها عن كثيرٍ من النعم، وهناك أيضاً حديثٌ واسعٌ جداً في القرآن الكريم عما أنعم الله به، بدءاً من الحديث عن تجهيز هذه الأرض بمتطلبات احتياجاتنا كافة، الأرض بكلها ككوكب نعيش عليه، هيَّأها الله لحياتنا من كل الجوانب، ووفر فيها كل متطلبات حياتنا، فهو “جلَّ شأنه” يقول: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[الأعراف: الآية10]، فهيَّأ فيها ما نحتاج إليه لمعيشتنا، ومكننا، هيَّأ لنا فيها الحركة، العمل، السعي فيها للإنتاج، فأتى التمكين مع ما أعدَّ فيها من النعم، وما جعل فيها من المعايش، ما نحتاج إليه لمعيشتنا، فهيَّأ فيها ما نحتاج إليه من المعايش، وجعل حتى في البشر أنفسهم على المستوى المعرفي والذهني، وعلى مستوى ما منحهم من طاقات وقدرات، وهيَّأ لهم من وسائل وأسباب ما يصلون فيه إلى معايشهم، وما تتوفر لهم من خلاله احتياجاتهم ومتطلباتهم الأساسية.

يقول “جلَّ شأنه” أيضاً عن الأرض: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}[الحجر: من الآية19]، يعني: جعلها مبسوطة، هي كروية، ولكنها مبسوطة، وليست كلها أماكن شاهقة، ومعلَّقة، وصعبة الحركة، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}[الحجر: من الآية19]، الجبال التي تثبتها، وتجعلها مستقرةً، لا تكون مضطربةً، حتى لو كانت في حركة، فهي حركة من دون اضطراب يؤثِّر على حياة الإنسان، والجبال بنفسها كثيرٌ منها جعلها الله مغطاة بالتراب؛ حتى يتهيَّأ عليها السكن، والزراعة، والاستفادة منها، وكثيرٌ منها أودع الله فيها أصناف وأنواع من المعادن، ويستفيد الإنسان منها في عملية البناء، ويستفيد الإنسان منها في أغراض كثيرة، مع أنها تقوم بمهمة رئيسية في استقرار حياة البشر على الأرض؛ باعتبارها رواسي.

{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحجر: من الآية19]، مختلف النباتات، مئات الآلاف من النباتات المتنوعة، والتي لها فوائد متنوعة، تنفع هذا الإنسان، شيءٌ منها: في غذائه، شيءٌ منها: في طبه وعلاجه، شيءٌ منها: في ملبسه وكسائه وأثاثه، شيءٌ منها: في مسكنه ومتطلبات عمرانه… فوائد كثيرة جداً، إضافة إلى فائدتها على الأرض نفسها فيما يتعلق بالأوكسجين، والتمثيل الضوئي ومنافع أخرى، وفائدتها أيضاً للثروة الحيوانية التي يستفيد منها الإنسان كذلك، وكلها بشكلٍ متوازن، وبقدرٍ مناسب.

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}[الحجر: من الآية20]، ما تحتاجون إليه في معيشتكم، في أكلكم، في شربكم، في غذائكم، في متطلبات حياتكم، في وسائل دخلكم، {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}[الحجر: من الآية20]، الدواب والحيوانات الأخرى التي هي خارج إطار اهتمامكم في هذه الحياة.

وهكذا أيضاً يذكِّرنا بهذه النعمة، ويلفت نظرنا إلى استثمار هذه النعم، من منطلق أنه استخلفنا على هذه الأرض، وجعل لنا هذا الدور المهم في استثمار نعمها وفق توجيهاته وهديه، يقول “جلَّ شأنه”: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: الآية15]، هو “سبحانه وتعالى”، هو ربنا الذي يجب أن نعبده، وأن نشكره، وأن نتحرك في استثمار نعمه وفق توجيهاته وتعليماته؛ لأنها التعليمات الصحيحة التي يتهيأ لنا من خلالها الاستثمار لنعمه على أرقى مستوى، وبما يحقق لنا التكامل المعنوي والمادي، والسمو الروحي مع بعض.

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا}، هيَّأ الله لنا الأرض لنعمل عليها، لنتحرك عليها، لنسافر فيها، لنعمل فيها الأشياء الكثيرة جداً وهي مهيأة لذلك، مسخَّرة لذلك، وهذا عامل مهم جداً في التمكين في النعمة، كان بالإمكان أن تكون هذه الأرض كثيرة الزلازل جداً، ومضطربة، ومليئة بكلها بالبراكين، وفي وضعية غير مستقرة، فتكون الحياة عليها صعبةً جداً، لكن الله هيَّأ لنا أن تكون ذلولاً: مستقرةً، وتستقر الحياة عليها، وأن يتهيَّأ لنا فيها الكثير من الأعمال والأشغال في ظاهرها وباطنها.

{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}، مطلوب منا أن نستثمر هذه النعم، أن نتحرك في هذه الأرض، أن نعمل، لا يمكن أن نستفيد من هذه النعم ونحن نعتمد على البطالة، والجمود، والكسل، والإهمال، والقعود، لا بدَّ من الحركة، من الأخذ بالأسباب، والله “سبحانه وتعالى” زوَّد الإنسان في مداركه ومعارفه، وهداه وألهمه، وجعل له أيضاً في وسائل هذه الحياة ما يستفيد منه، {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، فهيَّأ المعايش، وهيَّأ الأسباب والوسائل، ومع ذلك سخَّر، يقول “سبحانه وتعالى”: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[لقمان: الآية20]، نعمة التسخير هي نعمةٌ عظيمةٌ جداً؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” خلق هذه النعم، نعم كثيرة جداً، وموارد ضخمة جداً للثروات التي يحتاج إليها الإنسان، ويستفيد منها الإنسان، وينتفع منها الإنسان في شتى مجالات حياته، ولكن مع ذلك سخَّر، فهو جعل هذه النعم وفق نظم، وجعل فيها خصائص يستفيد الإنسان من خلالها بأشكال كثيرة، وبأساليب متنوعة، وبأشكال متعددة، فيكون لك في استخدام أي نعمة من النعم طرق كثيرة، وفوائد كثيرة، ومنافع متنوعة، وهذه من النعم العجيبة جداً التي أنعم الله بها على الإنسان.

 

في مسألة التسخير يأتي الحث لنا في القرآن الكريم إلى التفكير، والتفكر، ودراسة هذه الأشياء، دراسة هذه النعم، معرفة ما أودع الله فيها من الخصائص والمنافع، وكيفية استثمارها، والانتفاع بها، والاستخراج لها، وإعادة إنتاجها بأشكال متنوعة ومتعددة.

أيضاً النظم والسنن الكونية، والقوانين الكونية، التي أودعها الله في السماوات وفي الأرض، وفيما يتعلق بمختلف ما خلقه لنا في هذه الحياة، وأتى أشياء كثيرة جداً، مما يدرس الآن في علم الفيزياء، وفي علم الكيمياء، ما يجعل لدى الإنسان إمكانية واسعة لاغتنام هذه الثروات، والانتفاع من هذه المنافع التي أوجدها الله “سبحانه وتعالى”، كل ذلك عن طريق التسخير، الله “سبحانه وتعالى” هو الذي هيأ لنا هذه النعم، وجعل فيها هذه الخصائص، وجعل فيها أيضاً إمكانية أن نستثمرها وننتفع منها بأشكال متعددة، ثم الوسائل لذلك، الوسائل التي نحتاج إليها في ذلك، الله “سبحانه وتعالى” هو الذي هيأ لنا هذه الوسائل، التي ساعدتنا في حركتنا في الحياة، وفق نظم جعلها وفق تدبير وتهيئة وتسخير لهذه الأشياء التي خلقها لنا، فننتفع منها بأشكال كثيرة جداً.

عنوان التسخير هو من أهم العناوين في القرآن الكريم، وهو يلفت نظر الإنسان إلى استثمار هذه النعم والحركة فيها، والاستفادة من ذلك، من خلال العلم، التفكير، التجربة، الدراسة، الهداية الإلهية التي تأتي له في ضمن ذلك، في ضمن اهتماماته العلمية الصحيحة، في ضمن اهتماماته، في تجاربه في الحياة، في ضمن توجهه لاستثمار هذه المنافع.

{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ}[لقمان: من الآية20]، أسبغها وأتمها، نعم كثيرة جداً ووافرة، {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، منها ما هو ظاهر أمام أعيننا مشاهد وملموس، ومنها ما هو باطن:

إما باطن في الأرض، في باطن الأرض، نستخرجه من باطن الأرض، مثل ما فيها من الثروة النفطية، والمعادن، والخيرات الكثيرة جداً.

أو موجود، إنما خارج إدراك الإنسان، لكنه بالتجربة يكتشفه ويلمسه، مثل ما قصة الأثير، مثل ما يستفيد الإنسان منه في الموجات التي يعتمد عليها في الاتصالات، وفي غير ذلك.

وكذلك ما لا ينتبه له الإنسان من النعم ويغفل عنه، وهو كثير في ألطاف الله “سبحانه وتعالى”، وفي رحمته الواسعة، وفي فضله الواسع.

الله “سبحانه وتعالى” أيضاً يقول في القرآن الكريم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}[إبراهيم: من الآية32]، الماء من الثروات الأساسية، ومن الاحتياجات الضرورية، يعتمد عليه الإنسان في حياته بشكلٍ واسع، بدءاً من الشرب، وكذلك بشكلٍ أساسيٍ جداً فيما يتعلق بالزراعة، الماء ثروة مهمة جداً، ونعمة عظيمة، من النعم العظيمة التي أنعم الله بها علينا، وأيضاً هيأ لنا وسائل للاستفادة من هذه الثروة بأشكال كثيرة، وأيضاً في التعامل معها، عندما تأتي الأمطار، تأتي مياه كثيرة جداً، ولكن في كثيرٍ من الدول يتجه البشر إلى كيف يخزنون هذه المياه بشكلٍ أفضل، في سدود، في حواجز، في برك، في أشكال متنوعة.

عندنا نحن العرب تقصير في هذا الجانب وقصور، قصور في العناية بالاستفادة من تخزين هذه المياه، ومن حسن تصريفها، حسن تصريفها وفق قنوات، ضمن أنشطة واهتمامات زراعية واسعة منظمة، ولذلك تجد كيف تتحول المسألة إلى مشكلة في كثير من المناطق، الكثير من الناس يبنون منازلهم في مجرى السيل، وتأتي المآسي، وتتكرر مثل هذه المآسي، أيضاً لا ينظمون تصريف هذه المياه التي تأتي وتتدفق من الأمطار، وفق طريقة يستفاد منها في الزراعة، فتتحول الأمطار إلى مشكلة عند الكثير من الناس، وفي الكثير من المناطق، لهذا السبب، وتتحول- في نفس الوقت- مشكلة الجدب مشكلة أخرى، فإن جاء جدب، صاح الناس من الجدب، وإن جاءت الأمطار ونعمة الغيث، صاح الناس من ذلك، وكثرة الإشكالات، والمشاكل، والمعاناة، والمآسي في كثيرٍ من الأحيان، ليس هناك حُسن تعامل، ورشد في التعامل مع هذه النعم، هذه نعمة، كيف نتعامل معها؟ كيف نستفيد منها على نحوٍ واسع، بأشكال متنوعة، بوسائل متنوعة؟ ذهنية الناس- خاصةً لدينا نحن العرب- بعيدة عن التركيز على هذه الأمور؛ لأن واقع الحياة عند العرب أصبح عشوائياً إلى حدٍ كبير، وفوضوياً إلى حدٍ كبير؛ لأنهم فقدوا عناصر أساسية تبنى عليها النهضة والحضارة.

{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، فالشيء الصحيح أن يتجه الإنسان- مع الشكر لله “سبحانه وتعالى”- إلى استثمار هذه النعمة، إلى العمل على كيفية الاستفادة منها بشكلٍ واسع، إلى حسن تصريفها، لاحظوا حتى عندما تنزل، تنزل سيول ضخمة جداً إلى مناطق زراعية، إلى الجوف مثلاً، أو إلى تهامة، أو إلى مناطق أخرى، مسألة الاستفادة منها، تصريف هذه المياه، عبر قنوات مفيدة للزراعة عمل ضعيف جداً، وغائب إلى حدٍ كبير، في المناطق نفسها كان الآباء والأجداد يهتمون بالبرك وخزانات المياه بأفضل من الآن بكثير، غابت هذه المسألة إلى حد كبير لدى الناس، الحواجز والسدود لم تكن من المشاريع الرئيسية التي تهتم بها الدولة فيما مضى، ولا المواطنون، الحواجز للمياه بأشكال متنوعة مسألة ضعيفة جداً، ويقل الاهتمام بها، لا التصريف، ولا وسائل وإمكانات التخزين للمياه.

{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}، الزراعة، الزراعة بمختلف محاصيلها: الفواكه، الحبوب، مثل: الذرة، البر، الشعير…إلخ. مختلف أنواع المحاصيل الزراعية: الخضروات…إلخ. ثروة ومورد ضخم؛ لأنه عند الحديث عن الجانب الاقتصادي، من أول ما يأتي الحديث عنه: الموارد، الموارد العامة التي تمثل ثروة حقيقية للأمة، المياه، الزراعة، الزراعة ثروة رئيسية، ثروة مهمة، ثروة عظيمة، إذا أحسن الإنسان الاستفادة منها، واشتغل فيها بشكل صحيح، والتزم فيها بالضوابط الشرعية والتوجيهات الإلهية، تأتي له البركات أيضاً، وتعالج له مشاكل كبيرة في حياته، ونأتي- إن شاء الله- للحديث عن هذه الأمور لاحقاً.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}[إبراهيم: 32-34]، حتى نعمة الوقت، نعمة الوقت من النعم العظيمة جداً، إذا أحسن الإنسان استثمار وقته، وهي من النعم التي يهدرها الناس، من أكثر ما يفرط الناس فيه هو في نعمة الوقت، كم يضيعون من الأوقات في أشياء تافهة، كم يضيعون من الأوقات في كلام كثير جداً، بالذات عندنا في اليمن مع القات، تأتي الأفكار الخيالية، وعلى حسب التعبير المحلي [الهدرة]، كلام كثير لا فائدة منه، وتضييع أوقات طويلة جداً، حتى نعمة الوقت من أعظم النعم، من أهم النعم، إذا أحسن الإنسان إدارته، ونظمه، واستثمره في العمل، وتخلص من الأشياء الكثيرة التي لا قيمة لها، لا أهمية لها، لا داعي للكلام الكثير عنها، كثير من الأمور لا داعي للكلام الكثير عنها، يمكن أن يختصر الكلام بشأنها؛ لاستثمار الوقت، وإن شاء الله نتحدث أيضاً عن نعمة الوقت في وقتٍ لاحق بشكلٍ أوسع.

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}، كل متطلبات حياتنا قد أوجدها الله لنا، إنما بقي كيف نستثمرها، كيف نعمل فيها، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، نعم واسعة جداً، وكثيرة جداً، وهائلة جداً، لا يمكن إحصاؤها وحصرها، إلى هذه الدرجة.

يقول “سبحانه وتعالى”: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا}، الأنعام: الإبل، البقر، الغنم (الماعز، والضأن)، من أعظم النعم، ثروة حيوانية ذات أهمية كبيرة جداً في حياة الإنسان؛ إنما كيف يستثمر هذه النعمة؟ كيف يستفيد منها؟ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل: 5-6]، الثروة الحيوانية، إضافة إلى الثروة الزراعية، ثورة ضخمة جداً، ومهمة جداً، والإنتاج منها إنتاج واسع، الإنتاج الغذائي إنتاج واسع، الحليب ومشتقاته الكثيرة جداً، اللحوم، وهكذا، أشياء كثيرة، الزبدة، وأيضاً في الدفء والأثاث، والملابس، منه أشياء كثيرة جداً، ومع جماله، ومنافع أخرى، منافع أخرى، فهي من الموارد الضخمة والمهمة، والمهيأ للإنسان أن يستثمر فيها، أن يربي أبقاراً، أو أغناماً، أو ماعز، أو إبل، تنتج، ويكون مصدر رزق مهم له.

كان العرب فيما مضى يهتمون بهذه الثروة، إلى حد أنها كانت من عمولاتهم الرئيسية التي يدفعون فيها الديات، ويدفعون فيها المهور، ويدفعون فيها أشياء كثيرة، وكان لديهم مئات الآلاف من هذه النعمة، من الأنعام، من المواشي، من الأبقار، والأغنام، والإبل، كانت ثروة رئيسية في العالم العربي، الآن تقلصت وتركها أكثر الناس، الناس أفقروا أنفسهم، أفقروا أنفسهم، يذهبون إلى الفقر، إلى الفقر، سياسيات خاطئة، أفكار خاطئة، يتكدسون في المدن، ويجلسون في شقق منعزلة، ويتركون أرض الله الواسعة، حيث يمكنك أن تربي أبقاراً وأغناماً، وإبلاً، وتمتلك هذه الثروة، وتنتجها، وتستفيد منها في غذائك، وتمثل مصدر دخل لك، لكن ماذا؟ يتهربون يعني، هناك تيه عجيب في العالم العربي.

يقول “سبحانه وتعالى”: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: الآية14]، الثروة البحرية ثروة ضخمة جداً، فيها المأكولات، الأسماك، نعمة كبيرة جداً؛ إنما كيف يستثمر الإنسان هذه النعمة بشكل صحيح ولا يخرب، ولا يخرب، وكيف ينمي وسائل الإنتاج، ويطور وسائل الإنتاج، وينظم آليات العمل، بطريقة تكون عملية الإنتاج أقل كلفة وأكثر وفرة، إضافة إلى الحلية: الزينة، حتى الزينة تستخرج من بين البحر، الحركة فيه، الحركة التجارية، حركة السفن والقوارب…إلخ. وسيلة للحصول على النعمة، ووسيلة للشكر، حتى للدين، شكر النعمة، فتكون نعمة الشكر نعمة حاضرة، وليس فقط نعمة الصبر على الفقر، بل ونعمة الشكر على النعمة.

موارد ضخمة، الأرض مورد اقتصادي ضخم، فيها المعادن بكل أنواعها، فيها ما يحتاجه الإنسان للعمران والبناء… أشياء كثيرة جداً تستخرج من الأرض، ثروات ضخمة.

الزراعة ثروة ومورد ضخم جداً ومتاح، هناك أراضي زراعية شاسعة جداً، واسعة وكثيرة، ومناطق لا زالت أكثرها مهملة، لم تستصلح بعد، والقطاع الزراعي مورد ضخم جداً، ويمكن تطويره، وتحسين الإنتاج فيه، وتقليل التكاليف…إلخ.

