الأحد، 25 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 12رمضان 1442هـ

نص المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 12رمضان 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نستكمل اليوم ما تحدثنا عنه بالأمس في سياق الحديث عن خطورة الشرك بالله "سبحانه وتعالى" في شقيه: الاعتقادي والعملي، وفي سياق الحديث عن الأهمية الكبيرة لمبدأ التوحيد لله "سبحانه وتعالى".

قدَّمنا على ضوء الآيات المباركة توضيحاً ملخَّصاً عن الشرك في شقه الاعتقادي: أنه عندما تعتقد مع الله "سبحانه وتعالى" إلهاً آخر، وعن الشرك في شقه العملي: أنه عندما تقدِّم ما هو لله "سبحانه وتعالى"، فتتوجه به إلى غير الله "جلَّ شأنه"، وذلك فيما يتعلق بالعبادة في مجالها الواسع، على المستوى التشريعي، قدَّمنا المثال في أن تلتزم بتحريم ما حرَّمه أحدٌ مما أحلَّه الله، عندما يحرِّم أحدٌ شيئاً أحلَّه الله "سبحانه وتعالى"، فتعتبره حراماً؛ لأن فلان حرَّمه، أو لأن جهة معينة حرَّمته، أو تستحل ما حرَّم الله "سبحانه وتعالى"، وهذا أيضاً قدحٌ في حق  التشريع لله "سبحانه وتعالى".

كذلك عندما تؤثر طاعة غير الله "سبحانه وتعالى" على طاعة الله، فتعصي الله من أجل طاعة ذلك الغير، هذه حالة خطيرة جداً، والشرك العملي خطيرٌ جداً، ولو أنه في جوانب منه لا يصل بالإنسان إلى مستوى الخروج من الملة، وهنا خطورته: أنه يمكنك أن تكون مقراً بمبدأ التوحيد لله "سبحانه وتعالى"، ومنتمياً على مستوى الانتماء الديني إلى الإسلام، فملتك هي الإسلام، ولكنك انفصلت عن مبدأ التوحيد لله "سبحانه وتعالى" في جوانبه العملية، في ثمرته العملية.

الثمرة العملية لمبدأ التوحيد، وهو مبدأ عظيمٌ، عندما نؤمن ونقر ونشهد أن لا إله إلا الله؛ وبالتالي ألَّا يصرفنا عن الطاعة لله، عن العبادة لله "سبحانه وتعالى" في مفهومها الشامل والواسع والعام، ألَّا يفصلنا عن ذلك خوفٌ من أحد، إذا خفنا من أحد إلى درجة أن نعصي الله من أجله، أن نفرِّط فيما أمرنا الله به "سبحانه وتعالى" من أجل ذلك الغير خوفاً منه، هذا هو من الشرك العملي، وهذا هو نقصٌ كبير في إيماننا بمبدأ التوحيد، في استيعابنا لهذا المبدأ العظيم، وما يبنى عليه، وما هي ثمرته، وما ينبغي أن يكون أثره حتى في أنفسنا.

عندما يأمرنا الله "سبحانه وتعالى" بأمر، يوجِّهنا بتوجيه، أو ينهانا عن شيءٍ معين، فنخالف ذلك، بسبب رغبتنا إلى أحدٍ هناك- إلى غير الله "سبحانه وتعالى"- فيما عنده، أو محبةً له... أو بأي دافع، فهذه أيضاً قضية خطيرة علينا، تناقضٌ في إيماننا والتزامنا العملي بمبدأ التوحيد، وهكذا على مستوى التشريع، على مستوى الطاعة في معصية الله تجاه ما أمر، أو تجاه ما نهى، كِلا المسألتين خطيرٌ جداً علينا.

ثم كذلك في حالة الرياء، وهي عندما ترائي بعملٍ من أعمال الطاعة لله، من الأعمال التي هي قربة إلى الله "سبحانه وتعالى"، مثل: الجهاد في سبيل الله، أو مثل: الصلاة، أو الصدقة، أو الإحسان... أو أي عملٍ من الأعمال التي هي أعمال صالحة، ويعملها الإنسان تحت عنوان القربة إلى الله، والطاعة لله، والعبادة لله، فعندما ترائي في ذلك، يعني: تبتغي به السمعة لدى الناس، أو المكانة عند أحد، أو الثناء والشكر من الآخرين، أو تبتغي به مطمعاً مادياً، أو مقاماً معنوياً لدى الناس ومن الناس، أو لدى أي أحدٍ منهم، فهذه الحالة خطيرة جداً، هي حالة الرياء، وهي من أشكال الشرك العملي، والشرك العملي- كما قلنا- هو أكبر الذنوب، الشرك بشكلٍ عام هو أكبر الذنوب، وهو في قائمة المحرمات رقم واحد، أول محرَّم من المحرمات: الشرك بكل أشكاله، فمسألة الشرك مسألة خطيرة، وأهمية مبدأ التوحيد، والضرورة القصوى لترسيخه حتى نحصل على ثمرته، وتتحقق إيجابياته في واقع حياتنا، وفي أعمالنا والتزاماتنا العملية، من أهم الأمور، ونأخذ العبرة في ذلك من خطاب الله "سبحانه وتعالى" لنبيه "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وهو من هو في إيمانه وكمال يقينه، فيقول له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[محمد: من الآية19]، وهو من يعلم ذلك، هو من يؤمن بذلك، هو الأكمل في إيمانه بذلك من كل إنسان، مع ذلك يوجِّه إليه هذا الخطاب: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، هذا يفيدنا أننا بحاجةٍ مستمرة وبدون انقطاع في كل مسيرة حياتنا، وليس فقط إلى مرحلة معينة، أو مرتبة إيمانية معينة، بل في كل مسيرة حياتنا، إلى ترسيخ هذا المبدأ العظيم.

ونجد كم ورد في القرآن الكريم من آياتٍ ترسِّخ هذا المبدأ، تنص على: أنه لا إله إلا الله، على: إلهكم إلهٌ واحد... وهكذا آيات كثيرة، ثم تربط ما بين ذلك وما بين الثمرة المترتبة على ذلك، والنتيجة الأساسية لذلك، من مثل قوله تعالى": {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل: من الآية2]، {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل: من الآية51]، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: من الآية25]، {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ و َاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: من الآية6]، وهذا ما غاب كثيراً في واقع أمتنا الإسلامية: الربط ما بين هذا المبدأ العظيم، وما بين ثمرته، وما بين نتيجته.

تتلخص المشكلة لدى الكثير من أبناء أمتنا، فيما هم معرضون عنه من كتاب الله على المستوى العملي، على مستوى الالتزام به في واقع العمل، ولا سيما ما يتصل بالمسؤوليات الكبرى، من مثل: إقامة القسط، من مثل: التعاون على البر والتقوى، من مثل: الاعتصام بحبل الله جميعاً، والألفة، والأخوة الإيمانية، وتوحد الكلمة على الحق، من مثل أيضاً: الجهاد في سبيل الله بمفهومه القرآني التحرري العظيم المقدس... وهكذا المسؤوليات ذات الأهمية الكبيرة جداً في واقع حياتنا، يتلخص العامل الرئيسي في ذلك: هو بالمخاوف، حالة الخوف من الآخرين، والبعض أيضاً بحالة الأطماع والرغبات فيما لدى الآخرين، وهذا نقص واضح في ثمرة الإيمان بمبدأ التوحيد، وإلَّا فنحن عندما نؤمن بالله "سبحانه وتعالى" أنه لا إله إلا هو، ويرتبط بهذا المبدأ كمال الله "سبحانه وتعالى"، وركَّز القرآن على هذا كثيراً، يتحدث عن أنه الإله، ثم يأتي ويذكر لنا من أسمائه الحسنى ما يبين لنا كماله؛ لأنه الذي يجب أن نأله إليه وحده، أن نرجوه وحده فوق كل شيء، أن نخاف من عقابه فوق كل شيء، أن نؤمن بأنه المسيطر على هذا العالم بكله، أنه ملك السماوات والأرض، أنه الرحمن الرحيم، فنثق به في أنَّ ما يأمرنا به من منطلق رحمته، ونتوكل عليه، ونتيقن أنه سيرحمنا وسيعيننا، ولن يتركنا من ألطافه، ورحمته، وفضله، وهكذا أنه العزيز الحكيم، أنه القوي العزيز... أسماؤه الحسنى في كثيرٍ منها تأتي بعد الحديث عن ألوهيته وأنه لا إله إلا هو.

نجد هذا مثلاً في آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة: من الآية255]، ثم ما تلى ذلك من الحديث عن عظمته "سبحانه وتعالى"، وكماله، وأسمائه الحسنى. نجد هذا في آخر سورة الحشر، وما ورد تبعاً له من أسماء الله الحسنى، والحديث بشكلٍ مركَّز على توحيده، وهكذا نجده في كثيرٍ من الآيات القرآنية، أخذ مساحةً كبيرةً، وحيزاً واسعاً في الحديث داخل الآيات القرآنية، وهذا مهمٌ لنا جداً، من أهم ما يمكن أن نعالج به في واقع أمتنا الإسلامية وفي واقع أنفسنا أزمة الثقة بالله "سبحانه وتعالى": هو الترسيخ لهذا المبدأ بوعي ومن خلال ما ورد في القرآن الكريم.

خلال شهر رمضان المبارك والإنسان يتلو القرآن، من المهم أن يركِّز على هذا الموضوع؛ لأنه- كما قلنا- من المهم أن يركِّز عليه الإنسان في كل مسيرة حياته.

نجد فيما مرَّ بنا من الآيات المباركة: خطورة الشرك في المقام العملي من خلال الاتِّباع الأعمى، والطاعة في معصية الله "سبحانه وتعالى"، والطاعة في المخالفة لمنهج الله "جلَّ شأنه"، من مثل ما ورد في قول الله "سبحانه وتعالى": {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}[البقرة: من الآية165]، فنلاحظ أنَّ علاقة العبد مع العباد، علاقتك مع الناس، يجب أن يكون لها سقف محدد، سقف معين، لا تصل إلى هذا المستوى: إلى مستوى أن تحب أحداً كما ينبغي أن تحب الله، وأن تطيعه في معصية الله، وأن تمنحه ما لا ينبغي أن تقدِّمه إلَّا لله "سبحانه وتعالى"، تبقى علاقتك مع الناس في كل أصنافهم وفئاتهم ومستوياتهم، تبقى هذه العلاقة تحت سقف علاقة العبد مع العبد، في إطار طاعة الله "سبحانه وتعالى"، في إطار السير على هدي الله "سبحانه وتعالى"، لا أن تصل وأن تتجاوز هذا الحد وهذا السقف، هذه حالة خطيرة جداً، وعليه وعلى هذا الحال الكثير من الناس الذين انحرفوا عن منهج الله "سبحانه وتعالى"، وانحرفت بهم مثل هذه الارتباطات: ارتباطات بغير الله "سبحانه وتعالى"، ارتباطات مع أحدٍ من الناس بأي صفة، ثم تصل إلى مستوى الطاعة في المعصية، أو المخالفة لمنهج الله "سبحانه وتعالى" بناءً على ذلك، أو الخلل فيما يتعلق أيضاً بمسألة التشريع والارتباط التشريعي بهم بعيداً عن شرع الله ومنهج الله "سبحانه وتعالى"، ولأن المسألة هنا مسألة اتِّباع، وليست في سياق الحديث عن أنهم اعتقدوهم آلهة، بمعنى: أنَّ هذا هو في إطار الشرك العملي، الشرك العملي الذي هو ذنب خطير جداً، وإن كان في حالاتٍ منه لا يُخرِج من الملة، لكن هنا خطورته: أنك تعتبر نفسك مسلماً، وتنتمي للإسلام، وتقرُّ بمبدأ التوحيد، ولكنك في واقعك تعاني من هذا الخلل الخطير، الذي يمثِّل ضربةً قاضية لاتجاهك العملي، لاستقامتك العملية، لسيرك وفق هدي الله "سبحانه وتعالى"، ولأن السياق سياق عملي، قال في نفس الآية المباركة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}[البقرة: 165-166]، ولذلك من المهم لكل مسلم، لكل إنسان، أن يلحظ طريقة اتِّباعه، مسألة اتِّباعه، من يتَّبع؟ وعلى ماذا يتَّبع؟ وعلى أي أساسٍ يتَّبع؟ والحدود في علاقة الاتِّباع كيف تكون؟ وأنه يجب عليك أن تتبع ما أنزل الله، وأن تتبع سبيل من أناب إلى الله، وأن تكون مسألة الاتِّباع منضبطة بهذا الضابط الإيماني: وفق هدي الله، وفق منهج الله "سبحانه وتعالى"، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة: الآية166].

يقول القرآن الكريم أيضاً وهو يتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}[التوبة: من الآية31]، وطبعاً بالنسبة لأهل الكتاب حصل عندهم شرك في شقيه: يعني: في الشق الاعتقادي: عندما اعتقدوا المسيح عيسى بن مريم اعتقدوه إلهاً ورباً، وأشركوا به مع الله "سبحانه وتعالى"، هذا شرك عقائدي، ولكن أيضاً على المستوى العملي في الجانب التشريعي، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}، يعني: علماءهم، {وَرُهْبَانَهُمْ}، يعني: عبَّادهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وورد الحديث عن النبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" يوضح هذه المسألة كيف هي، وكيف تمت، وكيف كانت، فإذا هي من خلال هذا الارتباط التشريعي: أن يحرِّموا عليهم ما أحلَّ الله فيحرِّموه، وأن يحلوا لهم ما حرَّم الله فيستحلوه، فكانت قضيةً خطيرةً جداً.

في عصرنا هذا في واقع حياتنا- وللأسف الشديد- لا تراعى هذا المسألة في مسألة القوانين والدساتير، تأتي في عملية التقنين، وتحت العنوان التشريعي نفسه، وهي يعني خطيئة كبيرة جداً؛ لأننا لم نكن بحاجة إلى أن نقدِّم صفة تشريعية لأي جهة معينة في واقع أمتنا الإسلامية، لا نحتاج إلى أن نقول: [سلطة تشريعية]، فنمحنها هذه الصفة؛ لأن الحق في التشريع عندنا كمسلمين، كأمةٍ مؤمنة تؤمن بكتاب الله، تؤمن بالله بأنه الإله الحق، الحق التشريعي هو خاصٌ بالله "سبحانه وتعالى"، هو حق الرب، هو حقٌّ إلهيٌ يختص به الله "سبحانه وتعالى"، ولا يجوز أن نقرَّ به لأحد، وأن نقول لأحد: [لك الحق في أن تشرِّع]، هذا الحق ليس لأحد أبداً إلَّا لله "سبحانه وتعالى"؛ لأنه حقٌ يتعلق بالربوبية والألوهية، حق الله الإله الملك الرب "سبحانه وتعالى".

ولذلك عندما نأتي إلى واقعنا الحياتي أو السياسي، كان يمكن أن تكون لعملية صياغة قوانين معينة على ضوء هدى الله "سبحانه وتعالى"، وعلى ضوء شرع الله "سبحانه وتعالى"، أن يكون هناك تسميات وعناوين تختلف عن الطريقة الغربية، عما عليه الغرب، لا نحتاج إلى أن نقدم عناوين من مثل عناوينهم؛ لأن عناوينهم هي مبنيةٌ على انحرافهم الكلي والشامل عن منهج الله، وعن دين الله "سبحانه وتعالى"؛ لأنهم فصلوا حياتهم، ومسيرة حياتهم في كل شؤونها العملية، عن مسألة الالتزام بدين الله، وتعليمات الله، وشرع الله، وهدي الله؛ لأنهم في حالة كفر بما أنزل الله "سبحانه وتعالى".

في واقعنا كمسلمين يفترض بنا أن نحرص على أن نبني مسيرة حياتنا على أساسٍ من هدي الله، من تعليماته، من شرعه، وعادةً ما يحصل الإقرار بذلك، مثلاً: يأتي عنوان أو بند في الدستور يعتبر الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات، لكن تأتي التسميات، ويأتي إشكاليات أخرى تبعد الناس عن المبدأ الأساسي نفسه، وتفتح المجال، وتفتح الثغرات لدخول خلل كبير من هنا ومن هنا ومن هنا، ولذلك يجب أن تضبط الأمة مسارها العملي على أساسٍ صحيح، وأن تسعى لسد كل الثغرات، وأن تتجه بجدية في أن تلتزم بمنهج الله "سبحانه وتعالى"، وبدون أي تحرج، هذا ليس تخلفاً، هذا ليس نقصاً، هذا ليس عيباً، هذا ليس مشكلةً.

التخلف، الحالة الجاهلية، النقص: هو في الانحراف عن منهج الله، عن تعليماته القيمة والعظيمة، تعليمات الله "سبحانه وتعالى" هي الحق، هي العدل، وهي أيضاً التي تنسجم مع فطرتنا الإنسانية، وهي التي تحقق لنا المصلحة الحقيقية في شؤون حياتنا.

ثم على مستوى الانتماء الديني، نجد أن المشكلة التي كانت مشكلة قديمة في واقع أهل الكتاب، وانحرفت بهم- إلى حدٍ كبير- عن منهج الله "سبحانه وتعالى"، وعن شرعه ونهجه، ودينه وتعليماته، أنهم كما قال عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}: علماء الدين لديهم، {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}: العبَّاد المتدينين لديهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، هذا يحصل في أمتنا الإسلامية، ليس فقط في الجو السياسي، وفي الاتجاه السياسي، على مستوى دور سلبي لعلماء السوء، وللعبَّاد المنحرفين؛ لأنه عادةً ما يكون هناك علماء سوء، ممن هم بصفة علماء دين، ولكنهم من المضلين، من المنحرفين، من ذوي الأهواء، من ذوي الاتجاهات المنحرفة، وعندما يرتبط الإنسان بهم ارتباطاً أعمى، ويكتفي منه بصفة عالم دين، يكفيه عنده هذه الصفة، أو هيئة كبار العلماء، مثلما يقولون في السعودية (هيئة كبار العلماء)، أو يكتفي الإنسان بصفته الدينية، بصفة ذلك الشخص الدينية، باعتباره من ذوي الشهرة بالعبادة، والسلوك الديني، والالتزام الديني، ثم يأتي لينحرف بك، ليصدك عن سبيل الله، ينحرف بك عن مواقف أساسية يأمر بها الله "سبحانه وتعالى" في كتابه الكريم، ونحن نلحظ في زمننا هذا دوراً سلبياً بارزاً لعلماء السوء، في الانحراف بالأمة عن الإتباع للقرآن الكريم، والتمسك بهدي الله "سبحانه وتعالى"، فنجد البعض منهم يروجون للتطبيع مع إسرائيل، للعلاقة مع إسرائيل، للولاء لأعداء الإسلام، يروجون للولاء لأمريكا، للتحالف مع أمريكا، للتعاون مع أمريكا، وهذا واضح، يقفون مع من يقف في هذا الاتجاه: اتجاه العمالة لأمريكا وإسرائيل، والتحالف المعلن مع أمريكا وإسرائيل بوضوح، يساندونهم، يدعمونهم بالفتاوى يقدمون لهم الفتاوى التي تساندهم، فيقفون جنباً إلى جنب معهم في نفس الاتجاه، في الدفع بالأمة إلى الولاء لأمريكا وإسرائيل، وهذا انحرافٌ خطيرٌ جداً عن منهج الإسلام، عن مبادئه العظيمة، عن قيمه العظيمة، وفي نفس الوقت تدجينٌ للأمة تحت هيمنة أعدائها وسيطرة أعدائها، وفي نفس الوقت مصادرة لحقوق الأمة، وظلم رهيب للأمة؛ لأنه يُمكِّنُ أعدائها منها، منهم أعداء حقيقيون واضحون، ولا لبس في عدائهم لهذه الأمة، ثم يتجهون لتمكين أولئك الأعداء من هذه الأمة، في كل مجالات حياتها، وشؤون حياتها.

