الخميس، 22 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 09 رمضان 1442هـ 21-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في سياق الحديث على ضوء الآيات المباركة من سورة الرحمن، كنا نستعرض بالأمس ما وصف الله "سبحانه وتعالى" من نعيم الجنة، وفيما تحدثنا عنه بالأمس من أنَّ الجنة عالمٌ واسعٌ جداً، كما قال الله "سبحانه وتعالى" عنها: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران: من الآية133]، فإنَّ الله أعدَّ لعباده المؤمنين، المتقين، المستجيبين له، المتمسِّكين بهديه، لمن خاف مقام ربه جنتان، ويأتي أيضاً إضافةً إلى ذلك قوله "سبحانه وتعالى": {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}[الرحمن: من الآية62]، فيكون المجموع أربع جنات خاصة بكل مؤمن، وقد تكون متفاوتة في مستوى سعتها، جمالها، ما أعدَّ الله فيها بحسب المراتب الإيمانية؛ لأن الله قال عن عباده المؤمنين: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}[آل عمران: من الآية163]، وقال "جلَّ شأنه": {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء: من الآية21]، يعود الأمر إلى مستوى الإيمان، مستوى الالتزام والتقوى، مستوى الطاعة لله "سبحانه وتعالى" والاستجابة له.

فعندما تأملنا في الآيات المباركة بالأمس في محاضرة الأمس، وجدنا هذا النعيم العظيم العجيب، ففي الجنة بكلها يتوفر كل أصناف النعيم، من كل الثمرات، من كل الفواكه، الأنهار العجيبة من الماء غير الآسن، من اللبن الذي لم يتغير ولا يتغير طعمه، أنهارٌ من الخمر لذةٍ للشاربين، أنهار من العسل المصفى، نعيم واسع جداً، ومناظر بهيجة، وأشجار عالية، وظل، وليس هناك ما ينغِّص هذا النعيم، نجد أيضاً فيما سنقرأه من الآيات المباركة في محاضرة اليوم النعيم العجيب جداً.

يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}، يعني: إضافةً إلى الجنتين اللواتي قد مرَّ الحديث عنهن: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن: الآية50]، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}[الرحمن: من الآية54]، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}[الرحمن: من الآية56]... إلى آخر ما مرَّ، نجد أنَّ الله أضاف إلى ذلك: الحديث عن جنتين أيضاً، تضاف إلى تلك الجنتين، فيكون المجموع- كما قلنا- أربع جنات، كل جنة منها يتوفر فيها أصناف الفواكه، والأشجار من الزينة والجمال، والمنظر البهيج جداً إضافةً إلى ذلك: ما مرَّ من النعيم.

{وَمِنْ دُونِهِمَا}، يعني: الأقرب إلى مقرك الرئيسي، الأقرب إلى قصرك، فهناك أربع جنات قد تكون- والله أعلم- متواصلة وممتدة، فالأقرب إلى قصرك، وإلى مقرك الرئيسي {جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، تجاه هذا النعيم العجيب الذي أعدَّه الله لكم.

{مُدْهَامَّتَانِ}[الرحمن: الآية64]، هاتين الجنتين خضرتهما خالصةٌ جداً، وشديدة الخضرة، كل جنةٍ منها شديدة الخضرة، إلى درجة أن يكون لونها أدهم، يعني: أخضر غامق، شديد الخضرة جداً، فمنظره أجمل؛ لشدة خضرته، وخلوص خضرته، وما فيه من الزينة والجمال، حتى يكاد أن يكون من شدة خضرته مائلاً إلى شيءٍ من السواد، لكنه خضرة غامقة جداً، فمنظره بهيجٌ وجميلٌ جداً، في غاية الروعة والجمال، حينما تطل من قصرك ومن نوافذ قصرك عليه؛ تبتهج بذلك المنظر البهيج الرائع جداً.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[الرحمن: 65-66]، في كل جنةٍ من هاتين الجنتين عين ماء نضَّاخة، وهي بشكل نافورة تضخ الماء نحو الأعلى، وبغزارةٍ كبيرة، ليست ضعيفة بالكاد تكاد تسكب، لا، عين فوارة ونضَّاخة، تضخ الماء إلى الأعلى على شكل نافورة، فتشكل منظراً جميلاً وبهيجاً، وفي نفس الوقت مستمر، لا ينقطع هذا الماء الذي يطلع إلى الأعلى على نحو نافورة، وبشكل جميل جداً، ويجري من خلاله الماء لهذه الجنتين، لكلٍّ منهما، الآن النوافير في الحدائق وعند القصور مما يعتمده البشر كمنظر جميل وجو منعش.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن: 67-68]، في كلٍّ من هاتين الجنتين تتوفر الفواكه، وأشجار الزينة، والفواكه بمختلف أصنافها تشكِّل منظراً جميلاً بتنوعها، بتنوع فواكهها وأشكالها، تشكِّل منظراً جميلاً، إذا نظرت أحياناً إلى سوق الفواكه وهي منظَّمة، وترى منظرها بهيجاً وجميلاً ورائعاً، فكيف هو منظر الجنة، إضافةً إلى أنها ضمن ترتيب وتنظيم من الله "سبحانه وتعالى"، بديع السماوات والأرض، الذي يجعلها وفق ترتيبٍ عجيبٍ جداً، وتهيئةٍ عجيبة، وتركيبةٍ عجيبةٍ جداً، فريدة، وذات منظر جميل للغاية، يتوفر فيها النخل والرمان، يتوفر فيها من مختلف أصناف الفواكه، ويتوفر فيها من هذه الأشجار المعروفة، المعروفة لدى الكثير من الناس؛ لأن الكثير من الفواكه قد لا تُعرف هنا أو هناك في منطقة أو أخرى، ولكن قد تكون هذه من أكثر الأشجار معرفةً، من أكثر الفواكه شهرةً ومعرفةً، إضافةً إلى أنها من أروع الفواكه، ومن أحسن الفواكه، ومن أجمال الأشجار في نفس الوقت، النخيل إذا كان مرتوي ومستقيم، يكون منظره جميلٌ جداً، الرمان- كذلك- إذا كان روياً، وبأزهاره، وبثماره، يكون منظره جميلاً جداً؛ وبالتالي تتوفر هذه الأشجار، ومنها الأشجار ذات الطابع الجمالي، وتكون هي الأقرب إلى مقرك الرئيسي وإلى قصرك.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية69]، فواكه الجنة وأشجارها لا تتأثر بأي عوامل سلبية، لا عوامل مناخية، ولا غير مناخية، ولا من عطش، لا يأتي لها عطش، الماء متوفرٌ بشكلٍ مستمرٍ وبدون انقطاع، وبكل غزارة، الجو نفسه جوٌ يبقى معتدلاً على الدوام، ليس هناك بردٌ قارس، ولا حرارةٌ شديدة، وليس هناك آفات ولا أمراض ولا أي عوامل مؤثرة سلباً تعتري هذه الأشجار، وهذه النباتات، ولا تحتاج إلى أي عناء، لا إلى حراثة، ولا إلى سقي، ولا إلى رعاية، ولا إلى حراسة وانتباه من اللصوص... ولا إلى غير ذلك.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ}[الرحمن: 69-70]، يعني: في هاتين الجنتين، {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}[الرحمن: من الآية70]، حورٌ من الحور العين، متواجدات في هاتين الجنتين، لهن هذه المواصفات الممتازة جداً: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} خيراتٌ في أخلاقهن، أخلاق كلها من خير الأخلاق، من مكارم الأخلاق، تعاملك بأحسن معاملة، أخلاقها راقيةٌ جداً، ليس فيها أي خُلُق من الأخلاق المذمومة، أو من الأخلاق غير المرغوبة، كل الأخلاق الطيبة، والأخلاق المحترمة، والصفات الحميدة تتوفر فيها، {حِسَانٌ}: في خَلقهن، في جمالهن على مستوى فائق وبارع جداً من الحسن والجمال، فيجتمع لهن حسن الخَلق، وحسن الخُلق، في أخلاقهن، وفي خلقهن، وجمالهن، وشكلهن، على مستوى رائع جداً من الجمال، وهنَّ في هاتين الجنتين، يعني: معك في كل جنةٍ منهما من هذه الحور العين.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ}[الرحمن: 71-72]، والحور هو وصفٌ لعيونهن، ومن أجمل ما في الحور العين في الجنة: هو جمال عيونهن؛ لأنه من أروع الجمال: جمال العيون، جمال بارز، فإضافةً إلى جمالهن الكامل، حيث لا يوجد فيهنَّ أي نقصٍ، أو أي وصفٍ غير مناسب، جمال كامل، ولكن يمتاز هذا الجمال أيضاً بجمال بارز في جمال عيونهن، فسعة عيونهن بالقدر المناسب، الخلوص في البياض في داخل العين، وفي السواد في داخل العين، وكلما يتعلق بجمال العين موجودٌ فيهن، فنظراتها إليك ستكون نظرات جذَّابة بجمال باهر، وجمال خارق.

{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن: الآية72]، هنَّ منتظرات في داخل الخيام، يتوفر في هاتين الجنتين خيام، خيام رائعة جداً، ليست من الطرابيل، ليست من العشش، ليست من أقمشة مهترئة، لا، من خيام الجنة، من خيام الجنة، في بعض الروايات أنها معدَّةٌ من اللؤلؤ، من اللؤلؤ الرطب، خيام من مواد مصنوعة من داخل الجنة، على درجة عالية جداً من الروعة والمتانة والجمال، وفيها أيضاً مأخوذٌ بعين الاعتبار جمالها، فعندما تذهب إلى جنة من هذه الجنات، من جناتك الخاصة، وهي متسعةٌ جداً، تتجول، وتتنزه، وترتاح، ففيها أماكن معدَّة للراحة، وفيها هذه الخيام، وفي هذه الخيام هذه الحور، وهي تنتظر مجيئك، هي لا تخرج من هذه الخيمة وتغيب أكثر الوقت، هي في كل الأحوال محبةٌ لك، عاشقةٌ لك، شغوفةٌ بك، وهي دائماً في انتظارك بكل محبةٍ، وبكل شوقٍ، وبكل عشق، {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}، وأنت تتجول يمكنك أن تذهب إلى خيمتك الرائعة جداً، وهي بانتظارك في تلك الخيمة.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ}[الرحمن: 73-74]، لم يدخل بالحوريات الإنسيات {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: من الآية74]، ولم يدخل بالحوريات الجنيات اللواتي للجن جنٌ قبلهم.

فنجد أنها تتوفر كل أسباب وعوامل الراحة التي يرتاح بها الإنسان، تتوفر هناك، كل أصناف النعيم يتوفر هناك، المساكن على أرقى مستوى، المأكولات، المناظر، وهكذا الحور العين.

فيما يتعلق بالنساء المؤمنات، يحصل أحياناً تساؤل: وأين هو مكانهن؟ وأين هو دورهن؟ أين هو نعيمهن؟ ماذا سيكون عليه حالهن؟ بالتأكيد بالتأكيد أنَّ المرأة المؤمنة التي عملت بطاعة الله، واستقامت على منهج الله، هي من الحور العين في الجنة، الله يهبها هذا الجمال، وينشئها في النشأة الآخرة على هذا المستوى من الروعة والجمال، وتكون حوراء، إذا كان زوجها في الجنة من أهل الجنة تكون معه، وتكون حوراء معه في الجنة، يهبها الله هذا الجمال، وهناك لن تحتاج إلى أيٍ من وسائل التجميل في خلقها، وفي اعدادها، وفي نشأتها الأخرى يكسبها الله ويصنعها على هذا النحو من الجمال، كبقية الحور العين في الجنة، ولن يضيع عملها، وسعيها، وإيمانها، وتقواها في هذه الحياة.

في الأساس نجد أنَّ الله "سبحانه وتعالى" يتمنن في القرآن الكريم على عباده المؤمنين بأنه خلق وعلى البشر عامةً {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}[الروم: من الآية21]، يعني: باعتبارها كائن بشري، فهذا من نعمة الله "سبحانه وتعالى" ومن الأُنس، فهنَّ لا يغبنَّ عن هذا النعيم، المرأة المؤمنة إنما هي حوراء في الجنة، وفي نشأتها الأخرى يمنحها الله كل هذا الجمال، وكل هذه الروعة، وتعيش في نعيمٍ مع زوجها في الجنة، كحوراء لها هذا الجمال، وهذه الروعة، وتتنعم هي وزوجها في الجنة، والله "سبحانه وتعالى" وعد بذلك في آياتٍ قرآنية، منها: في دعاء الملائكة للمؤمنين: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}[غافر: من الآية8]، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}[غافر: من الآية8]، وآيات كثيرة تتحدث عن ذلك، فلا يعني ذلك أنَّ المرأة المؤمنة ستكون لا قيمة لها، ولا أهمية لها، ولا مستقبل لها.

أختي المؤمنة: هذا هو مستقبلك في الآخرة، هذا هو مستقبلك في الجنة، بإيمانك، بعفتك وأنت كنت تلتزمين العفة، والتقوى، وتستجيبين لله، وتقومين بدورك في هذه الحياة بشكلٍ صحيحٍ، وفق هدي الله "سبحانه وتعالى" وتعليماته، فمستقبلك في الجنة: هو أن يهبك الله هذا الجمال، وهذا النعيم، وهذه السعادة في عالم الآخرة في الجنة، وهذا ما أكَّد عليه القرآن الكريم في وعد الله "سبحانه وتعالى": {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}[النحل: من الآية97]، وعد الله الجميع: الذكر والأنثى بالأجر العظيم، والفضل العظيم.

على مستوى الأسرة الواحدة، إذا كانت أسرةً مؤمنةً، حياتها قائمةً على أساس التقوى، والإيمان، والاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، والتمسك بهديه، يلتئم شملها في الجنة، ومن دونٍ نقصٍ على أحد، من دون نقصٍ على أحد، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}[الطور: من الآية21]، يعني: لا ينقص عليهم شيءٌ من أعمالهم، إنما يلتئم شملهم في نعيمٍ واسع من دون نقصٍ على أحد، كلٌّ سيمنحه الله "سبحانه وتعالى" من نعيم الجنة النعيم الواسع، ويوفيه أجره بغير نقصٍ عليه.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}[الرحمن: 75-76]، هناك قصور في الجنة، وهناك خيام في الجنة، وهناك أيضاً متكآت في حدائق الجنة، في بساتينها، في مزارعها، في هذه الجنات الأربع، وأنت عندما تتجول ستجد الأماكن المعدَّة والمهيَّأة للراحة، والانسجام والنعيم، بين مناظر الجنة، بين أشجار فواكهها، وأشجار زينتها، وأشجار رياحينها، ويمكنك أن ترتاح، وهذه الأماكن المعدَّة للراحة تفوق كثيراً- وبلا مقارنة- ما نجده في الحدائق من مظلات، أو أماكن معدَّة للراحة، هناك الأماكن المعدَّة للراحة على أرقى مستوى، حتى الفرش، فرش الحرير من حرير الجنة الناعم والجميل جداً، ليست فقط في داخل القصور، وفي داخل الخيام، إنما هي أيضاً متوفرة على هذه المتكآت، على هذه الأماكن المعدة للراحة، حيث يمكنك أن تجلس عليها، وتتكئ وتتمتع بتلك المناظر الجميلة جداً، وبأكسجين الجنة المنعش جداً، ثم وأنت في ذلك النعيم تتناول ما شئت ومتى شئت من تلك الفواكه من أصنافها وأنواعها العجيبة جداً، والكثيرة والمتوفرة، وبلا انقطاع، بلا انقطاع.

{مُتَّكِئِينَ}: هذه الأماكن المعدة للجلوس والراحة، والنظر من خلالها، والتفرج من خلالها، {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ}: هذا الفرش الممتازة جداً، الجميلة جداً، الناعمة جداً، {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}، فكل الفرش، وكل المتاكئ، وكل الأماكن المعدة للجلوس، لا يساويها أفخر ما صنع في الأرض من الكنب، أو من أنواع المتكآت والأماكن، أبداً، على أرقى مستوى، وتجمع بين الحسن والجمال والروعة في التصميم والشكل، وفي أنها من حرير الجنة الناعم جداً، الذي لا يتوفر مع أي ملك في الدنيا، ولا مع أكبر تاجرٍ في الدنيا.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية77]، وهذا النعيم العظيم ليس هناك ما ينغصه، هو نعيمٌ خالص، ليس هناك ما ينغصه، لا من أمراض، ولا من هموم، ولا من غموم، ولا من مشاكل، ولا من محن، ولا من هرم، ولا من إشكاليات في التعامل، سواءً مع الحور العين، ليس هناك أي مشكلة، تدخل في مشكلة معها، تصبح غاضبةً عليك، أو مستاءةً منك، أو معاتبةً لك على الدوام، أو أياً من ذلك، ولا مع بقية سكان أهل الجنة، الذين هم الطيبون، الذين طابوا، صلحوا، زكت أنفسهم، استقامت أعمالهم، ومنحهم الله المزيد من هدايته، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج: الآية24]، فأنت هناك لا تسمع في ذلك العالم بكله كما قال الله: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً}[الغاشية: الآية11]، ولا كلمة واحدة غير مناسبة يمكن أن تجرح مشاعرك، أو تنغص حياتك.

وليس هناك انقطاع، لو كان هناك انقطاع مع عظم هذا النعيم، لكانت مشكلة، لكانت المحنة شديدة، ولكان الهم كبيراً، عندما ترى نفسك في نعيم عظيم، ولكنك ترى أنه سينتهي، سينقطع.