المياه مورد ضخم جداً، ويمكن الاستثمار لها، والانتفاع منها بشكلٍ أفضل، الثروة الحيوانية، الثروة البحرية، الموارد موجودة، الموارد العامة موجودة، ليس هناك أزمة في الموارد، عندنا في اليمن مثلاً، وفي مختلف البلدان العربية، وفي بقية العالم، لكن الغبن كبير في العالم العربي، والغبن كبير عندنا في اليمن، كانوا يقولون في المناهج الدراسية، وفي الإعلام الرسمي- فيما مضى- أننا بلد فقير بالموارد، هذا كذب، هذا كذب، نحن بلدٌ غنيٌ بموارده، عندك أرض، أو إن احنا في الهواء معلقين! عندك إمكانية للزراعة، بل وتنوع بيئي يساعدك على التكامل في المحاصيل الزراعية، البيئة الجبلية تنتج أنواع معينة ممتازة جداً من المحاصيل الزراعية، البيئة في المناطق الشرقية تنتج أيضاً أنواع معينة وبوفرة كبيرة وجودة عالية في محاصيل زراعية معينة، البيئة في تهامة كذلك يمكن أن تنتج محاصيل كثيرة جداً، وبجودة عالية.

هذا مهيأ، هذا ممكن، رؤوس الأموال متوفرة، الاستهلاك متوفر، الموارد موجودة، الموارد البحرية، الموارد في الأرض: المعادن… إلى غير ذلك، المياه تأتي، الأمطار تأتي، تأتي أمطار غزيرة، ومع التقوى والإيمان تأتي أيضاً بشكلٍ أكثر، ويمكن للإنسان أن يستفيد منها في تصريفها وتنظيم قنوات الري، وتنظيم عملية الري، كذلك مسألة الاستفادة منها في الحواجز، والسدود، والبرك… هذا يتطلب عمل وأفكار صحيحة، وعمل صحيح، وجد واهتمام، ومن منطلق صحيح.

أضف إلى ذلك مع كل هذه النعم والموارد الضخمة يفتح الله المزيد مع الإيمان والتقوى، الله قال “جلَّ شأنه”: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف: من الآية96]، أن يمد بالمزيد، وأن يجعل البركة في الحاصل، وأن يمن من نعمه الواسعة جداً، يفتح البركات، فالموارد الاقتصادية موجودة؛ إنما كيفية الاستثمار لها، والاستفادة منها، ووجود الدافع والحافز الكبير على العمل، هذا مما سنتحدث عنه- إن شاء الله- لاحقاً، إنما كان همنا في هذه المقدمة الحديث عن الموارد العامة، الموارد الاقتصادية العامة، فهي موجودة ومتوفرة، والله المنعم الكريم الرزاق الوهاب.

نسأله “سبحانه وتعالى” أن يمنَّ علينا وعليكم من واسع فضله، وأن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الخميس، 29 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 16رمضان 1442هـ 28-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛

بمناسبة قدوم الذكرى التاريخية لغزوة بدرٍ الكبرى، كان من المهم أن تكون هذه المحاضرة متعلِّقةً بهذا الموضوع الذي له الأهمية الكبيرة جداً، فغزوة بدرٍ الكبرى لها أهميتها الكبرى في تاريخ الأمة:

من حيث ما نتج عنها من متغيرات، وما صنعته من تحولات امتدت وتمتد إلى قيام الساعة.
ومن حيث القائد الذي كان يقود هذه المعركة، وهو النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، بكل ما يمثله ذلك من موقع القدوة والأسوة، ويأتي الحديث عن هذه النقطة- إن شاء الله- على نحوٍ تفصيلي.
ومن حيث الدروس والعبر التي نحن كمسلمين في أمسِّ الحاجة إليها في هذا العصر، وما نواجهه فيه من تحدياتٍ وأخطار، دورس وعبر تصحح لنا الكثير من المفاهيم، ونستفيد منها فيما نحتاج إليه من فهمٍ صحيح، ووعيٍ صحيح، ورؤيةٍ صحيحة لمواجهة التحديات والأخطار.
وقبل أن ندخل في هذه التفاصيل، والحديث عن هذه النقاط في حيثيات أهمية هذه الغزوة، نتحدث أولاً على ضوء موجزٍ عن هذه الواقعة:

رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" ما بعد هجرته من مكة إلى المدينة، حظي في المدينة بنصرة الأنصار، بمجتمعٍ حاضنٍ للرسالة الإلهية، ومؤمنٍ بها، واستقر هناك؛ ليؤسس ويبني الأمة الإسلامية، بدءً من تلك النواة في الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار.

وقريشٌ ما بعد هجرة النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" من مكة إلى المدينة، لم تكف عن عدائها للإسلام وللرسول والرسالة، بل استمرت في مشوارها العدائي وبأشكال متعددة، فهي بدأت تنسِّق مع الكثير من القبائل العربية، بما فيها القبائل القريبة من المدينة، على أساس الترتيب لحصارٍ خانقٍ على المستوى الاقتصادي للمسلمين، والمقاطعة للمسلمين، ومنعهم من الحركة التجارية، ومن الذهاب إلى الأسواق في تلك المناطق والقبائل، وبدأت تعدُّ العدَّة من أجل أن تقوم بعمليةٍ عسكريةٍ إلى المدينة نفسها؛ لاستئصال النبي والمسلمين، والقضاء على الدين الإسلامي، وعملت على هذا الأساس، تحالفت مع بعضٍ من القبائل العربية، اتفقت معهم على الحصار للمسلمين اقتصادياً، وبدأت تعدُّ العدَّة من أجل تلك العملية العسكرية، وكانت تحتاج إلى التمويل المالي اللازم لتلك العملية التي تريدها أن تكون عمليةً حاسمة، فأعدت قافلةً تجاريةً إلى الشام، الهدف من هذه القافلة: أن تحصل من خلالها على التمويل اللازم الكافي لعملية كبيرة، عملية تتمكن من خلالها من تحقيق هدفها في استئصال المسلمين، وكان يقود هذه القافلة التجارية أبو سفيان زعيم المشركين بنفسه، وهذا يدلل على أهمية هذه القافلة، وهم يقولون أنها كانت قافلة تجارية كبيرة جداً، لربما أكبر قافلة تجارية، عندما كان الهدف منها هدفاً عسكرياً، من أجل التمويل العسكري.

النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" في المدينة المنوَّرة أتاه الأمر من الله "سبحانه وتعالى" بالتحرك لمواجهة هذا التهديد، وهذا الخطر، فتحرك رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" من المدينة بمن استجاب له من المهاجرين والأنصار، وكان أول تحركٍ عسكريٍّ رئيسي، ما قبله كان هناك سرايا صغيرة تتحرك، وسرايا استطلاعية في أغلب الأحوال، تستطلع المعلومات، وتستطلع للاكتشافات الجغرافية والعسكرية، وتجمع المعلومات عن تحركات الأعداء، لكن ذلك سيكون أول تحركٍ عسكريٍ رئيسي يتحرك به المسلمون، وبتوجيهٍ من الله "سبحانه وتعالى" بعد نزول الإذن من الله "سبحانه وتعالى" في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج: الآية39].

السابقة العدائية لقريش في محاربة الرسول والإسلام معروفة، وعندما كان النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" في مكة، حاربوا الإسلام بكل الوسائل، على مستوى الدعاية، والإعلام، والحصار الاقتصادي، والتعذيب حتى القتل، البعض من المسلمون عذِّبوا حتى قتلوا تحت التعذيب، وبعد هجرة النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" ومن معه من المسلمين، صودرت منازلهم في مكة، ونهبت ممتلكاتهم، وهم أخرجوا، هم أخرجوا، هجرتهم هجرة اضطرارية، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[الحج: من الآية40]، فالعداء واضح، ومظلومية المسلمين واضحة، والحالة القائمة هي حالة صراع، وانضم إلى ذلك أيضاً هذا التهديد بالترتيب لعملية عسكرية شاملة لاستئصال المسلمين، فأمام هذا التهديد، أمام هذا الخطر، كان التوجيه من الله "سبحانه وتعالى"، والأمر من الله "جلَّ شأنه" لنبيه "صلوات الله عليه وعلى آله" وللمسلمين أن يتحركوا عسكرياً لمواجهة هذا التهديد، وفعلاً تحرك النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وكان من استجاب له ما يزيد على الثلاثمائة قليلاً، في بعض الإحصائيات يقولون: (ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً تحركوا معه)، ولأن المسألة في بداياتها مسألة صعبة، ومحفوفة بهذا الجو من التهديدات، وهو أول تحرك، فقد تقاعس الكثير عن التحرك، وتخاذل الكثير عن التحرك، وكان الجو نفسه في المدينة مشحوناً بالتثبيط، والتخذيل، والإرجاف، والتهويل، وقدَّم القرآن الكريم صورةً عن هذا الموقف، وعن هذه الظروف في قول الله "سبحانه وتعالى": {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: الآية49]، فالمنافقون نشطوا بنشاط دعائي للتخذيل وللتثبيط في داخل المدينة، وأرجفوا على الناس، وأنَّ هذا التحرك هو تحرك خطير، وأنه بالتأكيد له تبعات خطيرة، وسينتج عنه مشكلة كبيرة، وأن المسلمين لا يمتلكون القوة الكافية من حيث العدد، ومن حيث العدُّة لمواجهة هذا الخطر، والنتيجة الحتمية هي الهزيمة والنهاية.

وعندما لم يقبل النبي ومن تحرك معه من المسلمين هذا الإرجاف، ولم يتأثروا بهذا التهويل، ولم يقعدوا بسببه عن التحرك والاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، قالوا عنهم هذا التعبير: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، فهم يعتبرونهم من اغتروا بالوعود الإلهية، وصدَّقوا بها، وهي وعود بالنسبة للمنافقين والذين في قلوبهم مرض خيالية، لا يمكن أن تكون صحيحة، فلا يمكن لتلك القلة القليلة من المؤمنين المجاهدين، بإمكانياتهم البسيطة المتواضعة، من حيث الإمكانات المادية أن يحرزوا النصر.

{غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، ولم يحسب هؤلاء حساب التوكل على الله "سبحانه وتعالى"، الثقة بالله، التصديق بوعده "جلَّ شأنه"، إيكال الأمور إليه، والرضا بما كتب "جلَّ شأنه"، مع الثقة بصدق وعده، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}، هو "جلَّ شأنه" يعز أولياءه، وينصرهم، ويؤيدهم؛ لأنه العزيز، {حَكِيمٌ}، وتوجيهاته هي توجيهاتٌ حكيمة، ما يأمر به هو الموقف الحكيم، هو التصرف الحكيم، هو التوجه الحكيم، هو التصرف الحكيم عندما يتصرف الناس على أساسه.

إضافةً إلى ما كان لدى بعض المؤمنين في صفوف جيش النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" من القلق البالغ، إلى درجة الاعتراض، ومحاولة إثناء النبي عن التحرك والخروج، كما بيَّنته الآية القرآنية: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6]، فالبعض من المؤمنين كانت هذه التجربة الأولى بالنسبة لهم في إطار حركة الإسلام والجهاد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، كانوا قلقين جداً، وكانوا خائفين إلى هذه الدرجة التي عبَّر عنها النص القرآني: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، فهم في وضعية كانوا فاقدين فيها الأمل بالنصر، وكانت حالة اليأس من النصر بارزةً بالنسبة لهم، حتى كأنهم إنما كانوا يساقون إلى الموت، والإبادة الجماعية، وكأن المعركة ستكون نهايتها الحتمية هو القضاء عليهم.

ولكن النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" كان واثقاً بوعد الله؛ لأنه أتى وعد من الله "جلَّ شأنه": {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال: من الآية7]؛ لأن النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" عندما تحرَّك كان هناك أيضاً في المقابل تحرك عسكري، غير القافلة التجارية التي كانت قد عادت من الشام، وهي في طريقها إلى مكة، وكان أمل المسلمين أن يلتقوا بهذه القافلة، وأن يأسروا أبا سفيان، وأن يسيطروا على القافلة التي هي بهدف التمويل العسكري أصلاً، ولكن كان هناك أيضاً تحرك للجيش من مكة، خروج لقريش بشكل عسكري، بجيشٍ كبير، أكثر من عدد الجيش الإسلامي بعدد كبير، يعني: كان عدد الجيش الإسلامي ما يقارب الثلاثمائة والثلاثة عشر، أو أكثر من الثلاثمائة بعددٍ قليل، أما أولئك فكانوا ألف مقاتل، يمتلكون من العدُّة العسكرية ما لا يمتلكه المسلمون.

فتحرك الجيش من مكة لاستهداف المسلمين، وأتى الوعد من الله "سبحانه وتعالى" كما في الآية المباركة بإحدى الطائفتين: إما الظفر بأبي سفيان والقافلة، وإما الظفر بالجيش العسكري، الطائفة العسكرية التي خرجت من مكة، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال: من الآية7]، الرغبة السائدة في أوساط المسلمين: أن يسيطروا على القافلة، وأن يتفادوا الاحتكاك العسكري، والمشكلة العسكرية، ولكن كانت إرادة الله شيئاً آخر، غير هذه الرغبة لدى المسلمين، كانت إرادة الله بما فيه الخير للمسلمين، ولهذا قال "جلَّ شأنه": {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 7-8]، كان من الواضح والمؤكد أنَّ نتيجة الاحتكاك العسكري، والاشتباك العسكري، والاقتتال مع المشركين في هذه المعركة ستكون نتائجها أفضل للمسلمين، وستكون النتائج المترتبة عليها هي أكثر أهمية من مسألة الحصول على غنائم، أو بعضٍ من الأسرى، فالنتيجة من الاشتباك العسكري هي إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وقطع دابر الكافرين وهذه نتائج مهمة جداً.

إحقاق الحق؛ لأنه سيتحول إلى حالة قائمة فعلية في واقع الحياة، من واقع النصر والتمكين، ولن يبقى مجرد فكرة مثالية يقرأها الناس، ويتمنون أن لو تطبَّق في حياتهم، الحق في تشريع الله، في هداية الله، الحق في الموقف، الحق كمنهج للحياة، سيتحول إلى حقيقة، قائمة، ثابتة، راسخة، يطمئن الناس إلى أنها أصبحت قائمةً منتصرة، وهذا من أهم النتائج الكبرى لهذه المعركة: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.

فبالرغم من الظروف الصعبة في داخل المدينة، وجو الترهيب، والإرجاف، والتهويل من جانب المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وبالرغم من كره بعض المسلمين للخروج والتحرك في هذه المعركة، ومخاوفهم المبالغ فيها، إلَّا أنَّ النبي تحرك، ووصل إلى منطقة بدر، وادٍ على بُعد مائة وستين كيلو متر تقريباً من المدينة، بينها وبين مكة، وهناك وقعت المعركة، وكانت نتائجها كبيرة، وتحقق فيها انتصار كبير للمسلمين، بدأت تلك المعركة بالمبارزة، خرج ثلاثةٌ من المسلمين: حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث رضوان الله عليهم، في مقابل ثلاثة من المشركين، وكانت هذه الجولة لصالح المؤمنين، انتصر فيها أولئك المبارزون الذين خرجوا من جانب المسلمين، وبدأ الالتحام بين الفريقين، والتقى الجمعان، وكانت المعركة كبيرة.

شهدت المعركة كثيراً من مظاهر الرعاية الإلهية للمؤمنين، أتى المطر كما في سورة الأنفال، الغيث، ووفر المياه للمسلمين، وخفف من هواء جسمهم، واغتسلوا به، وانتعشوا منه، واستفادوا منه لتثبيت جغرافيا المعركة (أرضية المعركة)، وأيضاً أتت الملائكة لتقدم الدعم المعنوي للمؤمنين، والاطمئنان إليهم، ونزلت السكينة مع نزول الملائكة، فأتت مجموعة من العوامل والظروف التي ساعدت المسلمين على تحقيق النصر، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[الأنفال: من الآية10].

من حيث العدد: كانوا قلة في مقابل عدد جيش المشركين، من حيث الإمكانيات: كانت إمكانياتهم متواضعة، ولم يكونوا- في بعض الروايات- يمتلكون إلَّا فرساً واحداً، وكانت السيوف عندهم محدودة، ليس لهم أي سلاح احتياطي، إذا انكسر سيف أحدهم لا يوجد البديل، بينما لم يكونوا مدرعين، لم يكونوا يقتنون الدروع، ويلبسون الدروع، في مقابل ما كان لدى أعدائهم من المشركين من العدة العسكرية، والدروع، والخيول، والعدة الكافية والكبيرة مقارنةً بما كان عليه حال المسلمين، وتلك الوضعية التي كانوا فيها مع مخاوفهم الشديدة، وقلة تجربة الكثير منهم في القتال ممن خرج مع النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، الكثير منهم كانت ستكون أول معركة يقاتل فيها، يأتي القرآن ليعبِّر لنا عن حالة المسلمين في تلك الظروف، في قول الله "سبحانه وتعالى": {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران: الآية123]، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، وضعية صعبة، ظروف صعبة، ومخاوف، ومع ذلك كانت هذه المعركة مصيرية، ظروفها صعبة، والإمكانيات محدودة من حيث العدد والعدة، ولكنها معركة مهمة، ومصيرية، وحاسمة، ولو تمكَّن المشركون من تحقيق أهدافهم، وقضوا على رسول الله وعلى المسلمين؛ فسيكون لهذا تأثير كبير جداً، وسلبي للغاية في مستقبل الرسالة الإسلامية، أو انهزم المسلمون فيها؛ لكان لذلك تأثير سلبي جداً في مستقبل الرسالة الإسلامية.

الناس كانوا ينظرون بشكلٍ عام في تلك المرحلة بريبة وقلق تجاه مستقبل الإسلام والمسلمين، وتجاه إمكانية أن ينتصر الإسلام، وأن يتمكَّن من قيام أمته؛ لأنهم كانوا يلحظون ضعف إمكانيات المسلمين، قلتهم، وكانوا يلحظون أيضاً مستوى الصعوبات من حيث الأعداء الكثيرون المتمكنون، دول، وكيانات، وجماعات، وقبائل، كلها كانت كافرة بهذا الدين، ومحاربة لهذا الدين، معارضة لهذا الدين، مباينة لهذا الدين، ويرون لديها القوة الكافية لمحاربة الإسلام وأهله.