البعض يتجهون أيضاً اتجاها للتجميد لهذه الأمة عن أن تتحرك، أو أن تقف أي موقف في التصدي لأعدائها، عن طريق التثبيط، التجميد، التخذيل، الصرف للأمة عن أن يكون هذا من ضمن اهتماماتها العملية، وهنا نقول إذا كان هذا خارج إطار مسؤوليات هذه الأمة الدينية، أي: لم يبق عليها مسؤولية أن تتحرك لدفع الخطر عنها، فما هي قيمة الجهاد في سبيل الله؟ هل هو إلا لدفع الخطر عن الأمة؟

الجهاد في سبيل الله ليس عنواناً للدفاع عن الله "سبحانه وتعالى"، بحيث يتصور الإنسان أن هناك خطراً يمكن أن يتوجه إلى الله، وأن الله طلب من عباده أن يدافعوا عنه، لا، الله "سبحانه وتعالى" هو القوي العزيز، هو القاهر فوق عباده، والمهيمن على السماوات والأرض، والمهيمن على عباده، حياتهم بيده، موتهم بيده، رزقهم بيده، وهو "سبحانه وتعالى" يمكن بفيروس صغير أن يسلطه عليهم فيقهرهم ويصل بهم إلى حالة الاستسلام التام والعجز التام، أو أن يسلب منهم حياتهم في رمشة عين، في لحظة، في ثانية، في أقل من ذلك، الكل تحت سلطانه وقهره وهيمنته.

الجهاد في سبيل الله هو وسيلةٌ للدفاع عن الأمة نفسها، لدفع الخطر عنها، للحفاظ على حريتها واستقلالها وكرامتها، للحفاظ على مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، ومصالحها، وأوطانها، وممتلكاتها، فائدته وثمرته تعود إلى الناس في الدنيا والآخرة: عزة، وكرامة، وحرية، واستقلال.

عندما يعطَّل هذا الفرض العظيم في دوره المهم، والأمة بأمس الحاجة إليه؛ لكي تكون أمةً حرةً، عزيزةً، مستقلة، ويأتي من يساهم في تعطيل هذا الفرض العظيم؛ فيثبط، ويخذل، ويجمد، هذا المبدأ وهذا الفرض المهم، ثم يسعى أيضاً إلى صرف اهتمام الناس عنه كلياً، والتثبيط عن أي توجه يدفع بالناس إلى القيام بهذا الفرض العظيم، هذا هو من الأحبار، إن كان بصفة عالم دين، من الأحبار الذين يصدون عن سبيل الله، ممن إذا ارتبطت به، وأطعته في ذلك، فقد اتخذته رباً، أشركت به شركاً عملياً، وهكذا بقية الفرائض المهمة، والمسؤوليات المهمة، إذا أنت كفاك أن يكون الشخص بصفة عالم دين، وارتحت بما قدمه لك؛ لأنه توافق مع هوى نفسك، فاعتبرت ذلك مناسباً، واعتبرت أنه أعفاك من مسؤولية، كنت ترى فيها أنها مسؤولية شاقة، فارتحت لذلك، فأنت هنا تورطت في أن جعلت منه رباً، وألّهته في واقعك العملي، من خلال الشرك العملي، عندما يحرم ما أحل الله، ويحل ما حرم الله، عندما يقدم تشطيبات، ويقدم- في نفس الوقت- حالة تجميد للنصوص القرآنية، لأوامر الله، لتوجيهات الله "سبحانه وتعالى"، من أجل هوى النفس، فهي حالة خطيرة جداً.

وكم يأتي أيضاً من علماء السوء، في مسايرةٍ منهم لزعماء الجور، لسلاطين الجور، لملوك الطغيان والانحراف، ما يحل ما حرم الله، فهم يقدمون فتاوى وتسهيلات تواكب التوجهات التي عليها أولئك لانحرافهم، هذا حصل بشكلٍ واضح في حالة النظام السعودي، نرى مسايرة من بعض من يسمون أنفسهم بالعلماء، ليبرروا وليشرعنوا حتى أشياء من الأمور الواضحة جداً في تحريمها، فيشرعنون، ويبررون، ويقدمون الفتاوى الداعمة للانحراف، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية31]، في نفس السياق التشريعي يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: من الآية121]، فيعتبرها حالة شرك {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ}؛ لأنكم إن اطعتموهم وهم يجادلونكم، ويسعون إلى تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، فطاعتكم لهم في ذلك تعتبر شركاً؛ لأنكم أعطيتموهم الحق في التشريع، وفي نفس الوقت لم تتعاملوا مع الله على أنه صاحب هذا الحق، يعني: المسألة ليست فقط أنك أعطيت ذلك الإنسان الحق في التشريع، بل وفي نفس الوقت لم تقبل بالتشريع الإلهي، فكأن ذلك الطرف هو الأحق من الله بالتشريع، وكأن فيما قدمه الحق، وفيما قدمه الله "سبحانه وتعالى" العكس من ذلك، فتعتبر هذه إساءة كبيرة إلى الله "سبحانه وتعالى".

نخلص إلى أن الثمرة المهمة لمبدأ التوحيد، تدفع بنا إلى أن:

نخاف من الله فوق كل شيء.وأن نتحرر من كل المخاوف التي تصدنا عن اتباع ما أنزل الله، وعن الطاعة لله، وعن الاستجابة العملية الكاملة لله.في مسألة المحبة كذلك.في مسألة ما نرجوه، ما نريده.

فنحن نؤمن بأن الله هو الإله الواحد الحق المبين، وأنه المهيمن على كل شيء، بيده ما نرجوه من الخير، وعقوبته أشد من أي عقاب، وأشد من أي عذاب، وأنه أرحم الراحمين، نؤمن بكماله المطلق، فننشد إليه "سبحانه وتعالى" بالعبادة، ونأله إليه بالرجاء والخوف والمحبة.

ثم نرتبط بذلك عملياً في إتباعنا لمنهجه، فنعبده، فنتقيه، فنلتزم بطاعته، فنستجيب له، فنتوكل عليه، فنلتجئ إليه، فنثق به ونعتمد عليه، هذا شيءٌ مهم.

فيما يتعلق بالرياء والإخلاص، يبقى لنا هذا العنوان في سياق حديثنا عن مبدأ التوحيد، وعن خطورة الشرك، نترك هذا العنوان للمحاضرة القادمة إن شاء الله؛ لأنه من المواضيع المهمة جداً جداً، لنخصص المحاضرة القادمة له إن شاء الله.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

السبت، 24 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 11 رمضان 1442هـ 23-04-2021

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

يقول الله "سبحانه وتعالى" في كتابه المبارك في القرآن الكريم:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 151-153]. صدق الله العلي العظيم.

الآيات المباركة من سورة الأنعام.

في هذه الآيات المباركة قائمةً من المحرمات، وأيضاً يضاف إليها، وأتى من ضمنها، بعضٌ من الواجبات المهمة، والإلزامات الإيمانية، وأتت هذه القائمة، وأتى من ضمنها التأكيد عليها بقول الله "سبحانه وتعالى": {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}، فتكررت لثلاث مرات؛ مما يدل على أهمية ما ورد في هذه القائمة، وعلى ضرورة الالتزام به، الالتزام بترك ما نهانا الله عنه في هذه الآيات المباركة، والاهتمام بما أمرنا به "سبحانه وتعالى".

في بداية هذه القائمة قوله جل شأنه: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، ونحن- إن شاء الله- سنتحدث في المحاضرات على ضوء ما ورد في هذه الآيات المباركة، ببعضٍ من الحديث، وإلا فالحديث على ضوء الآيات القرآنية عادةً هو حديثٌ واسعٌ جداً، وكما كررنا: القرآن الكريم هو بحرٌ لا يدرك قعره، ومعينٌ لا ينضب، وهديه واسعٌ جداً، يأتي التذكير على ضوء الآيات المباركة ببعضٍ من النقاط المهمة، على رأس هذه القائمة قوله "جلَّ شأنه": {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.

الشرك بالله هو أول وأكبر المحرمات، وهو ذنبٌ عظيم، وهو أكبر الذنوب، الشرك بالله هو تنكرٌ لأكبر حقٍ، وحجودٌ لأعظم حقيقة، الله "سبحانه وتعالى" ربنا، رب العالمين، رب السماوات والأرض، رب كل شيءٍ، وخالق كل شيء، هو وحده الإله الحق الذي لا تحق العبادة إلا له؛ لأنه "سبحانه وتعالى" الخالق لكل شيء، والمالك لكل شيء، والملك ملك السماوات والأرض، وهو رب العالمين، وهو "سبحانه وتعالى" ذو الكمال المطلق، ليس أحدٌ في كماله يرقى إلى مستوى أن يكون إلهاً إلا الله "سبحانه وتعالى"، هو ذو الكمال المطلق، فعندما تشرك في عبادتك بالله أحداً، فأنت هنا ترتكب أبشع وأعظم الكبائر والذنوب، وتتنكر لربك، لخالقك، لإلهك الحق، المنعم عليك، الذي بيده حياتك، وموتك، وإليه مصيرك، وبيده مستقبلك، وأنت تجعل أو تقدم ما ينبغي أن تقدمه له؛ لأنه من يستحق ذلك وحده من العبادة، أو ما يعبِّر عنها، تقدمه لغيره، أو تشرك معه غيره في ذلك، فأنت هنا ترتكب باطلاً كبيراً، وجرماً عظيماً، وتتنكر لحقٍ عظيم، وهذا أيضاً هو ظلمٌ عظيم، ظلمٌ للحق والعدالة، وظلمٌ لنفسك، ولهذا أتى التحذير من الشرك؛ لأنه تنكر للحق العظيم، لله "سبحانه وتعالى"، وتوجهٌ بما لا ينبغي أن نتوجه به إلا لله "سبحانه وتعالى"، لربنا، لإلهنا الحق، وعندما تتوجه بهذا إلى غيره، فأنت هنا تخطئ هذا الخطأ الجسيم، وترتكب هذا الذنب العظيم.

ومن أخطر ما في الشرك، ومن أسوأ ما يترتب عليه: أنه يصرفك عن الاهتداء بهدى الله "سبحانه وتعالى" عن هذه الصلة العملية بطاعة الله "سبحانه وتعالى"، وهذه مسألة خطيرة جداً؛ لأنك إن لم توحد الله "سبحانه وتعالى"، واتجهت إلى غيره، وأشركت به غيره، فهذا يؤثر على مدى استجابتك لله، مدى طاعتك لله "سبحانه وتعالى"، وهذا تأثيره عليك أنت؛ لأن كل ما يأمرنا الله به، ما يوجهنا إليه، ما يدعونا إليه، وما نهانا عنه، هو فيما هو مصلحةٌ لنا وخيرٌ لنا.

إضافةً إلى أن الشرك هو ضياعٌ كبيرٌ للإنسان؛ لأن الذي تتجه به إلى غير الله "سبحانه وتعالى"، لن تنال منه ما ترجوه، نحن عندما نتجه إلى الله "سبحانه وتعالى"؛ لأنه الرب الحقيقي، الرب المالك، ذو الكمال المطلق، ولذلك عندما نرجوه، عندما نأله إليه، عندما نخاف من عقابه، فهذا الرجاء هو رجاءٌ في محله، في اتجاهه الصحيح، إلى حيث من يمتلك كل شيء، من بيده الخير كله، من هو على كل شيءٍ قدير، من إن يردك بخيرٍ فلا راد لفضله، عندما نخاف من عقابه، فنحن نخاف من عقاب من هو على كل شيءٍ قدير، من إن أرادنا بضرٍ، فلا يستطيع أحدٌ أن يكشفه عنا، ولا أن يرده عنا، ولا أن يدفعه عنا، ولا أن يحوله عنا، من هو القاهر فوق عباده، من هو بكل شيءٍ خبير، وعلى كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ محيط، وتنفذ قدرته على كل شيءٍ، وهو المهيمن على كل شيء، وهكذا، أما غيره فهم كلهم من خلقه، تحت سيطرته وقهره وهيمنته، وفي إطار ملكه، وتحت سلطانه، ولذلك يعتبر ضياعاً كبيراً، الشرك بالله، والتوجه إلى غير الله، بما هو حقٌ لله "سبحانه وتعالى".

الشرك بالله له شكلان:

الشكل الأول: عقائديٌ، ويتبعه العمل:

من يعتقدون أن مع الله إلهاً آخر كعقيدة، ويشركون به من منطلق هذه العقيدة، ذلك الذي يظنونه، أو يتوهمونه، أو يزعمونه، إلهاً مع الله "سبحانه وتعالى"، وهذه الحالة كانت سائدة، ولا زالت منتشرة في واقع البشر، لا تزال كثيرٌ من الأمم من البشر لها هذه العقيدة: تعتقد مع الله إلهاً آخر، وتشرك به في العبادة، ومن منطلق عقيدة باطلة تعتمد عليها، أو تنطلق على أساسها، ويتبع ذلك- كما قلنا- العمل.

الشكل الآخر من أشكال الشرك: هو الشرك العملي:

فقد تكون في عقيدتك موحداً، وتعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده "سبحانه وتعالى" الإله الحق، ولكن على مستوى الواقع العملي، والالتزام العملي، والعبادة، والطاعة، تشرك به غيره، غيره من الآخرين من الأرض، من مخلوقاته، أو شيئاً آخر، كمثل الهوى، هوى النفس.

الحالة التي تعود إلى الشرك العملي يدخل فيها: الطاعة في معصية الله:

عندما تؤثر طاعة أحدٍ، فيما هو معصيةٌ لله، فآثرت طاعته على طاعة الله، يعني: جعلت طاعته بالنسبة لك أقدم، وأهم من طاعة الله، فأنت عصيت الله، في مقابل أن تطيع ذلك الغير، هذه الحالة هي حالة من الشرك العملي.

أيضاً من حالات الشرك العملي: الشرك في التشريع:

عندما يأتي من يشرع لك ما فيه مخالفةٌ لشرع الله، فيحرم عليك ما أحل الله، أو يحل لك ما حرم الله، ويقدمه لك كحلال، سواءً كان بعنوانٍ ديني، أم بغير عنوانٍ ديني، كالعنوان القانوني، والعنوان الدستوري، أو أي عنوان آخر، عنوان تنظيمي، أي عنوان آخر، ينتج عنه هذا المحذور: فيحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، فإذا قبلت منه ذلك، واعتبرت ما أحله لك من الحرام الذي حرمه الله، اعتبرته حلالاً؛ لأنه أحله لك، أو حرمت ما أحل الله؛ لأنه حرمه، فهذه حالةٌ من الشرك، أنت أعطيته ما ليس إلا لله، حق التشريع، والحق في التحليل والتحريم، هو لله "سبحانه وتعالى"؛ لأنه المالك لنا، والمالك لكل هذا العالم، والمالك للأرض، والمالك لكل ما استخلفنا فيه، المالك الحقيقي وهو "سبحانه وتعالى" العليم بكل شيء، والحكيم، والرحيم، والعدل، هو الذي يقرر ما هو حلال، وما هو حرام، هذا حقٌ خاصٌ به، فإذا تعاملت مع غيره على أن له هذا الحق، وقبلت منه ذلك؛ فهذه حالة من الشرك العملي. وهذه الحالة هي حالة خطيرة: الشرك العملي.

من حالات الشرك العملي: حالة الرياء، حالة الرياء: عندما تعمل عملاً من الأعمال التي هي عبادة، وطاعة، وقربة إلى الله "سبحانه وتعالى"، وشرعها الله لتكون طاعةً له، وقربةً إليه، كالصلاة، كالصيام، كالجهاد، كسائر الأعمال الصالحة التي أمر الله بها وشرعها، وهي قربةٌ إلى الله "سبحانه وتعالى" نتقرب بالطاعة فيها لله "جلَّ شأنه"، فإذا أردت من أي عملٍ منها أن تتودد به إلى الآخرين، وأن تحظى بالقرب منهم، أو بالسمعة لديهم، أو بالذكر الحسن منهم، والإشادة، والذكر الجميل، أو أن يكون لك في نظرهم منزلة ومرتبة عالية، فهذه حالة من حالات الشرك.

الشرك العقائدي: هو شركٌ يخرج من الملة، يعني: من أشرك بالله "سبحانه وتعالى" من منطلق عقيدة، يعتقد في غيره أنه إله، فهذا هو شركٌ يخرج من الملة، شرك يعتبر شركاً كاملاً؛ لأنه انحرف بالإنسان بشكلٍ كلي، حينها لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً بالله "سبحانه وتعالى"، ومسلماً، هذا شرك يخرجه من الملة.

الشرك في الواقع العملي: أيضاً هو جرمٌ عظيم، وذنبٌ كبير، وهو في مقدمة الذنوب.

الشرك في كل أحواله: على المستوى العقائدي وما تبعه من عمل، وعلى المستوى العملي، هو أكبر الذنوب وأعظمها، ولهذا يأتي في أول القائمة، في أول قائمة المحرمات، التي حرمها الله "سبحانه وتعالى"، وما يترتب عليه هو أشياء سيئة جداً.

في المقابل مبدأ التوحيد لله "سبحانه وتعالى": هو أول وأكبر وأعظم المبادئ الإيمانية، والالتزامات الإيمانية، ويترتب عليه في الواقع العملي مستلزماته العملية، وهذا من أكثر ما يغيب عن ذهنية الكثير من أبناء الأمة (من المسلمين)، يغيب عن بالهم، وعن ذهنيتهم، ويغيب حتى في التثقيف الديني، والتعليم الديني، إلى حدٍ كبير، ثمرة التوحيد، الحديث عن ثمرة التوحيد، عن نتيجة التوحيد، عن نتيجة هذا المبدأ العظيم، عمَّا ينبغي أن يبنى عليه.

ولأهمية هذا المبدأ العظيم، فهو من المبادئ الأساسية التي يجب الترسيخ لها، والتركيز عليها بشكلٍ مستمر، أن ترسخ هذا المبدأ بشكلٍ مستمر، طول مسيرة حياتك، كلما ترسخ أكثر؛ كلما كانت نتيجته في الواقع العملي أكبر وأهم.