في هذه الدنيا مهما امتلكت من الإمكانيات، ومن وسائل الراحة، فهناك ما ينغصه أولاً، وأيضاً سينقطع، سينتهي، إما يسلب منك، إذا لم تشكر النعمة، أو تأتي في ظروف هذه الحياة المنغصات والمتغيرات، وإما بموتك المحتوم، برحيلك من هذه الدنيا، بفنائك الذي لك موعدٌ معه لن يتخلف، فأكبر أهل الدنيا ثراءً وإمكانيات كم يعيش من الهموم في ثروته حتى، وأكثرهم ملكاً وسلطاناً كم يستقبل من المشاكل، والقلق، والمحن، والأرق، وطول حياته يأتي فيها الهرم، يأتي فيها الضعف بغير اختيار، بشكلٍ إجباري، تتنغص عليه حياته بالكثير من المنغصات.

أما في عالم الجنة، فمع أنه خلودٌ لا نهاية له، لكنه لا هرم فيه، ولا شيخوخة فيه، ولا يتأثر بك عامل الزمن، فيضعفك وتبلى، ولا يبلى النعيم، وهو نعيمٌ يتجدد من عطاء الله المتجدد، موديلات جديدة، أصناف جديدة، نعم جديدة، يَمُنُّ الله بها، وعالم متسع جداً جداً، ليس فيه ملل تتجول في أنحاء الجنة الواسعة بدون قيود، لا تحتاج إلى إصدار جوازات، وبطاقة شخصية، وإجراءات معقدة، وتكاليف باهظة، يمكنك أن تتجول، كما قال الله عنهم وهم يقولون أهل الجنة في الجنة: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}[الزمر: من الآية74]، في عالمها الواسع جداً.

والتكريم نعيمٌ أساسيٌ في الجنة، إلى جانب النعيم المادي، الذي هو على أرقى مستوى، فوق طموح الإنسان، إذا كنت تطمح في النعيم، تطمح في الراحة، تطمح في متطلبات حياتك من مأكولات، ومشروبات، ومساكن، وزوجة، إلى غير ذلك، فما هو في الجنة هو أرقى وأسمى وأعظم وأكبر من طموحك حتى، يعني هو بمثل طموحك، ولكنه أكثر بكثير، أعظم بكثير، ومعه التكريم، التكريم، يكون لك قدرك، احترامك، من تكريم الله العجيب في الجنة: زيارة الملائكة، إبلاغ أهل الجنة بالسلام من الله، السلام يقرئكم السلام، إبلاغهم برضى الله عنهم، وأن ما هم فيه من النعيم هو من رضوان الله "سبحانه وتعالى"، وأشياء كثيرة تدخل في أسلوب التكريم، التكريم لأهل الجنة في الجنة، وهو نعيم كبير وعظيم، هو يجعل لكل شيءٍ قيمة، لكل شيءٍ من نعيمها يجعل له قيمة، تكريم عظيم.

وهكذا نجد أن هذا النعيم العظيم هو فوق حتى ما يطمح إليه إنسان، نعيمٌ عظيمٌ جداً، لا يمكن أن تقول الله عرض لنا عرضاً محدوداً وضعيفاً، وهناك عروض أخرى مغرية، بأكثر مما عرضه الله لنا، لا يمكن أن تقول ذلك، لا يمكن لأحد في الدنيا أن يقدم إليك في مقابل موقفٍ تقفه، أو عملٍ تعمله، أو ولاءٍ، أو توجهٍ يكسبه منك، أي شيء مقارنةً بهذا، هنا أعظم عرضٍ قدمه الله لك، وبالتالي ففيما يتعلق بالوعد، ما وعد الله به في الجنة، وما وعد الله به في الدنيا، والوعيد، وعيد الله بالعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة، فليس هناك شيءٌ مما لدى الآخرين، في وسائل جبروتهم، وتهديدهم، وإخافتهم لك، ما يساوي القليل القليل من عذاب الله "سبحانه وتعالى"، وليس هناك في مقابل ما يقدمونه لك فيما يقدمونه لك من إغراءات، بكل أنواع الإغراءات، بكل أشكالها المادية، ما يساوي شيئاً مما يعرضه الله لك "سبحانه وتعالى" ويقدمه لك، ولذلك لا مبرر للإنسان أن ينحرف عن نهج الله، أن يتمكن الآخرون من إخضاعه لباطلهم، أو تحريكه في باطلهم، لا بدافع التخويف، ولا بدافع الإغراء، الله "سبحانه وتعالى" قدم إلينا بالوعيد، وما قدمه من الوعيد مخيف جداً، العاقبة السيئة جداً للإنسان عندما ينحرف عن نهج الله، عندما يقف في موقف الباطل، عندما يتجه في صف الباطل، عندما يوالي أهل الباطل، عندما يعصي الله "سبحانه وتعالى" بأيٍ من المعاصي، فهو يورط نفسه، يورط نفسه، يورط نفسه إلى هذا الهلاك الرهيب جداً، في الدنيا الشقاء، والعقوبات الإلهية المتنوعة؛ أما في الآخرة، وهو الأمر الرهيب جداً، فنار جهنم، وحميمها، عذابها الدائم الذي ليس فيه لحظة من الراحة أبداً، دائمٌ بلا انقطاع وأنت تحترق في سعير جهنم، في لهبها المتسعر دائماً، تشرب من حميمها، من صديدها النتن جداً، والقذر جداً، والحار جداً، هو شرابك، من ثيابها التي هي ثيابٌ نارية، تستمر دائماً في الاحتراق منها بكل أصناف العذاب فيها، مع الإهانة، والذل، والحسرة الشديدة، والندامة الشديدة، والعذاب النفسي الدائم.

ما نسمعه من هدى الله "سبحانه وتعالى"، وما نقرأه من هدى الله، عن وصف العذاب في جهنم، أمرٌ رهيبٌ جداً، فكيف عند المعاينة، كيف عند المشاهدة؟ والإنسان سيشاهد ويرى، عندما يرى منظرها الرهيب جداً، ويسمع أصواتها المرعبة جداً، كيف سيكون حاله، كيف سيكون وضعه، الشاعر قال:

سماعك بالنار يا ذا الحِجا شديدٌ شديدٌ شديدٌ شديدٌ

فكيف إذا أنت عاينتها، فكيف الوقوع، فكيف الخلود؟

المعاينة أمر رهيب جداً، ثم الوقوع، اللحظة التي تنقلك ملائكة الله، الزبانية، الشرطة الإلهية، رغماً عنك، تأخذك بالنواصي والأقدام، تنقلك إلى نار جهنم، وتلقي بكل إلقاءً إلى جهنم والعياذ بالله، كيف هو حالك؟ كيف هي مشاعرك؟ كيف حالة الرهبة والخوف التي تتملك قلبك ومشاعرك؟! لو بقي إمكانية لخروج قلبك من جسدك لخرج من شدة الرعب، من شدة الخوف، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر: الآية18]، تطلع القلوب حتى تصل إلى الحنجرة؛ من شدة الرعب والخوف، مع حسرة شديدة، مع ندامة شديدة؛ لأن الله هيأ لنا أسباب النجاة، أسباب الفلاح، أسباب الفوز، أن نقي أنفسنا من ذلك العذاب، وأن نصل إلى ذلك النعيم العظيم في الجنة، فنقي أنفسنا من عذاب النار، ونصل إلى نعيم الجنة، هذا شيءٌ عرضه الله لنا بتفاصيله، حتى بهذه التفاصيل: عن الفواكه، عن المساكن، عن... مختلف أنواع النعيم في الجنة، يعرضه لنا هنا؛ لنكون حريصين عليه، وليبين لنا أننا لن نخسر معه "سبحانه وتعالى"، لن نخسر معه.

مفتاح هذه النعم في الدنيا والآخرة هو القرآن، وابتدأت السورة بقوله "سبحانه وتعالى": {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن: 1-2]، إذا اتبعنا القرآن، إذا تمسكنا بالقرآن، إذا اهتدينا بالقرآن، إذا استجبنا الاستجابة الكاملة؛ لأن المشكلة هي هنا: في الاستجابة الجزئية، يختار كثيرٌ من المسلمين أن تكون استجابتهم جزئية، وفق مزاجهم الشخصي، وفق أهوائهم، الأشياء التي قد يرونها بسيطةً وسهلة، ويتصورون أن ليس فيها شيءٌ من المخاطر، يستجيبون لله فيها، فلا بأس بالصلاة، طالما ليس هناك أي مشاكل على الصلاة، الصيام، لا بأس، ولو حصل شيءٌ من الجوع والظمأ، طالما ليس فيه مشاكل ولا مخاطر، والبعض من العبادات والطقوس الروتينية التي يعتاد عليها الإنسان، ولكن وفق مزاجه، وفق هوى نفسه، ثم يترك مسؤوليات مهمة، أعمال أساسية في أن يقبل الله منك عملك، في أن تتحقق لك التقوى، ومنها:

الاعتصام بحبل الله جميعاً؛ لتجتمع كلمة المؤمنين والمؤمنات للاعتصام بحبل الله.
والتمسك بكتابه.
والعمل على إقامة القسط في هذه الحياة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}[النسا: من الآية135].
والجهاد في سبيل الله وفق مفهومه القرآني، الذي يحرر الأمة من التبعية لأعدائها، ومن سيطرة أعدائها، ويكفل لها أن تكون أمةً مستقلةً، تبني مسيرة حياتها على أساسٍ من هدي الله وتعليماته المباركة.
لأن مشكلتنا مع أعداء أمتنا، مع أعداء الإسلام والمسلمين، هي هذه المشكلة: هم يريدون التحكم بنا، والسيطرة علينا، والتدخل في كل شؤوننا، والإملاء علينا بسياساتهم، بتعليماتهم، بتوجيهاتهم.

والبعض من المسلمين يتجاوب معهم، إما رهبةً وخوفاً، ينسى عذاب الله، ويخاف من أشياء بسيطة تافهة من جانبهم، وإما جهلاً وغروراً، يتصور أنهم هم أهل الحضارة، وهم أهل الأفكار الصحيحة، وهم التقدميون، وهم من يمتلكون رؤيةً صحيحةً لهذه الحياة، فينبهر بهم بأكثر مما ينبهر من القرآن؛ لأنه يجهل بالقرآن، يجهل بهدى الله، لا يعرف كم عظمة هذا الهدى فيما فيه من توجيهات، وتعليمات، وبصائر، وحقائق، نبني عليها مسيرة حياتنا، وتستقيم بها حياتنا، هو يتصور أن ما لدى أولئك هو الذي تستقيم به حياتنا، ينسى أن هم أعداء، وينسى أنهم يسعون بكل جهد إلى السيطرة علينا، والاستعمار لنا، والاستعباد لنا، والامتهان لنا، والنهب لثرواتنا، والاستغلال لنا في ما يخدمهم هم، وفق مصالحهم هم، البعض لا يفهم، لا يعي، عنده نقص حاد في وعيه، وفي فهمه، لا يستفيد من الأحداث، لا يستفيد من الوقائع، لا يستفيد من الحقائق، هو ينبهر بدعاياتهم فقط، دعاياتهم، كفته دعاياتهم، ولم يعتبر بالواقع، لم يعتبر بالحقائق الماثلة بين أعين الجميع، الماثلة أمام أعين الجميع، الواضحة في الواقع.

هو لا ينظر إلى ممارساتهم الإجرامية، وإلى تاريخهم وسجلهم الإجرامي الأسود، وهم الذين ارتكبوا أبشع الجرائم، عندما تأتي إلى السجل الإجرامي لأمريكا (في العالم الإسلامي، وفي غير العالم الإسلامي) سجل إجرامي بشع جداً، كم قتلوا من الأبرياء، بكل أنواع الأسلحة، من القنابل الذرية والنووية، إلى مختلف أنواع السلاح، وما يفعلونه اليوم كيف هي ممارساتهم الإجرامية في عالمنا الإسلامي.

ولا ينظر إلى ما تفعله إسرائيل، إلى ممارساتها الإجرامية، إلى أن العدو الإسرائيلي هو كيانٌ نشأ أصلاً على الإغتصاب، على الظلم، وعلى القتل، وعلى الجريمة، ولا يمتلك أي حق في تواجده في أرض فلسطين.

هو لا ينظر إلى ما فعلته أوروبا، سواءً بريطانيا في سجلها الاستعماري، الإجرامي، الرهيب، الشنيع جداً، جرائم رهيبة جداً، في كل مستعمراتها التي استعمرتها، وفي كل سياساتها المستمرة عليها، ما فعلته فرنسا، سواءً في الجزائر، أو في غير الجزائر.

تقدم تلك الدول التي لها سجل إجرامي بشع جداً، ولم تعتذر عنه حتى، هي مصرةٌ عليه، تقدم نفسها بدعايات ينبهر بها السذج، والأغبياء، والمغفلون، من أبناء أمتنا، فتكون نظرتهم إلى أن ما يمكن أن نحصل عليه من أولئك، من أفكار، من نظريات، من رؤى، هي الصواب، وفيها مصلحتنا في هذه الحياة، ثم يبني على ذلك التبعية لهم، التأثر بهم، وليس فقط استيراد الفكرة، مع استيراد الفكرة التبعية على المستوى العملي، ارتباط عملي؛ لتنفيذ أجندتهم، للعمل وفق إملاءاتهم وتوجيهاتهم، وبديلاً عن ماذا؟ بديلاً عن القرآن، الذي هو كتابٌ للحياة، منهجٌ للحياة، نظامٌ للحياة، وصلاح حياتنا، واستقامة حياتنا، حتى تتحول نعم الله التي أنعم بها علينا إلى نعيم في الدنيا، ونصل إلى نعيم الله العظيم في الآخرة، هو القرآن، هو القرآن، {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه: 123-124].

ثم البعض الذين لهم موقف من جانب المسؤوليات: الجهاد في سبيل الله وفق مفهومه القرآني الصحيح، إقامة القسط، التعاون على البر والتقوى، اجتماع الكلمة على الحق، الولاية الإيمانية، الولاء بين المؤمنين أن يكون بعضهم أولياء بعض، متعاونون، كالجسد الواحد، كالبنيان المرصوص، هذه العناوين الكبرى التي شطبت عند الكثير من أبناء أمتنا، وأخرجت من حيز اهتمامهم الديني، ومن التزامهم الإيماني، وكأنها ليست من الإيمان في شيء، ولا من القرآن في شيء، ولا من الدين في شيء، ما الذي يصرفهم عنها؟ هل ينظرون إليها على أنها أشياء صعبة، أو أشياء خطيرة؟

الخطر هو في الإخلال بها، الأمة إذا تركت الجهاد في سبيل الله، في مفهومه التحرري الصحيح، وفق المنهجية التي رسمها القرآن، وليس وفق الأسلوب الداعشي، والأسلوب الآخر الذي في إطار التبعية لأعداء الله، لأعداء الأمة، لأعداء الإنسانية، إذا تركت ذلك ذلت، هانت، تحكم بها أعداؤها.

عندما فرطت الأمة في مبدأ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، تحولت إلى أضعف أمة؛ بينما الآخرون يبذلون كل جهد في أن يعدو ما استطاعوا من قوة، ويسطرون إلينا أفكاراً ساذجة، أفكاراً غبية، يستغبون أمتنا بها، يعلمون أمتنا أن الضعف حضارة، أن عدم الاهتمام ببناء أنفسنا لنكون أمةً قوية هو حضارة، هو رقي، هي مفاهيم راقية؛ بينما هم يحرصون على أن يكونوا في أقوى ما يستطيعون، أن يمتلكوا مختلف أنواع الأسلحة، من الترسانات النووية إلى أبسط سلاح.

فعلينا أن نعي جيداً أن استجابتنا لله "سبحانه وتعالى" هي في صالحنا، هي لاستقامة حياتنا في الدنيا، وأن ننعم بما أنعم الله به علينا في هذه الدنيا، وتصل بنا، تصل بنا إلى النعيم في الآخرة، وأن القرآن الكريم هو نور الله، يرشدنا لليسرى، هي الطريق الأيسر، الطريق التي تصل بك إلى الجنة هي الأيسر، لا تنظر إليها وكأنها الشاقة، المشقة والعناء والخزي والهوان: هو في الانحراف عن هدى الله "سبحانه وتعالى"؛ أما في إطار الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"، والاتباع لكتابه، والاهتداء بهديه، فهنا العزة، هنا الكرامة، هنا القوة، هنا السعادة، هنا الطريق التي تحظى فيها برعايةٍ من الله "سبحانه وتعالى"، معونةٍ من الله "سبحانه وتعالى"، توفيقٍ من الله "سبحانه وتعالى"، البديل عن ذلك هو الذي يشقي الأمة.

مشكلة أمتنا اليوم في الاستجابة الجزئية، أن تتفصل عملية الاستجابة لله وفق المزاج الشخصي، وفق الهوى النفسي، وأن تترك الأشياء الأساسية من توجيهات الله ومن تعليماته.

من المهم في هذا الشهر المبارك (في شهر رمضان) التركيز على التأمل في الوعد والوعيد، الذي يجعل عند الإنسان قناعةً بأن يتجه وفق هذا الاتجاه الصحيح الذي يحقق لنفسه هذا الخير العظيم، ويقي به نفسه عذاب الله "سبحانه وتعالى"، هذا النعيم متاح أمام كلٍ منا، كل ذكرٍ وكل أنثى يمكنه أن يصل إلى هذا النعيم العظيم، إلى هذه الجنات، إلى عالم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، ومن أقصر الطرق وأسرعها وصولاً، عن طريق الجهاد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، ما الذي يمنعك عن الاستجابة، عدم الاستجابة هي الخسارة، الخسارة الرهيبة الفادحة، عندما يفوتك هذا النعيم، ليست المسألة فقط فوات هذا النعيم فحسب، ويقولون لك: [عد إلى منزلك، أنت لم تربح هذا النعيم، لا بديل عن هذا النعيم إلا النار، إلا ذلك العذاب، إما أن تعمل لتكون ممن يطوف في هذه الجنات، وينعم بها، وإما البديل أن تكون ممن يطوفون بين حميم جهنم وبين نيرانها المستعرة للأبد، بدون لحظة واحدة، ولا ثانية واحدة، من الراحة، فاختر لنفسك، وفكر بجدية، بجدية؛ لأن هذه أمور جادة، أمور جادة، ليست خيالاً، وليست أوهاماً، هي حقائق، يفصل بينك وبينها فاصلٌ قصيرٌ هو الفناء، تنتقل من خلاله وفيما بعده- وهو يمضي في فترة وجيزة- إلى هذا العالم.