ثم فيما يقابل ذلك من ضعف إمكانيات المسلمين، وقلة عددهم، وانتشارهم، وإمكانياتهم المحدودة جداً، فمن خلال ذلك كان أكثر الناس ينظر بريبة تجاه إمكانية احتمال أن ينتصر هذا الإسلام وأهله، ولكنَّ هذه الواقعة غيَّرت كل ذلك، ومثَّلت نقلةً كبيرةً جداً؛ لأن الانتصار فيها كان كبيراً، والضربة كانت موجعةً جداً للمشركين، وبقي وجعها مستمراً فيهم، حتى فيما تلاها من أحداث؛ لأنها لم تكن البداية والنهاية، كانت بداية المعركة والحرب بذلك الشكل: معارك كبيرة، ولكنها استمرت فيما بعدها، ولكن أثرها امتد لما بعدها، وكان واضحاً فيما بعد ذلك في كل المعارك التي خاضتها قريشٌ في محاربة المسلمين، كان يتجلى أثر تلك المعركة، وأنها قتلت الكثير من القيادات والأبطال الذين يعتمد عليهم العدو، وكان لها صداها في بقية الأعداء، وفي بقية الناس، في بقية المجتمع، حتى في داخل المدينة نفسها بالنسبة للمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والمتربصين، والمترددين، والمتذبذبين، كان لها الأثر البالغ والمهم جداً، ولذلك سميت هذه الغزوة المهمة جداً في القرآن الكريم بيوم الفرقان، سمَّاها الله يوم الفرقان؛ لأنها مثَّلت مرحلةً فارقة، ما قبلها وما بعدها يختلف كلياً، المسلمون فيما بعدها أهل عزة، أهل شوكة، أهل قوة، أهل هيبة، أصبحت النظرة إليهم وإلى الإسلام بنظرة مختلفة إلى من المجتمعات، من أعدائهم، وهم حتى على المستوى النفسي شعروا بالعزة، والقوة، والاطمئنان تجاه مستقبلهم ومستقبل دينهم، وثقوا بالله أكثر، تعزز إيمانهم، ارتفعت معنوياتهم، وكان لهم آثار ونتائج مهمة جداً، وأحق الله بها الحق، وتحقق بها هذا الثبات لهذا الدين، والرسوخ لهذا الدين، حتى لمستقبله إلى قيام الساعة، فسميت بيوم الفرقان، فهي ذات أهمية كبيرة؛ لأن بركاتها امتدت إلينا إلى هذا الزمن، وتمتد إلى قيام الساعة؛ لأنه لو خسر المسلمون هذه المعركة؛ لكان لذلك آثار سلبية ممتدة وخطيرة جداً، لو استشهد النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" فيها؛ لكان ذلك وأداً للمشروع الإلهي من بدايته، للمشروع الإسلامي من أوله، ولكنَّ الله "سبحانه وتعالى" نصر المجاهدين فيها نصراً عظيماً، فكان لها هذه الأهمية من حيث ما نتج عنها وما ترتب عليها.

لها أهميتها من حيث أنَّ الذي يقود المسلمين في هذه المعركة هو النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، بكل ما يمثله ذلك من أهميةٍ لنا كمسلمين، نؤمن بأنه أسوتنا وقدوتنا، في مشروعية ما يعمل؛ باعتبار ما عمله له مشروعية دينية، انطلق فيه بأمرٍ من الله "سبحانه وتعالى"، وبناءً على مقتضيات أحكام هذا الدين الإسلامي ومبادئه وشريعته، فهو يشرع، أو الله "سبحانه وتعالى" شرَّع لنا، وفرض علينا حتى، أن نتحرك في مواجهة التهديدات علينا، وعلى ديننا، مبادئنا، قيمنا، أن نتحرك على هذا النحو، كما فعل نبينا، قدوتنا أسوتنا "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، لم تكن التوجيهات تجاه ذلك التهديد، وتجاه ذلك الخطر الذي يهدد المسلمين في عقر دارهم أن يجلسوا، وأن يقعدوا، وأن ينتظروا العدو حتى يتمكن إلى نهاية المطاف، أو أن يستسلموا، وتنتهي الأمور على هذا الأساس، لا، كان هناك أمر واضح للنبي "صلوات الله عليه وعلى آله أن يتحرك على هذا النحو.

ولم تكن أيضاً الطريقة أن يتجه أمام هذا التهديد إلى المسجد، ويتجه معه المسلمون، ثم يعتكفون ليلاً ونهاراً بالدعاء الدائم، أن يدمر الله قريشاً ويستأصلها، وأن يعفيهم من أن يحتاجوا إلى قتالها، فيكفي الدعاء، ويكفي الابتهال، وتلاوة القرآن، توسلاً إلى الله أن يهلك العدو، وينتهي الأمر.

الدعاء مهم، وكان لا بدَّ منه، وهو دعا، والمسلمون دعوا، ولكنه دعاءٌ في إطار عمل، في إطار تحرك، في إطار جهاد، في إطار النهوض بالمسؤولية، وليس على أساس القعود والتنصل التام عن المسؤولية وعدم التحرك.

النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" وهو أرشد الناس وأكثرهم حكمةً، الراشد، الحكيم، الشخصية العظيمة جداً في رشده، فهمه، وعيه، وأيضاً يتحرك وفق تعليمات الله، وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، التي هي حكيمة، ورحيمة، وعظيمة، وصائبة، لم يمكن أن يشكك الإنسان بصوابيتها، كان له هذا الموقف، هذا التحرك، حمل سيفه، لبس لامة حربة، انطلق وتحرك، لم تكن المسألة أن يقعد، أو أن يكتفي بالدعاء، وهذا يبين لنا حتمية الصراع مع الأعداء، حتمية الصراع مع الأعداء؛ لأن منهج الإسلام في أساسه: هو منهج تحررٍ من الطاغوت، ومن سيطرة الطاغوت، منهج تحررٍ تبني فيه الأمة مسيرة حياتها على أساس منهج الله "سبحانه وتعالى"، وهذا بشكلٍ فوري ينتج عنه مشكلة مباشرة مع الطاغوت، مع المجرمين، مع المتسلطين، مع الظالمين، مع المستكبرين؛ لأن المستكبرين، والأشرار، والطغاة، يعملون بشكلٍ دائم على السيطرة على الناس، والتحكم بهم، والهيمنة عليهم، والاستعباد لهم.

فعندما نتحرك بناءً على انتمائنا لهذا الدين الإسلامي، بهذا الشكل الصحيح، لنبني مسيرة حياتنا على أساس منهج الله "سبحانه وتعالى"، بتحررٍ من سيطرة الطاغوت، الطاغوت يواجه توجهنا هذا التحرري، هذا التوجه التحرري والاستقلالي، يواجهه بالشر، يواجهه بالعدوان، فالنتيجة الحتمية لهذا التوجه الذي هو تحرري؛ لأن الإسلام من أول ما فيه، ومن أعظم ما فيه، ومن أهم ما فيه: أنه يحررنا، يحررنا من الاستعباد للطاغوت المستكبر، للطغاة المجرمين، ونبني مسيرة حياتنا بعيداً عن تحكمهم، إملاءاتهم، شروطهم، ووفق منهج الله "سبحانه وتعالى" وتعليماته؛ لأنه ربنا "سبحانه وتعالى"، نؤمن به، نؤمن بهديه، نؤمن بدينه، ولذلك ينتج هذا الصراع، الصراع حتمي.

لو كان بالإمكان أن تكون الدعوة الإسلامية بشكلها الإرشادي، والتعليمي، والوعظي، كافيةً في تفادي الخطر، وفي أن يتمكن المسلمون من تحقيق هذا التحرر من سيطرة الطاغوت؛ لأمكن ذلك للنبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"؛ لأنه كان الأرشد، والأحكم، والأقدر إرشادياً، هو أعظم واعظٍ، وأعظم خطيبٍ، وأعظم مرشدٍ، وأعلم وأرشد إنسانٍ، وبالتالي هو فيما يمتلكه من الحكمة، فيما أهله الله به من مؤهلات عظيمة جداً، فيما هو عليه من خلقٍ عظيم، فيما كان يمتلكه من الجاذبية الكبيرة، والتأثير الكبير، وما منحه الله من البركات والتوفيق، لو كان يمكن أن يكتفي بالإرشاد والوعظ والحديث مع الناس، ولا يحتاج إلى تحرك مسلح، لكان هو الأولى بذلك، الأولى بذلك رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، هل يستطيع أحدٌ في هذا الزمن أو في غيره أن يقدم نفسه في حكمته، أو في أخلاقه، أو في منزلته العالية عند الله "سبحانه وتعالى"، بأنه أعظم شأناً من النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" في ذلك، أكثر حكمةً، أقدر على تحقيق النجاح بدون أي صراع، لا أحد يستطيع أن يدعي لنفسه ذلك من المسلمين أبداً.

فإذاً يتضح لنا في تحرك النبي حتمية الصراع، وإلا لكان هو الأولى أن يسْلَم أعباء الصراع، ومخاطره، كان يتعرض للخطر في هذا الصراع، كان مهدداً، كان هو أول شخص مستهدف في هذا الصراع، وكان يتحمل أعباء هذا الصراع، يقدم التضحيات، يتحرك، يبذل جهده، يقوم بدورٍ رئيسي في التصدي للأعداء وهو يحرك الأمة، وهو يوجهها، وهو يعمل ليلاً ونهاراً؛ من أجل التصدي لهذا الخطر.

فلنعي حتمية الصراع مع الأعداء؛ لأنهم أشرار، مجرمون، متسلطون، طغاة، لا يسكتوا عن توجهنا التحرري والمستقل على أساس منهج الله وتعليماته، هذا درسٌ مهمٌ جداً، ويصحح الكثير من المفاهيم لدى بعض الناس السذج والأغبياء والمغفلين، الذين لديهم فكرة أخرى.

ثم أيضاً من الدروس المهمة التي علينا أن ندركها: إيجابية الصراع:

الصراع له جوانب إيجابية كبيرة جداً، ومهمة جداً، ولا ينبغي النظرة إليه نظرة سلبية تدفع إلى التنصل عن المسؤولية، والتهرب من التحرك الجاد في التصدي للأخطار، وفي إدارة هذا الصراع بشكلٍ صحيح:

الصراع هو أهم ميدان لتجلي القيم، وتجسيد المبادئ:
إيمانك، ثقتك بالله "سبحانه وتعالى"، أخلاقياتك العالية، تضحيتك، إيثارك، عطاؤك، بذلك، صدقك، وفاؤك، كل القيم المهمة أكبر ميدانٍ يجليها، تجسد فيه هذه القيم والمبادئ، هو ميدان الصراع، الإنسان إذا نزل إلى هذا الميدان بأخلاقيات الإسلام: وفاء، وشجاعة، وشهامة، ومروءة، وعطاء، وتضحية، وإيثار، ووفاء، وصدق، والتزام بالحق، وكل القيم العظيمة، أهم ميدانٍ لها هو ميدان الصراع، كل الأجواء الأخرى والميادين الأخرى لا ترقى إلى مستواه.

الوفاء، قد تكون وفياً في قضايا معينة بسيطة، لكن هل تكون وفياً أمام مخاطر كبيرة، قد يكون ثمن وفائك فيها أن تضحي بنفسك، أن تقدم مالك، أن تضطر للهجرة من منطقتك، هنا الكثير من الناس لا يرتقي وفاؤهم إلى هذا المستوى.

مصداقية الإنسان أن يثبت على موقفه الحق، حتى لو كان الثمن أن يضحي بنفسه، كثير من الناس لا يصمدون، لا يرتقون في مصداقيتهم إلى هذا المستوى، قد يكونون صادقين في أشياء بسيطة، وعادية، ومن الأمور الطبيعية، لكن أن يصدق في موقفه، في تضحيته، في ثباته، حتى لو كانت النتائج كيف ما كانت.

الإيثار، التضحية، الغيرة على المستضعفين، والتألم لألمهم، والإباء والعزة... كل هذه القيم تترجم على أرقى مستوى بشكلٍ عملي في ميدان الصراع.

الصراع أيضاً هو محك لمصداقيتك مع الله في انتمائك الإيماني:
هل تثق به؟ هل تثق بوعده؟ هل تثق بقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]؟ هل تثق بقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}[الحج: من الآية40]؟ هل تثق بقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]؟ مصداقيتك في تصديق هذه الثقة، في الإيمان بهذا الوعد الإلهي، عندما تتحرك على أساس ذلك؛ أما عندما لا تجرؤ على أن يكون لك الموقف الحق والتحرك الجاد، فهذا يدل على خلل في مدى ثقتك بالله "سبحانه وتعالى".

ميدانٌ للفرز والاختبار:
فرز المجتمع المسلم، اختبار مهم جداً، قد يكون الكثير من الناس من أهل الخير، وما شاء الله عليهم، إذا الأمور والظروف عادية، وقد يتظاهرون بثباتهم على مبادئ هذا الدين وقيمه وأخلاقه، والتزامهم بتوجيهات الله "سبحانه وتعالى"، ولكن- كما قلنا- في ظل الظروف الاعتيادية والطبيعية، يقولون عندنا في المثل الشعبي: [يوم العيد كلاً جيد].

لكن أمام التحديات والمخاطر، يأتي هذا الفرز، ليتبين الثابتون، الصادقون، الأوفياء، مِن مَن ليسوا كذلك، ممن إيمانهم ضعيف، ووعيهم ضعيف، ممن ليسوا أصلاً يحافظون على الحد الأدنى من الانتماء الإيماني، من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ولهذا كان يركز القرآن الكريم على أن يجعل من مسألة الولاء والموقف، والتحرك في سبيل الله، والقتال في سبيل الله، علامةً مميزةً للمؤمن الصادق من غيره، وعملية فرزٍ للمجتمع المسلم؛ حتى يتبين الناس، وكان هذا هو المحك الذي يفرز ويبين ويغربل، هو الغربال الضخم، الذي يغربل المجتمع الإسلامي والساحة الإسلامية، هذه سنة من سنن الله "سبحانه وتعالى"، كما قال في القرآن الكريم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179]، وكما قال "جلَّ شأنه": {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة: من الآية16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا هكذا على ما أنتم عليه، بدون أن يتضح من سيجاهد، من سيكون وفياً في ولائه، لا يدخل في ولائه ولاءات أخرى، ميول أخرى، ارتباطات أخرى، بأعداء الله، بأعداء الإسلام، بأعداء المسلمين، لا بدَّ من هذا الفرز، يعني: أنه لا بدَّ من هذا الفرز، من هذا الاختبار، من هذا الغربال، ولا بدَّ منه في كل زمانٍ ومكان.

يأتي قول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، يعني: نختبركم، الاختبار الذي يبين حقيقتكم، يجليكم، يفرزكم، يغربلكم، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد: الآية31]، فيأتي في إطار الصراع هذه الغربلة للمجتمع المسلم، يتبين المجاهدين، الصابرين، الصادقين، الأوفياء، الثابتين، ويتبين المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، ويتبين ضعاف الإيمان الذين لديهم رؤى أخرى واتجاهات أخرى.

من إيجابيات الصراع أنه عاملٌ مهمٌ في النهضة، وعاملٌ مهمٌ في البناء، ووسيلةٌ فعليةٌ لتحقيق التحرر في واقع المجتمع المسلم:
الصراع من متطلباته البناء، إعداد القوة، التوجه لامتلاك الإمكانات لكل عوامل القوة، الصراع يدفع نحو عوامل القوة، نحو اقتناء عوامل القوة، نحو توفير عوامل القوة؛ لأن من متطلبات الصراع: أن تكون قوياً، أن تسعى لتكون قوياً، وهذا ما يسعى له كل الكيانات، كل القوى البشرية، كل المجتمعات البشرية، كل الدول تسعى لتكون قوية، وتدرك حتمية الصراع، والترويج للضعف، وللجمود، وللقعود، والاستسلام، وللانصراف عن التحرك الجاد في إطار الصراع، والعزوف عن عوامل القوة، هذا يسوَّق ويروج حصرياً بين المسلمين فقط؛ أما الأمم الأخرى، والكيانات الأخرى، والدول الأخرى، فكلها تسعى لكي تمتلك بأقصى ما تستطيع القوة، ولتكون في موقع القوة بأقصى ما تقدر عليه وتستطيعه.

لو نأتي إلى زماننا اليوم، أكبر ميزانية عسكرية تسليحية هي لدى الأمريكيين، الإسرائيلي أيضاً يسعى بكل جهد لكي يكون قوياً، والمبدأ الذي يعمل عليه، ويحظى بالدعم الأمريكي على أساسه، والدعم الغربي على أساسه، أن يضمن التفوق العسكري في المنطقة، على مستوى العالم الإسلامي بكل، وهو كيانٌ غير شرعيٍ، فرضوه وزرعوه في أوساط أمتنا وبلادنا الإسلامية، وأرادوا منه أن يكون متفوقاً عسكرياً، وأن يسيطر عسكرياً، وأن يكون هو الذي يسود هذه المنطقة.

ولذلك يجب أن يكون لدينا الوعي الصحيح، الفهم الصحيح؛ لأن حركة التثبيط، والتخذيل، والإرجاف، والتهويل، والتشكيك، وإيهان العزائم، وتقديم الرؤى السقيمة، والأفكار غير الصحيحة؛ إنما يأتي في إطار واقعنا كأمة مسلمة وللأسف الشديد، بقية الدول لديها مشاريع وبرامج وأنشطة؛ لكي تكون قوية، وتتحرك في إطار الصراع بشكلٍ قوي.

فالله "سبحانه وتعالى" عندما أمرنا بالجهاد في سبيله، ليس ذلك ليصيبنا بالمصائب، ويحملنا المشاق والكوارث، هذه رحمةٌ منه بنا؛ لأن حتمية الصراع أمرٌ مفروغٌ منه، لا بدَّ من الصراع، فإذا كان لا بدَّ من الصراع في هذه الحياة، فكيف نتحرك بشكلٍ صحيح، نحظى فيه برعاية الله، ونصره، وتأييده، ووفق توجيهاته وتعليماته، بما يحول هذا الصراع إلى عاملٍ إيجابيٍ وبناء في واقعنا، وميدان لتجسيد المبادئ والقيم والأخلاق، وميدان فرز وغربلة، يبين الناس، وهذا مهم جداً؛ لأن تبيينهم أمر مهم جداً، حتى لهم هم، حتى لهم هم.