ولهذا يأتي الخطاب للنبي "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله"، وهو من هو في كمال إيمانه ويقينه، وهو من هو في توحيده لله "سبحانه وتعالى"، وإيمانه بالله "جلَّ شأنه"، فيقول له الله "سبحانه وتعالى": {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: من الآية19]، {فَاعْلَمْ}، هكذا يخاطب نبيه، ولم يقل: [قد أنا عالمٌ بذلك، وقد عرفت بهذا، ما هي الفائدة أن تقول لي ذلك]، {فَاعْلَمْ}؛ لأنه مهما بلغ إيمانك، مهما بلغ يقينك، مهما كنت في توحيدك لله "سبحانه وتعالى"، وفي بصيرتك تجاه هذا المبدأ العظيم، يجب أن ترسِّخ ذلك في قرارة نفسك أكثر فأكثر، وتجاه كل المستجدات في حياتك، تحتاج إلى هذا المبدأ العظيم، تحتاج إليه في مسيرة حياتك؛ لكي تتحرك بشكلٍ صحيح، لكي تستقيم، لكي تواجه به كل التحديات، التي قد تصرفك عن طاعة الله، وعن العبادة لله، وعن الاستجابة لله "سبحانه وتعالى" فيما هو من الأمور المهمة.

ولذلك نجد في القرآن الكريم التأكيد على مسألة الثمرة المهمة لهذا المبدأ العظيم، يقول الله "جلَّ شأنه": {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: الآية25]، لاحظوا، هذه ثمرة التوحيد: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}، يعني: إلَّا الله "جلَّ شأنه"، {فَاعْبُدُونِ}، النتيجة هي أن نعبده وحده، العبادة في كل معانيها، العبادة في كل ما يجسِّدها، من طاعةٍ كاملةٍ لله "سبحانه وتعالى"، من توجهٍ كاملٍ إليه بالرهبة، والرغبة، والرجاء، والمحبة، والطاعة المطلقة.

يقول "جلَّ شأنه" مخاطباً لنبيه محمد "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله": {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[الأنبياء: الآية108]، هذه ثمرة التوحيد أن نسلم لله، وأن نستجيب له الاستجابة الكاملة، وأن نذعن له في كل أوامره وتوجيهاته، ألَّا يصرفنا عن ذلك هوى نفس، ألَّا يصرفنا عن ذلك مخاوف من الآخرين، ألَّا يصرفنا عن ذلك أطماع ورغبات فيما لدى آخرين، ألَّا يصرفنا عن ذلك توجس، فالإيمان بالله والتوحيد له يجعلك تحب الله فوق كل شيء، ترغب فيما وعدك به فوق كل شيء، تخشى من عقابه فوق كل شيء، فتتحرر من كل ما يمكن أن يصرفك، أو يعيقك، أو يؤثِّر عليك في مقام الاستجابة لله "سبحانه وتعالى" سلباً.

يقول "جلَّ شأنه": {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل: الآية51]، الجدير بأن نرهب من عقابه فوق كل شيء هو الله "سبحانه وتعالى"؛ وبالتالي لا ينبغي أن يخيفك الآخرون، مهما كانت إمكاناتهم، مهما كان جبروتهم؛ لأنه لا شيء في مقابل جبروت الله "سبحانه وتعالى"، فلا يخيفوك، ولا يعيقوك عن الاستجابة لله، في أي أمرٍ من أوامره وتوجيهاته.

يقول "سبحانه وتعالى": {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل: الآية2]، (فَاتَّقُونِ) هي ثمرة من ثمار ترسيخ مبدأ التوحيد، والإيمان بأنه (لا إله إلا الله وحده)، فهو الذي يجب أن تتقيه، فلا يصرفك الآخرون عن الاستجابة له في أي أمر، في أي توجيهٍ يأمرك به "سبحانه وتعالى"، عليك أن تطيعه الطاعة الكاملة، وأن تخشى من عقابه، أن تخشى من التفريط فيما أمرك به.

يقول الله "سبحانه وتعالى" مخاطباً لنبيه "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله": {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: من الآية6]، هذه هي ثمرة، ثمرة لهذا المبدأ العظيم، ليست المسألة أن تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) وانتهى الموضوع، لا تفصل هذا المبدأ عن العمل، عن مسيرة حياتك، عن أن تكون مسيرة حياتك بكلها طاعةً لله، وعبادةً لله، والتزاماً بمنهج الله "سبحانه وتعالى"، واستقامةً على أساس ما وجهك إليه، وسيراً إليه في طريقه وصراطه المستقيم، وأن تستغفره، وأن تستشعر تقصيرك نحوه، وأن تبادر بالتوبة عند الزلل، وعند التقصير، وعند التفريط، تبادر بالاستغفار إليه.

يقول الله "سبحانه تعالى": {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، هو وحده ربكم، المالك لكم، الخالق لكم، الرازق لكم، المربي لكم، المنعم عليكم، الذي حياتكم بيده، رزقكم بيده، موتكم بيده، مصيركم إليه، لذلك هو وحده الجدير بأن تحبوه فوق كل شيء، فوق كل محبة، أن تخافوا من عقابه فوق كل شيء، فوق كل عقابٍ وخوف، أن ترجوه وأن ترغبوا فيما وعد به فوق كل رغبةٍ ورجاء، وبالتالي أن تطيعوه الطاعة الكاملة، وأن تستجيبوا له الاستجابة الكاملة، وألَّا يصرفكم أحد، أو يعيقكم أحد، عن هذه الاستجابة الكاملة.

يقول الله "سبحانه وتعالى" مذكراً لنا بكماله العظيم، وأنه وحده الإله الحق، هو الجدير منا بالعبادة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة: الآية163]، هو وحده إلهنا الحق، وهو أرحم الراحمين، هو الرحمن الرحيم، من وسعت رحمته كل شيء، ليس إلهاً يتجبر، ويتكبر، ويظلم، ويبطش، ولا يرحم عباده، هو أرحم الراحمين، وكل توجيهاته لنا، وكل أوامره لنا، وفي كل ما نهانا عنه، إنما ذلك من منطلق رحمته بنا، ولذلك لا مبرر لنا أن ننصرف عن توجيهاته، أو أوامره، بحجة الرحمة بأنفسنا، ونتصور أننا أعرف، وأننا أرحم بأنفسنا، وأعرف بما فيه الخير لنا، عندما نتنكر لبعضٍ من توجيهاته وتعليماته بهذا الدافع، بدافع الرحمة والشفقة على أنفسنا، فنحن نخطئ بحق أنفسنا؛ لأنه أرحم الراحمين، وكل توجيهاته من منطلق رحمته بنا، مع علمه ما هو الخير لنا.

يقول "جلَّ شأنه": {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فهو "جلَّ شأنه" الإله الحق لا إله إلا هو العزيز الذي لا يقهر، أنت عندما تتولاه، أنت تتولى من لا يقهر، هو الجدير بأن تثق به، بأن تتوكل عليه، هو الجدير بأن تعتمد عليه، وأن تلتجئ إليه، وأن تعتصم به، الحكيم، كل توجيهاته وأوامره وتشريعاته حكيمةٌ لا عبث فيها، لا حماقة فيها، لا جهالة فيها؛ إنما هي بمقتضى الحكمة؛ فلذلك هو الجدير بأن تثق به، أن تعتمد عليه، أن تتوكل عليه.

يقول "سبحانه وتعالى": {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: من الآية110]، الحالة التي ينصرف الإنسان فيها عن التوحيد لله في ثمرته العملية: هي اتخاذ الأنداد، أنداد من دون الله "سبحانه وتعالى"، عندما تعطي ما هو حقٌ خالصٌ لله، فتتوجه به إلى غيره، من الطاعة فيما هو معصيةٌ لله، من المخالفة لتوجيهات الله وأوامره، من خشيةٍ، أو رهبةٍ، أو رغبةٍ، أكبر مما هو لله، أو مساوي لما هو لله، وهذه الحالة أنت تجعل فيها نداً لله "سبحانه وتعالى"، وتعبِّد نفسك له، هذه حالة خطيرة جداً، ولهذا يقول الله "جلَّ شأنه في القرآن الكريم، بعد أن ذكر بنعمه السابغة والعظيمة علينا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: من الآية22]، يبين حال الكثير من الناس الذين يتورطون في ذلك، فيقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة: من  الآية165]، الذين آمنوا أشد حبهم، وأقوى حبهم، وأعلى مرتبات محبتهم، هي لله "سبحانه وتعالى"، لا يعني هذا أنك لا تحب الله، أنت تحب أشياء كثيرة غير الله "سبحانه وتعالى"، ولكن يجب أن يكون حبك أكبر من كل حبٍ لأي شيءٍ آخر، حبك لله "سبحانه وتعالى"، أن يكون أكثر من محبتك لأي شيءٍ آخر؛ حتى لا يؤثر عليك أي شيءٍ آخر، فيصرفك عن الطاعة لله، وعن العبادة لله، وعن الاستجابة لله.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة: من الآية165]، سيتجلى ومن أكبر ما يتجلى فيه ذلك في الآخرة، في يوم القيامة، عندما تأتي جهنم، عندما تتجلى سيطرة الله وقهره فوق عباده في يوم القيامة، عندما يأتي الكل في مقام العبودية والخضوع التام لله "سبحانه وتعالى"، يتجلى كم أن الله هو القوي، وأن القوة كلها لله، أن القوة لله جميعاً، تجلى لكل الذين اتخذوا أنداداً من دون الله، أن من اتخذوهم أنداداً من دون الله، هم عبادٌ في غاية الضعف والعجز والاستسلام أمام الله "سبحانه وتعالى"، وجبروته، وقوته، فمن كانوا ينبهرون بآخرين، سواءً أشخاصاً، أو قوى معينة، أو دول، أو جيوش، أو كيانات معينة، أنها ذات قوة متكبرة، ذات قوة كبيرة متجبرة، واندفعوا بهذا الدافع: بدافع الخوف منهم، فأطاعوهم في معصية الله، فلم يستجيبوا لله فيما أمر به من أجلهم؛ خوفاً منهم، يتجلى لهم يوم القيامة مدى خسارتهم، ومدى ما وصلوا إليه من الخسران والهوان، والعياذ بالله، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}[البقرة: من الآية166]؛ لأنهم اتخذوهم أنداداً لله في هذا السياق: في سياق اتباع، يعني: على المستوى العملي، وليس فقط على المستوى العقائدي، هذا هو الشرك العملي، على المستوى العملي: اتبعوهم بدلاً عن منهج الله، بدلاً عن كتاب الله، بدلاً عن توجيهات الله وأوامر الله "سبحانه وتعالى".

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ}، رأوا العذاب، وهو مشهد رهيب جداً، ومخيف، ورأوا عجز أولئك الذين اتخذوهم أنداداً عن أن يعملوا لهم أي شيءٍ أمام ذلك العذاب، {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة: من الآية166]، لم يبق لهم أي وسيلة، ولا أي طريقة للخلاص من العذاب، أو لدفع العذاب عن أنفسهم، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة: الآية167].

فنجد أن الثمرة الصحيحة لمبدأ التوحيد: هي الاستجابة العملية لله "سبحانه وتعالى"، العبادة بمفهومها الشامل، الذي فيه التسليم التام لأمر الله وتوجيهاته، وطاعةٌ كاملة، والتوجه بالرجاء، والرهبة، والمحبة، والخوف، إلى الله "سبحانه وتعالى"، فوق كل شيء، وهذا ما نحتاج إلى ترسيخه في واقعنا، وفي مسيرة حياتنا وبشكلٍ مستمر؛ لأنه من سيفيدك، وسيكون هذا المبدأ العظيم، هو الذي تواجه به كل من يبرز ليكون آلهةً لك، حتى هوى نفسك، حتى المطامع، حتى الرغبات، حتى الآخرين بكل جبروتهم وطغيانهم، هذا المبدأ العظيم سيحررك من أن تعبِّد نفسك لغير الله "سبحانه وتعالى" بكل أشكال التعبيد للنفس، في مقام الطاعة والعمل، أو في مقام الاعتقاد، أو في مقام الخوف والرجاء، فهو مبدأٌ مهمٌ جداً.

نكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

الجمعة، 23 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 10 رمضان 1442هـ 22-04-2021

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 في محاضرة اليوم نختتم حديثنا على ضوء الآيات المباركة في سورة الرحمن.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية77]، بعد ذلك العرض لنعمه الواسعة التي أسبغها علينا في الدنيا، وهو قدَّم لنا في هذه السورة المباركة عناوين لنماذج عامة من أهم وأجمع نعمه علينا، وهي نعمٌ مرئيةٌ مشاهدٌة، ينتفع الإنسان بها بشكلٍ واضحٍ، لا يمكن انكارها، ولا يمكن للإنسان أن يقول أنها أكاذيب، أو دعايات لا أساس لها من الصحة.

ثم نعمه "سبحانه وتعالى" التي أعدَّها لنا في الجنة، وهيَّأ لنا أسباب الوصول إليها، وأرشدنا إلى الطريق الموصلة إليها، ويسَّرها لنا، وجعلها أيضاً مما تستقيم بها حياتنا هنا في الدنيا، كيف نتنكَّر لهذه النعم؟! كيف نتجاهل فضل الله المنعم الكريم "سبحانه وتعالى" علينا؟! بأيٍّ من هذه النعم يمكن أن نكذِّب، وأن نبرر تنكُّرنا لنعم الله وفضله "سبحانه وتعالى"؟!

ثم يختم هذه السورة المباركة بقوله "جلَّ شأنه": {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية78]، تبارك الله "سبحانه وتعالى" المنعم العظيم، الذي نعمه لا تحصى ولا تعد، وهي أيضاً نعمٌ عظيمة، ليست نعماً عادية، ليست صناعة تقليد، أو أشياء ليست ذات جودة، أو ليست ذات أهمية، كلها من حيث أهميتها بالنسبة لنا كبشر، ومن حيث أنها تسد احتياجاتنا، وهي في نفس الوقت من أهم متطلباتنا، وهي مما نرتاح به، نسعد به، ننعم به، نستفيد منه، فلا يمكن للإنسان أن يعتبرها أشياء عادية، أو من حيث أيضاً الكم، من حيث عددها الوافر جداً، نعمٌ واسعةٌ جداً جداً جداً.

فالإنسان إذا تأمل في نعم الله "سبحانه وتعالى" بدءاً مما أسبغه علينا من النعم في هذه الحياة، مع تطور العلوم، ومع استخدام الإنسان لوسائل متطورة، يعرف من خلالها الفوائد الكثيرة لهذه النعم، وما أعدَّ الله فيها، وأيضاً ما هيَّأ الله لنا فيها من خلال ما سخَّره وهيَّأه لاستخدامها واستغلالها بأشكال كثيرة، بأنواع كثيرة، بطرق ووسائل كثيرة، جعلت كل جزئيةٍ من نعم الله "سبحانه وتعالى" تمثِّل عالماً واسعاً في كيفية الاستفادة منها، في منافعها الوافرة، في الأشكال، والأساليب، والاستخدامات الواسعة جداً لها، وهذا معروفٌ اليوم في النهضة الصناعية في الواقع البشري، في سعة الإنتاج، في سعة الاستخدامات لهذه النعم بشكلٍ واسع، وكلما استفاد الإنسان أكثر على المستوى المعرفي وكلما تقدم أكثر في مسألة الإنتاج واستكشف أكثر في مسألة التسخير والاستغلال لهذه النعم؛ كلما أدرك المزيد والمزيد من فوائدها، من منافعها، من استخداماتها المتنوعة والواسعة والمفيدة.

فالله "سبحانه وتعالى" أسبغ علينا نعمه العجيبة جداً، والواسعة جداً، وهو "جلَّ شأنه" قدَّمها لنا على أجلِّ صورة، وعلى أرقى مستوى، وعلى أرقى مستوى، من واقع كماله المطلق، فهو أحكم الحاكمين، وهو العظيم، وهو على كل شيءٍ قدير، ولذلك أبدع في هذه النعم إبداعاً عجيباً، وجعلها على أرقى مستوى في شكلها، في منافعها، في كيفيتها، أيضاً في التسخير فيها لاستخدامات على نطاق واسع جداً، والانتفاع بها بمنافع واسعة جداً، فليست نعماً عادية، ولا قليلة، ولا محدودة، وكل صنفٍ منها استخداماته واسعة، ومنافعه عديدةٌ وكثيرة.

{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ}، نعم عجيبة، راقية، عظيمة جداً، على أجلِّ صورةٍ، وعلى أرقى مستوى، {وَالْإِكْرَامِ}، يعطي "سبحانه وتعالى" بكرم، عطاؤه عطاءٌ واسع؛ لأنه الكريم العظيم، هو أكرم الأكرمين، فعطاؤه فيما أسبغه علينا من نعم في هذه الدنيا، في هذه الحياة، عطاءٌ واسع، يتجلى كرمه "جلَّ شأنه" في هذه النعم الواسعة في كل مجالٍ من مجالات حياتنا: المأكولات، كم خلق الله "سبحانه وتعالى" من مأكولات للإنسان، مما هي حلال، من الطيبات؟ وكيف هيَّأ للإنسان فيها أن ينتفع بها بأشكال وأحوال مختلفة، ووسائل كثيرة جداً، وأن يصنع منها، وأن يطبخ منها، وأن ينتج منها الأشكال العجيبة جداً، وأن ينتفع بها، وأن تكون ذات قيمة على المستوى الغذائي للإنسان، وذات مذاق راقٍ جداً، وذات جاذبية في أشكالها وألوانها؟ في عالم الطب، في عالم الملبوسات، في عالم المشروبات، في كل ما يلبِّي احتياجات هذا الإنسان، وكل ما هو من متطلبات حياته على مستوى واسع جداً، عطاء الكريم.

أمَّا في الآخرة، أمَّا في الجنة، فهو عطاءٌ أعظم، عطاءٌ أوسع، هذه النعم التي أعطانا في الدنيا هي لمحات، هي نماذج تلفت أنظارنا إلى كرمه الواسع، وفي نفس الوقت هيَّأ الله لنا الطريق التي توصلنا إلى ذلك النعيم العظيم، دعانا إليها، بيَّنها لنا، يسَّرها لنا، طريق الجنة هي اليسرى، ليس صحيحاً ما يتصوره البعض أنها هي الطريق الأصعب، طريق النار هي الأصعب، هي الأسوأ، ولو أنَّ الإنسان يتجه فيها إلى الشهوات بانفلات، ولكنه في نفس الوقت يعاني، يشقى في هذه الحياة، ويشقى في الآخرة، لا يرتاح أبداً، لا يصل إلى الراحة الحقيقية، الراحة الحقيقية بالاطمئنان النفسي، والسمو الإنساني، والكرامة الإنسانية، ما يتحقق لك في طريق الجنة هو أسمى، هو أرقى، هو أعظم، هو أهنأ، هو أطيب، هو أفضل، هو الذي ترتاح به مع الإحساس بالكرامة، بالاطمئنان، بالسمو الإنساني، تسعد به وأنت تشعر بالرضا أيضاً، ليس فيه ما يخزيك، ليس فيه ما يضرب عليك القيمة المعنوية، التكامل في النعم المعنوية والمادية يأتي في طريق الجنة، أما في طريق النار، فلو اتجه الإنسان بانفلات نحو الشهوات، ونحو الجوانب المادية، فهو لن يصل إلى مبتغاه في ذلك، وفي نفس الوقت إنما يزداد بهيميةً، ولا يصل إلى الراحة التي يصل إليها من هو في طريق الجنة، فيجتمع له في طريق الجنة مع النعم المادية النعم المعنوية، يكون بكل شيء تأتيه راحته، لا يشعر بتأنيب الضمير، لا يشعر بالخزي والهوان، لا يشعر بالانتقاص من كرامته وقيمته الإنسانية والأخلاقية، وينال ما كتب الله له في ذلك، وفي نفس الوقت لا يزال يتطلَّع إلى ما عند الله "سبحانه وتعالى" مما هو أعظم مما في هذه الحياة؛ لأن ما في هذه الحياة هو نماذج محدودة معينة، في مقابل أن هناك نعيماً عظيماً واسعاً راقياً، لا ينقطع، وليس فيه أي منغصات، الإنسان يحمل الوعي تجاه حقيقة هذه الحياة، وأنَّ ما فيها ليس سالماً من كل المنغصات، وليس في نفس الوقت مستمراً للأبد، إنما سينقطع، فهو يعيش هذه الحياة بواقعية، يدرك ما فيها أيضاً من ظروف هذه الحياة، من منغصاتها، من مشاكلها، من همومها، ولكنه- مقارنةً بغيره- هو الأحسن في واقع الحال راحةً واطمئناناً؛ لأنه راضٍ عن الله "سبحانه وتعالى"، ويدرك قيمة النعم المعنوية في نفس الوقت، ويتطلَّع إلى ما عند الله "سبحانه وتعالى" من النعيم العظيم، الدائم، الأبدي، الخالص والسليم من كل المنغصات، الذي لا يشوبه كدر، فهو في حالة رضا، يدرك أنَّ آماله الكبيرة آتية، أنَّ طموحاته الواسعة قادمة، أنَّ النعيم العظيم والأبدي في مستقبله آتٍ لا محالة، ولذلك فهو راضٍ عن الله "سبحانه وتعالى"، فالله "جلَّ شأنه" أكرم الأكرمين، أسبغ علينا نعمه، ودلَّنا على الطريق التي ترتقي بنا إلى أسمى النعم، وأعظم النعم، وواسع الرحمة والفضل والبركات.