نسأل الله أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

الأربعاء، 21 أبريل 2021

أبو الفضل يا روح ثورتنا

✍ أبو يحيى الجرموزي
ـــــ ابو الفضل الصماد يا روح ثورتنا وعبق حرّيتنا وإيمان جهادنا ورئيس قضيتنا وشهيد حقنا
ونحن نعيش ذكرى إستشهاد الرئيس الاب والقائد الانسان فخامة المؤمن التقي رئيس الجمهورية صالح علي الصماد نعيش ذكرى صموده وتضحياته وقوة عزمه وإرادته الصلبة في مواجهة المعتدين المنافقين والمنحطين أولياء الطاغوت من تكالبو وتحالفو على شعب الحكمة والإيمان في حربٌ صليبية وحصار خانق في كل مقومات حياة الانسان اليمني المتسلح دوماً بالصبر والجهاد والدفاع الحق عن دينه وكرامته وعرضه وأراضيه.
اليوم نعيش ذكرى رحيل عظيمٌ وقائد وربّان ماهر اجاد القيادة وتفنن في الثقافة والدين بلباقة وفصاحة مطلقة عربية قرآنية 
من غادرنا إلى الله شهيداً بعد ان أرسى بنا كيمنيين مجاهدين في بر أمان الثبات والصمود والجهاد المقاوم بالعزيمة واليد الضاربة طعناً في نحور الأعداء والمنافقين والمتسلقين والساعية لبناء يمن الغد المشرق جمالاً وحضارة تتجدد وعقيدة صادقة وهُويةٌ هي من ثمار المشروع القرآني الذي قضى نحبه الرئيس الصماد ومن قبله عظماء ومن بعدهم قادة وعظماء كانوا في أرقى درجات الجهاد مقاومين أئمة الكفر والنفاق والإلحاد.
كان سلام الله عليه أبى الفضل الصماد رجل المرحلة بلا منازع واثق الخطى مشى ملكاً زعيماً لا يُشق له غُبار ولم تلد النساء مثيله في القيادة والرئاسة وهو الذي غادر قصور السلطة والجاه إلى مواقع وثكنات الجهاد المقدّس في عموم جبهات القتال حاملاً بندقيته وفكره ومسيرته قبل جاهه ومنصبه كرئيسٍ لشعب لم يتذوّق طعم السعادة منذُ القدم فكان أن كان الصماد بثمابة الأمل والغد المشرق بشمس التطور والرقي الإنساني والأخلاقي وبدعائم القوة والجهاد دشن مشروعه التنموي والقرآني ( يدٌ تحمي ويدٌ تبني ) 
ومن مبدأ اليد التي تحمي صال وجال وتنقل في جبهات القتال ومواقع التدريب محفزاً محاضراً محرّضاَ وزائراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً أنار ثورة الشعب والأمة في وجه الطغاة والمستبدين.
لم يروق له عيش القصور وفخامتها لأنه ولد من رحم معاناة الشعب وألامه فكان ان فضّل العيش مع المجاهدين على قمم الجبال وسفوح والوديان في الهضاب وفي الصحاري وفي الشواطئ والبحار.
أعتادت القصور ان تمتلئ في المناسبات وفي الأعياد بالمهنئين والمباركين لفخامة ساكنيها
لكنّها ومنذُ الوهلة الأُولى لوصول الرئيس ابى الفضل الصماد إلى أروقتها ضلت فارغة تشكو فراغها إلى جدرانها
ولأن الصماد لم يعتدِ سكن القصور فقد عاد إلى عشه الدائم وحضنه الأبدي ميادين الجهاد وثغور الرباط مجاهداً مثله كمثل أصغر فرد في الجبهة وهو الذي قال كلمته المشهورة لمسح التراب من نعل المجاهدين أشرف من مناصب الدنيا بكلها , رفضنا البقاء في القصور كما هي عادة القادة والمسؤولين ينتظرون الزيارات لنزوركم أنتم يا أشرف الرجال وأنبلها كرماً وخُلقاً وهو شرف عظيم ان نعيش العيد معكم في الجبهات عيدنا جبهاتنا.

رئيسٌ طلّق كرسيّ السلطلة وعاش مع شعبه في الشوارع في المدن والأرياف
عاش متنقلاً هنا وهناك حيث لم يهدأ له بال ولا يقرّ له قرار إلاّ وهو يشارك الرجال زحوفاتهم وتضحياتهم في سبيل الله حتى دشّن من محافظة ذمار مرحلة الرد الإستراتيجي والعام الباليستي وتوعّد المعتدين بأن لا راحة لهم بعد اليوم إن أستمروا في حربهم وعنادهم وأذاقهم سُم زعاف الصواريخ الباليتسية وفي خظم الأحداث وتطورها في مختلف الجبهات بما فيها جبهة الساحل الغربي طار محلقاً إلى حيث يجب ان يكون الرجال مجاهدين مدافعين عن الساحل ومحافظة الحديدة التي تخضبت بدمه الطاهر شهيداً مع رفاقه ومرافقيه في عملية جوية لقوى العدوان السعودي الأمريكي أستهدفته في أحد شوارع محافظة الحديدة
ليرتقي بذلك إلى الله شهيداً بروحٍ وريحان وجنة نعيم
خاض البحر وخاض معركة الساحل الغربي فكان سبباً رئيسياً وله الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في ثبات وصمود مجاهدي الجيش واللجان الشعبية ومثلّ بدمه الطاهر للحديدة حصناً منيعاً في وجه المعتدين وبدّد احلام الغزاة وقطّع أوصالهم لتبقى الحديدة وكل اليمن صامدة ثابته حرّة لم تمسها أيادي الغدر والارتزاق. 
فسلام الله عليه ما طلعت الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار ..

الثلاثاء، 20 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 08 رمضان 1442هـ 20-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة في سورة الرحمن، وتحدَّثنا بالأمس حول بعضٍ مما ورد عن العذاب الشديد في جهنم والعياذ بالله، والتي هي خسارة رهيبة جداً لكل إنسانٍ يتورط تلك الورطة الرهيبة، فلا يشكر نعم الله في هذه الدنيا، ولا يستجيب لله، ولا يهتدي بهديه، ويتجه وفقاً لأهوائه ومزاجه الشخصي بعيداً عن تقوى الله سبحانه وتعالى، فيصل في عاقبة أمره إلى ذلك العذاب الأبدي والخسارة الرهيبة جداً: إلى نار جهنم والعياذ بالله.

الله سبحانه وتعالى ذكَّرنا بكل هذه التفاصيل ونحن في هذه الدنيا؛ لكي نحذر ولدينا الفرصة الكافية للحذر، ولأن نبني مسيرة حياتنا على أساسٍ صحيح.

الله جلَّ شأنه يقول في الآية المباركة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن: الآية46]، بعد ذلك العرض عن عذاب الله، وعن حال من يتورَّطون فيصلون إلى عذاب الله، يبين سبحانه وتعالى طريق النجاة، طريق الفوز، طريق السعادة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، طريق الفوز والنجاة والسلامة من عذاب الله، هو مجموعٌ بكله في هذه الفقرة من النص القرآني: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، فقرة جامعة، ونص جامع لكل أسباب النجاة، وللسبب الرئيسي للنجاة والفلاح.

في كثيرٍ من السور تأتي الآيات المباركة بمواصفات إيمانية معينة، وأعمال عبادية، ولكنه هنا يقدِّم ما يبنى عليه كل ذلك وما يجمع كل ذلك، أساس النجاة هو في هذا، أساس الفلاح هو هذا، أساس الفوز هو في هذا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، من هو مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، ومؤمنٌ بأنَّ هذه الحياة الأخرى آتيةٌ لا محالة، ومؤمنٌ بموقف الحساب والجزاء في يوم القيامة؛ فهو سيخاف، سيخاف ذلك المقام العظيم: المثول بين يدي الله سبحانه وتعالى، والوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب والجزاء، هذا سيدفعه هنا في الدنيا إلى أن يستقيم وفق هدي الله سبحانه وتعالى، وهذا سيحرره من أكبر عائقٍ يؤثِّر على الكثير من الناس، ويصدهم عن الاستجابة لله سبحانه وتعالى الاستجابة الكاملة: وهو الخوف من الآخرين.

من أكبر العوائق التي تؤثِّر على الكثير من الناس، فتصدهم عن الاستجابة لله سبحانه وتعالى في فرائض مهمة، في أعمال مهمة، فيما شرعه الله وفرضه من مسؤوليات مهمة، أساسية في دين الله، أساسية لتحقيق التقوى، أساسية لتحقيق الإيمان، أساسية للنجاة والفلاح، وذات أهمية كبيرة جداً في واقعنا في هذه الحياة، نحن بحاجة إليها لصلاح حياتنا، لاستقامة حياتنا، لأن نعيش في عزةٍ، وكرامةٍ، وحريةٍ، ولأن نقيم القسط في واقع حياتنا، ولأن نحقق العدل في مسيرة حياتنا، كل تلك المسؤوليات ذات الأهمية الكبيرة في واقع الحياة، والأهمية الكبيرة في الدين، أكبر عائقٍ للكثير من الناس للنهوض بها، والاستجابة لله فيها: هو الخوف، الخوف من الآخرين، الخوف من أعداء الله، الخوف من الجبابرة الطغاة الظالمين والمستكبرين، فيؤثِّر هذا الخوف على الكثير من الناس؛ فيعطِّلون مسؤوليات مهمة: مسؤولية الجهاد في سبيل الله بمفهومه القرآني الصحيح، مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه القرآني الصحيح، مسؤولية العمل على إقامة القسط، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}[النساء: من الآية135] في هذه الحياة، وهي مسؤولية مهمة وعظيمة، ومن أهم واجباتنا كأمةٍ مسلمة، مسؤوليات مهمة: التعاون على البر والتقوى، مسؤولية الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن نكون كمؤمنين ومؤمنات بعضهم أولياء بعض، تجتمع كلمتهم في موقف الحق، يتعاونون على البر والتقوى، الأخوة الإيمانية... مسؤوليات مهمة جداً.

الدافع للكثير من الناس في التهرب من هذه المسؤوليات، والنهوض بها: هو الخوف، الخوف من الآخرين، من الجبابرة، من الطغاة، من الظالمين، الخوف إما من سجونهم، الخوف- كذلك- من القتل، الخوف من القصف، الخوف مما قد يأتي مما هو متوقعٌ من جانبهم، نسبة الخائفين من المسلمين من أمريكا وإسرائيل كم ستطلع هذه النسبة؟ وأثر هذا الخوف عليهم في تنصلهم عن مسؤوليات وواجبات صريحة في القرآن الكريم، وردت بها آيات كثيرة في القرآن الكريم، كم ستطلع؟ كم يندفع البعض إلى شطب مسؤوليات مهمة من دين الله نتيجةً لهذا الخوف، ليس هناك ثقة بالله سبحانه وتعالى، وليس هناك هذا الإيمان باليوم الآخر إلى هذه الدرجة: التي يتحرر فيها الإنسان من أسر الخوف من الآخرين، ومن ضغط الخوف من الآخرين وما هو الذي بيد الآخرين أولئك؟ هل بيدهم شيءٌ كجهنم؟ هل بيدهم شيءٌ كالعذاب في جهنم؟ هل هناك شيءٌ مما هو متوقعٌ من جانبهم يساوي لحظةً واحدة في نار جهنم، في عذابها المستعر، في حميمها، في كل أصناف العذاب فيها، في الخلود الأبدي في عذابها؟

نحن بحاجة إلى أن نرسِّخ في أنفسنا الإيمان باليوم الآخر، فهو الذي سيحررنا من كل أشكال الخوف من الآخرين؛ وبالتالي فمن يخاف مقام ربه: هو سيتحرك بكل جدية، وبدون اكتراثٍ بالأعداء، للقيام بمسؤولياته وواجباته، ينطلق في ميادين الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى بكل عزة، بكل حرية، بكل كرامة، بكل إباء، واثقاً بالله سبحانه وتعالى، متوكلاً عليه، متحرراً من الخوف من الآخرين، ينطلق في النهوض بالمسؤوليات الأخرى كذلك في السعي مع إخوته المؤمنين والمؤمنات لإقامة القسط، لإقامة العدل، للاجتماع على كلمة الحق، للاعتصام بحبل الله جميعاً... وهكذا للتعاون على البر والتقوى، بدون اكتراث بأعداء الله وما بأيديهم.

من يخاف مقام ربه: هو الذي سيتمكن من تحقيق الاستجابة الكاملة في التزاماته الإيمانية والدينية، ولن يأتي إلى الكثير منها ليشطب عليها، ويتنصل عنها، ويتهرَّب منها؛ لأنه متحرر من هذا الضغط الذي يؤثِّر على الآخرين فيركعهم، ويجعلهم يتجهون بدلاً من الاستجابة لله، إلى شطب الكثير من المسؤوليات والأعمال العظيمة والمهمة جداً.

من يخاف مقام ربه: هو أيضاً من سيسيطر على أهوائه ورغباته، التي قد تؤثِّر عليه تجاه بعضٍ من المسؤوليات، والأمور، والالتزامات المهمة، ومن يخاف مقام ربه: هو الذي سيسيطر على أعصابه في حالات الغضب والانفعال، التي تؤثِّر على الكثير من الناس فلا يتقون الله، فيعملون ما يسبب لهم سخط الله سبحانه وتعالى، وهم يعيشون في تلك الحالات: حالات الغضب والانفعال.

فهي تشكِّل ضمانة لاستقامة الإنسان، واستجابته المتكاملة لله سبحانه وتعالى، وتحقيق التقوى: أن يخاف مقام ربه، هذا يفيده أمام المخاوف، أمام الأهواء والرغبات، وأيضاً أمام حالات الانفعال والغضب، سيتمكن من خلال ذلك أن يسيطر على نفسه، سيتجه في مجال الأعمال ولن تؤثر عليه لا مخاوفها ولا صعوبتها، إذا وجد فيها شيئاً من الصعوبة، فهو يدرك أنَّ كل المخاطر وكل الصعوبات لا تساوي لحظةً واحدة فيما يقابلها من صعوبات ومخاوف في نار جهنم وعذاب والعياذ بالله، فيستهين بكل شيءٍ في مقابل أن يعمل بما فيه نجاته وسلامته.

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، يتحدث عما أعدَّ الله له في الآخرة، هناك عالم الجنة، عالمٌ متسعٌ جداً، الله جلَّ شأنه قال عن سعة الجنة، قال في القرآن الكريم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: الآية133]، سعة هائلة جداً، سعة مدهشة، ومسافات ومساحات كبيرة جداً، عالمٌ في غاية الاتساع، {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، مثل عالمنا هذا في عرضها، مثل السماوات والأرض، سعة كبيرة جداً، وعالم الجنة بكله هي كاسمها جنة، لا توجد مساحات فيها مساحات مثلاً كبيرة- كما في الدنيا- هي مساحات صحراوية، أو جبال صخرية، أو أماكن ليس فيها نباتات ولا أشجار، عالم الجنة عالمٌ مختلف. مع سعتها الهائلة والمدهشة والمذهلة، هي كلها مغطاةٌ بالنباتات والأنهار، وعالمٌ كله ليس فيه ولا مساحة واحدة تقول عنها: [مساحة صحراوية، أو مساحة جافة، أو مساحة لا يمكن أن تهنأ بالنظر إليها، أو الحياة فيها]، فذلك العالم المتسع جداً جداً جداً سكَّانه قليل؛ لأن الأغلبية متجهة إلى جهنم والعياذ بالله، أغلبية البشر، هذا أمر مخيف، وأمر مؤسف، وأمر رهيب جداً، مقلق، يقلق الإنسان أن يكون من تلك الأغلبية الساحقة التي تتجه إلى جهنم، هناك الازدحام في جهنم، الكثافة السكانية في جهنم، {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}[الأعراف: من الآية18]، يقول الله سبحانه وتعالى عندما حذَّر إبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: الآية85].

أمَّا في الجنة فسعة هائلة جداً، عالمٌ في غاية الاتساع، وقلة من السكان، داخل هذا العالم العجيب المتسع، يعطي الله لكلٍّ منهم، لكلٍّ من سكان هذه الجنة، لكلٍّ من أصحاب الجنة جنات، جنات خاصة به، وهناك عالم الجنة بكله فيه الفواكه، فيه الأنهار، مثلما قال الله سبحانه وتعالى عن عالم الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}[محمد: من الآية15]، هذا وصفها العام، الوصف العام لعالم الجنة: فيها من كل الثمرات، حتى فيما هو خارج إطار جناتك، داخل هذه الجنة، داخل ذلك العالم المتسع، المنتزهات، الأماكن العامة فيها من الثمرات بمختلف أنواعها، وفيها هذه الأنهار العجيبة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، ماء نقي لم يتغير لا طعمه، ليس فيه أي شوائب، في غاية النقاء، والنظافة، والعذوبة، ومستساغ، {غَيْرِ آسِنٍ}، لا يتغير أبداً، لا في طعمه، لا في لونه، لا في مذاقه، لا في رائحته.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}، أنهارٌ من لبن، لبن متدفق بشكل أنهار بيضاء في عالم الجنة، وأنت تتنقل، وأنت تذهب للتنزه والتجول في أنحائها، فتجد أمامك أنهار اللبن، وتشرب منها، وفي جو ليس ساخناً، ليس حاراً، تقول: [لبن حار]، لا، على أرقى مستوى في مذاقه، ولا يتغير أبداً في طعمه.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، بشكل أنهار في عالم الجنة، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، حتى العسل، أنهار من العسل المتدفق.