ولهذا يقول الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، لم يكن هناك كفاية- على ما يقولون- بالجهاد بالكلمة، كان لا بدَّ من القتال، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية216]، فالله كتب القتال، الميول والطبيعة البشرية قد تكره القتال، نتيجةً لنظرة مغلوطة؛ أما عندما تتصحح النظرة قد يزول هذا الكره، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، هو خيرٌ لكم، يترتب عليه:

عزكم.
استقلالكم.
حريتكم.
كرامتكم.
تدفعون عن أنفسكم الشر الكبير، الذي سينتج إن تمكَّن عدوكم من السيطرة عليكم.
الشر الكبير هو عندما يسيطر العدو؛ أما ما تقدمه الأمة من تضحيات وهي تتصدى لعدوها، فهي تضحيات مثمرة، محسوبة، لها نتائجها، وقيمتها، وثمرتها، وآثارها الطيبة، وهي مكتوبةٌ عند الله "سبحانه وتعالى".

يقول الله "جلَّ شأنه": {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، فمع الخير في الدنيا: العزة، الكرامة، الحرية، الاستقلال الحقيقي، تجسيد المبادئ والقيم، القوة التي تكتسب في إطار الصراع، هناك ثمن مستقبلي عظيم وأبدي ودائم هو الجنة، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: الآية111]، هذا مع النصر في الدنيا، الله قدم الوعود: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: من الآية7]، المهم هو أن تتحرك بشكلٍ صحيح وفق تعليمات الله وتوجيهاته، وأنت في إطار الحق، وأنت تمتلك القضية العادلة، وأنت تلتزم في أدائك العملي بالتعليمات والتوجيهات التي أمر الله بها "سبحانه وتعالى" في كتابه الكريم، هنا يأتيك من الله النصر، والمدد، والعون، والتهيئة، والتأييد، وتأتي التوفيقات والنجاحات الكبيرة.

أمتنا في هذا العصر في أمسِّ الحاجة إلى أن تستفيد الدروس والعبر من هذه الغزوة، وأن تعزز ثقتها بالله "سبحانه وتعالى"، وأن تدرك جيداً أنه لا بدَّ من التحرك الجاد للتصدي لكل المخاطر والتحديات التي تعاني منها، نحن أمة مستهدفة، أمةٌ مستهدفةٌ معتدً عليها يسعى أعداؤها إلى:

السيطرة التامة عليها.
واستعبادها.
وإذلالها.
وقهرها.
وظلمها.
واضطهادها.
والنتيجة لو تمكن هؤلاء الأعداء: أن تخسر الأمة دينها ودنياها.

فالذي يمكن أن يفيد هذه الأمة: هو التحرك وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، مع الثقة بوعده.

نحن كشعبٍ يمني، شعوب المنطقة بشكلٍ عام، في أمسِّ الحاجة إلى الاستفادة من هذه الدروس، ومن هذه العبر، قدوتنا وأسوتنا هو رسول الله محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، الذي تحرك بالرغم من طبيعة الظروف السائدة، التي كان فيها الإرجاف والتهويل، وفيها المتثاقلون والكارهون للتحرك، ولكنه تحرك وانطلق، وكانت النتيجة هي النتيجة المعروفة.

التجربة التي هي قائمة في واقع أمتنا اليوم، تجربة فيها الدروس والعبرة: ثمرة صمود شعبنا في التصدي للعدوان، الانتصارات التي أحرزها المجاهدون الأبطال في لبنان، وفي فلسطين، وفي سوريا، وفي العراق، وفي أقطار كثيرة.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الأربعاء، 28 أبريل 2021

حيث الشيطان كان الأذناب

  

ــــ  أذنابٌ وإن شئت قلت فيهم أحذية ذات مقاسات مختلفة تكبر أحياناً وتصغر أحياناً وحيث ما سخرّها الشيطان كانت تابعة بصغرها وذلُها. 
 أنظمةٌ رحلت وأنظمت صعدت 
 جميعها أدوات وأذناب حيث كان الشيطان كانو
 حيث كان الصهاينة والأمريكان كانت الأنظمة العربية العملية والمطبعة وفي مقدمتهم وعلى رأس شرّهم المطلق النظام السعودي والإماراتي ومن خلفهم النظام البحريني ومن أنبطح للسياسة والدين اليهودي والعقيدة الخبيثة من الخليج إلى القارة السمراء حيث وضعت الثورة السودانية لقيط عسكري رمى بنفسه وبكاهل شعبه المضطهد تحت الوصاية والولاء للصهاينة ومثله حط المنحط في المغرب وغرّد مع الأذناب في سرداب التطبيع والخيانة العربية والقومية العظمى. 
 لا غرابة ولا استغراب ولا نستبعد ان يأتي يومٍ لنرى فيه عامة الانظمة العربية وشعوبها الخانعة لجورهم ان نراهم جميعاً في حجٍ إلى تل أبيب ليشهدو مناسك الخسة والتطبيع المباشر مع الكيان المحتل والغاصب والمتعربد في المنطقة بقضه وعملاءه الرخاص. 
 اليوم السعودية والإمارات ومن معهم وفي خظّم حربهم عدوانهم على اليمن نجدهم قد بلغوا أدنى درجات الإنحطاط في الولاء للصهاينة والإسرائيلين من خلال حركتهم الموحدة في كل الدنيا سماؤها وبحارها وما تخطو اسرائيل خطوة واحدة إلاّ كانو هم السبّاقين والممولين المنفذين لما يخطط له الكيان الأسرائيلي اللقيط. 
 هرولة في والولاء والطاعة وسباقٌ نحو التزاوج العربي الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية التي طالما تشدقت بها تلك الأنظمة التي وضعت نفسها في الزبالة الإسرائيلية التي تليق بها بعد ان فرطت بفلسطين وبكل قضايا الأمة العربية وشعوبها المستضعفة التي كانت تنتظر صحوة ظمير الزعماء لكنها تفاجأت بواقع التطبيع والطاعة العمياء للأمريكان الذي ما أنفكوا من حلب أبقار الخليج واستغلال ثروات الشعوب لصالح المشروع الاسرائيلي البغيض الذي يعيش نشوة الانبطاح العربي من بلغ أدنى درجان الحضيظ.  
 على كلٌ نحن لا نؤملّ خيراً في تلك الأنظمة وحاشيتها المنافقة والوضيعة
 فنحن انما رهاننا هو على الله والأمل منه -سبحانه وتعالى- وفي الشعوب العربية الحرّة والعزيزة الرافضة للتطبيع مع الصهاينة تحت أي عنوان كان فهو مرفرض
 وبإذن الله وعمّا قريب ستشهد المنطقة تغيّرات تعصف بمن هوى بنفسه ونظامه في خانة التطبيع والعلاقات المباشرة مع الاسرائيليين لقطاء العالم وشُذّاذ البشرية.  
 وهنا سيتبراء منهم أسيادهم طواغيت العصر في أمريكا وإسرائيل وسيقول الشيطان لَمَّا قُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ فَلَا تَلُومُونِی وَلُومُوۤا۟ أَنفُسَكُمۖ مَّاۤ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَاۤ أَنتُم بِمُصۡرِخِیَّ إِنِّی كَفَرۡتُ بِمَاۤ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیم.  
 ووقتها لن تبقى إلاّ كلمة الله هي العليا ولن يفلح وينتصر إلاّ أولياء الله المؤمنين الصادقين وسيعود الحق لأهله وسيُطرد الصهاينة واليهود من المنطقة العربية وستُفتح المنطقة من جديد فتحاً مبيناً.  . 

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الخامسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية الخامسة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 15رمضان 1442هـ


أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وصلنا في الآية المباركة من سورة الأنعام إلى قوله "سبحانه وتعالى": {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[الأنعام: من الآية151]، من المحرَّمات، ومن أبشع المحرَّمات: هو قتل الأولاد بسبب الفقر، بدافع الفقر، وخشيةً من الفقر.

المحبة للأولاد هي فطرة، وهي غريزةٌ غرزها الله "سبحانه وتعالى" في الإنسان، والإنسان بفطرته وبغريزته يحب أبناءه، ويرغب في أن يكون له أولاد، وهذه الغريزة هي موجودة بالنسبة للذكر، وبالنسبة للأنثى، وما يؤثِّر سلباً على الإنسان، أو على بعض الناس بالتحديد، تجاه هذا الموضوع: هو ضغط الفقر، والحالة المعيشية الصعبة، فعندما يعاني البعض من ظروف اقتصادية صعبة، وظروف معيشية قاسية، فحينئذٍ ينظر إلى هذا الموضوع بنظرة مختلفة، فهو يرى في الأولاد إضافة عبءٍ وهمٍّ معيشيٍ عليه، ويكون هاجس توفير احتياجاتهم الضرورية هاجساً كبيراً بالنسبة له، يمثل هماً كبيراً عليه، ويمثل مشكلةً كبيرةً بالنسبة إليه.

بينما يفترض أن يكون الإحسان هو القاعدة العامة التي ينطلق الإنسان من خلالها للتعامل، بدءاً من داخل الأسرة، مع والديه، مع أبنائه، مع زوجته، ومحيطه القريب، من أقاربه وأرحامه، ثم امتداداً إلى المجتمع بشكلٍ عام، إلَّا أنَّ مثل هذا الهم المعيشي قد يؤثِّر على الإنسان، فلا يكون محسناً حتى في أقرب دائرةٍ اجتماعيةٍ إليه، وهي أسرته، فتتغير أخلاقه ونظرته، ويسوء تعامله مع أسرته، مع الضغط المعيشي، مع همّ الفقر، وقد يصل بالبعض إلى أن يتعامل بطريقة سيئة جداً.

في العصر الجاهلي وصل بهم الحال إلى أن يقتلوا أولادهم، البعض قد لا يريد أن يكون له أولاد أصلاً، والبعض قد يريد ألَّا يكثروا، أن يكون له ولد، أو اثنين، أو ثلاثة فحسب، فإذا كثروا؛ فهو يرى في كثرتهم مشكلة ومعضلة على المستوى المعيشي، فهاجس الفقر لدى البعض، والضغط المعيشي عليهم، يؤثِّر عليهم سلباً إلى هذه الدرجة: إلى درجة أن يتحول إلى وحش يفقد إنسانيته، رحمته، إحساسه ومشاعره الأبوية تجاه أبنائه؛ وبالتالي يتعامل معهم بتعاملٍ آخر.

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ}، أن يصل الإنسان أن هذا المستوى من التوحش، إلى هذا المستوى من فقدان المشاعر الأبوية، وعادةً الأب يكون فياضاً بمشاعره الأبوية تجاه أبنائه، يعيش في وجدانه الإحساس بمشاعر المحبة، والرحمة، والحنان، والعطف، ويكون مستعداً حتى أن يقاتل لحماية أبنائه، للدفاع عنهم، وإذا سمع بأحدٍ منهم يعاني، يعيش حالة الألم، إذا نال أحداً منهم ظلمٌ أو ضر، يتفاعل ويتحرك من أجل الانتقام له، والدفاع عنه، لكن هكذا هو همّ الفقر إذا لم يكن هناك إيمان، إذا لم يكن هناك ثقةٌ بالله "سبحانه وتعالى"، إذا كان هناك يأس واتكالٌ على النفس، وعدم وعي تجاه هذه المشكلة؛ لأن مشكلة الفقر المدقع، والهمّ المعيشي الصعب، هي من أكبر المشاكل في واقع المجتمع البشري.

ولو يأتي الإنسان إلى تصنيف واقع الناس، واقع المجتمعات؛ سيرى أنَّ الكثير منهم، الأغلبية الساحقة منهم، يمثل الفقر المدقع، والهمّ المعيشي، والظروف القاسية، من أكبر المشاكل لديهم، وأكبر الهموم لديهم، وبالذات عندما يصبح للإنسان أسرة، ويتحمل مسؤولية الإنفاق عليها، فيصبح هذا لدى الكثير من الناس مشكلةً رئيسية، يفكِّر فيها في ليله ونهاره، ومشكلةً ملحة؛ لأن احتياجاتهم الضرورية، وطلباتهم الملحة عليه، تبقى تمثل هاجساً مؤرِّقاً وعاملاً ضاغطاً، فهو مجبر أن يفكِّر يومياً، أن يسعى يومياً، أن يتحرك بهذا الهمّ يومياً، فيصل به الحال إلى أن يكون مضغوطاً بفعل هذا العامل الضاغط عليه، وهذا الهمّ الجاثم على نفسه، يصل مع ذلك به الحال إلى أن يفقد المشاعر الأبوية، مشاعر الرحمة، والعطف، والحنان، ويصبح مهموماً، ويصبح قلقاً متوتراً، فيفكر باستخدام وسائل غير مشروعة لمعالجة هذه المشكلة.

نحن- إن شاء الله- سنتحدث بإذن الله في المحاضرات القادمة عن مشكلة الفقر، ومعالجاتها في الإسلام، وتحدثنا عن ذلك في رمضان ما قبل العام الماضي في بعضٍ من المحاضرات، وإن شاء الله أيضاً نتحدث في المحاضرات القادمة، لكنه يهمنا في هذه المحاضرة الحديث عن الممارسات غير المشروعة، التي قد يعمد إليها البعض مع أبنائهم، نتيجةً للهمّ المعيشي، والفقر المدقع، والظروف الاقتصادية الصعبة.

في العصر الجاهلي وصل بهم الحال إلى أن كانوا يقتلون أبناءهم، فهو بدافع الفقر والمعاناة يفكِّر أنَّ هذا يمثل عبءً إضافياً عليه، من أين سيوفر له معيشته، احتياجاته الأساسية، غذاءه، قوته الضروري؟ ويفكِّر أيضاً في مستقبل هذا الابن، هذا الولد، كيف سيكون مستقبله؟ كيف سيهتم بحاله؟ فيقول: [يكفي ما أنا فيه من البؤس، من الفقر الشديد، من المعاناة القاسية، لسنا بحاجة إلى أن ينتقل هذا الهمّ، وهذا الظرف، وهذا العناء، وهذا البؤس، إلى ابني من بعدي، أو إلى أولادي من بعدي]، وبالذات إذا كثروا، فهو يرى أنَّ قتله لابنه يخفف عبءً عليه في همه المعيشي، ويخلِّص ابنه، أو ولده، في مستقبل الأيام من مشكلة الفقر، ومن همّ المعيشة، ومن البؤس والحرمان، فيصل بهم الحد إلى هذه الدرجة.

في عصرنا هناك وسائل كثيرة جداً من الوسائل المحرَّمة وغير المشروعة، التي يستخدمها الناس بدافع الفقر، تحت ضغط الفقر من جهة، وتحت مخاوفه على مستقبل الأولاد من جهةٍ أخرى:

تبدأ المسألة من وقتٍ مبكر، أحياناً من خلال استخدام معالجات معينة لمنع الحمل، وليس لظرفٍ صحي، أو لاعتباراتٍ صحية، البعض بهم الفقر، تحت هم الفقر، فهو يسعى إلى أن يتخلص من المسألة منذ البداية، ألَّا يكون له أولاد، أو ألَّا يكثر أولاده، يكون له ولد، أو اثنين، فحسب؛ لأنه يرى في كثرتهم إضافةً لعبءٍ اقتصاديٍ ومعيشيٍ عليه، وهماً لا يستطيع أن يعالجه، وهذا خطأ فادح، كما قلنا: هو يعبِّر عن حالة يأس، عن فقدان الثقة بالله "سبحانه وتعالى"، والأمل في فضله، عن نظرة غير واعية تجاه معالجة هذه المشكلة والتعامل معها، فهي طريقة انهزامية أمام هذه المشكلة، وطريقة يائسة في التعامل مع هذه المشكلة، لا يجوز السعي لمنع الحمل تحت هذا الدافع: الخوف من الفقر، وبالنظر إلى مشكلة الظروف الاقتصادية، ستأتي- إن شاء الله- في المحاضرات القادمة الحديث، يأتي الحديث عن المعالجات لهذه المشكلة.  

يتعامل البعض أيضاً بطريقةٍ أخرى، بأسوأ من ذلك، وتحصل في كثيرٍ من المجتمعات، وهي الإجهاض، إذا حملت زوجته، أصبحت حاملاً، فهو يعمل على إقناعها، ويعمل معها على إجهاض ذلك الحمل، والتخلص منه، وهذه أيضاً سلبية كبيرة، وهي أكثر سلبيةً من السعي لمنع الحمل، الإجهاض، عملية الإجهاض جريمة إنسانية، وأخلاقية، ودينية، عندما تكون بدافع الفقر، وخوفاً من الفقر، وليست معالجةً صحيحةً أبداً، وهي من الوسائل المحرَّمة.

البعض أيضاً يتعاملون مع هذه المشكلة بطريقة وهي أيضاً من أبشع الطرق، وأقذر الوسائل، وهي عن طريق الإتجار بالبشر، هناك في هذا العصر ما يسمى بالإتجار بالبشر، البعض من الناس قد يبيع ابنه، قد يبيع ابنه؛ ليتخلص منه، ويقول: [ليس لك مستقبل عندي، وليس لك مستقبل في بلدك وفي منطقتك]، وهناك عصابات ومافيا تعمل في الإتجار بالبشر، وللأسف الشديد اكتشفت في بلادنا بعضٌ من العصابات، التي تمارس تهريب الأطفال إلى دول الخليج، قبل أشهر بالتحديد اكتشفت الأجهزة الأمنية إحدى هذه العصابات، التي تقوم بأخذ الأولاد من آبائهم مقابل مبالغ مالية معينة، ثم تقوم بتهريبهم إلى السعودية، ويضيع حالهم ومستقبلهم هناك، عندما كان هناك تقصٍّ أمني في هذه المسألة، اتضح أنهم بعد أن يصلوا إلى السعودية يتم فرزهم وتصنيفهم إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: الأقوياء والأصحاء، وهؤلاء يباعون للسخرة، للخدمة، للأشغال الشاقة، أو في عمليات التهريب، ويسخَّرون لعمليات التهريب.
والفئة الثانية: الوسيمون، وهؤلاء يكونون ضحية بطريقة أبشع، حيث يخصصون للاستغلال الجنسي، للجرائم الأخلاقية، للفساد الأخلاقي، وتباع وتهدر كرامتهم، وأعراضهم، وشرفهم، وهذا ظلم بشع جداً.
والبعض من المشوهين أو العاجزين يستغلون في التسول، وأصبح هذا عملاً منظَّماً، والذي يجني تلك الأموال من وراء كل هذا: تلك العصابات التي تشتغل على الإتجار بهم، حتى من وراء التسول، يدفعون بهم إلى التسول ويأخذون ما جمعوه.
وهذه الحالة منتشرة في كثير من دول العالم، وعندما يصل الأب إلى هذا المستوى من القسوة، من الوحشية، من فقدان الشعور الإنساني والرحمة والحنان، عندما يصل إلى هذا المستوى من التوحش، من الطمع أيضاً، المشكلة أن بعضهم يجمع بين الفقر والطمع، فمع الفقر الشديد، ويأتي معه أيضاً طمع، لا يبالي بأي طريقةٍ، بأي وسيلةٍ، أن يستغل ابنه ليحصل على المال في المقابل، فهو ينظر إليه كسلعة، سلعة عادية، وطالما سيحصل على شيءٍ من المال في مقابل أن يتخلَّص من هذه السلعة، فهو سريعاً ما يدخل في أي صفقة، أو في أي تصرفٍ إجراميٍ من هذا القبيل.