فما الذي يصرف الإنسان، والله "سبحانه وتعالى" من كرمه يدعونا، حتى عندما يعرض علينا هذه النعم، حتى عندما يذكر لنا تفاصيل منها، هو يرغِّبنا، هذه وسيلة من وسائل سعيه "سبحانه وتعالى" أن يوصلنا إلى هذه النعم: أنه يعرض علينا نماذج منها، أنه يدعونا إليها، أنه يرغِّبنا فيها، أنه يشرح لنا عنها، ويبين لنا عنها، ويدعونا إليها، كما قال "جلَّ شأنه": {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}[يونس: من الآية25]، يدعونا، ينادينا، كم في القرآن الكريم وهو يعرض علينا ما يوصلنا إلى هذه النعم العظيمة، إلى المستقر الأبدي، {وَاللَّهُ يَدْعُو}، ينادي، ينادينا، كم في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؟ ينادينا نداءً، ويدعونا، ويتلطَّف في دعوته بنا، فيأتي بكل العبارات التي هي مليئة بالرحمة والحنان، ويكرر بأساليب كثيرة، ونداءات كثيرة، وطرق كثيرة في خطابه لنا وهو يرغِّبنا ويحاول فينا أن نتجه إلى هذه النعم، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}، إلى مستقر السلام، الذي هو سلامٌ من كل الشرور، من كل العذاب، من كل الشقاء، من كل الهوان، من كل الخزي، تلك الدار التي يتحقق لك فيها السَّلام الشامل، والاطمئنان التام، والاستقرار الحقيقي، فليس فيها أي شيءٍ يشكِّل خطورةً عليك، أو ضرراً بك، أو أذىً لك، أو ازعاجاً لك، ليس فيها أي شرٍ، أي شقاءٍ، أي عناءٍ، أي تعبٍ، أي نصبٍ، أي همٍّ، أي غمٍّ، سلامٌ من كل الشرور، سلامٌ من كل الآلام، سلامٌ من كل العذاب، من كل الشقاء، من كل الهوان، سلامٌ تامٌ، الله يدعوك إلى ذلك، فلماذا أنت لا تقبل؟ لماذا تقبل دعوة عدوك الشيطان؟ والشيطان إلى أين يدعوك؟ إلى أين يسعى للوصول بك؟ هو كما قال الله عنه: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: من الآية6]، الشيطان حتى وهو يستغل فيك جانب الشهوات والرغبات والأهواء، ولكنه يدعوك لماذا؟ لتكون من أصحاب السعير، ليصل بك إلى قعر جهنم، ليصل بك إلى الشقاء الأبدي، ليجعلك تخسر في هذه الدنيا وفي الآخرة.

أمَّا الله الكريم، الرحيم، العظيم، فيدعوك إلى دار السَّلام، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس: الآية25]، يدعو ويهدي، فهو يبين هذه الطريق، ومع البيان أيضاً هو يعينك، من هدايته أنه يعينك أيضاً، أنه يشرح صدرك لتواصل مشوارك في هذه الطريق، ويعطيك العون على المستوى النفسي والعملي، وأنه أيضاً مع  شرحه لصدرك، يزين لك الإيمان، يحببه إليك، يرغِّبك، ويوفر لك أسباب الهداية، يتلافاك بألطافه وتوفيقاته... يعمل لك الأشياء الكثيرة من أجل أن يصل بك إلى جنته، إلى دار السَّلام.

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}[البقرة: من الآية221]، هكذا يقول "سبحانه وتعالى": {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ}، دعوة الله لنا في كل ما أمرنا أن نعمل، وفي كل ما نهانا عنه، هو ليوصلنا إلى الجنة، ليوصلنا إلى المغفرة، مع ما يتحقق لنا في عاجل هذه الدنيا من فضله، من عونه، من رحمته، من نصره، من بركاته، من نعمه الواسعة المعنوية والمادية، فهو يدعونا، ويهدينا، ويعيننا، وييسر لنا طريق الوصول إلى هذه النعم العظيمة، وكلنا نعلم أنَّ الانتقال من هذه الحياة انتقالٌ حتمي، الموت في كل يوم يأتي إلى البشر، في كل يوم وهناك من يغادر هذه الحياة، لا يمر يومٌ واحد إلَّا وهناك قوافل وأعداد كبيرة من البشر ترحل من هذه الحياة بشكلٍ يومي، وكلنا نعلم أنَّ هذه الحياة ليست مستقراً، وأن لنا آجال محدودة، والأجل ينتهي، مرحلة العمر تطوى، والكثير من الناس يتفاجأ عند موعد الرحيل من هذه الحياة، يأتيه الموت بشكل مفاجئ، في الوقت غير المتوقع، وقد يتفاجأ الكثير من الناس أنَّ فلاناً رحل، وفلاناً لم نكن نتوقع أنه سيموت وهو لا يزال في هذا المستوى من العمر، فمرحلة العمر تطوى، والإنسان لا يعلم كم سيستقر أصلاً في هذه الحياة، ولذلك إذا لم تأخذ بعين الاعتبار هذا المستقبل الأبدي الدائم؛ فأنت ستخسر، وخسارتك رهيبةٌ جداً، رهيبةٌ جداً، لكن عندما تأخذ بعين الاعتبار أنَّ هناك حياتين: الحياة الأولى أسبغ الله فيها عليك النعم، وفي نفس الوقت إذا شكرت نعمه عليك وإذا اتجهت وفق ما هداك إليه، واستجبت له فيما يصلح حياتك هنا وتنال به الحياة الطيبة هنا، تبقى متطلِّعاً إلى هذه الحياة المستقبلية الأبدية، وعندما يأتي يوم القيامة، وكنت من عباد الله المتقين الذين استجابوا لهديه، كم ستكون فرحتك حتى في يوم القيامة، يؤمِّنك الله في يوم الفزع الأكبر، يحشرك فتتلقاك الملائكة لتطمئنك، ولتبشرك، تأتي لك البشارات الواحدة تلو الأخرى في ساحة القيامة، حتى عندما تُأتى كتابك بيمينك، تفرح، تسعد، حتى وأنت تقرأ كتابك، وتطَّلع على أعمالك الصالحة، الأعمال التي بها فوزك، بها نجاتك، بها فلاحك، تستبشر وتسعد، حتى عندما تأتيك أيضاً البشارة الكاملة الخالصة التامة النهائية ما بعد الحساب، ويأتي القرار بضمك إلى موكب النور، إلى أولياء الله، إلى أنبيائه، لتكون في زمرتهم، كم ستكون فرحتك وأنت تضم إلى زمرة أولياء الله، وإلى زمرة أحباء الله، وأنبياء الله، والصالحين من عباد الله، فيما يميَّز الهالك، الخاسر، الخائب، المستهتر، الذي لم يستجب لدعوة الله "سبحانه وتعالى" في هذه الدنيا، يميَّز إلى صف المجرمين، إلى صف الشياطين، إلى صف الهالكين، إلى صف الكافرين، إلى صف المنافقين، إلى صف المجرمين، إلى تلك العناوين التي كلٌّ منها عنوانٌ يوصل أهله إلى نار جهنم والعياذ بالله.

ثم عند النقل، عند مرحلة الانتقال إلى عالم الجنة، عندما تقرَّب الجنة، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الشعراء: الآية90]، كم ستكون فرحتك؟ كيف هي مشاعرك؟ كم هو اطمئنانك؟ كم هو شعورك بالسعادة؟ مشاعر بالسعادة لا يمكن أن توصف أبداً، ولا يمكن أن يستوعبها الخيال؛ لأنك ترى أنك ستنتقل إلى تلك الحياة الهنيئة السعيدة، وتحشر مع أولياء الله في زمرتهم، { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}[الزمر: من الآية73]، حتى في الطريق حتى من أول نقلة قَدَم، من أول ما تنتقل وأنت ذاهب، وأنت تعرف إلى أين أنت ذاهب إلى الجنة، إلى السعادة الأبدية، إلى أرقى نعيم، واطمئنانك الكبير بأنَّ الله في نفس الوقت نجاك، نجاك من الجحيم، نجاك من العذاب الشديد، من الخزي الدائم، من الهوان والعذاب الأبدي، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا}[الزمر: من الآية73]، عندما يصلون إلى الجنة، وهي لحظة، لحظة لا يمكن أبداً أن نتخيل مدى السعادة فيها، عندما تشاهد الجنة، كم سمعنا من نعيمها، من أوصافها، في القرآن الكريم، ولكن لحظة المشاهدة عن قرب لعالم الجنة، مع معرفة أنك أصبحت من أهلها، هي لحظة من السعادة لا يمكن أن توصف، هي اللحظة التي يمكن فيها أن تنسى كل ألمٍ، أو عناءٍ، أو شدةٍ، قد حصل لك في هذه الدنيا، وأنت تعمل في سبيل الله "سبحانه وتعالى" فيما يرضيه، فيما يوصلك إلى رضوانه وجنته، أي عناءٍ مهما كان في هذه الحياة، أي شدائد، أي متاعب، أي هموم، أي معاناة (جسدية، أو نفسيه) كنت قد عانيت منها في هذه الحياة، وأنت في طريق الوصول إلى هذا النعيم، وأنت تستجيب لدعوة الله "سبحانه وتعالى"، ستعتبرها لا شيء، شعورك العظيم جداً بالسعادة والرضى بما وصلت إليه، شعورٌ عظيمٌ ينسيك كل الآلام، وكل الهموم، وكل المعاناة، وكل الشدائد، وكل الصعوبات.

وعلى العكس من ذلك لحظة الوصول إلى جهنم، بل حالة الانتقال إليها، وأنت تنقل والعياذ بالله، لو لم تسر في طريق الوصول إلى رحمة الله وجنته ورضوانه، تنقل إلى النار رغماً عنك، وأنت تعيش حالةً من الرعب، لا يمكن أن توصف، ومن الخوف، لا يمكن أن يستوعبها الخيال، والإدراك؛ لأنك ستنتقل إلى الخزي، إلى العذاب الدائم، إلى جحيم جهنم، وأنت تسمع تسعرها، تسمع زفيرها وشهيقها وأصواتها المرعبة، فتدفع دفعاً، من خلال الزبانية.

بينما السوق إلى الجنة هو بتكريم، الانتقال بتكريم، وكأنك وفد يتجه إلى ضيافة الله "سبحانه وتعالى"، الضيافة الدائمة؛ أما الانتقال إلى النار فدعَّا: دفعاً رغماً عنك، وتؤخذ بالنواصي والأقدام، ويلقى بك إلقاءً إلى قعر جهنم والعياذ بالله، عندما تعاينها، أهوال رهيبة، خوف شديد جداً؛ أما عندما تلقى فيها لتباشر حرارتها، وتباشر الصلي فيها، والاحتراق بنارها، فهي أحوال رهيبة وشنيعة ومخيفة جداً.

أولئك عندما وصلوا إلى أبواب الجنة، وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها في مراسيم الاستقبال، وأجواء من التكريم والاستقبال من ملائكة الله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر: من الآية73].

كيف هي فرحتك في لحظة الدخول، ومعاينة ذلك العالم العجيب؟ لحظة الدخول هي أيضاً لحظة في النصوص النبوية أنه لو بقي موتٌ لمات الإنسان من الفرحة؛ لأنه سيرى ذلك العالم العجيب جداً: الجنة في مزارعها، الجنة في قصورها، الجنة في عالمها العجيب جداً جداً جداً، التي وصفها النبي "صلوات الله عليه وعلى آله" وصفاً عجيباً، ويقرب لنا المستوى العجيب مما فيها من النعم، وما هي عليه، عندما قال:

(فيها ما لا عينٌ رأت)، كل ما يمكن أن تكون قد رأيته في هذه الدنيا، من أعجب ما فيها: من قصور، من مدن، من مساكن، من مزارع، من مناظر خلابة، من مشاهد عجيبة... من كل ما يمكن أن تسر به، أو أن تفرح به، أو أن تتمناه، ترى في الجنة ما هو أرقى بكثير، وبما لا يقارن، وبما لا يقارن، (فيها ما لا عينٌ رأت).

(ولا أُذُنٌ سَمِعَت)، حتى إن كنت قد سمعت عن أشياء عجيبة، عن نعم عجيبة، عن ممتلكات عجيبة... مما تهواه نفسك وتتمناه، (ولا أُذُنٌ سَمِعَت)، وحتى فيما يُسمع أيضاً، مما يعجب الإنسان أن يسمعه.

(ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خطر على قلب بشر)، ولا حتى على مستوى الخيال، فنعيم الجنة هو فوق مستوى الخيال، لكن يقرِّب القرآن الكريم لنا صوراً ولمحات؛ حتى تكون الصورة لنا تقريبية، تشدنا إلى ذلك النعيم.

فهي لحظة عجيبة، عندما يقولوا ملائكة الله في ذلك الاستقبال، وبهذا التكريم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} في حالة من الترحيب الحار، ترحيب بالتكريم، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، للأبد، وليس لمرحلة مؤقتة. في الدنيا قد يتهيأ لك شيءٌ من الراحة، ولكنه مؤقت، كل شيءٍ في الدنيا مؤقت؛ أما هناك فللأبد.

عندما تدخل إلى عالم الجنة، ذلك العالم الواسع جداً، وهي في كلها عالمٌ واسع كل ما فيه نعيم يتوفر فيها بشكلٍ عام كل أنواع النعيم، وفيه أيضاً ما يخصك، كما قرأنا في الآيات المباركة التي مرَّت بنا عن الأربع الجنات التي تخص كل واحدٍ من أهل الجنة، ولكن هناك أيضاً نعيمٌ واسع.

عندما تلبس من ملابس الجنة، تلبس ملابس الحرير؛ بينما من يدخل إلى النار: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}، ما هو الفرق الكبير بين من يلبس الحرير الناعم من حرير الجنة، الجميل الناعم جداً، والفاخر جداً، والذي لا يمكن أن يماثله أي ملابس قد لبسها أغنى الأغنياء في هذه الدنيا، أو أكثر الناس سلطاناً ومالا، يمكن لأقل أهل الجنة نعيماً، ملابسه هو، نعيمه هو، هو أرقى من ذلك بكثير، أرقى وأعظم وأسمى مما يكون قد توفر لأكثر أهل الدنيا ثراءً وسلطاناً.

تلبس من ملابس الجنة من حريرها، وتحلى من حليتها، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}[الإنسان: من الآية21]، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}[الحج: من الآية23]، أفخر أنواع الزينة، ويأتي من يلبسك هذه الملابس، هذه الحلية، هذه الزينة، (وَحُلُّوا)، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}، من ذهب الجنة ببريقه الأخاذ، بجماله العجيب، بزينته الفاخرة، ولؤلؤ الجنة، في مقابل أن من يتجه إلى النار يُغَلُ بقيود الله، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}[الحاقة: الآية30]، يُغل بقيود الله، والله قال: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: الآية26].

في عالم الجنة، تتنعم بأنواع النعيم فيها، أنواع النعيم التي لا حصر لها ولا عد، أنواع النعيم، إذا كانت نعم الله في الدنيا يقول عنها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النحل: من الآية18]، فكيف بنعيم الجنة؟!

في القرآن الكريم يبين الله لنا سعة هذا النعيم فيقول "جلَّ شأنه": {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت: من الآية31]، كل ما تشتهي نفسك متوفر، كل ما تطلبه يتوفر لك، ولهذا ليس هناك ما يماثل هذه الحالة بنفسها في الدنيا، لا يمكن لأي إنسانٍ- مهما كان وأياً كان- أن ينال كل ما تشتهي نفسه، تبقى هناك العوائق: عائق الفقر عند البعض، عائق المرض عند البعض... ظروف معينة، أو موانع معينة، أو نواقص معينة، لا يتهيأ للإنسان أن يكون له هذا في الدنيا مهما كان ثراؤه، مهما كانت إمكاناته، مهما كانت سلطته؛ أما هناك فالأمر مختلف، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ}[الفرقان: من الآية16]، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}: من كل أنواع النعم، كل شيءٍ متوفر، وعلى أرقى مستوى، وعلى أعظم ما يمكن أن تتخيل، نعيمٌ واسع، يقول الله "سبحانه وتعالى": {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}[الطور: 17-18]، (فَاكِهِينَ): هم يعيشون حالة السرور، والفرح، والارتياح التام، في ذلك النعيم الذي هم فيه، وبما أعطاهم الله من النعم الواسعة، وفي كل يومٍ يعيشون أجواء هذا النعيم، وما فيه من جديد، وما فيه مما يلتذون به، يرتاحون به، ينعمون به، يسعدون به، يفرحون به، فهم في حالةٍ من السرور الدائم والارتياح التام، ليس عندهم ملاحظات، يقولون: في نقص في هذا الموضوع، أو هذه الملابس ليست مما تروق لنا، أو هذا الطعام لم يعجبنا بالشكل المطلوب، لا؛ لأن كل ما أعطاهم الله "سبحانه وتعالى" هو أرقى نعيم، هو أهنأ ما يمكن أن يهنأ به الإنسان، وهو المناسب على أرقى مستوى، يناسبهم جداً، يرتاحون به جداً، يفرحون به جداً؛ لأن الله العليم بهم، والعليم بكل إنسان، بما يناسبه، بما يلائمه، يقدم له ما يناسبه، ما يلائمه، ما يعجبه، ما يرتاح به، وعلى أرقى مستوى.