فعندما تتجول، عندما تتنزه، عندما تتنقل في أنحائها للتفرج، والراحة، والابتهاج بمناظرها الجميلة والخلَّابة، أمامك المأكولات من ثمارها، من مختلف أثمارها، وأمامك هذه الأنهار التي فيها مختلف الأشربة... وهكذا، وغير ذلك كثير، وغير ذلك كثير، كم في القرآن الكريم؟ ولكن هناك ما يخصك أيضاً: أربع جنات، يأتي الوصف أولاً لجنتين منها، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 46-47]، نعمه سبحانه وتعالى عندما أنعم عليك في هذه الحياة الأولى، إذا شكرت الله عليها؛ تصل بك إلى نعمه العظيمة جداً في عالم الآخرة في الجنة.

{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن: الآية48]، هاتان الجنتان فيهما مختلف أصناف الفواكه والأشجار، كل جنةٍ منهما جنة واسعة جداً، مزرعة واسعة جداً جداً جداً، إلى درجة أنها تتسع لكل أصناف الفواكه، ولكل أصناف الأشجار، من كل فاكهة تتوفر فيها، وكل الأشجار تتوفر فيها، والأشجار فيها (أشجار الفواكه) مورقة مونقة، لم تكن على حال قد أثَّر عليها عطش، أو مناخ، أو جو، فتتساقط أوراقها وتصبح أشجاراً بدون أوراق، أو أن فيها أصناف محدودة، لا، هي في نفسها كأشجار مورقة، مزهرة، مثمرة، مونقة، خضراء، يانعة، وليست لا مهتلة الأوراق، وليست قليلةً في أصنافها من الفواكه والأشجار.

{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، وأيضاً مرتَّبةً ترتيباً بديعاً، بجمالٍ فائق، وترتيبٍ إلهي فريد، ليست بشكل غابة، أو مزرعة مزروعة بشكلٍ عشوائي؛ إنما هي مرتَّبة بشكلٍ جماليٍ وفنيٍ بديعٍ جداً، مبهرٍ، ومنوعٍ، وبشكلٍ فنيٍ راقٍ جداً جداً، ومبهجٍ وبديع.

الآن في عالم الدنيا بعض الحدائق تحتاج إلى خبراء ومختصين لتشذيبها، وتنظيمها، وترتيبها، وترتيب نسق الزراعة فيها، وتوزيع الأشجار بشكلٍ معين، وقصها، وتنظيمها بشكلٍ معين، أمَّا ذلك الترتيب فهو ترتيبٌ من الله سبحانه وتعالى الكريم، بديع السماوات والأرض، المتقن جلَّ شأنه، أحكم الحاكمين، على أرقى مستوى في تنظيمها وتهذيبها وتوزيعها.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية49]، نعم عجيبة جداً، {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن: الآية50]، في كلٍّ من تلك الجنتين المياه متوفرة جداً، لن تحتاج إلى مضخة، في الدنيا إذا اقتنيت مزرعة، عليك أن تحل مشكلة المياه، وأنت بحاجة إلى مضخة، وقد تحتاج إلى الاشتراك مع آخرين في مضخة معينة، وتحصل على حصة من الماء، وتحتاج إلى عناء، ومتطلبات، واحتياجات... برنامج طويل عريض، أمَّا هناك فالماء متوفر ويجري، يجري على وجه تلك الجنة، ووفرته تلك، مع منظره البديع الجميل، الأشجار والفواكه المثمرة، المورقة، المونقة الجميلة، الرائعة، والمياه تجري بشكلٍ مستمرٍ ومتدفقٍ من تحتها، منظر رائع وبهيج وجميل جداً.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية51]، نعم عجيبة جداً، {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن: الآية52]، كل أصناف وأنواع الفواكه تتوفر، في كلٍ من تلك الجنتين، لا فاكهة إلا ومنها موجودٌ فيما هو موجودٌ في جنتك تلك، من كل فاكهة بلا استثناء، وأكثر من صنف، زوجان، أكثر من صنفٍ واحد، وتتوفر تلك الفواكه، وهناك متسع لها، ليست مزرعة صغيرة متضايقة، والأشجار فيها مزدحمة، لا تدخل فيها إلا بصعوبة، وتخرج بصعوبة، هناك اتساع هائل، مدهش جداً، وسعة وكثرة في هذه الأشجار، ووفرة إلى حدٍ عجيب، {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}، ومن فواكه الجنة، من فواكه الجنة، على أرقى مستوى، في شكلها، في طعمها، في مذاقها، في رائحتها، في منظرها، جمعت بين اللذة والجمال.

{مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (53) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (54) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}[الرحمن: 53-56]، في نفس حدائق الجنة، في نفس هذه المزارع، هذه المزارع الواسعة جداً، المزرعة تكون وسيعة جداً، واسعة للغاية، ومع ذلك المنظر البهيج للأشجار، والمياه تجري، فيها أماكن للجلوس والتنعم والراحة والاستمتاع، أماكن في داخل تلك الجنات نفسها، متكئات وأماكن معدة ومهيأة للجلوس عليها، بين تلك المزارع نفسها، تجلس ولديك متكأ معد إعداد رائع جداً، حتى أن فرشه من الحرير، مالا يستخدم في هذه الدنيا إلا للملوك ولكبار الأغنياء في هذا العالم، أما هناك فأنت كملك، ومن حرير الجنة، لا يساويه أي حرير في الدنيا، فيما هو عليه من الجمال والروعة، وناعم جداً، وتجلس في تلك المتكآت، متكأ مهيأ معد، بين تلك الأجواء الرائعة جداً، بين تلك الأشجار والفواكه الجميلة جداً، وهو مهيأ بشكلٍ فنيٍ رائعٍ جداً، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ}، متكئين وهم في غاية الراحة والنعم، ليس هناك ما ينغص عليهم تلك الأجواء.

{بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}، والثمار، ثمار الجنتين قريبة من متناولهم، يعد له الأماكن المناسبة التي يجلس فيها، ويمكنه اقتطاف تلك الثمار وتلك الفواكه، وتناولها وهي طازجة، وهو في ذلك الجو المريح والمبهج، يستمتع بأكل تلك الفواكه، وبالنظر إلى تلك المناظر الرائعة والخلابة والجميلة جداً.

من ثمار الجنة، من ثمار الجنة، ليست كفواكه الدنيا، فواكه الجنة لا تحتاج إلى تعب عليها، لا تحتاج إلى أن تحافظ عليها من الآفات والحشرات، بالمكافحات والمبيدات، لا تحتاج إلى حراسة، لا تحتاج إلى تعب، لا تحتاج إلى أي عناء، سليمة، وراقية جداً، ونظيفة، وسليمة من كل الآفات، لن تتسلط عليها حشرات معينة، أو ديدان معينة، أو أشياء معينة، لم تتأثر بأنه لحق بها ظمأ أو عطش؛ لأنه لا يلحق بها عطش أبداً، المياه متوفرة وتجري من تحتها باستمرار، في الدنيا قد تتأثر مزرعتك بفعل العطش، بقلة الماء، يؤثر هذا حتى على ثمارها؛ أما هناك فلا، لا تأثيرات بسبب عطش؛ لأنه لا يوجد عطش، ولا تأثيرات من حشرات، ولا آفات، ولا أي شيء أبداً، ولا تحتاج إلى أي تعب، خالصة من كل المنغصات والمتاعب، هذا لا يوجد في الدنيا لأي أحد، لا لملك، ولا لتاجر، ولا لأي أحد، أن يكون له نعيمٌ بهذا المستوى، نعيمٌ عجيب.

{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن: من الآية54]، قريب في متناولك، يمكنك أن تقتطف تلك الثمار وتأكل منها، وأنت في تلك الأجواء المبهجة والسعيدة.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: 55-56]، فيهن حور جميلات جداً، في غاية الجمال والروعة، ومع جمالهن الفائق جداً، يمتزن بميزةٍ عظيمةٍ ومهمة، هي أنها ستكون عاشقةً لك، لا تتطلع إلى أحدٍ غيرك أبداً، شغوفةً بك أنت، ومحبة لك أنت، ولا يهمها إلا أنت، ولا تركز إلا عليك، وهذا أمر مهم جداً، ذو أهمية كبيرة بالنسبة للإنسان، عندما يكون له زوجة بارعة الجمال، فائقة الجمال، ويكون مطمئناً أنها لا تتطلع إلى غيره، ولا تفكر في غيره، ولا تحاول أن تبرز جمالها أمام الآخرين، ليعرفوا بأنها جميلة، فهي إنما تقصُرُ طرفها ونظرها وتركيزها عليه فقط، هذا أمر مريح جداً، مع جمالها الفائق.

{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ}، لم يدخل بهن قبلهم إنسٌ، {وَلَا جَانٌّ} بالنسبة للحوريات الجنيات اللواتي للجن، للإنس حور، وللجن حورٍ جنيات تناسبهم.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: 57-58]، في جمالهن البارع جداً، وفي تقاسيم الوجه، وفي جمال الوجه، تأتي هذه الألوان، اللون الأصلي واللون العام هو البياض، هو البياض، قال عنهن في آيةٍ أخرى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات: الآية49]، ويصفهن أيضاً في آياتٍ أخرى بشبههن في بياضهن باللؤلؤ، اللؤلؤ في بياضه الناصع النقي، فهو اللون العام، ولكن بالنسبة للوجه تأتي في تقاسيم الوجه هذه الألوان الإضافية على بياض الوجه، تأتي أيضاً الحمرة، التي تشبه حمرة الياقوت {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ}، حمرة وردية صافية، جميلة جداً على الوجنة، على وجنة الوجه، في مكان معين من الوجه، وتأتي أيضاً يأتي اللون الآخر المرجاني، عندما قال: {وَالْمَرْجَانُ}، أيضاً ضمن تقاسيم الوجه، وكأنه تحت العيون، وفي أصل خلقها، لا تحتاج إلى مكياج، ولا تحتاج إلى وسائل للتجميل، هذه الألوان، البياض الناصع جداً، الذي تكسوه حمرةٌ ورديةٌ، كحمرة الياقوت، ولونٌ مرجانيٌ قد يكون فيما تحت العين، من أصل خلقتها، وليس باستخدام وسيلة من وسائل التجميل.

في هذه الدنيا وبعد دهر طويل وصل البشر إلى استخدام المكياج على أساس التطور، وبدأوا باستخدامه، وتستخدمه النساء؛ من أجل أن تكسب نفسها المزيد من الجمال واللون المناسب؛ أما هناك فمن أصل الخلقة، من أصل خلقتها، وليس فقط إنما تستخدمه من وسائل تجميل معينة، فإذا ذهبت لتغسل وجهها، تغير كل شيء، جمال فائق جداً، جمال على مستوى راقٍ جداً.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[الرحمن: 59-60]، لأنهم أحسنوا في هذه الدنيا، وشكروا نعم الله "سبحانه وتعالى"، واستجابوا له الاستجابة الكاملة، فوصلوا إلى هذا النعيم، في نهاية المطاف تكون أحسنت لنفسك، عندما تحسن في هذه الدنيا، إحسانك هو لك أنت، هذه ثمرته، هذه نتيجته لك أنت، أرقى مستوى من النعيم، وتعيش في هذا النعيم بدون أي منغصات، لا هم، ولا مرض، في الدنيا قد يمتلك البعض ثروة معينة، إمكانيات معينة، فتأتي له منغصات أخرى، لا مشاكل، ولا هرم، مع طول الوقت، هو نعيمٌ للأبد، ليس نعيماً محدوداً لفترة مؤقتة، فقط، بل هو نعيمٌ أبديٌ، لا يأتي ما ينغصه، ولا مشاكل، ولا هرم، لا تقول أنك ستعاني من الشيخوخة، ومن أن تتحول إلى طاعنٍ في السن، ويؤثر عليك طول الوقت والزمان،لا، تبقى دائماً في صحة، وعافية، ونشاط، وشباب دائم؛ بدون هرم، ولا موت، ولا هم، ولا حزن، ليس هناك ما يحزنك، وليس هناك ما ينغصك، وليس هناك ما يؤذيك، وليس هناك ما يزعجك، ولن يأتي أحد لينازعك على مزرعتك تلك، على جنتك تلك، على بستانك ذلك، على حديقتك تلك، ولن يأتي لك أي همٍ ولا مشاكل، ومع ذلك التكريم، مع ذلك النعيم التكريم، أنت هناك شخصٌ مكرمٌ محترم، الملائكة تزورك، تتفقد أحوالك، ملائكة الله "سبحانه وتعالى"، أنت هناك تلتقي بالأنبياء والصديقين.

أنت هناك أيضاً تحظى بالاحترام والتكريم، وتشعر أنك في إطار رضوان الله، أن ذلك النعيم إنما هو من رضى الله عنك، وبالتالي تشعر بالارتياح الكبير، وتكون راضٍ عن نفسك، وعن عملك، وعن جهدك، وعمَّا أنت فيه، وعن ربك الله "سبحانه وتعالى".

كل أجواء التكريم حاضرة، هناك من يخدمك، الخدم، وهناك فيما أنت فيه من النعيم أيضاً كله فيه تكريم، حتى الطعام يقدم إليك في صحاف الذهب، ولا أي ملك في الدنيا، ولا أي تاجر في الدنيا، من كل ملوكها، ومن كل أغنيائها وتجارها، يمكن أن يحصل على أقل مستوى مما هو لأقل الناس في الجنة من النعم، أبداً، وهذا عرضٌ متاحٌ لك، هذا يعرضه الله، كل هذه التفاصيل يقدمها لنا هو يعرضها علينا: هل تريدون هذا؟ هل لكم في هذا النعيم؟ ما الذي يمنعك عن الاستجابة؟ ألا ينبغي أن تسارع؟ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران: من الآية133]، هل هناك أحدٍ لديه مثل هذا العرض، حتى يؤثر عليك فتستجيب له ولا تستجيب لله "سبحانه وتعالى"، يعرض عليك هذا النعيم في حياةٍ أبدية لا نهاية لها، للدائم، للأبد، ويتجدد فيها النعيم، ويأتي فيها أشياء كثيرة من فضل الله الواسع، وليس فيها ملل، {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف: من الآية108]، حياة متجددة، ويتجدد فيها النعيم أفنان، وأصناف، وأنواع، هذا يعرضه الله علينا، ما الذي يمنعك عن الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"؟ وليس هناك أي هموم، ولا أي غموم، ولا أي مشاكل، لا تسمع فيها لاغية، لا تسمع فيها حتى كلمة واحدة تجرح مشاعرك، أو تزعجك، أو تؤذيك، ليس هناك أي شيء يمكن أن ينغص عليك ذلك النعيم، هذا كله متاح، هذا مقدم أصلاً ومعروضٌ علينا، الله يدعونا إلى هذا النعيم، إلى هذه الحياة السعيدة، أليس من الخسران الرهيب ألَّا يستجيب الإنسان؟ بل أن تكون خسارته أكثر من ذلك، فوات هذا النعيم والدخول في النار، أين الأفضل لك: أن تطوف بين هذه الجنات، بين هذا النعيم، أو أن تطوف بين نيران جهنم وبين حميمها؟ اختر لنفسك.

نحن في هذا الشهر الكريم في فرصة كبيرة جداً لأن نتأمل في آيات الله "سبحانه وتعالى" وفي وعده ووعيده بما يرسخ لدينا التقوى.

نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نص المحاضرة الرمضانية السابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ

المحاضرة الرمضانية السابعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

 الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

تحدثنا على ضوء ما قرأناه من الآيات المباركة من سورة الرحمن، في المحاضرة الماضية، والتي قبلها، ولاحظنا كم عرض الله “سبحانه وتعالى” علينا من النعم العظيمة، التي أسبغها علينا برحمته، وفضله، وجوده، وكرمه، وهي نعمٌ عظيمةٌ جداً، وهي التي من خلالها يمكن لنا أن نحقق لأنفسنا- بتوفيق  الله- الخير، والرشد، والسعادة، والفلاح، والفوز، والخير في الدنيا والآخرة، ونجد كل تلك النعم، المعنوية منها، وفي مقدمتها: القرآن الكريم، التعليم، والعدل، والمادية، وهي كثيرةٌ جداً، هي نعمٌ على أرقى مستوى، نعمٌ عظيمةٌ جداً، وهيَّأ الله لنا من خلال هذه النعم أن تستقيم حياتنا عندما نلحظها بشكلٍ متكامل، نلحظ مع النعم المادية النعم المعنوية، ما لم؛ فسيكون واقعنا واقع من يكذِّب بهذه النعم، من يكفر هذه النعم، من يقابل إحسان الله إليه بالإساءة إلى الله المنعم الكريم “سبحانه وتعالى”، وهذا العرض لهذه النعم، وهي نماذج عامة وعظيمة، وكلنا نراها، وندركها، وندرك احتياجنا الكبير إليها، وانتفاعنا الكبير بها.

التأثير لهذه النعم عندما نستذكرها، وعندما نستعرضها، يفترض أن يكون في نفسية الإنسان: انشداداً إلى الله، ومحبةً لله، وفي الواقع العملي: استجابةً عمليةً لله “سبحانه وتعالى” بكل رغبة، وبانطلاقةٍ جادة، والإنسان يدرك أنه عندما يستجيب لله، فهو يستجيب لله فيما هو خيرٌ له هو، ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى”: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بعد كل هذه النعم، والتي في آخرها أنه “سبحانه وتعالى” مع كل ما قد أعطى، ومع كل ما قد منَّ به على هذا الإنسان، وهيَّأ له في الأرض، هو “جلَّ شأنه” جاهزٌ أن يستجيب له عند أي طارئ، وإذا سألته فهو يعطيك ما هو الأفضل والأنفع والأصلح لك أنت، واستجابتك له ليست فيما هو بحاجةٍ إليه “جلَّ شأنه”؛ لأنه الغني عنك، وعن أعمالك؛ إنما هي استجابةٌ فيما تحتاجه أنت، فيما هو خيرٌ لك أنت، فيما ينفعك أنت.