مثل هذه جريمة وحشية جداً، جريمة بشعة للغاية، وظلمٌ كبير، وتفريطٌ في الواجب الإنساني الملقى على عاتق الأب، هو هنا يتنكَّر لإنسانية، لفطرته، وهو هنا يتنصَّل عن واجباته ومسؤولياته، ويخون الأمانة التي حمَّله الله إياها؛ لأن أبناءك أمانة لديك، وعليك مسؤولية تجاههم، مسؤولية إنسانية، مسؤولية أبوية، في تربيتهم، في الحفاظ عليهم، في أن تصونهم، هذه المسؤولية أيضاً في أن تسعى لتربيتهم وتنشئتهم التنشئة الصحيحة، التنشئة الإنسانية، التنشئة الإيمانية، فإذا وصل الإنسان إلى درجة أن يبيع ابنه بهذه الطريقة، لعصابات تهربه وتستغله، مقابل شيءٍ من المال، فهو أصبح إنساناً متوحشاً ومجرماً بكل ما تعنيه الكلمة، وخان أمانته التي حمَّله الله إياها، وظلم ابنه، وهذا من الظلم الكبير لابنك، عندما تكون ظالماً، وتمارس الظلم حتى مع أقرب الناس إليك، مع أولادك، فهذه جريمة كبيرة جداً عليك، لا يقبل منك دين، لا يقبل منك أي أعمال صالحة، وهو تصرفٌ غبيٌ، الأبناء يمكن أن يشكِّلوا عوناً في الجانب الاقتصادي والهمّ المعيشي، لكن بطريقةٍ صحيحة، وليس أن يتم التعامل معهم وكأنهم سلعة، تباع من عصابات ظالمة، مجرمة، لا تشفق عليهم، لا تحمل تجاههم أي مشاعر إنسانية، تتعامل معهم بكل استغلال، وباستغلالٍ قذر، استغلالٍ ظالم، وهناك حالات أكثر مأساوية من ذلك.

الحالات الأكثر مأساوية: أنَّ بعض العصابات تستغل أعضاءهم، تسرق من أجسادهم، البعض يصلون بهم إلى درجة القتل، أن يقوموا بقتله وسرقة أعضائه، سرقة قلبه، وكبده، وكِلاه، وأجهزته الداخلية، وبيعها من الذين يشترونها من مستشفيات، أو غير ذلك، وهذا يحصل في هذا الزمن، يحصل في هذا الزمن، البعض عن طريق الشراء بهذه الطريقة، والصفقات التي يأخذون بها أبناء الناس، ثم  بعد أخذهم يذهبون بهم إلى دول أخرى، ويكون هذا مصيرهم الذي بانتظارهم: أن تجري لهم عمليات ويؤخذ منهم من أعضائهم، أو تصل بهم المسألة إلى القتل، إلى القتل، وهناك عصابات تشتغل في هذا الموضوع بالذات، ووراءها مافيا عالمية حتى من أمريكا، ومن أوروبا، ومن دول كثيرة، وهذا موضوع خطير، وأمر بشع جداً، ولا إنساني، ولا أخلاقي، ولا إيماني.

ولذلك يعتبر هذا تفريطاً بحق الأبوة، بالمسؤوليات الأبوية، تفريطاً بمشاعرك الإنسانية، وتنكُّراً لإنسانيتك، وجريمةً كبيرةً بكل ما تعنيه الكلمة.

البعض أيضاً يستغلون أبناءهم في التسول بشكلٍ مباشر، يخرج ابنه إلى الشارع، ويجعله يمتهن مهنة التسول؛ بسبب الفقر، يعيش في المنزل ظروف الفقر، والمعيشة الصعبة، فيجعل من المعالجات أن يحول ابنه إلى متسولٍ، يمتهن هذه المهنة، ويشتغل عليها بشكلٍ مستمر، وهو هنا يهدر كرامته، هذا يحصل في صنعاء، يحصل في بعض المدن على مستوى البلد، وفي الخارج يحصل هذا أيضاً في كثير من الدول، أن بعض الأسر تدفع بأطفالها إلى احتراف مهنة التسول، وبشكلٍ دائم، بشكلٍ مستمر، فينشأ الطفل على هذه المهنة، على هذه الظاهرة، ينشأ وهو يعتاد على التسول، يعتمد على التسول، وهذه جريمة كبيرة جداً، وبالذات عندما تكون بشكلٍ مستمر، قد يكون هناك حالة ضاغطة جداً في يوم من الأيام لبعض الأسر، أو في حالة استثنائية، الله أعلم بمثل هذه الحالات! ولكن الحالات المستمرة، التسول المستمر، هو يقتل في ابنك روح الإبداع، الروح العملية، أنت تضحي بكرامته الإنسانية، بإحساسه ومشاعره في العزة الإنسانية، والكرامة الإنسانية.

مهنة التسول هي مهنة وضيعة بلا شك، هي مهنة الإنسان يعيش فيها حالةً من إهدار كرامته، من جرح مشاعره الإنسانية، وليست جيدة، ليست جيدة، إذا هناك ظروف استثنائية لدى البعض، فهناك مسؤولية عليهم من جانب، وعلى المجتمع من جانبٍ آخر، لمعالجة هذه المشكلة، وليس أن تصبح المسألة إلى مسألة طبيعة جداً.

والبعض أكثر من ذلك، يستخدم ابنه وسيلة لاستعطاف الآخرين، للحصول من وراء ذلك على المال، فقد يذهب بطفله معه إلى الشارع، ويجعله عرضةً للشمس لفترات طويلة؛ حتى يستجدي به الآخرين، إذا تعاطفوا معه من أجل ابنه، وقدموا له شيئاً من المال، البعض قد يضع ابنه على الرصيف في الشارع، قد يقدم ابنه وكأنه معاق، ويضع عليه أشياء معينة، ويقدمه وكأنه معاق، ويعرضه للهواء والشمس والرياح- وهو طفل- لفترات طويلة؛ من أجل أن يستجدي به الآخرين، هذا من الاستغلال المحرم، وأنت هنا تضحي بكرامتك الإنسانية مع ابنك أيضاً، وفي نفس الوقت تؤثر عليه وعلى مستقبلة.

التنشئة الصحيحة والطيبة ستجعل ابنك هذا عوناً لك في المستقبل، بطريقة مشرفة، وبطريقة تُحفظ لك بها كرامتك وكرامته، يمكن للأبناء أن يكونوا عوناً لآبائهم، لكن ليس بهذه الطريقة، ليس بهذا الاستغلال، الذي تخسر فيه كرامتك وكرامة ابنك.

هذا تصرف لا إنساني، تصرف لا إنساني، ولا يجوز أن تبقى مثل هذه الظاهرة على هذا النحو متفشية، هناك مسؤولية على الجميع في معالجتها (دولةً، شعباً)، الذين يتصرفون مثل هذه التصرفات كذلك هذا وزرٌ من جانبهم، تصرفٌ خاطئ من جانبهم، لا يجوز ولا يليق أن يمارسوا مثل هذه الأساليب، في السعي للحصول على المال.

أيضاً من الوسائل التي يلجئ إليها البعض: الدفع بالأطفال في سنٍ مبكرٍ، في سنٍ مبكرٍ جداً، إلى أعمال شاقة فوق مستوى طاقتهم، فوق مستوى قدراتهم، ويعانون منها معاناة شديدة جداً، يتعرضون فيها للضرب المبرِّح، للضغط الشديد، للقسر على تحمل تلك الأعمال، وهي شاقةٌ عليهم جداً، وهذا من الظلم، ظلم كبير جداً للأطفال عندما يُحَمَّلون ما لا يطاقون، عندما تفرض عليهم أعمال فوق مستوى طاقتهم، فوق مستوى قدراتهم، ثم يجبرون على ذلك، ويساقون إلى ذلك بالضرب المبرِّح، يكاد يكون هذا يومياً مع البعض، يتعرض الطفل للضرب يومياً؛ لأنه يحاول أن يعفي نفسه من ذلك العمل الشاق جداً، الذي هو فوق مستوى طاقته، فوق مستوى قدرته، ولكن نتيجةً للإجبار، والضرب، والتشغيل القسري، يتحمل ما لا يحمل، يتحمل ما لا طاقة له به؛ فيعاني، ويؤثر هذا على صحته، على نفسيته، على مستقبله، يؤثر عليه حتى في مستقبل شبابه، وهذه من الوسائل المحرمة، عندما تحمله ما لا طاقة له به، أو تدفعه إلى من يشغله بهذه الطريقة، فيما لا طاقة له به، وفيما يفوق قدراته، وفيما يتعرض فيه للضغط النفسي الكبير، البعض من الأطفال يصل إلى درجة أن تضرب نفسيته، يتحطم، فيعيش مشاعر القهر، الاضطهاد، الظلم؛ حتى يفقد حريته، ومشاعره في العزة والكرامة الإنسانية، فينشأ وهو محطم، ويحس دائماً بالقهر والإذلال، وتربى على ذلك، هذا يؤثر عليه في المستقبل، وهو من الظلم الكبير جداً.

أيضاً من الوسائل التي يستخدمها البعض مع أبنائهم: أنه قد يدفع به إلى أي جهة، وإلى أي طرف يرى أنه سيقدم له المال، أياً كان ومن ذلك، قد يكون هناك أحياناً مدارس دينية تكفيرية، هي من بؤر الضلال، من بؤر الضلال التي تعبئ الأطفال والشباب والكبار والصغار بالضلال، والانحراف الديني، والفهم الخاطئ للدين، وعادةً ما تكون مثل هذه المراكز والمدارس ممولة، ممولة من السعودية، ممولة من دول الخليج، مراكز، مدارس، من هذا القبيل، وفيها مواد غذائية متوفرة، وفيها التمر، والطحينية، واللحوم، والمأكولات، تتوفر بشكل كبير، والمبالغ المالية؛ بهدف الاستقطاب إليها، ولكنها بؤر ضلال، تقدم تصوراً خاطئاً، وفهماً غير صحيح للدين، ويستغلها الأعداء فيما بعد، مخرجاتها تشغل فيما بعد لصالح الأعداء، لصالح أعداء الأمة، التكفيريون يدارون من أجهزة استخباراتية خليجية: كالسعودية مثلاً والإمارات، وغربية: من جانب الأمريكيين، ومن جانب الإسرائيليين، والأوروبيين، ويتحركون فيما يجرون فيه البلاء والفتن والمشاكل على أمتهم، ويعملون كأداة هدمٍ وتخريبٍ في داخل أمتهم؛ لإثارة الفرقة بين أبناء المجتمع، والبغضاء، والكراهية، والعداء؛ ولارتكاب الجرائم، وفي النهاية تخسر الأمة أمنها واستقرارها، ويتحولون إلى عامل تخريب للأمن والاستقرار، وعامل هدم للبنية المجتمعية للأمة، ولكيان الأمة، ووسيلةً لتشويه الإسلام.

البعض يرى أن في ذلك المركز، أو في تلك المدرسة، ظروف معيشية مغرية، ويرى أن الذين ينتسبون إليها، ويدرسون فيها، ويتخرجون منها فيما بعد، يصبح لديهم أموال، ويصبحون في وضع معيشي مريح، ويعرف الناس تلقائياً ارتباط مثل تلك المراكز ببعض دول الخليج... وأنها تحظى بدعم مادي كبير، فيدفع بابنه إليها، وهذه جريمة كبيرة جداً بحق ابنك عندما تفعل ذلك، أنت تدفع به إلى بؤرة ضلال، إلى من يضله، إلى من يغويه، إلى من يربيه على الباطل، إلى من يفسده، يفسد أخلاقه، وبالتالي تكون النتيجة أنه يتحول إلى عنصر شرير في المجتمع، عنصر شر، عنصرٍ مخربٍ ومفسدٍ في المجتمع، وفي نهاية المطاف قد تحوله إلى قاتل، إلى قاتلٍ بغير حق، إلى مجرمٍ من أبشع المجرمين، يصل البعص بأنفسهم أن يذهب لعملية انتحارية في مسجد، فيقتل المصلين، أو عملية انتحارية في الشارع، في السوق، بين الناس وهم في حركة ازدحام في شؤون حياتهم، أو في مستشفى، أو في غير ذلك، ويرتكب جريمةً بشعةً بحق الأبرياء المساكين، نتيجةً لتلك التربية الضالة والخاطئة، أو يلتحق بجبهة من الجبهات التي يقاتل فيها التكفيريون، ويتحول إلى حربٍ ضد أمته، أو يتحول إلى عنصر مضل، يسعى عبر النشاط التثقيفي والتعليمي إلى نشر الضلال، والتعبئة الباطلة والخاطئة والضالة، في أوساط المجتمع، والتفريق بين أبناء هذه الأمة تحت العناوين الطائفية والمذهبية المقيتة.

أيضاً مما يفعله البعض: الدفع بأبنائهم في صف الباطل، مثل ما يفعله البعض في هذه المرحلة، بدفع أبنائهم للالتحاق بتحالف العدوان؛ للحصول على المال، هذا أيضاً من الوسائل المحرمة، والظالمة، والمفسدة، أنت تظلم ابنك، وتظلم شعبك، عندما تجند ابنك في صف من يعتدي عليه، وقد يقتل، قد يقتل نتيجةً لذلك، وهنا تكون قد خسرته ودفعته للخسارة، لأن يبيع ذمته، ودينه، وشعبه.

من الوسائل التي يعتمد عليها البعض: الاتجار بالحرام، يدفع بابنه ليبتاع ويشتري في المحرمات، كالمخدرات وغيرها؛ لأجل أن يحصل من خلاله على مال، أنت هنا تستغل ابنك استغلالاً ظالماً وإجرامياً.

مما يفعله البعض أيضاً مع البنات بالتحديد: أن يحولها إلى سلعة، فبدلاً من أن يزوجها بالزوج المناسب، ممن يرضى خلقه، ودينه، وأمانته، وأخلاقه، وقيمه، قد يبيعها ممن يدفع له أكثر، فيتعامل معها وكأنها سلعة فقط، ويتجاهل مشاعرها، وهل هي موافقة، أو غير موافقة، راضية، أم ليست راضية؟ إنما يعتبرها سلعة، فمن يدفع له أكثر، يزوجه بها.

وقد يستغلها ذلك الذي تزوج بها، وهي لا تحبه، بدافع أنه قد دفع مالاً كثيراً لأبيها، ويتعامل معها- وهو من جانبه- كسلعة؛ لأنه دفع فيها الكثير، فتعيش حالة القهر والظلم طيلة حياتها، تزوجت بمن لا تحب، بمن لا تنسجم معه، بمن ليست راضيةً به، بمن يعاملها كسلعة، والأب عاملها كسلعة، فتكون ضحيةً لظلم الطرفين:

الأب، الذي تعامل معها على أنها سلعة باعها لمن يدفع له أكثر.
والزوج، الذي ينظر إليها وكأنها سلعة دفع فيها المال الكثير، فلا يتعامل معها بمحبةٍ واحترام.
كل هذه هي من أشكال الاستغلال المحرم للأبناء، وما يشابهها من حالات الاستغلال المحرم للأبناء، هي جريمة كبيرة جداً إذا فعلها الأب.

هناك معالجات صحيحة لمشكلة الفقر، إن شاء الله سنتحدث عن البعض منها على ضوء الآيات القرآنية المباركة في المحاضرات القادمة.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛


نص المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

نص المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد الملك بدر الدين الحوثي 14رمضان 1442هـ 26-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛

في سياق الآية المباركة من سورة الأنعام يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الأنعام: من الآية151]، بعد قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الأنعام: من الآية151]، في سياق قائمةٍ من المحرَّمات التي حرَّمها الله "سبحانه وتعالى"، وفي أولها، وعلى رأسها، وأهمها: الشرك بالله، فهو أول المحرمات، {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، وتحدثنا عن هذا، وأتى بعد ذلك قوله "سبحانه وتعالى": {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، نجد أنه في هذه الفقرة من النص القرآني، في هذه الفقرة لم يأت ليقول: [ولا تسيئوا إلى الوالدين]؛ لأنه لا يكفي في علاقتك بوالديك عدم الإساءة، فتكون غير محسن، وغير مسيء، لا بدَّ من أن تكون محسناً، وإذا لم تكن محسناً؛ فهذا ذنب، من المحرَّم عليك أن تكون غير محسنٍ إليهما، فلا بدَّ من الإحسان، لا يمكن أن تقول: [لن أحسن ولا أسيء، وستكون علاقتي بوالديَّ علاقة عادية، كعلاقتي بأي إنسانٍ عادي، فلا أحسن إليه، ولا أسيء إليه]، لا بدَّ من الإحسان، هو العنوان الذي يضبط طبيعة هذه العلاقة مع الوالدين.

ثم بالنسبة للترتيب، بعد حق الله "سبحانه وتعالى"، وهو ربنا العظيم، المنعم الكريم، الخالق الملك، يأتي الحديث في هذا الترتيب نفسه عن الوالدين، والعلاقة مع الوالدين، والإحسان إلى الوالدين؛ لعظيم حقهما عليك، ففي الواقع البشري يأتي حق الوالدين كحقٍ عظيم، ويأتي ترتيبه في الآيات القرآنية منها في هذه الآية المباركة، ومنها في سورة الإسراء، عندما قال الله "سبحانه وتعالى": {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء: من الآية23]، وهكذا في موارد أخرى من القرآن الكريم، فالترتيب هذا بحد ذاته يبين لنا أهمية المسألة في موقعها من الدين، في موقعها في التزاماتنا الإيمانية، في موقعها في التوجيهات الإلهية، فليكن عندنا هذه النظرة تجاه هذه المسألة بحسب أهميتها الإيمانية والدينية والإنسانية.

الإحسان هو عنوانٌ مهمٌ وأساسيٌ في القرآن الكريم، وفي التربية الإيمانية، وفي توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، وبشكلٍ عام، إنما هناك خصوصية في مستوى الإحسان فيما يتعلق بالوالدين، فالإحسان إليهما ينبغي أن يكون أعلى مراتب الإحسان في العلاقات البشرية، وفي التعامل مع الناس، فلهما خصوصية في مزيدٍ من الاحترام، والتوقير، والاهتمام بأمرهما، والإحسان إليهما في التعامل، وفي الاهتمام بأمرهما.