في الدنيا قد تنزل ضيفاً عند إنسانٍ كريم، ولكنه لا يعلم بطبائعك، بما يناسبك، بما ترتاح به، وقد تتفضل ويقدم إليك شيئاً وبكرم، وقد يكون شيئاً لا يناسبك، قد تتمنى لو أنه أعطاك كذا، أو أعطاك كذا، وهيأ لك كذا... وأنت تستحي؛ لأنك ضيف، فلا تذكر له ما ترغب به.

أما في الجنة فيقدم لهم كل الذي يرغبون به من العليم بهم، من الله "سبحانه وتعالى"، ويتاح لهم المجال أيضاً في ذلك النعيم الواسع أن يختاروا مما فيه ما يروق لهم، ما يناسبهم.

{فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}، بعطاء الله، ربهم الكريم، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، وهذه نعمة عظيمة جداً، مع ذلك النعيم يتذكرون هذه النعمة، أن الله وقاهم عذاب الجحيم، أنهم قد نجوا؛ بينما هلك أكثر البشر، فعندما نجاهم الله ووقاهم عذاب جهنم، عذاب الجحيم، يستشعرون أنها نعمة عظيمة جداً.

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور: الآية19]، يقدم لهم ما يقدم من النعيم، مع التكريم لهم؛ فهم في حالة ضيافة دائمة، ضيافة للأبد، ضيوفاً دائمين، وضيوفاً الله راضٍ عنهم، لا ينقطع رضاه عنهم، لا يملون، ولا يمل الله منهم، "سبحانه وتعالى"، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، يقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، فهذا من التكريم لهم، وهم- في نفس الوقت- يَهْنؤون؛ لأن ما يقدم لهم وهو على أرقى مستوى، ولأنه لا ينغصه شيءٌ أبداً، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، هذا من التكريم لهم، والتذكير لهم بقيمة ما عملوا، بأهمية ما عملوا، وأن نتيجته كانت هذه النتيجة: هذا النعيم العظيم، هنا يدرك الإنسان قيمة ما يعمل مما أرشد الله إليه، وأمر به، أن له هذه العاقبة الطيبة، هذه النتيجة العظيمة.

{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ}[الطور: الآية20]، متكئين؛ لأنه ليس لديهم أي شواغل مزعجة، أو أعمال متعبة، أو مسؤوليات مرهقة، أبداً، حتى إذا انشغلوا بشيء، هو انشغالٌ بالنعيم بدون تعب، براحة، كما قال عنهم: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس: 55-56]، فهم في حالة إن انشغلوا بشيء انشغلوا بالنعيم، بما هو راحة، بما هو سعادة، وليس بما هو مرهق، وليس بمسؤوليات، أو متاعب، أو عناء، أبداً، ولذلك هم في راحة، هم يجلسون متكئين بكل راحة بال، بكل اطمئنان، لا نصب، ولا هم، ولا تعب، ولا شواغل، ولا مسؤوليات، ولا هموم، راحة تامة، لا يمسهم فيها نصب.

ومتكئين على ماذا؟ {عَلَى سُرُرٍ} من سرر الجنة، مصنوعة مما أعد الله فيها، من ذهبها، من الأشياء الفاخرة فيها، ومزينة، ومريحة جداً، يهنأ الإنسان أن يتكئ عليها وأن يجلس عليها.

{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}، كثيرٌ من الشباب الذي قد يكون استشهد وهو لم يتزوج بعد، وكثيرٌ من المؤمنات التي تصعبت عليها مسألة الزواج، تتحول إلى حوراء في الجنة، أفراح الزواج في الجنة، وأعراس أهل الجنة، لكل أهل الجنة، هي فوق الخيال، هناك السعادة، هناك الراحة، هناك الاطمئنان، هناك الأجواء الممتازة جداً.

 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور: الآية21]، ويلتئم شمل الأسر المؤمنة في ذلك النعيم، من دون نقصٍ على أي واحدٍ منهم، ليس جمع شملهم على أساس أنهم سيشاركون مثلاً الأب فيما أعد الله له وخصه به، وإنما إضافة، إضافة نعيم إلى نعيم.

{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الطور: الآية22]، يمدهم الله بأنواع الفواكه، بأنواع اللحوم، مما يشتهون، يمكن لك أن تتخير وجباتك في الجنة من أي أصناف الطعام، من أي أصناف الفواكه، من أي أصناف اللحوم، يمكن لك أن تحدد ما ترغب به، وأي وجبةٍ من الوجبات.

{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}[الطور: الآية23]، ولهم مجالس يجتمعون فيها، وفي هذه المجالس يشربون من أطيب وألذ شراب الجنة، الذي ليس بمسكرٍ، وليس له آثار سلبية على المستوى الصحي والنفسي.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}[الطور: الآية24]، جو من التكريم، فيه من يخدمهم، ومن يهتم بهم.

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور: 25-27]، يتساءلون، يتحدثون عن ذكريات الدنيا، وهم في تلك المجالس في الجنة يشربون من أطيب شراب الجنة، على سرر الجنة الفاخرة والممتازة، فيستذكرون في تلك الأجواء، وقد اجتمعوا، يجتمع الرفاق، يجتمع الأخوة، يجتمع الذين جمعتهم أخوّة الإيمان، وألفة التقوى، يجتمعون، فيتذاكرون هذه الحياة، وتجتمع بآخرين، يمكنك حتى أن تزور الأنبياء والمرسلين وأولياء الله، وأن تلتقي بهم، وأن تتحدث معهم.

في تلك الاجتماعات يتذاكرون عن عالم الدنيا، عن ذكريات الحياة الدنيا، وما كانوا عليه، وعن أسباب نجاتهم وفلاحهم وفوزهم، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}، (كُنَّا قَبْلُ): في الدنيا، في الحياة الأولى، (فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ): لم نكن مستهترين، ولا متهاونين، ولا مفرطين، كنا نتقي الله، نحذر ونخاف من التفريط، نحذر ونخاف من المعصية، ولم نكن نعيش حالة الاستهتار واللامبالاة تجاه توجيهات الله وأوامره، (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا): عندما كنا في حالة يقظة، انتباه، حذر من التفريط والعصيان رجوع إلى الله، وتوبة عند الزلات والمعاصي والتقصير، كانت النتيجة أن منَّ الله علينا، تفضل علينا ورحمنا ووفقنا، (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ): ووقانا من عذاب جهنم، التي فيها حتى الاكسجين الذي فيها هو عذاب من أشد عذاب جهنم، من أشد عذاب جهنم أنك تتنفس هواءها الحار، تستنشق هواءها وأوكسجينها الحار جداً، الذي عندما تستنشقه في شدة حرارته يتعذب به كل جسمك، يدخل وأنت تستنشقه إلى جسمك، فيتحول إلى عذاب وألم في كل جسمك، قال الله عن أهل جهنم: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}[الواقعة: الآية42]، فبدلاً عن ذلك، وبتقوى الله "سبحانه وتعالى"، وقاهم عذاب السموم، فاستنشقوا من أوكسجين الجنة، من هوائها الطيب، واستنشقوا الروائح العطرية من أشجارها، التي تنشر الرائحة العطرية والزكية فيها؛ أما سموم جهنم يجتمع فيه الحرارة والنتن، الرائحة القذرة جداً، الرائحة المزعجة جداً، مع حرارة شديدة، والعياذ بالله.

{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ}، هم أدركوا أهمية الدعاء، فإلى جانب الحذر، الإشفاق، الانتباه من المعصية، الرجوع إلى الله عند الزلة، التلافي للتقصير، الدعاء، الدعاء لا بدَّ منه، الإنسان لا يمكنه أن يستغني بنفسه، يحتاج دائماً إلى معونة الله، إلى ألطافه، إلى هدايته، إلى توفيقه.

{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: الآية28]، هو واسع البر، واسع الفضل، واسع الإنعام، وهو أرحم الراحمين، عندما تدعوه، تلتجئ إليه، وتسعى للاستقامة على هديه، وتستجيب له؛ يهديك، يوفقك، هو- في نهاية المطاف- ينجيك من عذابه، يوصلك إلى رضوانه، يوصلك إلى هذا النعم العظيم.

نكتفي بهذا المقدار، ونكون بهذا استكملنا دروسنا على ضوء الآيات المباركة من سورة الرحمن، وعن الموضوع بشكلٍ عام.

نسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

الخميس، 22 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 09 رمضان 1442هـ 21-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في سياق الحديث على ضوء الآيات المباركة من سورة الرحمن، كنا نستعرض بالأمس ما وصف الله "سبحانه وتعالى" من نعيم الجنة، وفيما تحدثنا عنه بالأمس من أنَّ الجنة عالمٌ واسعٌ جداً، كما قال الله "سبحانه وتعالى" عنها: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران: من الآية133]، فإنَّ الله أعدَّ لعباده المؤمنين، المتقين، المستجيبين له، المتمسِّكين بهديه، لمن خاف مقام ربه جنتان، ويأتي أيضاً إضافةً إلى ذلك قوله "سبحانه وتعالى": {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}[الرحمن: من الآية62]، فيكون المجموع أربع جنات خاصة بكل مؤمن، وقد تكون متفاوتة في مستوى سعتها، جمالها، ما أعدَّ الله فيها بحسب المراتب الإيمانية؛ لأن الله قال عن عباده المؤمنين: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}[آل عمران: من الآية163]، وقال "جلَّ شأنه": {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء: من الآية21]، يعود الأمر إلى مستوى الإيمان، مستوى الالتزام والتقوى، مستوى الطاعة لله "سبحانه وتعالى" والاستجابة له.

فعندما تأملنا في الآيات المباركة بالأمس في محاضرة الأمس، وجدنا هذا النعيم العظيم العجيب، ففي الجنة بكلها يتوفر كل أصناف النعيم، من كل الثمرات، من كل الفواكه، الأنهار العجيبة من الماء غير الآسن، من اللبن الذي لم يتغير ولا يتغير طعمه، أنهارٌ من الخمر لذةٍ للشاربين، أنهار من العسل المصفى، نعيم واسع جداً، ومناظر بهيجة، وأشجار عالية، وظل، وليس هناك ما ينغِّص هذا النعيم، نجد أيضاً فيما سنقرأه من الآيات المباركة في محاضرة اليوم النعيم العجيب جداً.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}، يعني: إضافةً إلى الجنتين اللواتي قد مرَّ الحديث عنهن: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن: الآية50]، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}[الرحمن: من الآية54]، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}[الرحمن: من الآية56]... إلى آخر ما مرَّ، نجد أنَّ الله أضاف إلى ذلك: الحديث عن جنتين أيضاً، تضاف إلى تلك الجنتين، فيكون المجموع- كما قلنا- أربع جنات، كل جنة منها يتوفر فيها أصناف الفواكه، والأشجار من الزينة والجمال، والمنظر البهيج جداً إضافةً إلى ذلك: ما مرَّ من النعيم.

{وَمِنْ دُونِهِمَا}، يعني: الأقرب إلى مقرك الرئيسي، الأقرب إلى قصرك، فهناك أربع جنات قد تكون- والله أعلم- متواصلة وممتدة، فالأقرب إلى قصرك، وإلى مقرك الرئيسي {جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، تجاه هذا النعيم العجيب الذي أعدَّه الله لكم.

{مُدْهَامَّتَانِ}[الرحمن: الآية64]، هاتين الجنتين خضرتهما خالصةٌ جداً، وشديدة الخضرة، كل جنةٍ منها شديدة الخضرة، إلى درجة أن يكون لونها أدهم، يعني: أخضر غامق، شديد الخضرة جداً، فمنظره أجمل؛ لشدة خضرته، وخلوص خضرته، وما فيه من الزينة والجمال، حتى يكاد أن يكون من شدة خضرته مائلاً إلى شيءٍ من السواد، لكنه خضرة غامقة جداً، فمنظره بهيجٌ وجميلٌ جداً، في غاية الروعة والجمال، حينما تطل من قصرك ومن نوافذ قصرك عليه؛ تبتهج بذلك المنظر البهيج الرائع جداً.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[الرحمن: 65-66]، في كل جنةٍ من هاتين الجنتين عين ماء نضَّاخة، وهي بشكل نافورة تضخ الماء نحو الأعلى، وبغزارةٍ كبيرة، ليست ضعيفة بالكاد تكاد تسكب، لا، عين فوارة ونضَّاخة، تضخ الماء إلى الأعلى على شكل نافورة، فتشكل منظراً جميلاً وبهيجاً، وفي نفس الوقت مستمر، لا ينقطع هذا الماء الذي يطلع إلى الأعلى على نحو نافورة، وبشكل جميل جداً، ويجري من خلاله الماء لهذه الجنتين، لكلٍّ منهما، الآن النوافير في الحدائق وعند القصور مما يعتمده البشر كمنظر جميل وجو منعش.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن: 67-68]، في كلٍّ من هاتين الجنتين تتوفر الفواكه، وأشجار الزينة، والفواكه بمختلف أصنافها تشكِّل منظراً جميلاً بتنوعها، بتنوع فواكهها وأشكالها، تشكِّل منظراً جميلاً، إذا نظرت أحياناً إلى سوق الفواكه وهي منظَّمة، وترى منظرها بهيجاً وجميلاً ورائعاً، فكيف هو منظر الجنة، إضافةً إلى أنها ضمن ترتيب وتنظيم من الله "سبحانه وتعالى"، بديع السماوات والأرض، الذي يجعلها وفق ترتيبٍ عجيبٍ جداً، وتهيئةٍ عجيبة، وتركيبةٍ عجيبةٍ جداً، فريدة، وذات منظر جميل للغاية، يتوفر فيها النخل والرمان، يتوفر فيها من مختلف أصناف الفواكه، ويتوفر فيها من هذه الأشجار المعروفة، المعروفة لدى الكثير من الناس؛ لأن الكثير من الفواكه قد لا تُعرف هنا أو هناك في منطقة أو أخرى، ولكن قد تكون هذه من أكثر الأشجار معرفةً، من أكثر الفواكه شهرةً ومعرفةً، إضافةً إلى أنها من أروع الفواكه، ومن أحسن الفواكه، ومن أجمال الأشجار في نفس الوقت، النخيل إذا كان مرتوي ومستقيم، يكون منظره جميلٌ جداً، الرمان- كذلك- إذا كان روياً، وبأزهاره، وبثماره، يكون منظره جميلاً جداً؛ وبالتالي تتوفر هذه الأشجار، ومنها الأشجار ذات الطابع الجمالي، وتكون هي الأقرب إلى مقرك الرئيسي وإلى قصرك.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية69]، فواكه الجنة وأشجارها لا تتأثر بأي عوامل سلبية، لا عوامل مناخية، ولا غير مناخية، ولا من عطش، لا يأتي لها عطش، الماء متوفرٌ بشكلٍ مستمرٍ وبدون انقطاع، وبكل غزارة، الجو نفسه جوٌ يبقى معتدلاً على الدوام، ليس هناك بردٌ قارس، ولا حرارةٌ شديدة، وليس هناك آفات ولا أمراض ولا أي عوامل مؤثرة سلباً تعتري هذه الأشجار، وهذه النباتات، ولا تحتاج إلى أي عناء، لا إلى حراثة، ولا إلى سقي، ولا إلى رعاية، ولا إلى حراسة وانتباه من اللصوص... ولا إلى غير ذلك.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ}[الرحمن: 69-70]، يعني: في هاتين الجنتين، {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}[الرحمن: من الآية70]، حورٌ من الحور العين، متواجدات في هاتين الجنتين، لهن هذه المواصفات الممتازة جداً: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} خيراتٌ في أخلاقهن، أخلاق كلها من خير الأخلاق، من مكارم الأخلاق، تعاملك بأحسن معاملة، أخلاقها راقيةٌ جداً، ليس فيها أي خُلُق من الأخلاق المذمومة، أو من الأخلاق غير المرغوبة، كل الأخلاق الطيبة، والأخلاق المحترمة، والصفات الحميدة تتوفر فيها، {حِسَانٌ}: في خَلقهن، في جمالهن على مستوى فائق وبارع جداً من الحسن والجمال، فيجتمع لهن حسن الخَلق، وحسن الخُلق، في أخلاقهن، وفي خلقهن، وجمالهن، وشكلهن، على مستوى رائع جداً من الجمال، وهنَّ في هاتين الجنتين، يعني: معك في كل جنةٍ منهما من هذه الحور العين.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ}[الرحمن: 71-72]، والحور هو وصفٌ لعيونهن، ومن أجمل ما في الحور العين في الجنة: هو جمال عيونهن؛ لأنه من أروع الجمال: جمال العيون، جمال بارز، فإضافةً إلى جمالهن الكامل، حيث لا يوجد فيهنَّ أي نقصٍ، أو أي وصفٍ غير مناسب، جمال كامل، ولكن يمتاز هذا الجمال أيضاً بجمال بارز في جمال عيونهن، فسعة عيونهن بالقدر المناسب، الخلوص في البياض في داخل العين، وفي السواد في داخل العين، وكلما يتعلق بجمال العين موجودٌ فيهن، فنظراتها إليك ستكون نظرات جذَّابة بجمال باهر، وجمال خارق.

{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن: الآية72]، هنَّ منتظرات في داخل الخيام، يتوفر في هاتين الجنتين خيام، خيام رائعة جداً، ليست من الطرابيل، ليست من العشش، ليست من أقمشة مهترئة، لا، من خيام الجنة، من خيام الجنة، في بعض الروايات أنها معدَّةٌ من اللؤلؤ، من اللؤلؤ الرطب، خيام من مواد مصنوعة من داخل الجنة، على درجة عالية جداً من الروعة والمتانة والجمال، وفيها أيضاً مأخوذٌ بعين الاعتبار جمالها، فعندما تذهب إلى جنة من هذه الجنات، من جناتك الخاصة، وهي متسعةٌ جداً، تتجول، وتتنزه، وترتاح، ففيها أماكن معدَّة للراحة، وفيها هذه الخيام، وفي هذه الخيام هذه الحور، وهي تنتظر مجيئك، هي لا تخرج من هذه الخيمة وتغيب أكثر الوقت، هي في كل الأحوال محبةٌ لك، عاشقةٌ لك، شغوفةٌ بك، وهي دائماً في انتظارك بكل محبةٍ، وبكل شوقٍ، وبكل عشق، {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}، وأنت تتجول يمكنك أن تذهب إلى خيمتك الرائعة جداً، وهي بانتظارك في تلك الخيمة.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ}[الرحمن: 73-74]، لم يدخل بالحوريات الإنسيات {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: من الآية74]، ولم يدخل بالحوريات الجنيات اللواتي للجن جنٌ قبلهم.

فنجد أنها تتوفر كل أسباب وعوامل الراحة التي يرتاح بها الإنسان، تتوفر هناك، كل أصناف النعيم يتوفر هناك، المساكن على أرقى مستوى، المأكولات، المناظر، وهكذا الحور العين.

فيما يتعلق بالنساء المؤمنات، يحصل أحياناً تساؤل: وأين هو مكانهن؟ وأين هو دورهن؟ أين هو نعيمهن؟ ماذا سيكون عليه حالهن؟ بالتأكيد بالتأكيد أنَّ المرأة المؤمنة التي عملت بطاعة الله، واستقامت على منهج الله، هي من الحور العين في الجنة، الله يهبها هذا الجمال، وينشئها في النشأة الآخرة على هذا المستوى من الروعة والجمال، وتكون حوراء، إذا كان زوجها في الجنة من أهل الجنة تكون معه، وتكون حوراء معه في الجنة، يهبها الله هذا الجمال، وهناك لن تحتاج إلى أيٍ من وسائل التجميل في خلقها، وفي اعدادها، وفي نشأتها الأخرى يكسبها الله ويصنعها على هذا النحو من الجمال، كبقية الحور العين في الجنة، ولن يضيع عملها، وسعيها، وإيمانها، وتقواها في هذه الحياة.