إذا لم ينفع فيك كل هذا العرض لهذه النعم العظيمة، وهذا التذكير بهذه النعم العظيمة، ولم يكن لأيٍ منها أثره فيك، فهناك الوعيد الشديد؛ لأنك حينئذٍ ستكون في واقع المكذِّب بهذه النعم، المتنكِّر لها، ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى”: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}[الرحمن: الآية31]، هذا وعيد شديد، إذا لم ينفع فيك التذكير بالنعم، فهناك أيضاً وعيدٌ شديدٌ، وهو وعيدٌ رهيبٌ جداً، هذا الوعيد من الله “سبحانه وتعالى” المقتدر، القهار، جبار السماوات والأرض، الذي هو على كل شيءٍ قدير.

وأتى الخطاب في هذا الوعيد: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} للجن والإنس؛ لأن السورة المباركة، سورة الرحمن- كما قلنا- تخاطب الجن والإنس، ولهذا يقول: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية32]، هنا يقول: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، هذا وعيد باليوم الآخر، بالآخرة، بالحياة الآتية، والتي تَذَكُّرها مهمٌ جداً، كعاملٍ رئيسيٍ ومهمٍ في الاستقامة في هذه الحياة.

الله “جلَّ شأنه” عندما أتى بهذا الوعيد الرهيب: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، وهو “جلَّ شأنه” الذي لا يشغله شأنٌ عن شأن، لا يعني ذلك أنه انشغل عن محاسبة عباده في هذه الدنيا بأشياء أخرى، بتدبير أمور هذا الكون، وهذا العالم، وهذا الملكوت الواسع، لا؛ إنما لأنه جعل مرحلة الحساب، وتوفية الأجور على الأعمال، هي في الآخرة، هي تلك المرحلة القادمة، والحياة الآخرة.

وعندما يقول: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، عندما تأتي تلك المرحلة، عندما يأتي اليوم الآخر، عندما تأتي القيامة، تتحول المرحلة بكلها إلى مرحلة حساب وجزاء، ويتجه التدبير الإلهي على هذا الأساس لمحاسبتنا.

الله “سبحانه وتعالى” بقدرته، وهو على كل شيءٍ قدير، بعلمه، وهو المحيط بكل شيءٍ علما، {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران: من الآية5]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: الآية19]، يعلم بكل ما نعمله، من مثقال ذرةٍ في الخير، أو مثقال ذرةٍ في الشر، لا يخفى عليه شيءٌ مهما كان صغيراً، أو كبيراً، أو كثيراً، أو قليلاً، عندما يتجه بتدبيره “جلَّ شأنه” في مرحلةٍ تصبح بكلها مرحلة حسابٍ وجزاء، فمعناه: أنَّ هذا التدبير الإلهي، وهذا الترتيب الإلهي للحساب والجزاء، سيستوعب كل شيء، وسيحيط بكل شيء، معناه: أنَّ الحساب سيكون دقيقاً جداً، حساب دقيق على صغير الأعمال وكبيرها، على القليل والكثير منها، على الصغير مهما صغر، وعلى الكبير مهما كبر، عندما يتجه كل ذلك التدبير الإلهي؛ فعملية الحساب ستكون دقيقة، والترتيبات ستكون مرعبة، وهائلة، ومخيفة جداً، ما أصغرك أيها الإنسان عندما تقف وأنت ذلك الكائن الصغير، المخلوق، العبد، الضعيف، أمام كل هذا التدبير الإلهي، أمام كل هذا الحضور في تدبير الله “سبحانه وتعالى”، بعلمه، وقدرته، وإحاطته، وتدقيقه! حالة رهيبة جداً، وأمر رهيب جداً.

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، والكل سيكون في مقام الضعف، والعجز، والاستسلام التام، من الجن والإنس بكلهم.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، من نعمة الله “سبحانه وتعالى” أن يذكِّرك هنا بما سيكون عليه واقعك في الآخرة، أن يذكِّرنا بهذا الحدث العظيم، بهذا اليوم الرهيب، بهذه المرحلة التي هي قادمةٌ حتماً، وقادمةٌ قريباً، والحديث عن القيامة في القرآن الكريم حديثٌ واسعٌ جداً، شمل الكثير من التفاصيل الدقيقة، والأحوال المتنوعة والمختلفة، وفيه الموعظة الكافية، والعبرة الكبيرة، لكل إنسان، فيه ما يوقظ أي إنسانٍ من غفلته إن التفت إلى ذلك، فيه ما يزجر الإنسان، فيه ما يردع الإنسان عن حالة الغفلة والإهمال، والتفريط والتقصير، فيه ما يكون حافزاً للإنسان إلى العمل بدافع الرجاء فيما عند الله، وبدافع الخوف من عذاب الله “سبحانه وتعالى”.

عندما نجد هذا التعبير، فوراءه أيضاً أحداث كونية كبيرة، {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} وراءه أحداث هائلة جداً، وسيأتي الحديث عنها.

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؛ لأن تكذيبك بالنعم، لأنك عندما لا تشكر هذه النعم، ولا تهتدي، ولا تستجيب لله فيما أنت بحاجةٍ إليه من الهدى، ويكون واقعك واقع المكذِّب؛ فأنت ستصل إلى العذاب، وسيكون واقعك في الآخرة هو واقع الهالك، الخاسر، الخائب، الذي يكون مصيره العذاب الأبدي والعياذ بالله.

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}[الرحمن: الآية33]، الله “سبحانه وتعالى” عندما قال في كتابه الكريم هذه الآية المباركة: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، لا يعني ذلك أنهم خارج إطار سيطرته، أو خارج إطار ملكه وسلطانه، هو المسيطر، هو القاهر فوق عباده “سبحانه وتعالى”، الكل في قبضته، الكل في إطار سلطانه، لم يكونوا خارج إطار سلطانه ومملكته، أو خارج إطار سيطرته ونفوذه وقدرته، هو المسيطر على هذا العالم، هو كل ما فيه هو في إطار سلطانه وقبضته وسيطرته “سبحانه وتعالى”، وهو المحيط بعباده قدرةً وعلماً.

فعندما قال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، لم يكونوا خارج إطار سلطانه وقهره، ولهذا يذكِّرنا، يذكرنا جميعاً كجنٍ وإنس، بأننا تحت سيطرته التامة في الدنيا والآخرة، في عالم الدنيا، وفي عالم الآخرة، فيقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، هل هناك عالمٌ آخر خارج عالم الله “سبحانه وتعالى”، خارج مملكته، خارج سلطانه، أرضٌ لم يخلقها الله، أو موطنٌ لم يخلقه الله، أو بقعةٌ لم يخلقها الله، يمكن للإنسان أن يلتجئ إليها، ويكون في حماية إلهٍ آخر؟ لا، كل هذا العالم بكل ما فيه هو مملكة الله “سبحانه وتعالى”، هو عالمه، تحت سلطانه وقهره وسيطرته التامة، ليس هناك أي مهرب يمكن أن يهرب إليه الإنسان، أي ملاذ، أي ملجأ يمكن أن يلتجئ إليه، فيخرج من حدود سيطرة الله “سبحانه وتعالى”، وملكه وسلطانه، وقهره وهيمنته، لا يوجد أي مكانٍ آخر، ولا أي إلهٍ آخر، له عالمٌ آخر، يمكن أن تلتجئ إليه، أو تفر إليه، أو يمكن حتى لمجموع البشر، ولمجموع الجن، أن تتظافر جهودهم للالتجاء إليه، والفرار إلى مملكته، وإلى مكانٍ آخر خارج هذا النفوذ الإلهي والسيطرة الإلهية التامة، لا مفر ولا ملجأ من الله إلَّا إليه.

والإنسان بشكلٍ عام، والإنس والجن بشكلٍ عام لا يستطيعون التصرف، ولا العمل، ولا التحرك، إلَّا في حدود ما مكَّنهم الله “سبحانه وتعالى”، وفي حدود ما سخَّره لهم، على مستوى العلم، وعلى مستوى القدرة، هذه هي حدود تصرف الإنس، وحدود تصرف الجن: في حدود ما مكَّنهم فيه، وما سخَّره لهم، لا يستطيعون أن يتجاوزوا ذلك أبداً، فهم تحت قهر الله وهيمنته وسلطانه، ولا يستطيعون الخلاص عن ذلك أبداً، ولا الفرار من ذلك أبداً، ولهذا قال: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، فأنتم في حدود ما تتصرفون فيه وتعملون فيه، لا تستطيعون أن تتجاوزوا ما سخَّره الله لكم، ما وهبكم من العلم، والقدرة، والتمكين، والإمكانات، والوسائل، والإمكانات، لا تستطيعون أن تتجاوزوا حدود ذلك، أنتم تحت سلطة الله، هيمنته، سيطرته، ملكوته، لا تستطيعون أن تفروا.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية34]، فأدركوا نعمة الله عليكم، واشكروه على نعمه؛ لأنه لا مبرر للإنسان أن يسعى للتهرب أصلاً، لا يستطيع ذلك، ولا مبرر له في ذلك، الله منَّ علينا، أنعم علينا، أحاطنا بنعمه العظيمة والواسعة، ليس هناك أي مشكلة من جانب الله “سبحانه وتعالى”، الذي أعطانا: هو النعم، الذي أسبغه علينا: هو النعم المعنوية والمادية، والذي يأمرنا به: هو ما فيه خيرٌ لنا، وصلاحٌ لنا، لا مبرر للإنسان أن يتهرَّب من الله، ولا أن يتهرَّب مما أمر الله به، مما أرشده إليه، من منهجه العظيم، الذي به صلاح حياتك أنت، واستقامة حياتك أنت؛ إنما هو النكران (النكران للنعم)، التنكُّر لنعم الله، لرحمته، لفضله.

{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ}[الرحمن: الآية35]، الإنسان لا يستطيع أن يدخل في مواجهة مع الله، الجن والإنس لا يستطيعون- حتى مع بعض- أن يتعاونوا ليدخلوا في حربٍ مفتوحة، وصراعٍ مباشر، ومواجهة مباشرة مع الله “سبحانه وتعالى”، لا يستطيعون ذلك، كائنات ضعيفة، عاجزة، قدرتها في حدود ما منحها الله ومكَّنها فيه، فيمكنها فوراً أن تنتهي وأن تسحق بعذاب الله “سبحانه وتعالى”، ولا يمكن- الجميع- أن يخوضوا معركةً منتصرة في مواجهة الله “سبحانه وتعالى”، الكل في مقام العجز والضعف أمام جبروت الله وقدرته على كل شيء، كائنات ضعيفة، من أضعف الكائنات، من أضعف الكائنات.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية36]، ولا مبرر لذلك: أن يفكِّر الإنسان أن يدخل في مواجهة مع ربه وخالقه، الكريم، المنعم عليه، ما الذي يبرر لك ذلك؟ ما الذي يدفعك إلى أن تكون في مشكلة مع الله، أن تكون في تباين مع منهجه العظيم، مع رحمته العظيمة المعنوية والمادية؟ ما الذي يدفعك إلى ذلك؟

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}[الرحمن: الآية37]، إذا أتت أحداث يوم القيامة، وهي آتية، وهي ستحصل، وهذا الأمر آتٍ لا بدَّ منه، ولا ريب فيه، سيتبين حينها عجز كل البشر، هل سيستطيعون أن يردوا هذا اليوم؟ هل سيتمكنون أن يعملوا على تفادي تلك الأحداث والمتغيرات؟ السماء ستنشق، هل سيستطيع البشر أن يتدخلوا، وأن يعملوا على أن تلتئم لهم من جديد، وألَّا يحصل هذا الانشقاق فيها، الذي هو خراب، خراب للسماء والأرض، ودمار هائل يأتي إلى السماء والأرض؛ تمهيداً لهذه المرحلة القادمة؟ الكل في موقف العجز والضعف، هي أحداث هائلة، رهيبة جداً، ومرعبة جداً، والبشر والجن كلهم عاجزون عن أن يعملوا شيئاً لتفاديها، أو للحيلولة دونها.

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}: يتغير لونها، ويأتي هذا في إطار تدميرها، وتدمير هذه الأرض التي نحن عليها، هذه الأرض التي وضعها الله لنا، وهيَّأ لنا فيها كل ما نحتاجه من متطلبات حياتنا، وجعلها مستقرةً لحياتنا، غير مضطربة، وهيَّأ لنا في جغرافيتها، وفي بيئتها، وفيما أودع فيها من النعم، ما تستقيم به حياتنا، يتغير واقعها تماماً، في يوم القيامة تشهد تدميراً هائلاً، وزلزالاً عظيماً، ودكاً يغيِّر كل معالمها، كل معالمها، لا يبقى عليها جبال، الجبال تنسف، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه: الآية105]، أي أحداث هائلة جداً! أي واقعٍ آنذاك والجبال بكلها تنسف، هذا الدمار كيف سيكون صوته، أثره، هيبته، الخوف والرعب منه؟ الله قال عن يوم القيامة: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}[المزمل: من الآية17]، حدث رهيب جداً.

جبل واحد يندك بكله، حدث هائل جداً.

زلزال في منطقة محدودة يمكن أن يكون مرعباً جداً للناس، يمكن أن يدمِّر مدناً بأكملها، يمكن أن يكون له تأثير كبير على حياة الناس، وأن يموت بسببه الكثير من البشر، وأن تكون حالة الرعب منه إلى حدٍ كبير.

رياح شديدة يمكن أن تخيف البشر، يمكن أن تغيِّر… أحداث كثيرة يمكن أن تزعزع حياة الناس في منطقة معينة.

أي كارثة من الكوارث، بركان في منطقة معينة يمكن أن يتسبب بنكبة كبيرة لمنطقة بأكملها.

مثل هذه الأحداث الجزئية، المحدودة، البسيطة، مقارنةً بأحداث وأهوال يوم القيامة، يمكن أن تخيف البشر، أن تزعجهم، أن تؤثِّر على حياتهم، أن تتسبب بموت الكثير منهم، أن يخسروا بسببها مساكنهم، ومستقر حياتهم.

أمَّا ذلك الحدث فهو حدثٌ شامل، ليس حدثاً جزئياً، يختص بمنطقة هنا، أو دولة هنا، أو بلد هناك، هو دمارٌ شامل، يشمل كل المعمورة، وأكثر من ذلك، كل الأرض، ودمار هائل، دمار كلي، تُنسَف به كل الجبال، وتتحول إلى هباء يتطاير في الجو، وتفجَّر به كل البحار، فلا يبقى منها قطرة ماء واحدة، وتدك الأرض به دكاً هائلاً وعنيفاً، لدرجة أنها تتغير حتى في هيأتها وفي شكلها، {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق: 3-4]، الأرض تتحول كما قال عنها: {قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}[طه: 106-107]، مستويةً بشكلٍ تامٍ، تتحول إلى عرصةٍ واحدة، وساحةٍ واحدة؛ لمهمةٍ محددة: هي الحشر فيها، والحساب عليها، حدث رهيب جداً، البشر سيكونون عاجزين عن أن يعملوا أي شيء للحيلولة دون ذلك.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية38]؛ لأن تكذيبك بالنعم، وتنكُّرك لها، تنكُّرك لهذه النعم العظيمة، وفي مقدمتها القرآن، سيكون له تأثيرٌ على مصيرك آنذاك، وعلى مستقبلك الآتي حتماً.

في ذلك اليوم، بعد كل هذه الأحداث الهائلة، التي في بدايتها يموت كل الذين على قيد الحياة في الأرض، كل الذين كانوا عندما أتت القيامة أحياءً يموتون بكلهم، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: الآية68]، في البداية يموت الذين كانوا آنذاك على قيد الحياة، ومتى ستأتي؟ ومتى هو آنذاك؟ لا أحد يعلم، إلَّا الله “سبحانه وتعالى”.

القيامة ستأتي بغتة، ستأتي بغتة، ستأتي بشكلٍ مفاجئ، في وقتٍ غير متوقع، ولذلك من المهم الاستعداد لها، سواءً أتت وأنت على قيد الحياة، أو أتت وأنت كنت قد مت، فمن مات قامت قيامته، لم يعد لديه أي فرصة أخرى، ومرحلة الموت إلى القيامة هي مرحلة سريعة، تعتبر سريعة، الإنسان يتفاجأ، وكأنه لم يكن إلا عقب لحظة، أو وقت يسير جداً، من حين مات إلى حين بعث.

ولهذا الله “سبحانه وتعالى” أنذرنا في القرآن، وذكرنا بهذه الحقائق، قال عن القيامة، عن الساعة: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}[الأعراف: من الآية187]، في وقتٍ غير متوقع، الناس فيه يمارسون حياتهم الطبيعية، الكثير منهم في غفلة تامة عن هذه الأحداث، وعن هذا المستقبل الآتي، لا يأبهون به، لا يلتفتون إليه، لا يستعدون له، فيأتي بشكلٍ مفاجئ.

ثم عندما تأتي عملية البعث، ما بعد النفخة الأولى، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: من الآية68]، يحشر الله جميع الخلائق، البشر بكلهم أجمعين، الجن والإنس، الكل يحشر، لا يمكن للإنسان- لأي إنسانٍ منا- أن يتهرب من هذا الحشر، ومن هذا البعث، الله لا ينسى أحداً أبداً، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف: من الآية47]، الكل، أنت وكل الخلائق، أنت وكل الناس، الجميع سيحشر.

ولا يمكن لأحدٍ أن يتخفى، أو أن يتهرب، أو أنه سيستفيد من تلك الكثرة الهائلة للبشر، ليخفي نفسه هنا، أو يدس نفسه هناك، لا، حتى الأرض ليس فيها مخبأ، أصبحت ساحة وعرصة مكشوفة، الساهرة: ساحة مكشوفة تماماً، معرَّاة تماماً، لا جبال، ولا أشجار، ولا ملاجئ، ولا مخابئ، ولا أي شيء، مع أنه لا يمكن لشيءٍ أن يخفيك من الله أبداً، تحشر رغماً عنك.