ولهذا يأتي في القرآن الكريم التركيز على موضوع الإحسان في كثيرٍ من التوجيهات الإلهية، في عرضٍ للمواصفات التي يتَّصف بها ويتحلى بها المحسنون، وكذلك في الوعد بالأجر، والثواب، والخير، والمنزلة عند الله "سبحانه وتعالى".

يقول الله "جلَّ شأنه" في القرآن الكريم: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: من الآية195]، أمرٌ بالإحسان، وهذا أمرٌ عام: أن تكون محسناً في علاقاتك بشكلٍ عام، في تعاملك بشكلٍ عام، وكذلك في اهتمامك بأمر الآخرين، وهذا يبدأ من واقعك النفسي، من مشاعرك، من وجدانك، من ثقافتك، من فهمك للدين، ولدورك الإنساني، ومسألة الإحسان سواءً على مستوى التعامل، أو على مستوى الاهتمام بأمر الآخرين، وبالذات من هم من الفئات المعانية، عندما تهتم بالفقراء، عندما تهتم بالمساكين، عندما تهتم بالمظلومين، عندما تهتم بأمر المستضعفين، ثم- بشكلٍ عام- عندما تهتم بالمنكوبين، بالمتضررين، وهكذا بشكلٍ عام، الإحسان هو فطرة لدى الإنسان، والإنسان يستشعر أنَّ الإحسان هو قيمة إنسانية وأخلاقية، في نفس الوقت نرى أنه قيمة دينية ذات أهمية كبيرة في الدين، والتوجيهات القرآنية تعطيه أهميةً كبيرة.

والإنسان يستشعر بفطرته جمال هذه القيمة، كم لها من بُعدٍ إنساني، وأثرٍ إنساني، وإيجابية في مشاعر الإنسان، هي تعبِّر عن فضيلة، وعن خُلُقٍ حسن، وعن نفسٍ طيِّبة، فالإنسان المحسن هو في نفسه غير أناني، هو يحب الخير للآخرين، يحمل إرادة الخير للآخرين، يفكِّر بالآخرين
، يهتم بأمرهم، ليس أنانياً لا يفكر إلَّا بنفسه، ولا يبالي بغيره، ليس من النوع الحريص الجشع الطامع، الذي يتجه كل همه في إطار شخصيتة ونفسه فحسب.

ولذلك انعدام حالة الإحسان لدى الإنسان، تعبِّر عن خللٍ تربوي، عن خلل في نفسيته، في قيمه الإنسانية والإيمانية؛ لأنها تعبِّر عن حالةٍ من الأنانية، إلى درجة أنه لا يفكِّر بأمر الناس، ولا يستشعر معاناتهم، وقد يكون الإنسان في مجتمع فيه الكثير ممن يعاني، يعاني من الظروف الصعبة، من الفقر، من المرض، من... ويرى مجتمعه أيضاً إمَّا مجتمعاً مظلوماً مضطهداً، إمَّا مجتمعاً فيه المنكوبون، وفيه المعانون بمختلف أنواع المعاناة، فإذا وصل في قسوة قلبه، وتبلد مشاعره الإنسانية، ألَّا يأسى لحالهم، وألَّا يتألم لآلامهم، وألَّا يبالي بهم، وألَّا يكترث بحالهم، فالحالة هذه حالة خطيرة جداً، تدل على إفلاس في مشاعره الإنسانية، في قيمه الإنسانية، وتدل على ضعفٍ كبير في إيمانه؛ لأن للإيمان الأثر التربوي في نفسية الإنسان وفي مشاعره، تكون مشاعر خيِّرة، معطاءة، رحيمة، الإنسان يتربى على أساس الرحمة حتى في مشاعره، تتجذر الرحمة بالآخرين حتى في وجدانه، وحتى في شعوره، فيتألم عندما يرى حالات مأساوية، على مستوى المظلومية، أو على مستوى الفقر، أو على مستوى النكبة، أو على أي مستوى من المستويات التي تجمعها كلها عبارة المعاناة.

عندما يكون الإحسان موجوداً في مجتمعٍ من المجتمعات كسلوكٍ عام، وكغريزةٍ حافظ عليها الناس، وفطرةٍ نمت في مشاعرهم ووجدانهم وإحساسهم، وتجسَّدت كسلوكٍ في معاملاتهم واهتماماتهم، فإنَّ هذا المجتمع سيسوده الخير، والمحبة، والألفة، والتعاون، وأيضاً سيكون من الواضح فيه مستوى التكافل الإنساني، والتراحم فيما بين الناس، وهذا فيما هو ذو قيمة إنسانية عظيمة جداً يعبِّر عن أنَّ هذا مجتمع فيه الخير، فيه الإنسانية، فيه القيم العظيمة، فهو أيضاً له أهمية كبيرة على مستوى الاستقرار، على مستوى القوة في وحدة ذلك المجتمع، الانسجام فيما بين أبناء المجتمع، ترسيخ العلاقات الإيجابية فيما بين أبناء المجتمع، هذا له أهمية كبيرة في أمنهم واستقرارهم، وصلاح حياتهم.

أمَّا كلما غابت، إذا غابت مثل هذه القيم من أوساط المجتمع، وسادت حالة القسوة، وانعدام التراحم، واللامبالاة بأمر الآخرين، وعدم الاكتراث لحال من يعاني، فهذا المجتمع بقدر ما يتجلى فيه الخواء الإنساني، والإفلاس القيمي، وضعف الإيمان، فهو أيضاً سيفقد الاستقرار في داخله، ستزداد الفجوة والتباين فيما بين أبنائه، ستنتشر البغضاء والكراهية بين أفراد مجتمعه، سينتج عن ذلك إشكالات كثيرة، سيكون مجتمعاً بعيداً عن أن يتوحد في القضايا الكبيرة والجامعة التي تهمه، والتي ينبغي أن يتوحد، وأن تجتمع كلمته للتصدي لها؛ لأن هناك القضايا الجامعة، القضايا الهامة، التحديات الكبيرة، المسؤوليات الجماعية، هذه كلها تحتاج إلى أن يكون أبناء المجتمع فيما بينهم في حالةٍ من الألفة، والأخوة، والتعاون، والتراحم، والتقارب، والعلاقات الإيجابية، والمشاعر الإيجابية، فإذا سادت حالة الفرقة، والتباين، والبغضاء، والكراهية، والتنافر، وعدم الاكتراث، كلاً لا يكترث بالآخر، فهذه الحالة السلبية جداً ستكون عائقاً عن وحدة الكلمة، وعن الاعتصام بحبل الله جميعاً، عن الاجتماع في القضايا المهمة، في القضايا الكبيرة جداً، ولهذا نجد أنَّ الإحسان بقدر ما هو ذو قيمة إيمانية وأخلاقية وإنسانية، له أهمية كبيرة في أمور المجتمع، في قضايا المجتمع، في أن يكون المجتمع مجتمعاً قوياً في مواجهة التحديات التي عليه أن يتعاون في التصدي لها، وفي النهوض أيضاً بالمسؤوليات الجماعية التي عليه أن يتحرك فيها كأمةٍ واحدة.

يأتي الحديث عن الإحسان في القرآن الكريم بهذا الترغيب الكبير، وبهذا التشجيع العظيم جداً: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فالمجتمع على مستوى المجتمع بشكلٍ عام، والإنسان بمفرده أيضاً بشكلٍ شخصي، إذا كان محسناً، فهو يحظى بمحبة الله "سبحانه وتعالى"، وأكرم بهذا من شرفٍ عظيم، هذا مفتاحٌ لكل خير، أنت عندما تحظى بمحبة الله "سبحانه وتعالى"، فهذا بحد ذاته شرفٌ كبير، أعظم وسام شرف يمكن أن يناله الإنسان: أن يحظى بمحبة الله رب العالمين، ملك السماوات والأرض، وأن يكون بذلك في مصاف أوليائه وأحبائه، هذا شرف، شرف عظيم جداً.

البعض من الناس لو عرف أنه يحظى بمحبة ملك من ملوك الدنيا، رئيس، زعيم، مسؤول في مرتبة معينة، شخص له نفوذ معين، شخص له أهمية معينة، وأنه أصبح يحظى بمحبته، وله منزلةٌ عنده؛ لرأى في ذلك شرفاً كبيراً، ولاستشعر من خلال ذلك بالراحة النفسية، والاعتزاز، أصبح يحس أنه شخص له أهمية وله قيمة، وإلَّا لما حظي بمحبة عند ملك، أو رئيس، أو وزير، أو مسؤول، أو شخص له أهمية وقيمة اعتبارية.

أما عندما يكون من تحظى بمحبته، بالمنزلة عنده، بالمرتبة الرفيعة لديه، هو الله "سبحانه وتعالى"، ملك السماوات والأرض، رب العالمين، ذو الفضل العظيم، فهذا هو الشرف الكبير، ولكن لسوء حظنا، ولحقارة أنفسنا، ولضعف تربيتنا الإيمانية، قد لا ندرك قيمة هذه المسألة، أهميتها، قد لا نستشعر مدى عظمتها، ولكن لنسعى من خلال التربية الإيمانية أن نستشعر مثل هذه القيمة العظيمة، والأهمية الكبيرة، هذا أمرٌ تتوق إليه نفوس أولياء الله، يتسابقون، ويتنافسون، ويسارعون، في كل ما يعرفون أن فيه محبة الله "سبحانه وتعالى"، وأنهم سيحظون من خلاله بمحبة الله "جلَّ شأنه"، شرف عظيم، منزلة رفيعة جداً.

وأيضاً ما يترتب على ذلك من رعاية الله "سبحانه وتعالى"، ورعاية خاصة، بأكثر من رعايته الشاملة لكل عباده، فضل الله ورحمته عمَّت كل خلائقه، وكل عبادة، ولكن الرعاية التي هي بمحبة هي رعاية خاصة بأوليائه، يمنحهم فيها ما لا يمنح سائر عباده في رعايته الشاملة، ورحمته الواسعة.

عندما نتأمل مثلاً في واقعنا كصورة تقريبية للذهن، كيف تتعامل مع من تحبه، وماذا يمكن أن تخصه به نتيجةً لمحبتك الكبيرة له، فعلاقتنا بالله "سبحانه وتعالى"، عندما نحظى فيها بمحبة الله، ستأتي فيها الرعاية الخاصة، المزيد من الهداية، والتوفيق، والعزة، ورعاية خاصة في أشياء كثيرة، كما أنها ضمانةٌ للسلامة من عذاب الله "سبحانه وتعالى"، فهي ترغيبٌ كبيرٌ جداً، عندما يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة : 195]، وتكرر هذا في القرآن، أيضاً من مثل قوله "سبحانه وتعالى" في أوصاف المتقين، هو يعرضها في سورة آل عمران، عندما قال "جلَّ شأنه": {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: الآية134]؛ لأن هذه كلها مواصفات هي مواصفات للمتقين، وهي إحسان، فالإحسان ملازمٌ للتقوى، فالإنفاق في السراء والضراء هو لصالح من؟ لصالح المظلومين، لصالح الفقراء، لصالح المحتاجين، لما يخدم عباد الله، لما فيه المصلحة لعباد الله بشكلٍ، أو بآخر.

وكذلك كظم الغيظ والعفو عن الناس، هذا سلوك إحساني رفيع جداً، هذا من السلوك والتعامل بالإحسان، عندما تكظم غيظك تجاه من استفزك، تجاه من زل نحوك من أبناء مجتمعك المؤمن، عندما تعفو، فأنت تمارس هذا السلوك، الذي هو إحسان، وفي نفس الوقت لهذا أهميته الكبيرة في تقليص المشاكل في داخل المجتمع، والحفاظ على وحدة كلمته، للنهوض بمسؤولياته الكبيرة، ولتحركه في المواقف المهمة.

فيختم هذه المواصفات التي عرضها في الآية المباركة بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؛ لأنها كلها إحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وهو من أعظم ما قدمه الله "سبحانه وتعالى" من المرغبات في الإحسان، مما يشجع عليه، ومما يساعد على اندفاع الإنسان إليه.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً في القرآن الكريم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: من الآية56]، رحمة الله واسعة، ورحمته في الآخرة، ورحمته في الدنيا، هي أقرب ما تكون إلى المحسنين من غيرهم، يعني: هم من يحظون برحمة الله "سبحانه وتعالى" أكثر من غيرهم، وهم من هم أقرب إلى رحمة الله في كل المواقف، في كل الظروف، في كل المراحل، عند كل التحديات، هم الأقرب دائماً إلى أن يحظوا برحمة الله "سبحانه وتعالى".

يقول "جل شأنه": {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة: من الآية120]، فإحسانك لن يضيع منه شيءٌ أبداً، ولا يخفى على الله منه شيءٌ أبداً، قد لا تلحظ تفاعل مع إحسانك من جانب الناس، أو من جانب بعضهم، أو قد تتصور في بعض الحالات أنه ما قيمة إحساني هذا؟ ما هي ثمرته، ما هي جدواه، قد تتخيل هذا التخيل تجاه ما قد تلاقيه من جفاء من البعض، وإساءة من البعض، واستفزاز من البعض الآخر، ونكران من البعض الآخر، ولكنك لأنك مخلصٌ لله "سبحانه وتعالى"، وتتجه بآمالك نحوه "جلَّ شأنه"، فهو لن يضيع من أجرك شيء، كل ما تقدمه في إحسانك، في التعامل، والعطاء، والاهتمام بأمر الآخرين بكل أشكاله، فهو مكتوبٌ لك عند الله "سبحانه وتعالى"، لك عليه الأجر، لك عليه المقابل الكبير، عندما تكظم غيظك، عندما تعفو، عندما تقدم المال، عندما تحسن بكل أشكال الإحسان، فهذا له أهميته عند الله "سبحانه وتعالى"، أثره في الواقع، قيمته، والله لن يضيع شيئاً من أجرك، كله محسوب، وكله لن يضيع منه مثقال ذرة.

يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً عن جانبٍ من جوانب الإحسان الكبيرة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت: الآية6]، يعتبر الجهاد في سبيل الله وفق مفهومه القرآني الصحيح من أعظم الإحسان، من أعظم مراتب الإحسان، ومن أكبر ما تحسن فيه إلى الناس؛ لأن الجهاد في سبيل الله- كما كررنا هذا كثيراً- ليس وسيلةً لحماية الله والدفاع عنه، هو القوي العزيز، والغني الحميد، الجهاد في سبيل الله هو وسيلة لحماية الناس، لدفع الشر عنهم، لدفع الخطر عنهم،
لدفع العدوان عنهم، لدفع المجرمين والأشرار عنهم، فهو وسيلة حماية للناس أنفسهم، ووسيلة دفاع عنهم وهو دفع للخطر والشر والإجرام عنهم، منعٌ للمجرمين والأشرار المتسلطين من السيطرة عليهم، والاستعباد لهم، والإذلال لهم، والامتهان لكرامتهم، فهو إحسانٌ كبيرٌ إلى الناس، عندما تجاهد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، فأنت تحمي مجتمعك من أن يستعبد من المتسلطين الطغاة، من أن يقهر ويذل ويهان من خلال سيطرة الأشرار والمجرمين، أنت تدفع شر العدو عنه، أنت تتصدى لذلك العدو الذي يستهدف مجتمعك، يظلم أمتك، يقهر شعبك، وهكذا يعتبر هذا من أكبر الإحسان إلى الناس، وأنت قد تقدم حياتك في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، وأنت تدفع عن شعبك هذا الشر، وعن أمتك هذا الخطر، فيعتبر هذا من أعلى مراتب الإحسان، ولهذا ختمت هذه الآية المباركة بقوله "سبحانه وتعالى": {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

فنجد من مثل قوله "سبحانه وتعالى"، كل هذه المرغبات الكبيرة في الإحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: من الآية148]، وهنا: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، المحسنون وهم يجاهدون في سبيل الله، وهم يقدمون في سبيل حماية أمتهم الغالي والنفيس، حتى أرواحهم في سبيل الله "سبحانه وتعالى" والمستضعفين من عباده، هم يحظون بمعية الله، أن يكون الله معهم، وهذه عبارة مهمة جداً؛ لأنها جامعة لكل خير، إذا كان معهم، فهم الأقوى، هم المنتصرون، هم الذين سيفلحون، هم سيحظون برعايته القوية والعجيبة والشاملة والواسعة...الخ.

فأيضاً نجد من مثل قوله "سبحانه وتعالى": {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } وهو يحكي عن نبيه يوسف "عليه السلام"{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: الآية22]، نبي الله يوسف، وأنبياء الله بشكلٍ عام، من أعظم الصفات البارزة فيهم هي الإحسان، وكان من يعرفه يقول عنه إنا نراك من المحسنين.

هنا يقول الله "سبحانه وتعالى" أن نبيه يوسف "عليه السلام"، وحكى نفس الشيء عن نبيه موسى "عليه السلام" {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} في مرحلة شبابه، {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} آتاه الله حكماً، وآتاه علماً؛ فكان حكيماً، وكان عالماً، ثم يختم هذه الفقرة بقولة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: الآية22]، ليبيين أنها سنة من سننه "سبحانه وتعالى"، وأنه يعطي عباده المحسنين حكماً وعلماً، هذا ترغيب كبير جداً، فهي وسيلة من الوسائل التي تحصل بها على العلم والحكمة، الإحسان، الإحسان، هذا ترغيب كبير، ويدلنا على أهمية الإحسان، وما ينال المحسنون من الله "سبحانه وتعالى".

فالإحسان هو قاعدة أساسية للتعامل، وروحية مهمة جداً ملازمة للتقوى والإيمان، ويبدأ التعامل على أساس الإحسان والعلاقة على أساس الإحسان، ابتداءً من محيطك الأسري، من والديك أولاً، ولهما خصوصية في هذا التعامل، بالمزيد من الاحترام والتوقير، ألَّا تسيء إليهما، وفي نفس الوقت أن يتجلى إحسانك إليهما في التعامل، والتخاطب، والاهتمام بأمرهما، مثلما قال في سورة الإسراء: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء: من الآية23]، حتى في طريقة التخاطب والقول، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، وتصل أهمية هذه المسألة إلى درجة أن الله "سبحانه وتعالى" نهى عن الإساءة إلى الوالدين حتى المشركين، حتى ولو كانا مشركين، قال "جلَّ شأنه": {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}[العنكبوت: من الآية8]؛ لأنه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله، حتى لو كان الأب، ولو كانت الأم، من يأمرك بما هو معصية لله، لا يجوز أن تطيعه فيما هو معصية لله، ولكن مع ذلك يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: من الآية15]، تبقى الصحبة بالمعروف، تبقى مسألة الإحسان، في الاهتمام بأمرهما، في العناية بهما، في طريقة التعامل المحترمة معهما دون طاعةٌ فيما هو معصية لله "سبحانه وتعالى"، سواءً تجاه ما أمر، أو تجاه ما نهى.

فنكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وأياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ

الاثنين، 26 أبريل 2021

الشهيد ابو المطهر المروني

الشهيد ابو المطهر المروني 

ـــــ ..
بالأمس يودّع ستةٌ من أبناء أخوته شهداء ليودّع بعدهم أربعة عظماء من أبزياءه ثمّ ها هو يودّع اثنان أبنائه هما عبد الفتاح وحمزة شهداء وها قد ودّع قبلهم اثنان من أخوانه شهداء 
وها هو اليوم بشخصه وفي نفس الدرب وقضيته الحقة ومشروعه الجهادي يرتقي شهيداً في سبيل الله مكرّماً خالداً عزيزاً بعزة الجهاد ولواء الحق. 
هو ذا أبو مطهر ( إسما عيل حسين المروني ) الشهيد القائد والأب المجاهد والعم الشهيد والخال الشهيد والأخ الشهيد الذي ما تخلّف عن الجهاد ساعة واحدة وما تجاهل داعي الجهاد للحظةً واحدة فلم تغريه الدنيا ولم يؤخره حدث عن الجهاد واللحاق برجال الجيش واللجان الشعبية بالرغم من كبر سنّه إلاّ خرج مجاهداً ذائباً عن عن دين الله والمستضعفين من النساء والولدان في مواجهة الصلف السعودي الأمريكي وخسة المرتزقة الرخاص.
الشهيد ابو مطهر ( إسماعيل المروني ) من الكرام ولِدَ وبين الكرام نشأ وبزغ عوده وترعرع 
كريمٌ عاش بين أحضان أُسرة كريمة معطاءة خيّرة لا تقبل الهوان والعيش في ذلةٌ وصغار
آل المروني أسرة قدّمت عشرات بل مئات الشهداء من خيرة ابناءها ورجالها رفداً لجبهات العزة والكرامة يتسابقون وإلى الانتصار والعلياء يتنافسون وفي ذلك فليتنافس آل المروني عليهم من الله السلام والتحية والإكرام.
إجلالاً لله وإحقاقاً لحق الله ونصرة لدينه وثأراً لمن ظُلموا انطلق الوالد اسماعيل ومعه ابنائه واخوته وابناء عمومته وكل شرفاء اليمن حميعهم انطلقوا الى جبهات وميادين القتال لدفع شر الاشرار والدفاع عن اليمن الارض والإنسان والعقيدة.
ومن جبهة إلى أخرى تنقل قائد آل المروني أبو الشهداء منكلاً بأعداء الله شاهراً سيفه وقبضة زناد بندقيته إلى نحر المعتدين وأدواتهم المرتزقة 
جاهد جهادٌ حيدري ببصيرة ووعيٌ عالي تحدّى الصعاب نازل احدث السلاح وداس بقدمه الطاهرة على الحديد والمدرّعات وقهر الله به الخبثاء والعملاء والمعتدين
وبشموخ يماني هاشمي وعربيٌ أصيل وبإباءٌ ذماري آنسيٌ نبيل وثب العميد ابو مطهر المروني وثبة الأُسود ظرغامٌ يباهي بحقه وبقضيته التي خرج مجاهداً في سبيلها وفي رضى لله بذل الغالي  النفيس ووهب حياته ومماته لله وإعاره جمجمته نصراً وعزّاً او شهادة في سبيله .
ليرتقي اليوم بعد حياة حافلة بالعطاء والجهاد شهيدٌ إلى العليا غادرنا إلى جنة الفردوس حيث ينتظره من سبقه من ابنائه وابناء عمومته واخوانه وشهداء المسيرة القرآنية التي ما بخل الشرفاء والاطهار من البذل والعطاء ومستمرون حتى النصر او الشهادة او ان يحكم الله بيننا وبين القوم المعتدين الضالمين.
وها قد احسن الله خاتمة الشهيد واصطفاه الى جنة الخلد شهيداً بنعيمها يتنعم وبخلودها الدائم يستبشر بالذين من خلفه ألاَّ خوفٌ عليهم من النار ولا هم يحزنون .
رحم الله الشهيد القائد المروني ابو المطهر اسماعيل حسين المروني
تقبله الله بقبولٍ حسنٍ وغفر له 
وهي لابنائه الفضلاء واخوته الأعزاء المجاهدين الكرماء
وهي لأُسرة العطاء والتضحية والجهاد آل المروني 
وهي لأُسر الشهداء والمجاهدين والأسرى والمرابطين والجرحى ولكل الشرفاء من يجاهدون أئمة الكفر والنفاق وتحالف العدوان

نص المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

نص المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 13رمضان 1442هـ 25-04-2021
اليمن
 25 نيسان/أبريل 2021

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
  
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

 

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛

في سياق الحديث عن خطورة الشرك بالله “سبحانه وتعالى” في شقيه (الاعتقادي، والعملي)، وصلنا إلى الحديث عما يعتبر من الشرك العملي: وهو الرياء والعياذ بالله.

وهنا نتحدث عن أهمية الإخلاص، وعن خطورة الرياء، وما يترتب على كلٍّ منهما.

عند التأمل في القرآن الكريم نجد آياتٍ كثيرة ركَّزت على موضوع الإخلاص لله “سبحانه وتعالى” في عبادته، الإخلاص له في الدين، ونقرأ بعضاً من تلك الآيات المباركة:

 

يقول الله “سبحانه وتعالى” مخاطباً لنبيه محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر: 2-3]، في هذه الآية المباركة في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، يبين الله “سبحانه وتعالى” أنه أنزل القرآن الكريم وفيه تعليماته، وفيه توجيهاته، وفيه شرعه، وهو الذي يتضمن تعاليم هذا الدين، فيقول: {فَاعْبُدِ اللَّهَ}؛ لأن عبادة الله تتحقق من خلال العمل بهذا الكتاب، والإتِّباع لهذا الكتاب، والاهتداء بهذا الكتاب، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، والإخلاص هنا يشمل الجانب الاعتقادي والجانب العملي.

 

{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، وهذا إعلان عام: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، فواجبنا جميعاً، واجب البشر جميعاً: أن يدينوا لله “سبحانه وتعالى” بإخلاص، بشكلٍ خالص، ألَّا يشوبوا دينهم وعبادتهم لله “سبحانه وتعالى” بأي شائبةٍ من الشرك، لا على المستوى الاعتقادي، ولا على المستوى العملي، وهذا هو الإخلاص لله “سبحانه وتعالى”، فما تعبد الله به من العبادات، وما تتقرَّب به إلى الله “سبحانه وتعالى” من القربات، تقدِّمه خالصاً لله “سبحانه وتعالى”، من أجله “جلَّ شأنه”، تبتغي مرضاته هو؛ وبالتالي ليس لك هدفٌ آخر، أو مقصدٌ آخر من خلال ذلك، لا في صلاتك، ولا في حجك، ولا في زكاتك، ولا في إنفاقك، ولا في صدقاتك، ولا في قولك الحق، ولا في جهادك، ولا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، ولا في مواقفك الحق، كل ما تعمله من هذا الدين، تعمله لأجل الله “سبحانه وتعالى”، وليس لأيِّ مقصدٍ آخر من الناس، لا مقصدٍ ماديٍ ولا معنوي، لا لكي تحصل على مكاسب مادية في مقابل ما تعمله من هذا الدين، ما تقوم به من هذه القربات والأعمال الصالحة، التي هي من دين الله “سبحانه وتعالى”، ولا مقاصد معنوية، مثل: المديح، والثناء من الآخرين، أو منصب معين، أو سمعة معينة، ومكانة معينة في نفوس الناس، أو في نفوس بعضهم، أو في نفس أيِّ شخصٍ منهم، فتعمل ما تعمل من دينك وأنت تتقرب به إلى الله “سبحانه وتعالى”، من أجله فقط، ليس لك أي مطلب ولا مقصد آخر من غير الله “سبحانه وتعالى”، هنا يكون ما قدَّمته خالصاً من أي شائبة؛ لأنك اتجهت به إلى الله “جلَّ شأنه”، ولم تتجه به إلى غيره.

 

أمَّا إذا دخل هذا المقصد الآخر، سواءً في صلاتك، تصلي وتتقرَّب بذلك إلى الله، ومع ذلك تبتغي أن تحصل على سمعة طيِّبة، وتنتظر من الآخرين الثناء، والإشادة بك، أو تجاهد وأنت تريد أن تحصل على الأجر والثواب، في نفس الوقت تبتغي وتحرص وتنتظر من الآخرين أن تحصل منهم على ثناء، على مديح، على مكانة في نفوسهم، على احترامٍ من جانبهم، على تقديرٍ من جانبهم، وتتوجه كهدف أساسي لهذا، جزءٌ من هدفك في العمل هو هذا الهدف، وحتى لو لم يتحقق لك هذا الهدف؛ ستغضب، وتستاء، وسيؤثِّر ذلك على عملك نفسه، ففي كل أعمالك: في جهادك، في إنفاقك، في عطائك وإحسانك، في قولك الحق، في مواقفك الحق… في كل ما تعمله من الأعمال الصالحة، كل الذي تعمله من هذا الدين، يجب أن يكون خالصاً من أجل الله “سبحانه وتعالى”، من أجل الله “سبحانه وتعالى”، وتبتغي كل الخير من عنده، كل الخير هو من عنده.

 

يقول الله “سبحانه وتعالى” معلِّماً لنبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وهو تعليمٌ أيضاً لكل مؤمن: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر: الآية11].

 

يقول “جلَّ شأنه” أيضاً: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[غافر: من الآية65]، وهذا خطابٌ للجميع بشكلٍ مباشر، يتوجه إلينا جميعاً: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}؛ لأنه لا إله إلا هو، فكل ما نعمله من الدين، وما نتقرَّب به من الدين، يجب أن نتقرَّب به إليه وحده، وألَّا يشوب إخلاصنا في ذلك أي شائبةٍ من شرك، لا عقائدي ولا عملي، ولا رياء؛ باعتباره من الشرك العملي.

 

يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة: من الآية5]، فلا بدَّ من الإخلاص في العبادة، في الدين، في الدعاء بعنوانه العام، وعنوانه الخاص، لا بدَّ من الإخلاص لله “سبحانه وتعالى”، هذا جزءٌ أساسيٌ من توحيدك لله “سبحانه وتعالى”، هو من مصاديق توحيدك لله “سبحانه وتعالى” على المستوى العملي.

 

يقول “جلَّ شأنه” وهو يعلَّمنا كيف نتخاطب مع أهل الكتاب: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}[البقرة: من الآية139]، وهذا أيضاً من الإخلاص بمعناه العام، الإخلاص في الدين، الإخلاص في العبادة، والسلامة من كل شوائب الشرك الاعتقادي والعملي.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً فيما يتعلق بالجهاد في سبيل الله، ويتكرر هذا في القرآن كثيراً: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، عند الأمر بالجهاد يأتي بقوله “سبحانه وتعالى”: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ويتكرر هذا كثيراً؛ وذلك ليكون جهادك من أجل الله أولاً، وليس من أجل هدفٍ آخر، أو مقصدٍ آخر تبتغيه من الناس، لا سمعة، ولا مكانة، ولا منصب، ولا مديح، ولا مكاسب مادية تبتغيها في مقابل ذلك، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: من أجله، هذا أولاً، ووفق الطريقة التي رسمها وحددها في كتابه، فيكون تحركك في سبيل الله وفق تعليمات الله “سبحانه وتعالى”، وملتجئاً إليه، ومعتمداً عليه، ومتوكلاً عليه.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً فيما يتعلق بالجهاد: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج: من الآية78]، وهذا أيضاً بشكل أبلغ من قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يفيد أن يكون جهادنا في سبيل الله بكل إخلاص لله “سبحانه وتعالى”، ومن أجله، وابتغاء مرضاته، ومحبةً له، وطاعةً له، فيكون توجهنا في ذلك كله إلى الله “سبحانه وتعالى” من دون أي شائبة.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً عن الجهاد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت: الآية69]، وهنا كذلك: {فِينَا}، من أجل الله “سبحانه وتعالى”، لا يدخل أي شائبة، أي مقصدٍ آخر من الناس نهائياً، هذا يخرِّب جهادك، يعطِّل جهادك، هذا مما يصرف الكثير عن مواصلة الجهاد في سبيل الله؛ لأنها تدخل مثل هذه المقاصد الشخصية، والأهداف الشخصية، وما يريدونه في مقابل ذلك من الناس، ما يريده من الناس، ما يريده من هذا أو ذاك، من هذه الشخصية القيادية أو تلك، وهذا يؤثِّر.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً عن الجهاد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: الآية207]، يبيع نفسه من أجل الله، ابتغاء مرضاة الله، فهو يسعى للحصول على مرضاة الله، هي هدفه الرئيسي، وليس مرضاة الناس، أو المواقع المعينة (مواقع المسؤولية)، أو المناصب المعينة تتحول هي إلى هدف رئيسي يعلِّق عليه جهاده، مكانة وسمعة معينة، مقاصد مادية ومكاسب مادية يعلِّق عليها جهاده.

 

يقول “سبحانه وتعالى” عن الإنفاق: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى}[الليل: الآية17]، يعني: يجنَّب النار، نار الله وعذابه الشديد، {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}[الليل: 17-20]، هو لا يبتغي في مقابل ما ينفقه من المال، لا يبتغي به مقابلاً من الناس، من أيِّ أحدٍ من الناس، كبيرٍ أو صغير، سمعة عامة، أو مكانة خاصة، عند شخص معين، عند شخص قيادي، عند شخص له مكانة معينة، أو لدى الناس عموماً، أو في محيط معارفه أو مجتمعه؛ إنما هدفه الحصري: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}، ما يريده هو يريده من الله، وليس من الناس، هو في المقدِّمة يبتغي مرضاة الله “جلَّ شأنه”، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل: الآية21].

 

أيضاً فيما يتعلق بقيمة العمل الصالح، وفضله، والأجر العظيم عليه، وهذا مما يشجِّع على الإخلاص: أنك عندما تعمل ما تعمله من دين الله، وتنفِّذ ما تنفِّذه من توجيهات الله ابتغاء مرضاته، ومن أجله، ومن دون أي شائبة رياءٍ، تحصل على الأجر الكبير، والفضل العظيم من الله “سبحانه وتعالى”.

 

فيما يتعلق بالإنفاق يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة: الآية265]، الإنفاق {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}، {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: يرجون لأنفسهم التثبيت من الله، فكل هدفهم ومبتغاهم هو من الله، وليس من الناس، لا سمعة، ولا مديح، ولا ثناء، ولا مكانة معينة يطلبونها من الناس، مَثَلُهم في هذا المثل، في هذه الآية المباركة، {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ}، جنة في مكان مرتفع وممتاز، وموقع متميز، خصب، مُنتِج على المستوى الزراعي، {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}، فيأتي للإنفاق أثره الكبير في نفوسهم، ويأتي للإنفاق أثره العظيم في أجرهم المضاعف، وفي نتائجه وآثاره الطيِّبة، {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}، ولو لم يصبها وابل، ولو لم يصبها إلَّا القليل يأتي عطاؤها الواسع.

 

يقول “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بمساعي الخير من صلحٍ بين الناس، أو أمرٍ بصدقة، أو أمرٍ بمعروف: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}[النساء: من الآية114]، هذه مساعي خير، لكن ما الذي يفترض أن يكون الدافع إليها؟ {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: من الآية114]، من يفعل ذلك ليس ليحصل على مكانة كبيرة في المجتمع، ووجاهة في المجتمع، أنه يحل مشاكل الناس، وأنه يقوم بدور إيجابي في معالجة مشاكل الناس وفي خدمتهم، ما يقدِّمه من الخدمة في مجتمعه، سواءً خدمات من هذه الخدمات الإحسانية، خدمات إحسان: أمر بمعروف، صدقة، أو فيما يتعلق في الصلح بين الناس، يفعله ابتغاء مرضاة الله، هو لا يعمل ليحصل على مقابل من الناس سمعة، ومكانة، واحترام، ووجاهة… وغير ذلك، ما يريده يريده من الله.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً عن أجر العمل بشكلٍ عام: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة: الآية7]، وهذا فيه طمأنة كبيرة، على أنَّ ما تعمله من أجل الله “سبحانه وتعالى”، ما تعمله من الخير قربةً إلى الله، فأنت ستراه، وسيعطيك الله عليه الجزاء في المقابل، المقابل لذلك من الله، وما تحصل عليه من الله هو الشيء العظيم جداً.

 

يقدِّم في القرآن الكريم طمأنةً على الأجر، على المقابل العظيم لما تعمله من العمل الصالح قربةً إلى الله “سبحانه وتعالى”، يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}[طه: الآية112]؛ لأن كل ما عمله محسوبٌ له، وسيجازيه الله خير الجزاء عليه، وعظيم الجزاء عليه، ولن يغيب منه شيء، ولن ينقص منه شيء، ولا مثقال ذرة، فلا يخاف أنه سيقول: [أنا فعلت كذا، عملت كذا، ضحيت بكذا، قدَّمت كذا، سعيت كذا، فعلت كذا، ولكن ذهب جهدي هذا أدراج الرياح، أين التقدير لجهودي هذه؟ أين الجزاء على أعمالي ومتاعبي هذه، ومعاناتي هذه، وعطائي هذا]، {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}، فأنت ستوفى كل أجرك، لا نكران لجهودك، لا نكران لعملك، لا تجاهل لسعيك، هو كله محسوب، مقدَّر طالما قدَّمته بإخلاص، ووفق توجيهات الله وتعليماته، فلن يضيع منه مثقال ذرة، وما تحصل عليه من الله هو المهم، هو العظيم، هو الدائم، هو الذي فيه الخير لك في الدنيا والآخرة.

 

يقول “جلَّ شأنه”: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: الآية40]، يضاعف الأجر الكبير، ليس فقط يحسب لك العمل، بل ويضاعف لك عليه الأجر الكبير الواسع، الأجر من الله أجر شامل وواسع، أجر معنوي، وأجر مادي، وأجر عظيم ومكانة.