في الأساس نجد أنَّ الله "سبحانه وتعالى" يتمنن في القرآن الكريم على عباده المؤمنين بأنه خلق وعلى البشر عامةً {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}[الروم: من الآية21]، يعني: باعتبارها كائن بشري، فهذا من نعمة الله "سبحانه وتعالى" ومن الأُنس، فهنَّ لا يغبنَّ عن هذا النعيم، المرأة المؤمنة إنما هي حوراء في الجنة، وفي نشأتها الأخرى يمنحها الله كل هذا الجمال، وكل هذه الروعة، وتعيش في نعيمٍ مع زوجها في الجنة، كحوراء لها هذا الجمال، وهذه الروعة، وتتنعم هي وزوجها في الجنة، والله "سبحانه وتعالى" وعد بذلك في آياتٍ قرآنية، منها: في دعاء الملائكة للمؤمنين: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}[غافر: من الآية8]، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}[غافر: من الآية8]، وآيات كثيرة تتحدث عن ذلك، فلا يعني ذلك أنَّ المرأة المؤمنة ستكون لا قيمة لها، ولا أهمية لها، ولا مستقبل لها.

أختي المؤمنة: هذا هو مستقبلك في الآخرة، هذا هو مستقبلك في الجنة، بإيمانك، بعفتك وأنت كنت تلتزمين العفة، والتقوى، وتستجيبين لله، وتقومين بدورك في هذه الحياة بشكلٍ صحيحٍ، وفق هدي الله "سبحانه وتعالى" وتعليماته، فمستقبلك في الجنة: هو أن يهبك الله هذا الجمال، وهذا النعيم، وهذه السعادة في عالم الآخرة في الجنة، وهذا ما أكَّد عليه القرآن الكريم في وعد الله "سبحانه وتعالى": {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}[النحل: من الآية97]، وعد الله الجميع: الذكر والأنثى بالأجر العظيم، والفضل العظيم.

على مستوى الأسرة الواحدة، إذا كانت أسرةً مؤمنةً، حياتها قائمةً على أساس التقوى، والإيمان، والاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، والتمسك بهديه، يلتئم شملها في الجنة، ومن دونٍ نقصٍ على أحد، من دون نقصٍ على أحد، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}[الطور: من الآية21]، يعني: لا ينقص عليهم شيءٌ من أعمالهم، إنما يلتئم شملهم في نعيمٍ واسع من دون نقصٍ على أحد، كلٌّ سيمنحه الله "سبحانه وتعالى" من نعيم الجنة النعيم الواسع، ويوفيه أجره بغير نقصٍ عليه.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}[الرحمن: 75-76]، هناك قصور في الجنة، وهناك خيام في الجنة، وهناك أيضاً متكآت في حدائق الجنة، في بساتينها، في مزارعها، في هذه الجنات الأربع، وأنت عندما تتجول ستجد الأماكن المعدَّة والمهيَّأة للراحة، والانسجام والنعيم، بين مناظر الجنة، بين أشجار فواكهها، وأشجار زينتها، وأشجار رياحينها، ويمكنك أن ترتاح، وهذه الأماكن المعدَّة للراحة تفوق كثيراً- وبلا مقارنة- ما نجده في الحدائق من مظلات، أو أماكن معدَّة للراحة، هناك الأماكن المعدَّة للراحة على أرقى مستوى، حتى الفرش، فرش الحرير من حرير الجنة الناعم والجميل جداً، ليست فقط في داخل القصور، وفي داخل الخيام، إنما هي أيضاً متوفرة على هذه المتكآت، على هذه الأماكن المعدة للراحة، حيث يمكنك أن تجلس عليها، وتتكئ وتتمتع بتلك المناظر الجميلة جداً، وبأكسجين الجنة المنعش جداً، ثم وأنت في ذلك النعيم تتناول ما شئت ومتى شئت من تلك الفواكه من أصنافها وأنواعها العجيبة جداً، والكثيرة والمتوفرة، وبلا انقطاع، بلا انقطاع.

{مُتَّكِئِينَ}: هذه الأماكن المعدة للجلوس والراحة، والنظر من خلالها، والتفرج من خلالها، {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ}: هذا الفرش الممتازة جداً، الجميلة جداً، الناعمة جداً، {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}، فكل الفرش، وكل المتاكئ، وكل الأماكن المعدة للجلوس، لا يساويها أفخر ما صنع في الأرض من الكنب، أو من أنواع المتكآت والأماكن، أبداً، على أرقى مستوى، وتجمع بين الحسن والجمال والروعة في التصميم والشكل، وفي أنها من حرير الجنة الناعم جداً، الذي لا يتوفر مع أي ملك في الدنيا، ولا مع أكبر تاجرٍ في الدنيا.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية77]، وهذا النعيم العظيم ليس هناك ما ينغصه، هو نعيمٌ خالص، ليس هناك ما ينغصه، لا من أمراض، ولا من هموم، ولا من غموم، ولا من مشاكل، ولا من محن، ولا من هرم، ولا من إشكاليات في التعامل، سواءً مع الحور العين، ليس هناك أي مشكلة، تدخل في مشكلة معها، تصبح غاضبةً عليك، أو مستاءةً منك، أو معاتبةً لك على الدوام، أو أياً من ذلك، ولا مع بقية سكان أهل الجنة، الذين هم الطيبون، الذين طابوا، صلحوا، زكت أنفسهم، استقامت أعمالهم، ومنحهم الله المزيد من هدايته، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج: الآية24]، فأنت هناك لا تسمع في ذلك العالم بكله كما قال الله: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً}[الغاشية: الآية11]، ولا كلمة واحدة غير مناسبة يمكن أن تجرح مشاعرك، أو تنغص حياتك.

وليس هناك انقطاع، لو كان هناك انقطاع مع عظم هذا النعيم، لكانت مشكلة، لكانت المحنة شديدة، ولكان الهم كبيراً، عندما ترى نفسك في نعيم عظيم، ولكنك ترى أنه سينتهي، سينقطع.

في هذه الدنيا مهما امتلكت من الإمكانيات، ومن وسائل الراحة، فهناك ما ينغصه أولاً، وأيضاً سينقطع، سينتهي، إما يسلب منك، إذا لم تشكر النعمة، أو تأتي في ظروف هذه الحياة المنغصات والمتغيرات، وإما بموتك المحتوم، برحيلك من هذه الدنيا، بفنائك الذي لك موعدٌ معه لن يتخلف، فأكبر أهل الدنيا ثراءً وإمكانيات كم يعيش من الهموم في ثروته حتى، وأكثرهم ملكاً وسلطاناً كم يستقبل من المشاكل، والقلق، والمحن، والأرق، وطول حياته يأتي فيها الهرم، يأتي فيها الضعف بغير اختيار، بشكلٍ إجباري، تتنغص عليه حياته بالكثير من المنغصات.

أما في عالم الجنة، فمع أنه خلودٌ لا نهاية له، لكنه لا هرم فيه، ولا شيخوخة فيه، ولا يتأثر بك عامل الزمن، فيضعفك وتبلى، ولا يبلى النعيم، وهو نعيمٌ يتجدد من عطاء الله المتجدد، موديلات جديدة، أصناف جديدة، نعم جديدة، يَمُنُّ الله بها، وعالم متسع جداً جداً، ليس فيه ملل تتجول في أنحاء الجنة الواسعة بدون قيود، لا تحتاج إلى إصدار جوازات، وبطاقة شخصية، وإجراءات معقدة، وتكاليف باهظة، يمكنك أن تتجول، كما قال الله عنهم وهم يقولون أهل الجنة في الجنة: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}[الزمر: من الآية74]، في عالمها الواسع جداً.

والتكريم نعيمٌ أساسيٌ في الجنة، إلى جانب النعيم المادي، الذي هو على أرقى مستوى، فوق طموح الإنسان، إذا كنت تطمح في النعيم، تطمح في الراحة، تطمح في متطلبات حياتك من مأكولات، ومشروبات، ومساكن، وزوجة، إلى غير ذلك، فما هو في الجنة هو أرقى وأسمى وأعظم وأكبر من طموحك حتى، يعني هو بمثل طموحك، ولكنه أكثر بكثير، أعظم بكثير، ومعه التكريم، التكريم، يكون لك قدرك، احترامك، من تكريم الله العجيب في الجنة: زيارة الملائكة، إبلاغ أهل الجنة بالسلام من الله، السلام يقرئكم السلام، إبلاغهم برضى الله عنهم، وأن ما هم فيه من النعيم هو من رضوان الله "سبحانه وتعالى"، وأشياء كثيرة تدخل في أسلوب التكريم، التكريم لأهل الجنة في الجنة، وهو نعيم كبير وعظيم، هو يجعل لكل شيءٍ قيمة، لكل شيءٍ من نعيمها يجعل له قيمة، تكريم عظيم.

وهكذا نجد أن هذا النعيم العظيم هو فوق حتى ما يطمح إليه إنسان، نعيمٌ عظيمٌ جداً، لا يمكن أن تقول الله عرض لنا عرضاً محدوداً وضعيفاً، وهناك عروض أخرى مغرية، بأكثر مما عرضه الله لنا، لا يمكن أن تقول ذلك، لا يمكن لأحد في الدنيا أن يقدم إليك في مقابل موقفٍ تقفه، أو عملٍ تعمله، أو ولاءٍ، أو توجهٍ يكسبه منك، أي شيء مقارنةً بهذا، هنا أعظم عرضٍ قدمه الله لك، وبالتالي ففيما يتعلق بالوعد، ما وعد الله به في الجنة، وما وعد الله به في الدنيا، والوعيد، وعيد الله بالعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة، فليس هناك شيءٌ مما لدى الآخرين، في وسائل جبروتهم، وتهديدهم، وإخافتهم لك، ما يساوي القليل القليل من عذاب الله "سبحانه وتعالى"، وليس هناك في مقابل ما يقدمونه لك فيما يقدمونه لك من إغراءات، بكل أنواع الإغراءات، بكل أشكالها المادية، ما يساوي شيئاً مما يعرضه الله لك "سبحانه وتعالى" ويقدمه لك، ولذلك لا مبرر للإنسان أن ينحرف عن نهج الله، أن يتمكن الآخرون من إخضاعه لباطلهم، أو تحريكه في باطلهم، لا بدافع التخويف، ولا بدافع الإغراء، الله "سبحانه وتعالى" قدم إلينا بالوعيد، وما قدمه من الوعيد مخيف جداً، العاقبة السيئة جداً للإنسان عندما ينحرف عن نهج الله، عندما يقف في موقف الباطل، عندما يتجه في صف الباطل، عندما يوالي أهل الباطل، عندما يعصي الله "سبحانه وتعالى" بأيٍ من المعاصي، فهو يورط نفسه، يورط نفسه، يورط نفسه إلى هذا الهلاك الرهيب جداً، في الدنيا الشقاء، والعقوبات الإلهية المتنوعة؛ أما في الآخرة، وهو الأمر الرهيب جداً، فنار جهنم، وحميمها، عذابها الدائم الذي ليس فيه لحظة من الراحة أبداً، دائمٌ بلا انقطاع وأنت تحترق في سعير جهنم، في لهبها المتسعر دائماً، تشرب من حميمها، من صديدها النتن جداً، والقذر جداً، والحار جداً، هو شرابك، من ثيابها التي هي ثيابٌ نارية، تستمر دائماً في الاحتراق منها بكل أصناف العذاب فيها، مع الإهانة، والذل، والحسرة الشديدة، والندامة الشديدة، والعذاب النفسي الدائم.

ما نسمعه من هدى الله "سبحانه وتعالى"، وما نقرأه من هدى الله، عن وصف العذاب في جهنم، أمرٌ رهيبٌ جداً، فكيف عند المعاينة، كيف عند المشاهدة؟ والإنسان سيشاهد ويرى، عندما يرى منظرها الرهيب جداً، ويسمع أصواتها المرعبة جداً، كيف سيكون حاله، كيف سيكون وضعه، الشاعر قال:

سماعك بالنار يا ذا الحِجا شديدٌ شديدٌ شديدٌ شديدٌ

فكيف إذا أنت عاينتها، فكيف الوقوع، فكيف الخلود؟

المعاينة أمر رهيب جداً، ثم الوقوع، اللحظة التي تنقلك ملائكة الله، الزبانية، الشرطة الإلهية، رغماً عنك، تأخذك بالنواصي والأقدام، تنقلك إلى نار جهنم، وتلقي بكل إلقاءً إلى جهنم والعياذ بالله، كيف هو حالك؟ كيف هي مشاعرك؟ كيف حالة الرهبة والخوف التي تتملك قلبك ومشاعرك؟! لو بقي إمكانية لخروج قلبك من جسدك لخرج من شدة الرعب، من شدة الخوف، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر: الآية18]، تطلع القلوب حتى تصل إلى الحنجرة؛ من شدة الرعب والخوف، مع حسرة شديدة، مع ندامة شديدة؛ لأن الله هيأ لنا أسباب النجاة، أسباب الفلاح، أسباب الفوز، أن نقي أنفسنا من ذلك العذاب، وأن نصل إلى ذلك النعيم العظيم في الجنة، فنقي أنفسنا من عذاب النار، ونصل إلى نعيم الجنة، هذا شيءٌ عرضه الله لنا بتفاصيله، حتى بهذه التفاصيل: عن الفواكه، عن المساكن، عن... مختلف أنواع النعيم في الجنة، يعرضه لنا هنا؛ لنكون حريصين عليه، وليبين لنا أننا لن نخسر معه "سبحانه وتعالى"، لن نخسر معه.

مفتاح هذه النعم في الدنيا والآخرة هو القرآن، وابتدأت السورة بقوله "سبحانه وتعالى": {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن: 1-2]، إذا اتبعنا القرآن، إذا تمسكنا بالقرآن، إذا اهتدينا بالقرآن، إذا استجبنا الاستجابة الكاملة؛ لأن المشكلة هي هنا: في الاستجابة الجزئية، يختار كثيرٌ من المسلمين أن تكون استجابتهم جزئية، وفق مزاجهم الشخصي، وفق أهوائهم، الأشياء التي قد يرونها بسيطةً وسهلة، ويتصورون أن ليس فيها شيءٌ من المخاطر، يستجيبون لله فيها، فلا بأس بالصلاة، طالما ليس هناك أي مشاكل على الصلاة، الصيام، لا بأس، ولو حصل شيءٌ من الجوع والظمأ، طالما ليس فيه مشاكل ولا مخاطر، والبعض من العبادات والطقوس الروتينية التي يعتاد عليها الإنسان، ولكن وفق مزاجه، وفق هوى نفسه، ثم يترك مسؤوليات مهمة، أعمال أساسية في أن يقبل الله منك عملك، في أن تتحقق لك التقوى، ومنها:

الاعتصام بحبل الله جميعاً؛ لتجتمع كلمة المؤمنين والمؤمنات للاعتصام بحبل الله.
والتمسك بكتابه.
والعمل على إقامة القسط في هذه الحياة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}[النسا: من الآية135].
والجهاد في سبيل الله وفق مفهومه القرآني، الذي يحرر الأمة من التبعية لأعدائها، ومن سيطرة أعدائها، ويكفل لها أن تكون أمةً مستقلةً، تبني مسيرة حياتها على أساسٍ من هدي الله وتعليماته المباركة.
لأن مشكلتنا مع أعداء أمتنا، مع أعداء الإسلام والمسلمين، هي هذه المشكلة: هم يريدون التحكم بنا، والسيطرة علينا، والتدخل في كل شؤوننا، والإملاء علينا بسياساتهم، بتعليماتهم، بتوجيهاتهم.

والبعض من المسلمين يتجاوب معهم، إما رهبةً وخوفاً، ينسى عذاب الله، ويخاف من أشياء بسيطة تافهة من جانبهم، وإما جهلاً وغروراً، يتصور أنهم هم أهل الحضارة، وهم أهل الأفكار الصحيحة، وهم التقدميون، وهم من يمتلكون رؤيةً صحيحةً لهذه الحياة، فينبهر بهم بأكثر مما ينبهر من القرآن؛ لأنه يجهل بالقرآن، يجهل بهدى الله، لا يعرف كم عظمة هذا الهدى فيما فيه من توجيهات، وتعليمات، وبصائر، وحقائق، نبني عليها مسيرة حياتنا، وتستقيم بها حياتنا، هو يتصور أن ما لدى أولئك هو الذي تستقيم به حياتنا، ينسى أن هم أعداء، وينسى أنهم يسعون بكل جهد إلى السيطرة علينا، والاستعمار لنا، والاستعباد لنا، والامتهان لنا، والنهب لثرواتنا، والاستغلال لنا في ما يخدمهم هم، وفق مصالحهم هم، البعض لا يفهم، لا يعي، عنده نقص حاد في وعيه، وفي فهمه، لا يستفيد من الأحداث، لا يستفيد من الوقائع، لا يستفيد من الحقائق، هو ينبهر بدعاياتهم فقط، دعاياتهم، كفته دعاياتهم، ولم يعتبر بالواقع، لم يعتبر بالحقائق الماثلة بين أعين الجميع، الماثلة أمام أعين الجميع، الواضحة في الواقع.

هو لا ينظر إلى ممارساتهم الإجرامية، وإلى تاريخهم وسجلهم الإجرامي الأسود، وهم الذين ارتكبوا أبشع الجرائم، عندما تأتي إلى السجل الإجرامي لأمريكا (في العالم الإسلامي، وفي غير العالم الإسلامي) سجل إجرامي بشع جداً، كم قتلوا من الأبرياء، بكل أنواع الأسلحة، من القنابل الذرية والنووية، إلى مختلف أنواع السلاح، وما يفعلونه اليوم كيف هي ممارساتهم الإجرامية في عالمنا الإسلامي.

ولا ينظر إلى ما تفعله إسرائيل، إلى ممارساتها الإجرامية، إلى أن العدو الإسرائيلي هو كيانٌ نشأ أصلاً على الإغتصاب، على الظلم، وعلى القتل، وعلى الجريمة، ولا يمتلك أي حق في تواجده في أرض فلسطين.

هو لا ينظر إلى ما فعلته أوروبا، سواءً بريطانيا في سجلها الاستعماري، الإجرامي، الرهيب، الشنيع جداً، جرائم رهيبة جداً، في كل مستعمراتها التي استعمرتها، وفي كل سياساتها المستمرة عليها، ما فعلته فرنسا، سواءً في الجزائر، أو في غير الجزائر.