ولا يمكن أن تمتنع من الحضور، لا يمكنك ذلك، {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية32]، لا يمكنك أن تعتز بنفسك، بقدرتك، بأنك إنسان تعتبر نفسك قوياً، أو أنك لك صفة معينة: أنت ملك، أو أمير، أو قائد، أو زعيم، أو شيخ، أو بأي صفة معينة، فتمتنع عن الحضور، لا أحد يقدر عن الامتناع إلى ذلك الحضور، الكل سيحضر، خاشعاً، خاضعاً لله “سبحانه وتعالى”.

ومع عملية الحشر يأتي الحساب؛ لأنه يوم الفصل، ليس مجرد اجتماع عادي، أو مهرجاناً معيناً، أو مناسبة عادية، هو يوم الفصل، هو يوم الحساب.

عندما يأتي يوم الحساب، ليست المسألة تحتاج إلى عمليات تحقيق واسعة مع كل شخص، لمحاولة معرفة ماذا عمل، وهل هو الذي فعل كذا، أو تصرف كذا، أو لمحاولة الوصول به إلى الاعتراف بما عمل، الله يقول “سبحانه وتعالى”: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: 38-39]، يومئذٍ، وهو اليوم الذي سيأتي حتماً، تحشر فيه أنت، تبعث فيه أنت، وكأنه يدور على رأسك أنت، يوم القيامة يومٌ عظيمة، يومٌ مهم، يومٌ كبير، كل واحد وكأنه يدور على رأسه، أحداثه سترى وكأنها تتجه إليك أنت بشكلٍ مباشر، والله يقول عن ذلك اليوم: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}، لا يحتاج الله إلى أن يحقق معك لكي تعترف بأعمالك، أو لكي يطلع على أعمالك، عندما يحشر الناس صحائفهم، وكتب أعمالهم جاهزة، فيها كل الذي قد عملوه، وأنت عندما تبعث وتحشر ستؤتى بكتابك، يؤتى إليك بكتابك، بصحيفة أعمالك، فيها كل الذي قد عملته، وإن كان مثقال ذرةٍ من الشر ستجده موثقاً، وعلى نحوٍ لا يمكنك أبداً أن تقنعهم بأن هذا كان غير صحيح، أو أي شيءٍ من هذا القبيل، لا يمكن أبداً.

 

الله “سبحانه وتعالى” أكد هذه الحقيقة، الله يقول: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: الآية14]، أنت، انظر إلى ما عملت، شاهد كل الذي قد عملته في حياتك، مما كنت لا تكترث للكثير منه، مما كنت تفعل بعضه وأنت مبتهج، وأنت مرتاح، وأنت مستهتر، وكأنك لن تجازى ولن تحاسب، مما كنت تعمل الكثير منه بكل جرأة ووقاحة، وكأنك لن تقف يوماً ما ذلك الموقف، للحساب والسؤال والجزاء، موقف عظيم، مقام رهيب جداً.

تؤتى كتابك، إما بيمينك إن كنت من الشاكرين لله على نعمه، من الذين شكروا هذه النعم، واستجابوا لله “سبحانه وتعالى” فيما هداهم إليه، فيما أمرهم به، فيما وجههم إليه، ممن شكروا الله وأحبوه على نعمه.

أو أنك ستؤتى كتابك بشمالك والعياذ بالله، وهي حالة الخيبة والخسران، حالة العصاة، والمفرطين، والمفرطين، والمستهترين، والذين تخاذلوا عن الاستجابة لله “سبحانه وتعالى”، حالة رهيبة جداً، في صحيفة أعمالك كل ما عملت، موثق بشكلٍ تام، فلا حاجة لسؤالك لكي يعرفوا ماذا عملت.

في الدنيا قد يشتبه بمجرمٍ معين، أو بشخصٍ معين، اشتباهاً، ثم تأتي عملية التحقيق، في محاولة لاكتشاف ما إذا كان هو الذي عمل وعمل وفعل.

أما هناك فلا حاجة لذلك، كل الأعمال موثقة، إذا أتت أسئلة، فهي أسئلة توبيخ، أسئلة تبكيت، أسئلة تحسير، من هذا القبيل أسئلة للاستنكار عليهم، للتوبيخ لهم، للتبكيت لهم؛ أما للاستعلام، لا حاجة، للاعتراف، لا حاجة، أنت في ذلك المقام ستشهد عليك حتى جوارحك، حتى أعضاؤك، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: الآية65]، ويقول عنهم أيضاً: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}[فصلت: من الآية20]، تشهد عليك حتى جوارحك، لا حاجة إلى عمليات تحقيق مطولة.

 {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (40) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، لتدري، لتعرف، لتفهم، أنك عندما تتعامل مع هذه النعم، ويكون بشكلٍ سلبي، ويكون واقعك واقع المكذب، أن هذا سيصل إلى صحيفة أعمالك، الله قد أعطاك في هذه الدنيا الفرصة، منَّ عليك بالنعم، وأعطاك الفرصة إلى أن تكون حتى صحيفة أعمالك مبهجةً لك، أن تكون بالشكل الذي تسر بها، تفرح بالاطلاع عليها، تبتهج، تفخر، وتشعر بالسرور، وتمتلئ بالسرور، أن تقول حتى للآخرين: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة: 19]، هذا لو كنت تستشعر هذا الموقف، لو كنت تحسب حسابه.

الذين حسبوا حساب ذلك المقام قال عنهم، وعن الواحد منهم: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة: الآية20]، كنت أستشعر أنني سألقى هذا اليوم، وسأصل إلى هذا اليوم، فعملت الأعمال الصالحة، استجبت لله، فيما هو خيرٌ لي أصلاً في الدنيا والآخرة.

أما من كان يستهتر، من كان لا يبالي، من كان يتبع هواه في هذه الحياة، يتصرف وفق مزاجه، وفق أهوائه، وفق نفسياته، وفق عقده، بعيداً عن الالتزام بهدى الله “سبحانه وتعالى”، فخسارته كبيرة.

في ساحة الحساب، بعد توزيع الصحف، بعد اكتمال مرحلة الحساب، يأتي الجزاء، يأتي الجزاء، والانتقال، وأكثر البشر، الأغلبية الساحقة من بني آدم، الأغلبية الساحقة من البشر- وللأسف الشديد- سيخسرون، سيهلكون، سيكون مصيرهم إلى النار، ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى”: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[يس: 60-62]، يقول عن أهل الجنة: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} عن أصحاب اليمين منهم {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: 39-40]، يقول عن السابقين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: 13-14]، وهكذا، قلة قليلة، الأغلبية الساحقة اتبعوا أهواءهم، تصرفوا وفق أهوائهم، استهتروا بمسؤولياتهم.

 

آنذاك تصبح هناك علامات واضحة للذين مصيرهم إلى جهنم، علامات واضحة حتى في أشكالهم، حتى في ألوانهم، ويصبحون بشكلٍ مميزٍ ومعروف، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس: الآية59]، ثم تبدأ عملية الانتقال بهم، النقل الإجباري، عن غير اختيارٍ منهم ولا رغبة، النقل الإجباري إلى جهنم والعياذ بالله.

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}، بعلاماتهم الواضحة، التي قد ميزتهم، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}[الرحمن: الآية41]، ينقلون إجباراً ودفعاً، من ساحة المحشر إلى جهنم، ويؤخذون بنواصيهم، بمقدمة رؤوسهم وشعر رؤوسهم، وبأقدامهم، بطريقةٍ مهينة، الذي يأخذهم هو زبانية العذاب، (زبانية العذاب): الشرطة المعنية بأمورهم ونقلهم إلى جهنم، الشرطة الإلهية من ملائكة الله، أقوياء وأشداء، وبدون رحمة، وبكل عنف، لا يستطيع أحدٌ أن يقاومهم، أن يمتنع منهم، أن يصارعهم، أن يفعل شيئاً، سيكون في حالةٍ من العجز التام والضعف.

ويؤخذ رغماً عنه، بهذه الطريقة المهينة والقاسية والموجعة، وكله حسرات، وكله خوفٌ ورعبٌ قد ملأ قلبه ومشاعره؛ لأنه يعرف إلى أين سيؤخذ، إلى أين سيؤخذ.

{بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، من رحمة الله أن يذكرك هنا في الدنيا، كيف سيكون واقعك في الآخرة إن لم تشكر نعم الله، إن أنت تنكرت لنعمه وفضله عليك.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، هذه جهنم، نعوذ بالله من جهنم، وما أدراك ما جهنم! أمر رهيب جداً، الإنسان عندما يعاينها، جهنم مخيفة حتى عندما نسمع عنها، من يتأمل آيات الله في القرآن الكريم وهي تصف جهنم، تصف أنواع العذاب فيها، يقشعر جلده، يخشع خوفاً من الله “سبحانه وتعالى”، خوفاً من عذاب الله “جلَّ شأنه”، فكيف إذا عاينها الإنسان، إذا شاهدها، أمر رهيب جداً، خوف رهيب جداً.

هم عندما يعاينوها، حتى وهي لا تزال على مسافةٍ بعيدة، يكون مشهدها رهيباً جداً ومخيفاً للغاية، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان : الآية12]، أصوات مرعبة جداً، أصوات مخيفة جداً، ومشهد لتسعرها، والتهابها، ونيرانها، وتوهجها، مرعب جداً، ومخيف جداً، مخيفٌ للإنسان لو كان عذابه أن يدخل في فرن من أفران هذه الدنيا، ما بالك بعالم كله من سخط الله وغضب الله “سبحانه وتعالى”، مما يجلي غضب الله وقدرته وجبروته.

{هَذِهِ جَهَنَّمُ}، عندما يعاينها الإنسان، يشاهدها، ويرى أنه متجهٌ إليها، وأنه ينقل إليها، وأنه سيلقى به فيها رغماً عنه، كيف هي حسراته؟! كيف هي آلامه؟! كيف هو خوفه؟! كيف هو قلقه؟! كيف هو انزعاجه؟! كيف هو عذابه النفسي؟! كيف هو ندمه الشديد، الذي يجعله يعض على أنامله؟!

ومن هم المجرمون؟ المجرمون ليس فقط من ذهب لارتكاب أبشع الجرائم، بارتكابه لها، وتعديه لحدود الله، المجرمون أيضاً من فرطوا في طاعة الله.

إما أن تعصي الله فيما نهاك عنه، فتتجاوز حدوده، هذا نوعٌ من المعاصي.

وإما أن تعصي الله “سبحانه وتعالى” بتفريطك فيما أمرك به، وهذه من المعاصي الخطيرة، هذه من الجرائم الخطيرة، التي يتهاون بها الكثير من الناس، البعض من الناس قد يقول: [الحمد لله، أنا لا أشرب الخمر، أنا لا أرتكب الزنا، أنا لا أقتل النفس المحرمة، أنا لا أفعل كذا]، هذا جانب من المعاصي، ولكن هل أنت تجاهد في سبيل الله؟ هل أنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ هل أنت تتوحد مع المؤمنين في إطار الأخوة الإيمانية الصادقة، وتعتصم معهم بحبل الله “سبحانه وتعالى” جميعاً، وتحذر التفرق؛ أم أنك تعصي الله في كل هذا؟ هل أنت تنهض بمسؤولياتك الأخرى في واقعك الأسري والاجتماعي الذي أمرك الله بها، المعاصي والجرائم ليست فقط مقتصرةً على تجاوز ما نهى الله عنه، وفعل ما نهى الله عنه، بل والإخلال بما أمر الله به.

 

من يتجه مثلاً للفرقة، للفرقة عن إخوته المؤمنين، يشاقق، ويفارق، ويعاند، ولا يتجه للولاية الإيمانية، والأخوة الإيمانية، ماذا يقول الله؟ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، هذا بحد ذاته، مفارقتك للجماعة المؤمنة، لإخوتك المؤمنين، مشاققتك لهم، وفرقتك عن طريق الاعتصام بحبل الله جميعاً، هذا لوحده كافٍ في أن تدخل به إلى جهنم، جريمة كافية، عليها وعيد بخصوصها بالعذاب العظيم، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}، مع أنها جريمة في الأساس يترتب عليها جرائم كثيرة، يتفرع عنها جرائم كثيرة، لا يتسع الوقت للحديث عنها.

فمصطلح الجرائم لا يخص فقط التصور لدى البعض من الناس، الذي ينحصر على تجاوز ما نهى الله عنه، بل يأتي أيضاً إلى العصيان لله فيما أمر به، وهذا هو من أكبر الجرائم التي يغفل عنها الكثير من الناس، ويتورطون فيها.

{هَذِهِ جَهَنَّمُ}، معاينتها أمر رهيب جداً، سيندم الإنسان، وسيرى أن كل شيءٍ عصى الله فيما أمر، أو فيما نهى، من أجله، عقدة نفسية، هوى للنفس، رغبة، مخاوف، أي عوامل دفعت بك إلى أن تكون مجرماً، إلى أن ترتكب جريمة مما نهى الله عنه، تجاه ما أمر، أو تجاه ما نهى، ترى أنها لم تكن تستحق منك أن تورط نفسك تلك الورطة الرهيبة الهائلة.

{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن: الآية43]؛ لأن الإنسان لو أيقن، لو أيقن واستحضر ذلك بشكلٍ مستمر، لرجع إلى الله، لما تورط ورطةً كهذه.

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن: الآية44]، (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا): يتمشى، هو في الدنيا كان البعض طموحه أن يكون لديه إمكانات ضخمة، بيوت ضخمة، منازل ضخمة، مزارع ضخمة، وأن يدور بينها، وأن يطوف بينها، طموح الكثير من الناس، سواءً وصل إلى ذلك، أو لم يصل، وقد يكون هذا مما يدفع الكثير من الناس أن يقفوا في موقف الباطل، أو أن يقعدوا عن نصرة الحق، أو أن يتخاذلوا عمَّا أمر الله به، أو أن يتجاوزوا ما نهى الله عنه، فهم في جهنم يطوفون بينها، بين لهبها، يطوف وهو كتلة مشتعلة من النار، مستعر بنار جهنم والعياذ بالله، كيف ستكون آلامه وهو يحترق، وأي حريق، الحريق بنار الدنيا مؤلمٌ جداً للإنسان، ما بالك بحريق نار جهنم.

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا}: بين لهبها ونارها المستعرة، {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}: وبين الحميم، يسبح في تلك المسابح الجهنمية، التي تغلي إلى أشد مستوى من الحرارة، ساخنةٌ جداً جداً، فهو يحترق بالنار أحياناً، وبالحميم الساخن جداً، الحار جداً، أحياناً أخرى، حالة رهيبة.

وفي ذلك العالم (عالم جهنم) كل شيءٍ عذاب:

أكلك عذاب، أكلك عذاب، تأكل الزقوم، الذي {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان: 45-46]، تشرب الحميم الذي يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، {يَشْوِي الْوُجُوهَ}[الكهف: من الآية29] قال عنه، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد: الآية15]، لا يرويك من ظمأ، وطعامها كذلك لا يشبعك من جوع؛ إنما هو عذاب، {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الصافات: الآية66].

ثيابك من النار، ثوبك الذي تلبسه، ثوبٌ ناريٌ أحاط بجسدك، {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج: من الآية19]، كل شيءٍ عذاب، فإذا أردت أن تبرد، أين ستبرد حرارتك؟ ليس أمامك إلا ذلك الحميم الشديد في حرارته جداً، {حَمِيمٍ آنٍ} والعياذ بالله! وكربٌ دائم، وحسراتٌ دائمة، وعذابٌ نفسيٌ دائم.

من المهم في شهر رمضان، والإنسان يقرأ القرآن، أن يتأمل جيداً في الآيات القرآنية التي تقدم عرضاً متكاملاً عن أصناف العذاب في جهنم، ليحذر؛ لأن الله يريد منا أن نحذر.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية45]، من نعمه أن يوضح لنا حتى تفاصيل العذاب في جهنم؛ حتى نحذر هنا في الدنيا؛ لأن فرصتنا هي هنا.

نكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يجعلنا في هذا الشهر من عتقائه من النار، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

الاثنين، 19 أبريل 2021

عمليات الدفاع المقدّس

عمليات الدفاع المقدّس 

✍ أبو يحيى الجرموزي ـــــ 

عامٌ سابع من العدوان ومنذُ بدايته كانت وتيرة العمليات الهجومية للجيش اليمني واللجان الشعبية تتسارع وبوتيرة عالية ومتتالية وتسابق بعضها نكالاً بالعدو وأدواته في الداخل اليمني والعمق السعودي الذي بات أكثر من غيره يتجرّع اللطمات وبألوان الدعس والإهانة 
عملية السادس من شعبان وعملية اليوم الوطني للصمود تليها عملية الثلاثين من شعبان ثم عملية الثالث من رمضان عمليات هجومية مسيّرة وباليستية نُفذّت يمانياً كدفاع مقدّس مشروع في صد المعتدين ودفع شرورهم وتطهير اليمن والأرض من دنسهم وخبث عقائدهم النتنة.
عمليات متتالية لم تفصل بينهن إلاّ أيام وهي تدك معاقل النظام السعودي ومراكز قوته العسكرية والنفطية والمالية ومن تلك الأهداف كانت وما تزال شركة أرامكو وفرعوها في كل المملكة هدفاً مشروعاً للقوة الصاروخية وسلاح الجو المسيّر والذي بفضل الله ثم بفضل المخلصين استطاعت اليد اليمنية المدافعة أن تتسيد الوضع العسكري وباتت اليد الطولى والمبادرة في انتقاء الأهداف ذات الأهمية واستهدافها بكمٍ هائل من الضربات المنكلة ولعلّنا رأينا منظومة الباتريوت ذات الهالة والصيت ها هي أضحت صيداً سهلة لقوة الردع اليمنية من خلال الاستهداف المباشر والمتكرر لمنصات الإطلاق والبطاريات ومواقع التخزين لتكون بذلك المنظومة الأمريكية في منال الدفاع اليمني الذي أرغمها على الفشل والاستسلام أمام منظومة بدائية للصناعات اليمنية التي فضحت هشاشة وضعف الصناعات الأمريكية. 
عمليات أوجعت العدو وتألّم لوقعها كثيراً حتى صرخ وااااا أمريكااااااااه يستنجدهم ليخرجوه من مأزق الحرب مع اليمن الذي بات اليوم وبفضل أقوى عزماً وصلابة أطاحت بتحالف العدوان ومرّغت أنفه بالتراب وأضحت قواه وعتاده العسكرية وتحصيناته الدفاعية ومنظومته الاعتراضية في مرمى قوات الجيش اليمني واللجان الشعبية والذي دائماً ما يثخن تحالف العدوان بضربات نوعية في كامل جغرافيا مملكة الرمال التي ترى بأم عينها مقوماتها الحيوية والنفطية والعسكرية تتهاوى أمام الضربات اليمنية.
العمليات الدفاعية اليمنية الهجومية لن تتوقف وستستمر باستمرارية العدوان والحصار وستزداد وتيرة الاستهداف حتى يذعن المعتدي ويناشد السلام من أهله او ان يرضخ للأمريكيين وبدوره يكون مستعداً ومتحسباً ضربات يمانية أكثر إيلاماً ستقصم ظهره ان تعربد وفضل طاعة اللئام على طاعة الكرام .. 