 

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: من الآية171]، وهذه ضمانة يقدِّمها الله لكل المؤمنين فيما عملوه، فيما قدَّموه، في تضحياتهم، في جهودهم، أنه لا يضيع عليهم من أجرها أي شيء نهائياً، على أي مقدار أبداً، ولا على أي جهد نهائياً، هل يريد أحد أكثر من ضمانة يقدِّمها الله له؟

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: من الآية56]، {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، فهو “جلَّ شأنه” يمنحهم الأجر على ما عملوه في الدنيا وفي الآخرة، جزءٌ من الأجر بأشكال متعددة: رعاية واسعة، ألطاف عجيبة، دفع للشر عنهم، تثيبت وهداية وتوفيق… الأجر عنوانٌ واسع، يدخل فيه رعاية من الله واسعة تشمل جوانب كثيرة: تشمل الرعاية المادية، والرعاية المعنوية، وصرف الشر، والتوفيق، والتثبيت، والهداية، وتشمل أيضاً توفية الأجر بغير حساب، بالوصول إلى رضوان الله، وجنته، والنعيم الدائم، والسلامة من عذابه.

 

يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}[البقرة: من الآية197]، لا تقلق أنه يمكن أن يكون لم يطَّلع على عملٍ معين من أعمالك، من أعمال الخير التي عملتها، تقول: [يمكن لم يصل إليه العلم بذلك، لم يطَّلع على ذلك، لم يعرف بذلك، إذاً سيضيع أجري]، كل ما تعمله من خيرٍ يعلمه “جلَّ شأنه”، فهو يعلمه، ويجازيك عليه بخير الجزاء، لا يمكن أن يغيب عنه لأنه لم يصل إليه تقرير من المسؤول الفلاني، أو المعني الفلاني، أو المشرف الفلاني، هو العليم بكل عباده، وبكل ما يعملون.

 

أيضاً من العطاء الإلهي، الذي يعطيه الله “سبحانه وتعالى” العزة، فالإنسان مثلاً قد يكون راغباً في أن يحظى بالعزة في هذه الحياة، وأن يكون عزيزاً، إذا أردت العزة، فلا تنشدها من الناس، ولا تتقرب بالأعمال الصالحة، والأعمال العبادية، تتقرب بها إلى الناس؛ تبتغي بها العزة منهم، بل أخلص لله “سبحانه وتعالى”، وبإخلاصك لله “سبحانه وتعالى”، وعملك وفق توجيهاته تحصل منه هو على العزة، ويمنحك العزة يقول “جلَّ شأنه”: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر: من الآية10]، فتنال العزة من الله “سبحانه وتعالى” عندما تتجه بنيتك، بمقصدك، فيما تعمله من الأعمال الصالحة، فيما تتقرب به من العبادة إليه وحده “جلَّ شأنه”.

 

يقول أيضاً فيما يتعلق بالنصر، أنت تريد أن تنتصر، تكون قوياً، تحسم الصراع مع أعدائك لصالحك، يقول “جلَّ شأنه”: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]، فتحرك وأنت تتحرك من أجل الله، من أجل الله، ليس لتحصل على صيت، أنك الفاتح العسكري، أنك الذي يحسم المعركة لصالحه، أنك الذي يتمكن من التقدم والغلبة وكسر الأعداء، وتريد هذه السمعة من الناس، وتعمل من أجل ذلك، وأنك من فتحت الموقع الفلاني، أو المعسكر الفلاني، أو المنطقة الفلانية، وأنك وأنك، لا، تعمل من أجل الله، من أجل الله، وتريد منه هو رضاه، وتتحرك وفق تعليماته، وهنا سينصرك، سينصرك، وهو الذي سيجعلك منتصراً، وفاتحاً، وغير ذلك، فاتجه بمقصدك إليه “سبحانه وتعالى”، والحديث يطول عن هذا الجانب في القرآن الكريم كثيراً كثيراً.

 

ثم نأتي إلى التحذير من الرياء، يقول الله “سبحانه وتعالى” مخاطباً لنبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: الآية110]، هذه الآية المباركة من المعروف بين المفسرين وفي التاريخ والحديث أنها نزلت بشأن مجاهدين سألوا النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، عمَّا إذا كان الإنسان يجاهد وهو يريد رضوان الله، ويبتغي مرضاة الله “سبحانه وتعالى”، ولكنه مع ذلك يحب أن يذكر بين الناس بشجاعته وبإقدامه، وبسالته، وتضحيته، فهو يريد من الله الأجر، ويريد من الناس الصيت، السمعة، الإشادة، المديح، فهل سيؤتى الأجر على ذلك؟ فنزلت هذه الآية المباركة لتحسم الأمر حسماً نهائياً، من غير المقبول أن يكون لك مقصدٌ تتجه به إلى الناس، ليكن كل مقصدك من الله، كل الذي تبتغيه وترجوه من الله “سبحانه وتعالى”، هنا تكون مخلصاً؛ أما إذا شاب جهادك، مواقفك، قولك الحق، عطاءك، إنفاقك، شائبةٌ من هذه الشوائب، تريد منها مقابلاً من الناس، فهذا هو الرياء، وهو شرك، شرك عملي، ولو كنت محسوباً على المسلمين، وأنك مسلم في انتمائك الإسلامي والديني، ولكنك تكون قد ارتكبت جريمةً من أكبر الجرائم؛ بسبب الرياء، يتحول هذا الأمر إلى شرك.

 

يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً في التحذير من الرياء، وأنه يبطل الأعمال، يجعل عملك، لا قيمة له، لا تحصل في مقابله على الأجر من الله أبداً، ولا تكسب به كل النتائج الإيجابية للعمل الصالح، الذي تعمله ابتغاء مرضاة الله، وهو في سياق الحديث عن الصدقة والإنفاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}[البقرة: من الآية264]؛ لأن المن، عندما تتمنن بما أعطيت، مما يبطل صدقتك، والأذى كذلك، عندما تتبع ما أنفقت أذية، هذا يبطل صدقتك، ثم يقدم مثالاً مهماً، يربط به هذا الإبطال أيضاً، يقدمه أنه أيضاً من أكبر ما يبطل الصدقات ويفقدها قيمتها، {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} صخرة كبيرة ملساء عليها تراب {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} مطرٌ غزير {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} ذهب بكل ما عليه من التراب، فبقي صخرةً ملساء، ليس عليها شيءٌ من الطين، {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}، هذه هي الخلاصة، هذا هو ما يعنيه المثل، لا يقدرون على شيءٍ مما كسبوا، يكون عملك مهما كان، صلاتك، صيامك، زكاتك، حجك، إنفاقك، زكاتك، عطاؤك، جهادك، مواقفك، قولك الحق، وقفتك الجادة في موقفٍ من مواقف الحق، أي موقف دخله الرياء يبطل، لا قيمة له، لا أجر عليه، لا فضيلة منه؛ وبالتالي أنت خاسر، هذا يجعلك تخسر، أمر خطير جداً، {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}.

 

يقول “سبحانه وتعال” أيضاً في سياق التحذير من الرياء في الإنفاق: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ليس بدافعٍ إيماني، الرياء هو يبطل الدافع الإيماني، هو يذهب بالدافع الإيماني، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}[النساء: الآية38]، لاحظوا والعياذ بالله كيف يتحول الإنسان إلى قرين للشيطان بسبب الرياء، بسبب الرياء تصبح أنت مقترناً بالشيطان، وقريناً، ويكون الشيطان قريناً لك، وساء قرينا.

 

يقول “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بالصلاة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون: 1-6]، فعندما ترائي حتى في صلاتك، فالويل لك، وهنا يتبين لنا أنك لا تقتصر خسارتك فقط على ذهاب الأجر، على أنك لم تحظ بالأجر، لم تحظ بقبول العمل، بل أكثر من ذلك، يتحول ذلك العمل بنفسه إلى معصية، يتحول ذلك العمل بنفسه إلى معصية؛ بسبب الرياء، أشبته بشائبة جعلت منه معصيةً، بدلاً من أن يكون قربةً تحظى من خلالها بذلك الأجر العظيم والفضل الكبير.

 

يقول “سبحانه وتعالى” أيضاً فيما تعلق بالجهاد والمجاهدين: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}[الأنفال: من الآية47]، (بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ): لا يكون هناك سعي للرياء، والعرض أمام الناس، يكون هناك حرص على مرضاة الله “جلَّ شأنه”.

 

يقول أيضاً عن واحدةٍ من صفات المنافقين البارزة، فيما يتظاهرون به من أعمال الخير: {يُرَاءُونَ النَّاسَ}[النساء: من الآية142]، فمن أهم صفات المنافقين الرياء والعياذ بالله، ومن أكثر آفاتهم، وأخطر آفاتهم التي يعانون منها في دينهم: الرياء، فإن عملوا خيراً، فلهم مقاصد للرياء أمام الناس.

 

فنجد من خلال هذه الآيات المباركة أن من أهم ثمرات الإخلاص لله هو:

 

قبول العمل:

 أن يقبل الله منك عملك، أن يتقبل منك عملك الصالح، يتقبل منك عبادتك، أن يتقبل منك جهادك، لا بدَّ من الإخلاص، وأن يكون لعملك قيمته في الأجر، والفضل، والقربة، وأثره في واقع هذه الحياة، وأن يكتب لك أثر عملك، الذي قد يبقى أحياناً على مدى أجيال، وكذلك في نتائج العمل وفي نموه، أن يبارك الله عملك وجهودك في أثرها في نفسك، وفي أثرها في الواقع، وأن يحقق لك النجاح الكبير، هذه قيمة مهمة للإخلاص، وعظيمة وأساسية.

 

ثانياً: الفاعلية في العمل:

من أهم ثمرات ونتائج الإخلاص، أنك ستعمل بكل فاعلية، بكل جد، وفي كل الأحوال، في السر، والعلن، المرائي ينشط إذا كان أمام الناس، أو إذا كان يلحظ أن الناس يلهجون دائماً بالإشادة به، والحديث عنه؛ أما بمجرد أنه يلحظ أن الناس لم يتفاعلوا بالمديح والثناء والإشادة، أو لم يقدموا له ما يبتغيه منهم: منصب معين، مكانة معينة، رتبة معينة، عنوان معين، فهو سرعان ما يتحطم، ويتكاسل عن العمل، ويستاء من العمل، ويقول: هؤلاء لا يقدرون لي جهودي، ولا يهتمون بأعمالي، ولا يلحظون لي إنجازاتي؛ فيستاء.

 

لكن الذي مقصده الله، ومرضاة الله، وتوجهه نحو الله، وما يريده يريده من الله؛ سيكون نشيطاً في كل الأحوال، فاعلاً، ولو كان وحيداً في الصحراء، لا ينتظر من فلانٍ أن يراه، ولا من فلانٍ أن يقدر عمله، ولا من فلانٍ أن يشيد به، وإلا تكاسل وتخاذل، لا، هو ذلك الجاد والمهتم في كل الأحوال.

 

فمن أهم الثمرات العظيمة للإخلاص هو الفاعلية، والجد في العمل؛ لأنك تدرك أن الله يراك أينما كنت، ويقدر جهودك، ويعلم بأحوالك، وأنه لا أحد يقدر جهودك كالله “سبحانه وتعالى”، الذي يعلم حقيقة عنائك وجهدك، وقيمة عملك، هو”جلَّ شأنه” من يحيط بك، ويعلم بكل أحوالك، الناس لا يستطيعون حتى لو كان لديهم رغبة أن يهتموا بك، أن يشيدوا بك، أن يقدروا عملك، لن يحيطوا علما وخبراً بمقدار عنائك، بمقدار جدك، بمقدار اهتمامك، بمقدار إخلاصك، ثم مهما قدموا لك فهو لا شيء، في مقابل ما يقدمه الله “سبحانه وتعالى”، فالفاعلية في العمل، في السر والعلن، وفي كل الأحوال والظروف، والجد في العمل بشكلٍ مستمر هو من ثمرات الإخلاص.

 

من أهم أيضاً ثمرات الإخلاص هو: الحفاظ على التوحد، والإخاء، والتعاون، والألفة، فيما بين المؤمنين:

بإخلاصهم لله “سبحانه وتعالى” فهم لا يدخلون في إشكالية الأنانية، الأنانيات والمقاصد الشخصية مدمرة للأخوة؛ أما مع الإخلاص فلديهم القابلية أن يتحركوا جميعاً بكل تفاهم، بكل تآخٍ، بكل تعاون، بكل محبة، وكلٌ منهم ليس له مقصد شخصي من الآخر، ينتظره نحوه.

 

أيضاً فيما يتعلق بخطورة الرياء:

 

من أكبر مخاطر الرياء هو خسران العمل، خسران الجهود، فالله لن يقبل منك أي عمل: لا جهاد، ولا إنفاق، ولا صلاة، ولا أي عمل ترائي فيه.

أيضاً لن تحظى بالنتائج والآثار الإيجابية للعمل، ستخسر كل ذلك الذي كان الله سيعطيك في مقابل عملك في الدنيا والآخرة، وهي خسارة رهيبة جداً، وإذا حصلت على شيءٍ من الناس، فهو شيءٌ وهميٌ وزائلٌ وبسيط، ليس له أي قدر في مقابل ما خسرته من الله “سبحانه وتعالى”.

من السلبيات الكبيرة للرياء:

 

هي السلبية في الأداء العملي: الذي أصبحت له مقاصد شخصية، سواءً في جهاده، أو في أعماله الأخرى، في الأعمال الدينية، فأداؤه يكون أداءً سلبياً، لا فاعلية فيه، لا جد فيه، مليء بالعقد، مليء بالسلبيات، مليء بالإشكاليات، كثير التذمر، كثير الاستياء، كثير العقد، ويحد من فاعليته، لن يعمل بجدية، وبراحة، وبتفاعل، وبجد، كثير التململ، ضعيف الجدية، وقد يصل إلى التوقف، قد يتوقف لأي عائق، لأي استفزاز، لأي إشكالية، وكأن عمله كان من أجل الناس، بمجرد أن استفزه أحدٌ منهم، أو أساء إليه، أو واجه معه إشكالية، أو حصل له أي عقده، فوراً يتوقف، كأن عمله كان للناس، وليس لله “سبحانه وتعالى”، هذا دليل على الرياء.

من أخطر أسباب الفرقة، والأنانية، وعدم الانسجام، والتعقد، في الأداء العملي. فعلاً الرياء خطير.

المقاصد الشخصية التي تنحرف بك عن الإخلاص لله: أصبح لك مقصد شخصي، أن يكون لك منصب معين، تكون مدير أمن، أو تكون قائد عسكري، أو رتبة معينة، أو وظيفة معينة: وزير، أمير، قائد، مدير… أي موقع معين، سمعة معينة، نفوذ معين، إمكانيات مادية معينة، أن تعطى وتعطى وتعطى، هذه المقاصد المادية والمعنوية من الناس، عندما تكون مقصداً شخصياً لك في العمل، فلها أثر سلبي جداً، تتحول إلى إنسان معقد، وكثير الإشكاليات ويرتبط توجهك العملي بذلك، فأنت لن تستمر في جهادك إلا في مقابل أن تعطى أشياء مادية، أو تحصل على مناصب معينة، أو مواقع معينة، تربط عملك بذلك، لن تقف موقف الحق إلا بذلك، لن تتحرك في واجباتك ومسؤولياتك إلا بذلك.

والكثير من الناس يتوقفون عن العمل في سبيل الله والجهاد في سبيل الله؛ لمّا تغيرت مقاصده، بل إن البعض يكون سباقاً، وتحرك في مراحل معينة، وكان تحركه تحركاً جيداً، ومنطلقاً، ومستمراً؛ لأنه كان سليماً من هذه المقاصد الشخصية، كان يتحرك لا ينتظر مكاسب مادية، ولا مناصب، ولا مواقع في مناصب معينة، يتحرك بشكل كإنسان عادي مخلصاً لله، هدفه ومقاصده من الله، ومبتغاه من الله، ولذلك كان يستمر، بعد أن كان من ثمار إخلاصه- في مراحل معينة- أن يرفع الله من شأنه، أن يجعل له قدراً واحتراماً، أن يهيئه لأعمال أكثر أهمية، ومسؤوليات أكثر أهمية، وعند التمكين ينفذ الشيطان إلى نفسه، فتبرز المقاصد الشخصية، يصبح المنصب عنده مسألة أساسية، لن يواصل إلا بها، وقد يكون منصباً محدداً، تصبح المطالب المادية أساسية عنده، لن يواصل إلا بها، ينسى ان ما وصل إليه سابقاً كان بإخلاصه، وكأنه إن لم يكن مكافحاً ومقاتلاً ومشتداً، ومستخدماً كل أسلوب أن يكون له هذا الموقع المهم، ويستخدم أي وسيلةٍ يراها أنها وسيلة ضغط، فإن الناس سيهمشونه، لن يكون له أي قيمة، أي قدر، هنا أصبح القدر عنده مسألة يحصل عليها من الناس، ويسعى إلى كيف يحصل عليها من الناس، بالتذمر، بالاستياء، بالعقد، بالتشويه… بوسائل كثيرة، أو بالتوقف عن العمل، ومحاولة أن يقول أنا لن أواصل إلا في مقابل ومقابل ومقابل.

 

فمن أهم سلبيات المقاصد الشخصية: أنها تنحرف بالإنسان بشكلٍ كليٍ عن الاستمرار في العمل في طاعة الله “سبحانه وتعالى”، وهذا ملحوظ، الكثير من الناس ممن كانوا سباقين في مراحل معينة، ما أوقفهم إلا المقاصد الشخصية، إلا حين نسوا الله، لو بقي الله مقصدهم، والله مبتغاهم، لما توقفوا، هل هناك مشكلة بينك وبين الله؟ احتجاج تحتج به على الله؟ الرياء ثم الرياء والمقاصد الشخصية هي التي تجعل الإنسان يقطع ما أمر الله به أن يوصل، يتجمد في مرحلة معينة عن الاستمرارية في العمل في طاعة الله، في الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، والإنسان هو الخاسر، في مثل هذه الحالة أنت الخاسر، لو تقرأ في القرآن الكريم ما وعد الله به من الأجر العظيم والفضل العظيم، وما توعد به، ستدرك خسارتك، ما توعد به المفرطين، المقصرين، العصاة، ستدرك خسارتك أنت.

 

في آخر المطاف يتضح لنا أننا من نحتاج إلى الإخلاص، الله “سبحانه وتعالى” عندما أمرنا بالإخلاص ليس من منطلق أنانية، هو الغني عنا وعن أعمالنا، لكن الإخلاص له قيمته، أثره، في أنفسنا، في أعمالنا، في حياتنا، في نجاحنا، ولذلك نعتبر هذا المقدار من هذه الآيات المباركة، والتذكير على ضوئها كافٍ في إدراك أهمية هذه المسألة. 

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...