تقدم تلك الدول التي لها سجل إجرامي بشع جداً، ولم تعتذر عنه حتى، هي مصرةٌ عليه، تقدم نفسها بدعايات ينبهر بها السذج، والأغبياء، والمغفلون، من أبناء أمتنا، فتكون نظرتهم إلى أن ما يمكن أن نحصل عليه من أولئك، من أفكار، من نظريات، من رؤى، هي الصواب، وفيها مصلحتنا في هذه الحياة، ثم يبني على ذلك التبعية لهم، التأثر بهم، وليس فقط استيراد الفكرة، مع استيراد الفكرة التبعية على المستوى العملي، ارتباط عملي؛ لتنفيذ أجندتهم، للعمل وفق إملاءاتهم وتوجيهاتهم، وبديلاً عن ماذا؟ بديلاً عن القرآن، الذي هو كتابٌ للحياة، منهجٌ للحياة، نظامٌ للحياة، وصلاح حياتنا، واستقامة حياتنا، حتى تتحول نعم الله التي أنعم بها علينا إلى نعيم في الدنيا، ونصل إلى نعيم الله العظيم في الآخرة، هو القرآن، هو القرآن، {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه: 123-124].

ثم البعض الذين لهم موقف من جانب المسؤوليات: الجهاد في سبيل الله وفق مفهومه القرآني الصحيح، إقامة القسط، التعاون على البر والتقوى، اجتماع الكلمة على الحق، الولاية الإيمانية، الولاء بين المؤمنين أن يكون بعضهم أولياء بعض، متعاونون، كالجسد الواحد، كالبنيان المرصوص، هذه العناوين الكبرى التي شطبت عند الكثير من أبناء أمتنا، وأخرجت من حيز اهتمامهم الديني، ومن التزامهم الإيماني، وكأنها ليست من الإيمان في شيء، ولا من القرآن في شيء، ولا من الدين في شيء، ما الذي يصرفهم عنها؟ هل ينظرون إليها على أنها أشياء صعبة، أو أشياء خطيرة؟

الخطر هو في الإخلال بها، الأمة إذا تركت الجهاد في سبيل الله، في مفهومه التحرري الصحيح، وفق المنهجية التي رسمها القرآن، وليس وفق الأسلوب الداعشي، والأسلوب الآخر الذي في إطار التبعية لأعداء الله، لأعداء الأمة، لأعداء الإنسانية، إذا تركت ذلك ذلت، هانت، تحكم بها أعداؤها.

عندما فرطت الأمة في مبدأ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، تحولت إلى أضعف أمة؛ بينما الآخرون يبذلون كل جهد في أن يعدو ما استطاعوا من قوة، ويسطرون إلينا أفكاراً ساذجة، أفكاراً غبية، يستغبون أمتنا بها، يعلمون أمتنا أن الضعف حضارة، أن عدم الاهتمام ببناء أنفسنا لنكون أمةً قوية هو حضارة، هو رقي، هي مفاهيم راقية؛ بينما هم يحرصون على أن يكونوا في أقوى ما يستطيعون، أن يمتلكوا مختلف أنواع الأسلحة، من الترسانات النووية إلى أبسط سلاح.

فعلينا أن نعي جيداً أن استجابتنا لله "سبحانه وتعالى" هي في صالحنا، هي لاستقامة حياتنا في الدنيا، وأن ننعم بما أنعم الله به علينا في هذه الدنيا، وتصل بنا، تصل بنا إلى النعيم في الآخرة، وأن القرآن الكريم هو نور الله، يرشدنا لليسرى، هي الطريق الأيسر، الطريق التي تصل بك إلى الجنة هي الأيسر، لا تنظر إليها وكأنها الشاقة، المشقة والعناء والخزي والهوان: هو في الانحراف عن هدى الله "سبحانه وتعالى"؛ أما في إطار الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، والاتباع لكتابه، والاهتداء بهديه، فهنا العزة، هنا الكرامة، هنا القوة، هنا السعادة، هنا الطريق التي تحظى فيها برعايةٍ من الله "سبحانه وتعالى"، معونةٍ من الله "سبحانه وتعالى"، توفيقٍ من الله "سبحانه وتعالى"، البديل عن ذلك هو الذي يشقي الأمة.

مشكلة أمتنا اليوم في الاستجابة الجزئية، أن تتفصل عملية الاستجابة لله وفق المزاج الشخصي، وفق الهوى النفسي، وأن تترك الأشياء الأساسية من توجيهات الله ومن تعليماته.

من المهم في هذا الشهر المبارك (في شهر رمضان) التركيز على التأمل في الوعد والوعيد، الذي يجعل عند الإنسان قناعةً بأن يتجه وفق هذا الاتجاه الصحيح الذي يحقق لنفسه هذا الخير العظيم، ويقي به نفسه عذاب الله "سبحانه وتعالى"، هذا النعيم متاح أمام كلٍ منا، كل ذكرٍ وكل أنثى يمكنه أن يصل إلى هذا النعيم العظيم، إلى هذه الجنات، إلى عالم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، ومن أقصر الطرق وأسرعها وصولاً، عن طريق الجهاد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، ما الذي يمنعك عن الاستجابة، عدم الاستجابة هي الخسارة، الخسارة الرهيبة الفادحة، عندما يفوتك هذا النعيم، ليست المسألة فقط فوات هذا النعيم فحسب، ويقولون لك: [عد إلى منزلك، أنت لم تربح هذا النعيم، لا بديل عن هذا النعيم إلا النار، إلا ذلك العذاب، إما أن تعمل لتكون ممن يطوف في هذه الجنات، وينعم بها، وإما البديل أن تكون ممن يطوفون بين حميم جهنم وبين نيرانها المستعرة للأبد، بدون لحظة واحدة، ولا ثانية واحدة، من الراحة، فاختر لنفسك، وفكر بجدية، بجدية؛ لأن هذه أمور جادة، أمور جادة، ليست خيالاً، وليست أوهاماً، هي حقائق، يفصل بينك وبينها فاصلٌ قصيرٌ هو الفناء، تنتقل من خلاله وفيما بعده- وهو يمضي في فترة وجيزة- إلى هذا العالم.

نسأل الله أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

الأربعاء، 21 أبريل 2021

أبو الفضل يا روح ثورتنا

✍ أبو يحيى الجرموزي
ـــــ ابو الفضل الصماد يا روح ثورتنا وعبق حرّيتنا وإيمان جهادنا ورئيس قضيتنا وشهيد حقنا
ونحن نعيش ذكرى إستشهاد الرئيس الاب والقائد الانسان فخامة المؤمن التقي رئيس الجمهورية صالح علي الصماد نعيش ذكرى صموده وتضحياته وقوة عزمه وإرادته الصلبة في مواجهة المعتدين المنافقين والمنحطين أولياء الطاغوت من تكالبو وتحالفو على شعب الحكمة والإيمان في حربٌ صليبية وحصار خانق في كل مقومات حياة الانسان اليمني المتسلح دوماً بالصبر والجهاد والدفاع الحق عن دينه وكرامته وعرضه وأراضيه.
اليوم نعيش ذكرى رحيل عظيمٌ وقائد وربّان ماهر اجاد القيادة وتفنن في الثقافة والدين بلباقة وفصاحة مطلقة عربية قرآنية 
من غادرنا إلى الله شهيداً بعد ان أرسى بنا كيمنيين مجاهدين في بر أمان الثبات والصمود والجهاد المقاوم بالعزيمة واليد الضاربة طعناً في نحور الأعداء والمنافقين والمتسلقين والساعية لبناء يمن الغد المشرق جمالاً وحضارة تتجدد وعقيدة صادقة وهُويةٌ هي من ثمار المشروع القرآني الذي قضى نحبه الرئيس الصماد ومن قبله عظماء ومن بعدهم قادة وعظماء كانوا في أرقى درجات الجهاد مقاومين أئمة الكفر والنفاق والإلحاد.
كان سلام الله عليه أبى الفضل الصماد رجل المرحلة بلا منازع واثق الخطى مشى ملكاً زعيماً لا يُشق له غُبار ولم تلد النساء مثيله في القيادة والرئاسة وهو الذي غادر قصور السلطة والجاه إلى مواقع وثكنات الجهاد المقدّس في عموم جبهات القتال حاملاً بندقيته وفكره ومسيرته قبل جاهه ومنصبه كرئيسٍ لشعب لم يتذوّق طعم السعادة منذُ القدم فكان أن كان الصماد بثمابة الأمل والغد المشرق بشمس التطور والرقي الإنساني والأخلاقي وبدعائم القوة والجهاد دشن مشروعه التنموي والقرآني ( يدٌ تحمي ويدٌ تبني ) 
ومن مبدأ اليد التي تحمي صال وجال وتنقل في جبهات القتال ومواقع التدريب محفزاً محاضراً محرّضاَ وزائراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً أنار ثورة الشعب والأمة في وجه الطغاة والمستبدين.
لم يروق له عيش القصور وفخامتها لأنه ولد من رحم معاناة الشعب وألامه فكان ان فضّل العيش مع المجاهدين على قمم الجبال وسفوح والوديان في الهضاب وفي الصحاري وفي الشواطئ والبحار.
أعتادت القصور ان تمتلئ في المناسبات وفي الأعياد بالمهنئين والمباركين لفخامة ساكنيها
لكنّها ومنذُ الوهلة الأُولى لوصول الرئيس ابى الفضل الصماد إلى أروقتها ضلت فارغة تشكو فراغها إلى جدرانها
ولأن الصماد لم يعتدِ سكن القصور فقد عاد إلى عشه الدائم وحضنه الأبدي ميادين الجهاد وثغور الرباط مجاهداً مثله كمثل أصغر فرد في الجبهة وهو الذي قال كلمته المشهورة لمسح التراب من نعل المجاهدين أشرف من مناصب الدنيا بكلها , رفضنا البقاء في القصور كما هي عادة القادة والمسؤولين ينتظرون الزيارات لنزوركم أنتم يا أشرف الرجال وأنبلها كرماً وخُلقاً وهو شرف عظيم ان نعيش العيد معكم في الجبهات عيدنا جبهاتنا.

رئيسٌ طلّق كرسيّ السلطلة وعاش مع شعبه في الشوارع في المدن والأرياف
عاش متنقلاً هنا وهناك حيث لم يهدأ له بال ولا يقرّ له قرار إلاّ وهو يشارك الرجال زحوفاتهم وتضحياتهم في سبيل الله حتى دشّن من محافظة ذمار مرحلة الرد الإستراتيجي والعام الباليستي وتوعّد المعتدين بأن لا راحة لهم بعد اليوم إن أستمروا في حربهم وعنادهم وأذاقهم سُم زعاف الصواريخ الباليتسية وفي خظم الأحداث وتطورها في مختلف الجبهات بما فيها جبهة الساحل الغربي طار محلقاً إلى حيث يجب ان يكون الرجال مجاهدين مدافعين عن الساحل ومحافظة الحديدة التي تخضبت بدمه الطاهر شهيداً مع رفاقه ومرافقيه في عملية جوية لقوى العدوان السعودي الأمريكي أستهدفته في أحد شوارع محافظة الحديدة
ليرتقي بذلك إلى الله شهيداً بروحٍ وريحان وجنة نعيم
خاض البحر وخاض معركة الساحل الغربي فكان سبباً رئيسياً وله الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في ثبات وصمود مجاهدي الجيش واللجان الشعبية ومثلّ بدمه الطاهر للحديدة حصناً منيعاً في وجه المعتدين وبدّد احلام الغزاة وقطّع أوصالهم لتبقى الحديدة وكل اليمن صامدة ثابته حرّة لم تمسها أيادي الغدر والارتزاق. 
فسلام الله عليه ما طلعت الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار ..

الثلاثاء، 20 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 08 رمضان 1442هـ 20-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة في سورة الرحمن، وتحدَّثنا بالأمس حول بعضٍ مما ورد عن العذاب الشديد في جهنم والعياذ بالله، والتي هي خسارة رهيبة جداً لكل إنسانٍ يتورط تلك الورطة الرهيبة، فلا يشكر نعم الله في هذه الدنيا، ولا يستجيب لله، ولا يهتدي بهديه، ويتجه وفقاً لأهوائه ومزاجه الشخصي بعيداً عن تقوى الله سبحانه وتعالى، فيصل في عاقبة أمره إلى ذلك العذاب الأبدي والخسارة الرهيبة جداً: إلى نار جهنم والعياذ بالله.

الله سبحانه وتعالى ذكَّرنا بكل هذه التفاصيل ونحن في هذه الدنيا؛ لكي نحذر ولدينا الفرصة الكافية للحذر، ولأن نبني مسيرة حياتنا على أساسٍ صحيح.

الله جلَّ شأنه يقول في الآية المباركة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن: الآية46]، بعد ذلك العرض عن عذاب الله، وعن حال من يتورَّطون فيصلون إلى عذاب الله، يبين سبحانه وتعالى طريق النجاة، طريق الفوز، طريق السعادة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، طريق الفوز والنجاة والسلامة من عذاب الله، هو مجموعٌ بكله في هذه الفقرة من النص القرآني: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، فقرة جامعة، ونص جامع لكل أسباب النجاة، وللسبب الرئيسي للنجاة والفلاح.

في كثيرٍ من السور تأتي الآيات المباركة بمواصفات إيمانية معينة، وأعمال عبادية، ولكنه هنا يقدِّم ما يبنى عليه كل ذلك وما يجمع كل ذلك، أساس النجاة هو في هذا، أساس الفلاح هو هذا، أساس الفوز هو في هذا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، من هو مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، ومؤمنٌ بأنَّ هذه الحياة الأخرى آتيةٌ لا محالة، ومؤمنٌ بموقف الحساب والجزاء في يوم القيامة؛ فهو سيخاف، سيخاف ذلك المقام العظيم: المثول بين يدي الله سبحانه وتعالى، والوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب والجزاء، هذا سيدفعه هنا في الدنيا إلى أن يستقيم وفق هدي الله سبحانه وتعالى، وهذا سيحرره من أكبر عائقٍ يؤثِّر على الكثير من الناس، ويصدهم عن الاستجابة لله سبحانه وتعالى الاستجابة الكاملة: وهو الخوف من الآخرين.

من أكبر العوائق التي تؤثِّر على الكثير من الناس، فتصدهم عن الاستجابة لله سبحانه وتعالى في فرائض مهمة، في أعمال مهمة، فيما شرعه الله وفرضه من مسؤوليات مهمة، أساسية في دين الله، أساسية لتحقيق التقوى، أساسية لتحقيق الإيمان، أساسية للنجاة والفلاح، وذات أهمية كبيرة جداً في واقعنا في هذه الحياة، نحن بحاجة إليها لصلاح حياتنا، لاستقامة حياتنا، لأن نعيش في عزةٍ، وكرامةٍ، وحريةٍ، ولأن نقيم القسط في واقع حياتنا، ولأن نحقق العدل في مسيرة حياتنا، كل تلك المسؤوليات ذات الأهمية الكبيرة في واقع الحياة، والأهمية الكبيرة في الدين، أكبر عائقٍ للكثير من الناس للنهوض بها، والاستجابة لله فيها: هو الخوف، الخوف من الآخرين، الخوف من أعداء الله، الخوف من الجبابرة الطغاة الظالمين والمستكبرين، فيؤثِّر هذا الخوف على الكثير من الناس؛ فيعطِّلون مسؤوليات مهمة: مسؤولية الجهاد في سبيل الله بمفهومه القرآني الصحيح، مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه القرآني الصحيح، مسؤولية العمل على إقامة القسط، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}[النساء: من الآية135] في هذه الحياة، وهي مسؤولية مهمة وعظيمة، ومن أهم واجباتنا كأمةٍ مسلمة، مسؤوليات مهمة: التعاون على البر والتقوى، مسؤولية الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن نكون كمؤمنين ومؤمنات بعضهم أولياء بعض، تجتمع كلمتهم في موقف الحق، يتعاونون على البر والتقوى، الأخوة الإيمانية... مسؤوليات مهمة جداً.

الدافع للكثير من الناس في التهرب من هذه المسؤوليات، والنهوض بها: هو الخوف، الخوف من الآخرين، من الجبابرة، من الطغاة، من الظالمين، الخوف إما من سجونهم، الخوف- كذلك- من القتل، الخوف من القصف، الخوف مما قد يأتي مما هو متوقعٌ من جانبهم، نسبة الخائفين من المسلمين من أمريكا وإسرائيل كم ستطلع هذه النسبة؟ وأثر هذا الخوف عليهم في تنصلهم عن مسؤوليات وواجبات صريحة في القرآن الكريم، وردت بها آيات كثيرة في القرآن الكريم، كم ستطلع؟ كم يندفع البعض إلى شطب مسؤوليات مهمة من دين الله نتيجةً لهذا الخوف، ليس هناك ثقة بالله سبحانه وتعالى، وليس هناك هذا الإيمان باليوم الآخر إلى هذه الدرجة: التي يتحرر فيها الإنسان من أسر الخوف من الآخرين، ومن ضغط الخوف من الآخرين وما هو الذي بيد الآخرين أولئك؟ هل بيدهم شيءٌ كجهنم؟ هل بيدهم شيءٌ كالعذاب في جهنم؟ هل هناك شيءٌ مما هو متوقعٌ من جانبهم يساوي لحظةً واحدة في نار جهنم، في عذابها المستعر، في حميمها، في كل أصناف العذاب فيها، في الخلود الأبدي في عذابها؟

نحن بحاجة إلى أن نرسِّخ في أنفسنا الإيمان باليوم الآخر، فهو الذي سيحررنا من كل أشكال الخوف من الآخرين؛ وبالتالي فمن يخاف مقام ربه: هو سيتحرك بكل جدية، وبدون اكتراثٍ بالأعداء، للقيام بمسؤولياته وواجباته، ينطلق في ميادين الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى بكل عزة، بكل حرية، بكل كرامة، بكل إباء، واثقاً بالله سبحانه وتعالى، متوكلاً عليه، متحرراً من الخوف من الآخرين، ينطلق في النهوض بالمسؤوليات الأخرى كذلك في السعي مع إخوته المؤمنين والمؤمنات لإقامة القسط، لإقامة العدل، للاجتماع على كلمة الحق، للاعتصام بحبل الله جميعاً... وهكذا للتعاون على البر والتقوى، بدون اكتراث بأعداء الله وما بأيديهم.

من يخاف مقام ربه: هو الذي سيتمكن من تحقيق الاستجابة الكاملة في التزاماته الإيمانية والدينية، ولن يأتي إلى الكثير منها ليشطب عليها، ويتنصل عنها، ويتهرَّب منها؛ لأنه متحرر من هذا الضغط الذي يؤثِّر على الآخرين فيركعهم، ويجعلهم يتجهون بدلاً من الاستجابة لله، إلى شطب الكثير من المسؤوليات والأعمال العظيمة والمهمة جداً.

من يخاف مقام ربه: هو أيضاً من سيسيطر على أهوائه ورغباته، التي قد تؤثِّر عليه تجاه بعضٍ من المسؤوليات، والأمور، والالتزامات المهمة، ومن يخاف مقام ربه: هو الذي سيسيطر على أعصابه في حالات الغضب والانفعال، التي تؤثِّر على الكثير من الناس فلا يتقون الله، فيعملون ما يسبب لهم سخط الله سبحانه وتعالى، وهم يعيشون في تلك الحالات: حالات الغضب والانفعال.