رمضان الجهاد والعطاء

رمضان الجهاد والعطاء 

✍ أبو يحيى الجرموزي ـــ 

ها قد اتى رمضان والابطال في راس الجبال والهضاب والوديان والسهول والسواحل والبحار يسطّرون ملاحم النصر ويدافعون عن الدين والوطن والعرض أمام شُذّاذ الأقطار وعديميّ الأخلاق 
يرابطون في ثكناتهم وفي ثغور جهادهم الحق في مختلف الجبهات والمحاور الداخلية وفي الحدود يقعدون للعدو كل مرصد وفي ارض ميادين القتال يقفون كشُمّ الجبال الشامخة في وجه مليشيا الإرهاب والإرتزاق ومن خلفهم عبيد الأمريكان والصهاينة.
للمرة السابعة على التوالي يقضون مجاهدونا شهر رمضان المبارك في مواقع رباطهم صياماً وقياماً وتسبيحاً في الغدو والأصال وفي متارس العشق الإلهي يذوبون في حبّ الله والتضحية في سبيله والمستضعفين. 
ينازلون أعداء الله يقارعونهم يهاجمهون ويقتحمون ويسطرّون اعظم مواقف الثبات والإيمان والرجال الصادقة بوفاءهم الجهادي ورباطهم القوي وصبرهم المتشبع بالروح الإيمانية والإخلاص.
ويؤثرون على أنفسهم شعبهم وأُمتهم ودينهم وعقيدتهم ولو كان بهم خصاصة من جوعٍ أو عطش يسهرون ليل رمضان جهاداً لا يفترون ولا يغفلون عن عدوّهم وعدوّ الأمة والدين بُرهةٌ ثانية وعيونهم تترقب تحرّك المعتدين ومن يمولّهم وفي نهار رمضان لا ينامون إلاّ ساعةً تحت حرارة الشمس.
يعانون يتعبون ويتألّمون يتوجعون ولا يتأوّهون حتى لا يستسلمون لاتعابهم ومعاناتهم
يُجرحون ويُقتلون وترتوي الأرض بدماؤهم الزاكية وحتى لا تداهمنا كشعبٌ يمني المخاطر يواجهون الأخطار وهم السبّاقون إليها دفاعاً كل طفل وإمرأة يمنية أرملة وثكلى وأباءٌ حيارى ومفقودين شهداءٌ وجرحى كل هموم مجاهدينا رجالنا المغاوير هو الذود عن حياض اليمن الأرض والإنسان والعقيدة وأخذ الثار لمن ضُلموا.
وقبل ان يحملون السلاح لقتال اعداء الله كان وما يزال يحملون قيم الدين والإيمان والعقيدة والتوحيد وبنبيل أخلاقهم خرجوا فقراء إلى الله وفي شهر رمضان جعلوا ساعات ليله ونهاره جهادٌ وعطاء وقرآن ومن نفحات هذا الشهر الفضيل ومع إطلالة السيد القائد العلم المجاهد سماحة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه وحفظه من خلال دروس ومحاضرات هدي القرآن والتي دائماً ما يطل علينا قمر بني هاشم العصر في ليالي رمضان تجد المجاهدين يسألون الله زيادةً في كمال إيمانهم وتماماً لكرم أخلاقهم وحُسناً لنيّاتهم وأعمالهم الجهادية فيسعدون بذلك وتزداد معنوياتهم وإلى مواقع وثكنات المعتدين والمرتزقة يغزون ويقتلون الأعداء حيث وجدوهم يقاتلون ومن رمى بسلاحه الأرض رافعاً يد الإستلام فهم يحسنون إليه أسيراً له ما لهم من حقٍ.
تطهير واقتحام وكمائن قتلٍ وإغارات وعمليات بطولية ميدانية وبالعيارات المزودة بنور الإيمان وبصيرة الجهاد والحق المشروع وضربات حيدرية باليستية ومسيّرة أثقلت كاهل تحالف العدوان بالهزائم المذلة والمنكسة لكبرياء خيانته وإرتهانه بالأمريكان والصهاينة الذي لم يضاعفوا من قوته إلاّ ضعفٍ وهوان وصغار وإلى المصير المجهول يهرول النظام السعودي وزبانية دناءته وانحطاط خسته وعمالته لليهود والنصارى 
للعيون الساهرة والأيادِ القابضة على الزناد مجاهدينا الأخيار أبطال الجيش واللجان الشعبية والأمن وخفر السواحل وحرس الحدود وكل فرد همه الإسلام والدفاع عن اليمن وأهله أمام اطماع الغزاة وحقارة المرتزقة
لكم منّا وإلى الله الدعوات بالخير والنصر والغلبة والعزة والتمكين ونسال من الله تعالى النصر والتمكين والفتح المبين ولا نامت أعيُن الجبناء والمرتزقة المنافقين . .

الأحد، 18 أبريل 2021

نص المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1442هـ


المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 06 رمضان 1442هـ 18-04-2021

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

تحدثنا في المحاضرة بالأمس على ضوء الآيات المباركة من أول سورة الرحمن، واستعرضنا ما ذكر الله فيها "سبحانه وتعالى" من نعمه العظيمة علينا، التي أسبغها علينا برحمته، وبفضله وجوده وكرمه، نعمٌ متنوعة وعظيمة، والنماذج التي وردت فيما قرأناه بالأمس هي نماذج عامة؛ أمَّا على المستوى التفصيلي: فنعم الله "سبحانه وتعالى" لا تحصى، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[إبراهيم: من الآية34].

لاحظنا- فيما استعرضناه بالأمس- أنَّ أول نعمةٍ ذكرها الله "سبحانه وتعالى" لنا، وذكَّرنا بها، هي قوله "جلَّ شأنه": {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن: الآية2]؛ باعتبار نعمة الهداية هي المفتاح لكل النعم، وهي التي من خلالها يمكن للإنسان أن يستفيد من كل النعم في هذه الدنيا، وأيضاً أن يحظى بالنعم العظيمة في الحياة الأخرى، في الحياة الثانية، التي هي آتية، استقرار حياة الإنسان، وصلاح حياته، متوقفٌ على التفاعل مع هذه النعمة: نعمة الهداية.

ومرَّ بنا الحديث عن بقية النعم التي وردت في تلك الآيات المباركة:

نعمة الخلق، نعمة خلقك كإنسان، وما في ذلك من النعم الواسعة جداً، كلما تأمل الإنسان فيها تفصيلياً، يتجلى له كم فيها من النعم العظيمة والكبيرة، وذات الأهمية الكبيرة له في حياته:

  • نعمة تعليم البيان، وما يترتب عليها.
  • نعمة السماء والأرض.
  • نعمة العدل.
  • نعمة التعليم.

النعم المعنوية والنعم المادية.

  • نعمة العلامات والأوقات، التي نضبط بها علاقتنا مع الزمن، واستفادتنا من الزمن، نعمة علامات الشهور والسنين، وكذلك حتى علامات الاتجاهات، الله جعل لنا في السماء حتى علامات للاتجاهات، وهكذا.

نعم عظيمة: نعمة العدل، نعمة الأرض، وما هيَّأ الله فيها، وما هيأها عليه من الاستقرار لصالح هذا الإنسان، وهكذا نعمة الفواكه، نعمة الحبوب، النعم التي أنعم الله بها أيضاً علينا فيما يتوفر لحيواناتنا، التي نستفيد منها في هذه الحياة، وأيضاً نعمة الريحان، أشجار الزينة، والأشجار ذات الرائحة الزكية، الرائحة الطيبة.

ونلحظ في كل هذه النعم: أنها مظاهر نعم، ومظاهر جمال، كلٌّ منها حتى عندما نأتي إلى نعمة الفواكه، والأشجار، والريحان، الأشجار الكثيرة التي هي ذات منظر بهيج، وخلَّاب، ومبهج، يستمتع الإنسان بالنظر إليه، عندما يشاهد الإنسان مشاهد من هذه الأشجار المتنوعة المثمرة، وأشجار الزينة والورود والأزهار، كم يبتهج، كم يشعر بالارتياح والسعادة.

هذه النعم العظيمة جداً نعمٌ مرئيةٌ، مشاهدةٌ، كبيرةٌ، عظيمةٌ، لا يمكن للإنسان أن يجحدها، أو يكذِّب بها، أن يقول: [لا يوجد شيءٌ من هذه]، ونعمٌ أكبر منا، أعظم منا، الإنسان كائن بسيط صغير خلق الله له كل هذه النعم، وأسبغ عليه بهذه النعم.

الأثر الطبيعي للنعم عندما نستذكرها، وعندما حتى نستذكرها في مقامات التذكر والتأمل على نحوٍ أوسع وأفضل وأكثر وأعمق، الأثر الطبيعي هو: الانشداد إلى الله "سبحانه وتعالى"، المحبة لله "جلَّ شأنه"، الذي هو ولي كل هذه النعم، والتي هي برحمته وفضله وكرمه، وأن نتوجه بالشكر له على هذه النعم، وألَّا نقابل إنعامه علينا بالإساءة إليه، أو باستخدامها فيما هو معصيةٌ له، هذا هو الأثر الطبيعي؛ وبالتالي أن نستجيب له، وأن نسير على هداه، وأن تكون استجابتنا له على المستوى العملي ونحن نتحرك فيما يرضيه عنا، ونسعى لما يرضيه، أن تكون استجابةً برغبة، بمحبة، بتفاعلٍ إيجابي؛ لأن نعمه عظيمةٌ جداً علينا، ونحن إنما نتقلب فيها، إنما نتحرك فيها، هذا هو الأثر الطبيعي، الأثر السليم، الأثر الصحيح، والذي يغيب عنا، وعن مشاعرنا ووجداننا، وعن أعمالنا واهتماماتنا إلى حدٍ كبير، بسبب غفلتنا عن التذكر كما ينبغي لهذه النعم العظيمة، والتأمل فيها، وإلَّا فالنتيجة هي هذا التوجه بكل رغبة، بكل محبة فيما يرضي الله "سبحانه وتعالى" عنا.

الحالة السلبية والخطيرة جداً على الإنسان تجاه هذه النعم مع غفلته عن الله "سبحانه وتعالى"، وعن عظيم هذه النعم التي أسبغها عليه: هي حالة التكبر، حالة التكبر، عندما لا يكون للنعم أي تقديرٍ لديك، وكأنه ليس لله أي فضلٍ عليك، وكأنك أنت شخصياً الجدير بهذه النعم، وأن نعطاها بدون فضلٍ ولا منَّة، هذه حالة خطيرة جداً، وهذه النعم التي وردت هي نماذج عامة، وإلَّا فموقف الإنسان حتى تجاه بقية النعم المعنوية والمادية. 

نعمة أن يهيئ الله لك في هذه الدنيا جاهاً، أو دوراً، أو موقعاً محترماً، أو أن يكون لك دورٌ عمليٌ مهمٌ وبارز، النعم الأخرى: أن تكون صاحب ثروة، وصاحب إمكانيات مادية... وهكذا بقية النعم، أن تكون صاحب علمٍ وذكاءٍ وفهمٍ، وتمتلك في القدرة البيانية والإعلامية أكثر من الكثير من الناس، الكثير من الناس يغتر ويتكبر؛ لأن البديل عن استذكار النعمة، واستشعار فضل الله عليك: هو أن تغتر بما وهبك الله من النعم، وأن تتكبر بها، وأن تكبر نفسك وتعظم نفسك بدلاً من أن تكبر فيك المحبة لله "سبحانه وتعالى"، وهذا ما يحصل للكثير من الناس تجاه ما يعطيهم الله من النعم، وما يهبهم من نعمه، فبدلاً من أن يستشعروا عظيم فضل الله عليهم، وأن ينشدوا إليه "سبحانه وتعالى" ويحبوه، فالنتيجة الأخرى والبديل الآخر: هو أن تعظم أنفسهم، وأن تكبر أنفسهم لديهم، وكأنَّ ما أعطاهم الله هو جدارة شخصية لديهم، وليس هبةً من الله، وفضلاً من الله عليهم يقترن به مسؤولية عليهم، كأنه مجرد جدارة شخصية، هذه الحالة تؤثِّر على نفسية الإنسان إلى حدٍ كبير، تؤثِّر عليه في:

أولاً: تبعده عن الشكر، تبعده عن الشكر.

ثم هي تؤثر عليه في مقام الاستجابة العملية لله "سبحانه وتعالى"، فهو لا يستشعر نعمة الله عليه، فلا يتوجه عملياً بالشكر لله، والالتزام بتوجيهاته، والسير على هديه، والانطلاقة العملية الجادة بكل رغبة؛ إنما يتحرك وكأنه صاحب جدارة شخصية بكل ما وهبه الله، متكبراً، مغتراً، وحركته فيما يتعلق بالاستجابة العملية إنما تنطلق بدوافع ذاتية شخصية ناشئة عن حالة الغرور، وليس بدافع المسؤولية، وليس بدافع المسؤولية، ولا بدافع المحبة لله "سبحانه وتعالى"، فتراه منفصلاً عن هذا الارتباط الإيماني، والصلة الإيمانية بالله "سبحانه وتعالى"، وترى ذلك يؤثر على أدائه العملي؛ لأن أداءه العملي بات محكوماً وخاضعاً ومتأثراً بمقاصده الشخصية، واعتباراته الشخصية، وأهدافه الشخصية، ومكاسبه الشخصية؛ وبالتالي إذا تعارض أي شيءٍ مع تلك المقاصد الشخصية، والأهواء الشخصية، والأهداف الشخصية، فهو قد يتخلى عن أي مسؤولية، أو قد لا ينطلق في أي عملٍ أو موقفٍ معين مهما كان مهماً، مهما كان مهماً، بات المهم لديه هو مقاصده الشخصية، وحساباته الشخصية، وأهدافه الشخصية، ولذلك هو لا يذوب فيما هو رضا الله، ولا ينطلق انطلاقةً سليمة، انطلاقة المحب لله، الساعي لمرضاة الله "سبحانه وتعالى"، الراغب فيما عند الله، الذي يخجل أمام الله، ويستحي أمام نعمه العظيمة، لا، هو قد تضخَّمت ذاته لديه؛ وبالتالي يتمحور حول ذاته في الواقع العملي.

وقد يأتي هذا حتى في إطار العمل تحت عنوان العمل في سبيل الله، في أي مجال من المجالات، في أي مجال من المجالات، قد ينطلق الإنسان والعنوان عنواناً دينياً، عنواناً مقدَّساً، ولكن لأنه يعيش هذه الحالة من احتساب ما هو فيه بأنه جدارة شخصية، وعظمة ذاتية، وقيمة خاصة، وأنه ليس هبةً من الله العظيم، ونعمةً تقترن بها مسؤولية، فهو ينشد إلى نفسه أكثر مما ينشد إلى الله، وبدلاً أن يعظم الله في نفسه، تعظم نفسه عند نفسه وتتضخم، تتضخم، وهذه حالة خطيرة جداً، ولهذا أتى بعد التذكير بتلك النعم قوله "سبحانه وتعالى": {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 14-16]؛ ليذكِّر الإنسان وليذكِّر الجان أيضاً بحقيقة أصله، هذا مما يفيد كمعالجة تربوية: أن تتذكر أصلك، أصلك المادي وقيمتك المادية لا تساوي شيئاً، وعندما وهبك الله هذه النعم، فهي برحمته وفضله، لا تنظر وكأنه ليس لله فضلٌ عليك.

استشعار الإنسان لأصله، واستشعار الإنسان لنقاط ضعفه، يجعله يخجل أمام الله، يجعله يستشعر التكريم الإلهي، يجعله يستشعر عظيم فضل الله عليه، ويدرك أنَّ الفضل لله، وأنَّ المنَّة لله، وأنَّ عليه أن يتوجه إلى الله بالشكر، وأنه في أصله هو محل العجز، محل الضعف، محل الإفلاس والعدم، إنما الله من وهبه كل شيء، وأنعم عليه بكل شيءٍ، فالفضل لله عليه، لا يتنكر لنعمة الله، لا يتجاهل فضل الله عليه، هذه معالجة تربوية مهمة جداً.