فهي تشكِّل ضمانة لاستقامة الإنسان، واستجابته المتكاملة لله سبحانه وتعالى، وتحقيق التقوى: أن يخاف مقام ربه، هذا يفيده أمام المخاوف، أمام الأهواء والرغبات، وأيضاً أمام حالات الانفعال والغضب، سيتمكن من خلال ذلك أن يسيطر على نفسه، سيتجه في مجال الأعمال ولن تؤثر عليه لا مخاوفها ولا صعوبتها، إذا وجد فيها شيئاً من الصعوبة، فهو يدرك أنَّ كل المخاطر وكل الصعوبات لا تساوي لحظةً واحدة فيما يقابلها من صعوبات ومخاوف في نار جهنم وعذاب والعياذ بالله، فيستهين بكل شيءٍ في مقابل أن يعمل بما فيه نجاته وسلامته.

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، يتحدث عما أعدَّ الله له في الآخرة، هناك عالم الجنة، عالمٌ متسعٌ جداً، الله جلَّ شأنه قال عن سعة الجنة، قال في القرآن الكريم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: الآية133]، سعة هائلة جداً، سعة مدهشة، ومسافات ومساحات كبيرة جداً، عالمٌ في غاية الاتساع، {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، مثل عالمنا هذا في عرضها، مثل السماوات والأرض، سعة كبيرة جداً، وعالم الجنة بكله هي كاسمها جنة، لا توجد مساحات فيها مساحات مثلاً كبيرة- كما في الدنيا- هي مساحات صحراوية، أو جبال صخرية، أو أماكن ليس فيها نباتات ولا أشجار، عالم الجنة عالمٌ مختلف. مع سعتها الهائلة والمدهشة والمذهلة، هي كلها مغطاةٌ بالنباتات والأنهار، وعالمٌ كله ليس فيه ولا مساحة واحدة تقول عنها: [مساحة صحراوية، أو مساحة جافة، أو مساحة لا يمكن أن تهنأ بالنظر إليها، أو الحياة فيها]، فذلك العالم المتسع جداً جداً جداً سكَّانه قليل؛ لأن الأغلبية متجهة إلى جهنم والعياذ بالله، أغلبية البشر، هذا أمر مخيف، وأمر مؤسف، وأمر رهيب جداً، مقلق، يقلق الإنسان أن يكون من تلك الأغلبية الساحقة التي تتجه إلى جهنم، هناك الازدحام في جهنم، الكثافة السكانية في جهنم، {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}[الأعراف: من الآية18]، يقول الله سبحانه وتعالى عندما حذَّر إبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: الآية85].

أمَّا في الجنة فسعة هائلة جداً، عالمٌ في غاية الاتساع، وقلة من السكان، داخل هذا العالم العجيب المتسع، يعطي الله لكلٍّ منهم، لكلٍّ من سكان هذه الجنة، لكلٍّ من أصحاب الجنة جنات، جنات خاصة به، وهناك عالم الجنة بكله فيه الفواكه، فيه الأنهار، مثلما قال الله سبحانه وتعالى عن عالم الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}[محمد: من الآية15]، هذا وصفها العام، الوصف العام لعالم الجنة: فيها من كل الثمرات، حتى فيما هو خارج إطار جناتك، داخل هذه الجنة، داخل ذلك العالم المتسع، المنتزهات، الأماكن العامة فيها من الثمرات بمختلف أنواعها، وفيها هذه الأنهار العجيبة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، ماء نقي لم يتغير لا طعمه، ليس فيه أي شوائب، في غاية النقاء، والنظافة، والعذوبة، ومستساغ، {غَيْرِ آسِنٍ}، لا يتغير أبداً، لا في طعمه، لا في لونه، لا في مذاقه، لا في رائحته.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}، أنهارٌ من لبن، لبن متدفق بشكل أنهار بيضاء في عالم الجنة، وأنت تتنقل، وأنت تذهب للتنزه والتجول في أنحائها، فتجد أمامك أنهار اللبن، وتشرب منها، وفي جو ليس ساخناً، ليس حاراً، تقول: [لبن حار]، لا، على أرقى مستوى في مذاقه، ولا يتغير أبداً في طعمه.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، بشكل أنهار في عالم الجنة، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، حتى العسل، أنهار من العسل المتدفق.

فعندما تتجول، عندما تتنزه، عندما تتنقل في أنحائها للتفرج، والراحة، والابتهاج بمناظرها الجميلة والخلَّابة، أمامك المأكولات من ثمارها، من مختلف أثمارها، وأمامك هذه الأنهار التي فيها مختلف الأشربة... وهكذا، وغير ذلك كثير، وغير ذلك كثير، كم في القرآن الكريم؟ ولكن هناك ما يخصك أيضاً: أربع جنات، يأتي الوصف أولاً لجنتين منها، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 46-47]، نعمه سبحانه وتعالى عندما أنعم عليك في هذه الحياة الأولى، إذا شكرت الله عليها؛ تصل بك إلى نعمه العظيمة جداً في عالم الآخرة في الجنة.

{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن: الآية48]، هاتان الجنتان فيهما مختلف أصناف الفواكه والأشجار، كل جنةٍ منهما جنة واسعة جداً، مزرعة واسعة جداً جداً جداً، إلى درجة أنها تتسع لكل أصناف الفواكه، ولكل أصناف الأشجار، من كل فاكهة تتوفر فيها، وكل الأشجار تتوفر فيها، والأشجار فيها (أشجار الفواكه) مورقة مونقة، لم تكن على حال قد أثَّر عليها عطش، أو مناخ، أو جو، فتتساقط أوراقها وتصبح أشجاراً بدون أوراق، أو أن فيها أصناف محدودة، لا، هي في نفسها كأشجار مورقة، مزهرة، مثمرة، مونقة، خضراء، يانعة، وليست لا مهتلة الأوراق، وليست قليلةً في أصنافها من الفواكه والأشجار.

{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، وأيضاً مرتَّبةً ترتيباً بديعاً، بجمالٍ فائق، وترتيبٍ إلهي فريد، ليست بشكل غابة، أو مزرعة مزروعة بشكلٍ عشوائي؛ إنما هي مرتَّبة بشكلٍ جماليٍ وفنيٍ بديعٍ جداً، مبهرٍ، ومنوعٍ، وبشكلٍ فنيٍ راقٍ جداً جداً، ومبهجٍ وبديع.

الآن في عالم الدنيا بعض الحدائق تحتاج إلى خبراء ومختصين لتشذيبها، وتنظيمها، وترتيبها، وترتيب نسق الزراعة فيها، وتوزيع الأشجار بشكلٍ معين، وقصها، وتنظيمها بشكلٍ معين، أمَّا ذلك الترتيب فهو ترتيبٌ من الله سبحانه وتعالى الكريم، بديع السماوات والأرض، المتقن جلَّ شأنه، أحكم الحاكمين، على أرقى مستوى في تنظيمها وتهذيبها وتوزيعها.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية49]، نعم عجيبة جداً، {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن: الآية50]، في كلٍّ من تلك الجنتين المياه متوفرة جداً، لن تحتاج إلى مضخة، في الدنيا إذا اقتنيت مزرعة، عليك أن تحل مشكلة المياه، وأنت بحاجة إلى مضخة، وقد تحتاج إلى الاشتراك مع آخرين في مضخة معينة، وتحصل على حصة من الماء، وتحتاج إلى عناء، ومتطلبات، واحتياجات... برنامج طويل عريض، أمَّا هناك فالماء متوفر ويجري، يجري على وجه تلك الجنة، ووفرته تلك، مع منظره البديع الجميل، الأشجار والفواكه المثمرة، المورقة، المونقة الجميلة، الرائعة، والمياه تجري بشكلٍ مستمرٍ ومتدفقٍ من تحتها، منظر رائع وبهيج وجميل جداً.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية51]، نعم عجيبة جداً، {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن: الآية52]، كل أصناف وأنواع الفواكه تتوفر، في كلٍ من تلك الجنتين، لا فاكهة إلا ومنها موجودٌ فيما هو موجودٌ في جنتك تلك، من كل فاكهة بلا استثناء، وأكثر من صنف، زوجان، أكثر من صنفٍ واحد، وتتوفر تلك الفواكه، وهناك متسع لها، ليست مزرعة صغيرة متضايقة، والأشجار فيها مزدحمة، لا تدخل فيها إلا بصعوبة، وتخرج بصعوبة، هناك اتساع هائل، مدهش جداً، وسعة وكثرة في هذه الأشجار، ووفرة إلى حدٍ عجيب، {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}، ومن فواكه الجنة، من فواكه الجنة، على أرقى مستوى، في شكلها، في طعمها، في مذاقها، في رائحتها، في منظرها، جمعت بين اللذة والجمال.

{مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (53) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (54) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}[الرحمن: 53-56]، في نفس حدائق الجنة، في نفس هذه المزارع، هذه المزارع الواسعة جداً، المزرعة تكون وسيعة جداً، واسعة للغاية، ومع ذلك المنظر البهيج للأشجار، والمياه تجري، فيها أماكن للجلوس والتنعم والراحة والاستمتاع، أماكن في داخل تلك الجنات نفسها، متكئات وأماكن معدة ومهيأة للجلوس عليها، بين تلك المزارع نفسها، تجلس ولديك متكأ معد إعداد رائع جداً، حتى أن فرشه من الحرير، مالا يستخدم في هذه الدنيا إلا للملوك ولكبار الأغنياء في هذا العالم، أما هناك فأنت كملك، ومن حرير الجنة، لا يساويه أي حرير في الدنيا، فيما هو عليه من الجمال والروعة، وناعم جداً، وتجلس في تلك المتكآت، متكأ مهيأ معد، بين تلك الأجواء الرائعة جداً، بين تلك الأشجار والفواكه الجميلة جداً، وهو مهيأ بشكلٍ فنيٍ رائعٍ جداً، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ}، متكئين وهم في غاية الراحة والنعم، ليس هناك ما ينغص عليهم تلك الأجواء.

{بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}، والثمار، ثمار الجنتين قريبة من متناولهم، يعد له الأماكن المناسبة التي يجلس فيها، ويمكنه اقتطاف تلك الثمار وتلك الفواكه، وتناولها وهي طازجة، وهو في ذلك الجو المريح والمبهج، يستمتع بأكل تلك الفواكه، وبالنظر إلى تلك المناظر الرائعة والخلابة والجميلة جداً.

من ثمار الجنة، من ثمار الجنة، ليست كفواكه الدنيا، فواكه الجنة لا تحتاج إلى تعب عليها، لا تحتاج إلى أن تحافظ عليها من الآفات والحشرات، بالمكافحات والمبيدات، لا تحتاج إلى حراسة، لا تحتاج إلى تعب، لا تحتاج إلى أي عناء، سليمة، وراقية جداً، ونظيفة، وسليمة من كل الآفات، لن تتسلط عليها حشرات معينة، أو ديدان معينة، أو أشياء معينة، لم تتأثر بأنه لحق بها ظمأ أو عطش؛ لأنه لا يلحق بها عطش أبداً، المياه متوفرة وتجري من تحتها باستمرار، في الدنيا قد تتأثر مزرعتك بفعل العطش، بقلة الماء، يؤثر هذا حتى على ثمارها؛ أما هناك فلا، لا تأثيرات بسبب عطش؛ لأنه لا يوجد عطش، ولا تأثيرات من حشرات، ولا آفات، ولا أي شيء أبداً، ولا تحتاج إلى أي تعب، خالصة من كل المنغصات والمتاعب، هذا لا يوجد في الدنيا لأي أحد، لا لملك، ولا لتاجر، ولا لأي أحد، أن يكون له نعيمٌ بهذا المستوى، نعيمٌ عجيب.

{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن: من الآية54]، قريب في متناولك، يمكنك أن تقتطف تلك الثمار وتأكل منها، وأنت في تلك الأجواء المبهجة والسعيدة.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: 55-56]، فيهن حور جميلات جداً، في غاية الجمال والروعة، ومع جمالهن الفائق جداً، يمتزن بميزةٍ عظيمةٍ ومهمة، هي أنها ستكون عاشقةً لك، لا تتطلع إلى أحدٍ غيرك أبداً، شغوفةً بك أنت، ومحبة لك أنت، ولا يهمها إلا أنت، ولا تركز إلا عليك، وهذا أمر مهم جداً، ذو أهمية كبيرة بالنسبة للإنسان، عندما يكون له زوجة بارعة الجمال، فائقة الجمال، ويكون مطمئناً أنها لا تتطلع إلى غيره، ولا تفكر في غيره، ولا تحاول أن تبرز جمالها أمام الآخرين، ليعرفوا بأنها جميلة، فهي إنما تقصُرُ طرفها ونظرها وتركيزها عليه فقط، هذا أمر مريح جداً، مع جمالها الفائق.

{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ}، لم يدخل بهن قبلهم إنسٌ، {وَلَا جَانٌّ} بالنسبة للحوريات الجنيات اللواتي للجن، للإنس حور، وللجن حورٍ جنيات تناسبهم.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: 57-58]، في جمالهن البارع جداً، وفي تقاسيم الوجه، وفي جمال الوجه، تأتي هذه الألوان، اللون الأصلي واللون العام هو البياض، هو البياض، قال عنهن في آيةٍ أخرى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات: الآية49]، ويصفهن أيضاً في آياتٍ أخرى بشبههن في بياضهن باللؤلؤ، اللؤلؤ في بياضه الناصع النقي، فهو اللون العام، ولكن بالنسبة للوجه تأتي في تقاسيم الوجه هذه الألوان الإضافية على بياض الوجه، تأتي أيضاً الحمرة، التي تشبه حمرة الياقوت {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ}، حمرة وردية صافية، جميلة جداً على الوجنة، على وجنة الوجه، في مكان معين من الوجه، وتأتي أيضاً يأتي اللون الآخر المرجاني، عندما قال: {وَالْمَرْجَانُ}، أيضاً ضمن تقاسيم الوجه، وكأنه تحت العيون، وفي أصل خلقها، لا تحتاج إلى مكياج، ولا تحتاج إلى وسائل للتجميل، هذه الألوان، البياض الناصع جداً، الذي تكسوه حمرةٌ ورديةٌ، كحمرة الياقوت، ولونٌ مرجانيٌ قد يكون فيما تحت العين، من أصل خلقتها، وليس باستخدام وسيلة من وسائل التجميل.

في هذه الدنيا وبعد دهر طويل وصل البشر إلى استخدام المكياج على أساس التطور، وبدأوا باستخدامه، وتستخدمه النساء؛ من أجل أن تكسب نفسها المزيد من الجمال واللون المناسب؛ أما هناك فمن أصل الخلقة، من أصل خلقتها، وليس فقط إنما تستخدمه من وسائل تجميل معينة، فإذا ذهبت لتغسل وجهها، تغير كل شيء، جمال فائق جداً، جمال على مستوى راقٍ جداً.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[الرحمن: 59-60]، لأنهم أحسنوا في هذه الدنيا، وشكروا نعم الله "سبحانه وتعالى"، واستجابوا له الاستجابة الكاملة، فوصلوا إلى هذا النعيم، في نهاية المطاف تكون أحسنت لنفسك، عندما تحسن في هذه الدنيا، إحسانك هو لك أنت، هذه ثمرته، هذه نتيجته لك أنت، أرقى مستوى من النعيم، وتعيش في هذا النعيم بدون أي منغصات، لا هم، ولا مرض، في الدنيا قد يمتلك البعض ثروة معينة، إمكانيات معينة، فتأتي له منغصات أخرى، لا مشاكل، ولا هرم، مع طول الوقت، هو نعيمٌ للأبد، ليس نعيماً محدوداً لفترة مؤقتة، فقط، بل هو نعيمٌ أبديٌ، لا يأتي ما ينغصه، ولا مشاكل، ولا هرم، لا تقول أنك ستعاني من الشيخوخة، ومن أن تتحول إلى طاعنٍ في السن، ويؤثر عليك طول الوقت والزمان،لا، تبقى دائماً في صحة، وعافية، ونشاط، وشباب دائم؛ بدون هرم، ولا موت، ولا هم، ولا حزن، ليس هناك ما يحزنك، وليس هناك ما ينغصك، وليس هناك ما يؤذيك، وليس هناك ما يزعجك، ولن يأتي أحد لينازعك على مزرعتك تلك، على جنتك تلك، على بستانك ذلك، على حديقتك تلك، ولن يأتي لك أي همٍ ولا مشاكل، ومع ذلك التكريم، مع ذلك النعيم التكريم، أنت هناك شخصٌ مكرمٌ محترم، الملائكة تزورك، تتفقد أحوالك، ملائكة الله "سبحانه وتعالى"، أنت هناك تلتقي بالأنبياء والصديقين.

أنت هناك أيضاً تحظى بالاحترام والتكريم، وتشعر أنك في إطار رضوان الله، أن ذلك النعيم إنما هو من رضى الله عنك، وبالتالي تشعر بالارتياح الكبير، وتكون راضٍ عن نفسك، وعن عملك، وعن جهدك، وعمَّا أنت فيه، وعن ربك الله "سبحانه وتعالى".

كل أجواء التكريم حاضرة، هناك من يخدمك، الخدم، وهناك فيما أنت فيه من النعيم أيضاً كله فيه تكريم، حتى الطعام يقدم إليك في صحاف الذهب، ولا أي ملك في الدنيا، ولا أي تاجر في الدنيا، من كل ملوكها، ومن كل أغنيائها وتجارها، يمكن أن يحصل على أقل مستوى مما هو لأقل الناس في الجنة من النعم، أبداً، وهذا عرضٌ متاحٌ لك، هذا يعرضه الله، كل هذه التفاصيل يقدمها لنا هو يعرضها علينا: هل تريدون هذا؟ هل لكم في هذا النعيم؟ ما الذي يمنعك عن الاستجابة؟ ألا ينبغي أن تسارع؟ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران: من الآية133]، هل هناك أحدٍ لديه مثل هذا العرض، حتى يؤثر عليك فتستجيب له ولا تستجيب لله "سبحانه وتعالى"، يعرض عليك هذا النعيم في حياةٍ أبدية لا نهاية لها، للدائم، للأبد، ويتجدد فيها النعيم، ويأتي فيها أشياء كثيرة من فضل الله الواسع، وليس فيها ملل، {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف: من الآية108]، حياة متجددة، ويتجدد فيها النعيم أفنان، وأصناف، وأنواع، هذا يعرضه الله علينا، ما الذي يمنعك عن الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"؟ وليس هناك أي هموم، ولا أي غموم، ولا أي مشاكل، لا تسمع فيها لاغية، لا تسمع فيها حتى كلمة واحدة تجرح مشاعرك، أو تزعجك، أو تؤذيك، ليس هناك أي شيء يمكن أن ينغص عليك ذلك النعيم، هذا كله متاح، هذا مقدم أصلاً ومعروضٌ علينا، الله يدعونا إلى هذا النعيم، إلى هذه الحياة السعيدة، أليس من الخسران الرهيب ألَّا يستجيب الإنسان؟ بل أن تكون خسارته أكثر من ذلك، فوات هذا النعيم والدخول في النار، أين الأفضل لك: أن تطوف بين هذه الجنات، بين هذا النعيم، أو أن تطوف بين نيران جهنم وبين حميمها؟ اختر لنفسك.

نحن في هذا الشهر الكريم في فرصة كبيرة جداً لأن نتأمل في آيات الله "سبحانه وتعالى" وفي وعده ووعيده بما يرسخ لدينا التقوى.

نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...