ثم يستمر عرض هذه النعم العظيمة: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 17-18]، الله "سبحانه وتعالى" هو رب المشرقين ورب المغربين، والكثير من المفسرين يتحدثون عن أنَّ هذه الآية المباركة هي تتحدث عن حركة الشمس في شروقها في الصيف، وشروقها في الشتاء، واختلاف منازلها في ذلك، وفي غروبها في الصيف، وغروبها في الشتاء، واختلاف منازلها في ذلك، وما يترتب على ذلك من تغير وتنوع الفصول، والفصول هذه وتنوعها من صيفٍ وشتاء...إلخ. لها أهمية كبيرة جداً في حياة الإنسان، وفي واقع الحياة على الأرض، ويأتي نتاجاً لذلك يأتي أيضاً تنوع في المحاصيل الزراعية، تنوع في الفواكه، كذلك تنوع في مواسم الزراعة، ولهذا علاقة بصحة الإنسان فيما يتعلق حتى ببدنه، وفي أشياء كثيرة تفصيلية في واقع حياة الإنسان على هذه الأرض، فالله "سبحانه وتعالى" هو رب المشرقين ورب المغربين، وهو الذي يتولى هذا التدبير بكل ما يترتب عليه، وينتج عنه من نتائج في حياة الإنسان، ومن نعم كبيرة في حياة الإنسان، ونعم متنوعة، ومن تنوع في واقع الأرض في مشارقها ومغاربها وفي مختلف أنحائها، تنوعٌ يأتي بتكاملٍ عجيب في توفير احتياجات هذا الإنسان وعلى نحوٍ واسعٍ جداً من فضل الله الواسع، وتنوع يبنى عليه التكامل في الحركة التجارية ما بين أبناء المجتمع البشري.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، هذه نعم مؤكَّدة واضحة يعيشها الإنسان في حياته، وهي نعم لم تأت عبثاً، هي نعم تقترن بها مسؤوليات على هذا الإنسان، ومسؤوليات تعود إلى ما فيه خيره هو، إلى ما يصلح حياته هو، إلى ما تستقر به وتنتظم به حياته هو؛ إنما كيفية التعامل مع هذه النعم، والحركة في هذه النعم ضمن الدور الذي أراده الله لك كإنسان، واستخلفك في الأرض على أساسه، هو الذي يعود عليك أنت بالنفع.

{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}[الرحمن: 19-20]، البحار تغطي مساحة واسعة على كوكب الأرض، ويقدِّرها البعض بثلثي مساحة الأرض مغطاة بالبحار، والبحار لها دور كبير في حياة الإنسان، وهي من مظاهر النعم الكبرى على الإنسان، ومن مظاهر التسخير العجيب لهذا الكون، ولهذه الأرض، وما على هذه الأرض لصالح الإنسان، البحار بحجمها الهائل، بعمقها الواسع، وبحركتها العجيبة واضطرابها وتموجها، يصعب على الإنسان أن يضبطها، وأن يسيطر عليها، وأن يستغلها، لكن الذي سخَّرها له هو الله "سبحانه وتعالى".

والنعم في البحار هي نعم كثيرة جداً، عندما نتأمل ما أودع الله في البحر من النعم، أولاً الثروة الغذائية ثروة كبيرة جداً، الأسماك والأحياء البحرية التي يستفيد الإنسان منها، نعم واسعة وكبيرة في غذائه وفي حركته التجارية والاقتصادية، ويتفرع عنها الكثير من النعم، النعم الأخرى أيضاً فيما يتعلق بالبحار مع نعمة التقاء هذه البحار، مثلما قال هنا: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}، التقاء البحار شكَّل حلقة وصلٍ للحركة التجارية، والحركة الاقتصادية، وللتنقل بالنسبة للإنسان، وربط ما بين القارات عل الأرض ربطاً عجيباً، وجعل هذه الحركة التجارية الضخمة بين مختلف المناطق على الأرض، والتي هي متباعدة في شرق الأرض وغربها، ربط ما بينها وجعل هذه الحركة ميسَّرة وسهلة، ونجد أن هذا الالتقاء بين البحار فيه آيةٌ عجيبةٌ جداً، تحدث عنها في هذه الآية المباركة، عندما قال: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}، فالبحار تلتقي، يلتقي هذا البحر والبحر الآخر، ونجد هذا بشكلٍ واضح، عندما نلحظ مثلاً كيف يلتقي البحر الأحمر بخليج عدن، ثم خليج عدن يلتقي بالبحر العربي، البحر العربي يلتقي بالمحيط الهندي، هكذا تلتقي، يلتقي البحر الأبيض المتوسط بالمحيط أيضاً، وهكذا تلتقي المحيطات والبحار، والمحيطات هي بحار كبرى، تلتقي فيما بينها، وهذا الالتقاء لا يفقد أياً من البحرين، البحر الذي التقى مع البحر الآخر أياً من خواصه؛ لأن لكل بحر خواص معينة، بيئة معينة، خواص في واقعه وفي داخله خواص معينة، عندما يلتقي البحر مع بحرٍ آخر لا يمتزجان فيغلب بحرٌ منهما على البحر الآخر، إلى درجة أن المحيط- وهو بحر كبير جداً المحيط- عندما يلتقي ببحرٍ أصغر لا يغلبه، فيمتزج به بشكلٍ كامل ويفقده كل خواصه، وهناك حديث يطول عن التيارات البحرية، وعن الخصوصيات للبحار، عادةً ما يأتي الحديث عنها في العلوم المختصة بهذا المجال، وفي الإنتاجات الإعلامية التي تختص بهذا المجال، التقاؤهما وبشكلٍ مباشر الماء مع الماء، بدون أي حاجزٍ ماديٍ صخريٍ مثلاً، أو نحوه، إنما هو حاجزٌ من قدرة الله "سبحانه وتعالى"، الذي عبر عنه في قوله: {بَرْزَخٌ}، في إطار التدبير الإلهي، الذي جعل لكل بحرٍ خواصه، وجعل أيضاً ما يحول دون أن يبغي أحدٌ منهما عند الالتقاء على البحر الآخر، فيمتزج فيه بكله.

ويفقده كل خواصه، هذا يساعد على التنوع، التنوع البحري، فيمتاز بحرٌ معين بخصوصيات معينة، بأحياء بحرية معينة، بأشياء معينة، إنتاجات معينة، نِعَم معينة، ويمتاز البحر الآخر كذلك، وبالتالي يحصل هذا التنوع الواسع جداً، الواسع جداً، والمفيد للإنسان نفسه.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية21]، والنعم في البحار من أوسع وأكبر وأكثر النعم التي يستفيد منها الإنسان، ويزداد مع الوقت اكتشافه للمزيد منها، واستغلاله للمزيد والمزيد منها.

 {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: الآية22]، إلى جانب ما فيها من النعم، التي هي نعم متنوعة وكثيرة، ومنها نعمة الغذاء للإنسان المتوفر في البحار، هناك أيضاً نعم أخرى، حتى نعمة الزينة، اللؤلؤ والمرجان، والأحجار الكريمة، التي يستغلها الإنسان في مجال الزينة، والله خلق أشياء كثيرة في البر والبحر، مما يستخدمها الإنسان كزينة، وهي مظاهر جمال، وتروق للإنسان، ويُعجب بها، نعم الله واسعة جداً على هذا الإنسان.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية23]، لا يمكن للإنسان أن ينكر هذه النعم، فلماذا لا يشكرها؟ لماذا لا يشكر الله عليها؟

{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}[الرحمن: الآية24]، وله "سبحانه وتعالى" السفن، السفن هي تدبير إلهي، وهي نعمةٌ من الله "سبحانه وتعالى" أنعم بها على الإنسان، ويستفيد منها بشكلٍ كبيرٍ جداً في حياته، ولهذا نلحظ أن الإنسان يعتمد بشكلٍ أساسي في حركته التجارية والنقل التجاري ما بين البلدان، ولمسافات شاسعة وبعيدة، على السفن، ومعظم احتياجات الإنسان تنقل في هذا الزمن، وفي مراحل كثيرة من حياة الإنسان، تنقل عبر السفن، حركة النقل التجاري- كما قلنا- تعتمد على السفن، وهذا الدور الكبير جداً للسفن في حركتها، ونقلها لمختلف احتياجات الإنسان وبكميات كبيرة جداً، يعني: أحياناً تصل سفينة واحدة في هذا الزمن وهي محملة مثلاً بالنفط، بالبترول، بالبنزين مثلاً، وفيها ما يكفي أحياناً احتياج شعب كامل لمدة شهرٍ كامل، أو وهي محملة بمئات الآلاف من أطنان القمح، وفيها ما يغذي شعباً يكون تعداده ثلاثين مليوناً، أو نحواً من ذلك، لشهر كامل، مئات آلاف الأطنان من القمح، سفينة واحدة، هذا ييسر الحركة، يعني: لو لاحظنا مثل هذه الحمولة كم كانت ستحتاج في نقلها براً من وسائل نقل، مثلاً: قاطرات، أو ناقلات، كم كانت ستحتاج؟ وكم كانت ستحتاج من الوقت؟ بينما هي عبرت من خلال الحركة البحرية، قد يكون عبرت من قارة بعيدة إلى قارة أخرى، مسافة شاسعة وبعيدة جداً، ولكن لأنها أتت عبر البحر وعبر هذا الاتصال البحري، أمكن لها أن تصل في وقتٍ مبكر، أقرب مما كانت ستحتاج إليه من خلال الحركة عبر البر، ثم إن النقل الجوي لا يمكن أن يفي بهذا الاحتياج الكبير، النقل الجوي له مستوى معين في إمكانية حجم هذه الحمولة التي تنقل، ولكن هذه الحمولات الكبيرة جداً، التي تصل إلى مئات الآلاف من الأطنان، تحمل عبر السفن.

من الذي أنعم على الإنسان بهذه السفن، بالوسائل التي تصنع منها، وهداه إلى صناعتها؟ من الذي جعل لدى البحر قابلية لأن يحمل هذه السفن، وأن تجري عليه، فتكون جاريةً عليه، تشاهد الناقلات وهي تمشي على الأرض، وتلك تجري على البحر، على الماء تجري؟ إنه الله "سبحانه وتعالى" الذي هيأ كل هذه النعمة، فسخر البحر من جهة، وسخر هذه السفن من جهةٍ أخرى، فهي تؤدي هذا الدور الكبير في حياة البشر.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية25]، هي نعم عظيمة، كيف لا تشكروا الله عليها؟! كيف لا تستشعروا مسؤوليتكم في العمل تجاه هذه النعم، وفق هدي الله "سبحانه وتعالى"، وعلى أساس العدل، البديل عن ذلك ما هو؟ الطغيان، الإنسان يطغى، إذا لم يشكر الله "سبحانه وتعالى" فهو يطغى، طغيانه يؤثر على حياته كمجتمع بشري، يفقده الاستقرار، ينتج عنه الكثير من المشاكل، يؤثر سلباً على واقع الحياة، وطغيانه يجعله يتصرف مع هذه النعم بطريقة تخرِّب حياته من جهة، وتخرب عليه هذه النعم، وتفسد عليه هذه النعم من جهة أخرى، الطغيان هو البديل عن الشكر.

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: 26-27]، ثم إن كل هذه النعم، وكل من على الأرض سيفنى، كل هذا سيفنى، هذه النعم ستفنى، وكل من على الأرض سيفنى، والبقاء لله "سبحانه وتعالى" وحدة هو الذي يبقى، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} الذي خلق ويخلق كل شيءٍ على أجل صورة، وأكرم وأتم نعمة {وَالْإِكْرَامِ}.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية28]، يشبه موقع هذه الآية {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، بعد هذا العرض لهذه النعم، يشبه موقع الآية السابقة في قولة تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}، الإنسان بحاجة حتى يدرك قيمة هذه النعم، وأن تشده إلى الله، أن ينشد من خلالها إلى الله، إلى ربه الرحمن المنعم الكريم، بحاجة إلى أن يتذكر أصله، وبحاجة إلى أن يتذكر الفناء، أنه سيفنى هو، ومرجعه إلى الله "سبحانه وتعالى"، وأن كل هذه النعم أيضاً ستفنى؛ لأنها حياة هي الحياة الأولى، وميدان حياته فيها، ميدان مسؤوليته فيها، يتصل بكيفية التعامل معها من منطلق الشكر لله "سبحانه وتعالى"، والعمل فيها بما يرضيه "جلَّ شأنه"، بما لا يسيء إليه "سبحانه وتعالى".

تذكر الإنسان بأن هذه النعم ستفنى، وأنه سيفنى أمرٌ مهمٌ؛ حتى لا ينشد إليها هي بدلاً من الانشداد إلى الله "سبحانه وتعالى"، وحتى لا ينسى أن هناك حياةً أخرى، أن هذه هي الحياة الأولى فحسب، وسيأتي أيضاً الحياة الأخرى الأبدية والدائمة، والتي لها علاقة بهذه الحياة، ليبقى لديه اهتمام بأن هناك حياتين، حياتين، وليست حياة واحدة، فلا يتجه كل اهتمامه إلى هذه الحياة فحسب، وينشد إلى مظاهرها فحسب، وينسى الحياة الأخرى؛ لأنه بحاجة إلى أن يستذكر الحياة الأخرى، والتي هي حياة أبدية، وخيرها خالص، وشرها خالص، هذا يساعده على أن يستقيم هنا، حتى التذكر للفناء يساعده، الفناء الذي سيأتي بعده تلك الحياة، هذا يساعده على أن يستقيم في حياته هنا، وحتى لا يطغى، حتى لا يطغى في تعامله مع هذه النعم، فهذا التذكير نعمة علينا، وهو تذكيرٌ مهم، والفناء فيه نعم لا يتسع الوقت للحديث عنها، لكن هذا من أهم ما يحتاج الإنسان إلى أن يتذكره، عندما يستشعر أن هذه النعم ستفنى، وأنه سيفنى، عليه أن يستقيم في هذه الحياة؛ لأن بعد ذلك الفناء ستأتي الحياة الأبدية، ويأتي الجزاء.

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، ثم مع كل هذه النعم العظيمة، التي أصبغها الله علينا، ونعم كبيرة جداً، نعم كبيرة، البحار، نعم كبيرة جداً، الزينة، كل هذه النعم الماضية، من نعمة الهدى والقرآن، ونعمة العدل والتعليم، إلى النعم المادية المتنوعة الواسعة جداً.

فالله "سبحانه وتعالى" مع كل هذه النعم يقول: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن: الآية29]،  بعد كل هذه النعم، وبعد كل هذا التجهيز لهذه الأرض، بما فيها من متطلبات الإنسان، واحتياجاته الواسعة، والتي وفر له فيها كل هذه النعم الواسعة والعظيمة، فهو "سبحانه وتعالى" يعرض علينا المزيد والمزيد من فضله، بعد كل هذه النعم، وكل هذا التجهيز لها على الأرض، لمصلحتك أنت كإنسان، هو يعرض عليك أنه لا يزال أيضاً جاهزاً لإعطائك المزيد، وجاهزاً إذا طرأ لك أي طارئ أن تدعوه فيستجيب لك، هذا تكريم كبير للإنسان، تكريمٌ كبيرٌ للإنسان، بعد كل هذه النعم العجيبة جداً، والعظيمة جداً، والواسعة جداً، هو لا يغلق عليك بابه أبداً، بابه مفتوحٌ لك، أي وقت تريده، تسأله، تتوجه إليه بالدعاء، وتسأله المزيد من فضله، وإذا طرأ عليك أي طارئ تسأله، وهو جاهزٌ ليستجيب لك، هذا تكريم عظيم، تكريم عظيم من الله "سبحانه وتعالى"، يخجل الإنسان أمام الله، ويستحي من الله أن يكون رحيماً به إلى هذه الدرجة، ومنعماً عليه إلى هذه الدرجة، وأنت تذكَّر ما هو أصلك، تذكَّر تكريم الله لك، وهو يعرض بهذا نعمه، والمزيد من كرمه، وأن بابه لن يغلق عليك أبداً؛ إنما يريد منك أن تستجيب له، واستجابتك له فيما هو لك أنت؛ أما هو فهو غنيٌ عنك، فيما يفيدك أنت، فإذا استجبت له، فهو سيستجيب لك، هو يستجيب لك، وعندما تسأله شيئاً، هو يعطيك ما هو أفضل وأنفع وأصلح لك؛ لأنه الذي يعلم بمصلحتك وما فيه الخير لك.

{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، هو لا يقول: قد أنعمت عليكم بهذه النعم التي لا تحصى، هذا يكفي، وأنتم لا تستحقون شيئاً، ولا أقدم لكم أي شيءٍ إضافي، يكفيكم ما قد جهزته لكم على الأرض، قد أصبحت نعم كافيه، وخلاص لا عاد أسمع ولا كلمة، أيش عاد تشتوا بعد كل هذا؟ لا، هو "جلَّ شأنه" الحي القيوم، وهو الجواد البر الرحيم الكريم، فضله مستمر، عطاؤه مستمر، رحمته واسعة ومستمرة، وفي كل يومٍ وعطاؤه مستمرٌ لعباده، ينزل إليهم فضله، وتأتي إليهم نعمه الواسعة التي لا تحصى.

{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، إن لم تشكروا هذه النعم الواسعة، إن لم تقدروا هذه النعم العظيمة، فأنتم في حالةٍ خطيرة؛ لأنه يرتبط بها مصيركم، مصيركم ومستقبلكم في الحياة الآخرة مرتبطٌ بشكركم لهذه النعم، إن لم تشكروا هذه النعم، فستخسروا نعمه العظيمة في الآخرة، وسيكون لكفركم بهذه النعم، وتكذيبكم لهذه النعم، وعدم تقديركم لهذه النعم، وتعاملكم معها بالطغيان، العواقب السيئة، عليكم أنتم في مستقبلكم أيضاً في الآخرة، وفيما يؤثر عليكم في الدنيا.

نكتفي بهذا المقدار.

ونسأل الله "سبحانه وتعالى" أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛


هل يعي النظام السعودي الخطر القادن

هل يعي النظام السعودي الخطر القادم ✍ أبو يحيى الجرموزي  النظام السعودي ومن خلال المراوغة والهدنة القاصرة يبدوا انه استغل التواضع والحكمة ال...